رسالة بطرس الأولى | 01 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح رسالة بطرس الأولى
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ
تحية وصلاة لله المثلث الأقانيم ع ١ إلى ٣
١ «بُطْرُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، إِلَى ٱلْمُتَغَرِّبِينَ مِنْ شَتَاتِ بُنْتُسَ وَغَلاَطِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وَأَسِيَّا وَبِيثِينِيَّةَ، ٱلْمُخْتَارِينَ».
٢بطرس ١: ١ وص ٢: ١١ ويعقوب ١: ١ وأعمال ٢: ٩ و١٦: ٧ ومتّى ٢٤: ٢٢ ولوقا ١٨: ٧
بُطْرُسُ هذا اسم الرسول اليوناني واسمه كيفا أي صفا بالسرياني ومعناه في الكل صخر وهو الاسم الذي دعاه المسيح به (انظر تفسير يوحنا ١: ٤٢) وهو دعا نفسه «سمعان بطرس» (٢بطرس ١: ١).
رَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ صرّح بسلطانه من المسيح بياناً لعلة مخاطبته الذين قبلوا الإنجيل من بولس لا منه. وذُكرت صفات الرسول الخاصة في تفسير (أعمال ١: ٢٢ و٢٣ ورومية ١: ١). وكان بولس يضيف إلى قوله رسول يسوع المسيح قوله «بمشيئة الله» أو ما هو في معناه ليثبت سلطانه الذين جهلوه أو أنكروه عليه. لكن لم يكن من داع لبطرس إلى ذلك لأن كل المؤمنين كانوا متيقنين أن المسيح دعاه رسولاً. واعتاد بولس أن يذكر رفقاءه في التحية لكي يجعل لكلامه زيادة أهمية كما ذكر في رسالتيه إلى تسالونيكي. ولم ير بطرس من موجب لذكر سلوانس ومرقس اللذين كانا معه لتقوية كلامه.
علينا أن ننتبه أن بطرس ذكر نفسه باعتبار كونه واحداً من الاثني عشر رسولاً ولم يدع أنه رئيس الرسل ولم يذكر شيئاً يدل على أنه الأول في الرسل كما يدّعي بعض النصارى اليوم.
ٱلْمُتَغَرِّبِينَ دعا الذين خاطبهم «متغربين» لأن منهم من كانوا من متنصري اليهود الذين تركوا اليهودية ولأن المسيحيين كلهم اعتبروا أن وطنهم السماء وأنهم ليسوا سوى «غرباء ونزلاء» على الأرض (عبرانيين ١١: ١٣).
شَتَاتِ غلب في العهد الجديد أن يعبّر «بالشتات» عن اليهود الذين سكنوا خارج الأرض المقدسة اختياراً أو اضطراراً كقول اليهود في المسيح «أَلَعَلَّهُ مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ ٱلْيُونَانِيِّينَ وَيُعَلِّمَ ٱلْيُونَانِيِّينَ» (يوحنا ٧: ٣٥). والذي يتضح مما في هذه الرسالة أن بطرس لم يكتب إلى متنصري اليهود فقط بل كتب إلى كل المسيحيين بقطع النظر عن الأصل لأن حال كل المسيحيين الذين بين الوثنيين كانت كحال اليهود الذين دعوا «شتاتاً».
بُنْتُسَ أحد أقسام أسيا الصغرى الخمسة المذكورة هنا وهي القسم الشمالي الشرقي. وذكر بطرس هذه الأقسام على الترتيب الذي يأتيه من يكتب من بابل فابتدأ ببنتس لأنها أقرب إلى بابل من سائر تلك الأقسام وانتهى ببيثينية لأنها أبعد. وهذا الترتيب خلاف ترتيب لوقا حين ذكر المجتمعين في أورشليم لعيد الخمسين. والكلام على بنتس بالتفصيل في تفسير (أعمال ٢: ٩).
غَلاَطِيَّةَ انظر الفصل الثاني من مقدمة الرسالة إلى غلاطية.
كَبَّدُوكِيَّةَ وُصفت في تفسير (اعمال ٢: ٩) وحُسبت أحياناً جزءاً من فريجية (أعمال ١٦: ٦).
أَسِيَّا هي جزء من أسيا الصغرى قصبته (أفسس ٢: ٩).
بِيثِينِيَّةَ (انظر تفسير أعمال ١٦: ٧ و٢٠: ٣١) والذي أوصل الإنجيل إلى هذه البلاد بولس ورفقاؤه (أعمال ١٦: ٦ و١٨: ٢٣ و١٩: ١ و١٠). وسمع كثيرون منهم الإنجيل في أورشليم في عيد الخمسين وآمنوا به يومئذ. وقيل أن بولس قصد في سفره الثاني للتبشير للذهاب إلى بيثينية لكن الروح القدس منعه من ذلك وقتئذ (أعمال ١٦: ٧).
ٱلْمُخْتَارِينَ من العالم شعباً لله ورثة للحياة الأبدية (يوحنا ١٥: ١٦ ورومية ٨: ٣٣ وكولوسي ٢: ١٢).
٢ «بِمُقْتَضَى عِلْمِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ ٱلسَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ ٱلرُّوحِ لِلطَّاعَةِ، وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. لِتُكْثَرْ لَكُمُ ٱلنِّعْمَةُ وَٱلسَّلاَمُ».
رومية ٨: ٢٩ ع ٢٠ و٢تسالونيكي ٢: ١٣ ع ١٤ و٢٢ ورومية ١: ٥ و٦: ١٦ و١٦: ١٩ وعبرانيين ١٠: ٢٢ و٢: ٢٤ و٢بطرس ١: ٢
بِمُقْتَضَى عِلْمِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ هذا موافق لكل تعليم الإنجيل وهو أن الآب مصدر الفداء وأنه اختار شعبه للحياة الأبدية وبذل ابنه ليفديه (يوحنا ٦: ٣٧ و٦٥ و١٧: ٢ و٦ و١١ ورومية ٩: ١٦ وتيطس ٣: ٥). وفي هذا بيان مصدر ذلك الاختيار وهو أنه «مقتضى علم الله» (انظر تفسير رومية ٨: ٢٩) وهذا «العلم» يتضمن علاوة على معرفة عدد المختارين محبته إياهم والاعتراف بأنهم خاصته وأنه معتن بهم كما يتضمن ذلك قول المسيح «أعرف خرافي» (يوحنا ١٠: ١٤).
فِي تَقْدِيسِ ٱلرُّوحِ أي الروح القدس الذي هو الأقنوم الثالث في اللاهوت. وفي هذا بيان الواسطة التي بها يجري خلاص المختارين وهي أن يتجددوا بالروح القدس ليصيروا إلى صورة الله. إن الله اختار شعبه وهو خاطئ لكنه لم يقصد أن يبقى خاطئاً بل أن يقدس بنعمة روحه القدوس (٢تسالونيكي ٢: ١٣).
لِلطَّاعَةِ هذه هي الغاية التي لها اختارهم الله وهي ليست الغاية الأخيرة التي هي تمجيدهم في السماء ولكنها الغاية التي يبلغونها في هذا العالم قبل الموت والقيامة. «والطاعة» التي اختارهم الله لها هي التسليم بكل ما أُعلن في الإنجيل والقيام بما فيه من الواجبات وتُسمى «كطاعة الإيمان» (رومية ١: ٥ و١٦: ٢٦) «وطاعة المسيح» (٢كورنثوس ١٠: ٥) «وطاعة الحق» (ع ٢٢).
وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ كما قيل في (عبرانيين ٩: ١٩ و١٢: ٢٤). وهو ليس برش التطهير من النجاسة المذكور في (خروج ٢٤: ٨) لتثبيت العهد. وكما أن الله قطع عهداً مع شعبه القديم في طور سينا برشه إياه بدم الثيران كذلك قطع عهداً مع المؤمنين بموت المسيح وبذلك حسبهم مرشوشين بدمه. ومع أن القصد الأول إثبات العهد برش الدم جاز أن يحسب أيضاً رشاً لنفوسنا لكي تطهر من فساد الخطيئة تمهيداً لدخولنا العهد لله والكفارة لخطايانا لأنه لا أحد من المؤمنين يطيع شريعة الله الطاعة الواجبة. والواضح كل الوضوح من هذه الآية إثبات عقيدة التثليث لأنه ذكر فيها الآب والابن والروح القدس.
لِتُكْثَرْ لَكُمُ ٱلنِّعْمَةُ وَٱلسَّلاَمُ السلام في قلب المؤمنين ثمر نعمة الله فيه. فطلب الرسول للمؤمنين أن يزدادوا كثيراً نيلاً لتلك الموهبة السماوية ونتيجتها المباركة. وذُكرت هذه الطلبة في (٢بطرس ١: ٢ وفي يهوذا ٢).
عظمة نعمة الله المعلنة بولادتهم الجديدة لرجاء حي بقيامة المسيح من الأموات وبميراثهم السماوي ع ٣ إلى ٥
٣ «مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ».
٢كورنثوس ١: ٣ وتيطس ٣: ٥ وغلاطية ٦: ١٦ وع ٢٣ ويعقوب ١: ١٨ وع ١٣ و٢١ وص ٣: ٥ و١٥ وعبرانيين ٣: ٦ و٢تسالونيكي ٢: ١٦ و١يوحنا ٣: ٣ وص ٣: ٢١ و١كورنثوس ١٥: ٢٠
مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ تتضمن مباركة الله الشكر والحمد له (رومية ١: ٢٥ و٩: ٥ و٢كورنثوس ١١: ٣١).
أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ عُرف الله في العهد القديم بإله إسرائيل وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ولكنه عُرف في العهد الجديد بأبي ربنا يسوع المسيح فكان بذلك أقرب إلينا ووهب لنا البركات العظمى. فالنسبة بين الله وابنه علة منحه إيانا مواهب النعمة وعلة بنوتنا له.
ٱلَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ إن الله غني في الرحمة (أفسس ٢: ٤) وعظمة شقائنا حملته على أن يشفق علينا كثيراً وأنه يتخذ وسائل لتجديدنا.
وَلَدَنَا ثَانِيَةً أشار بذلك إلى نقله إيانا من الحال التي نحن فيها بالطبيعة وهي حال الخطيئة والشقاء والتعرض للموت إلى حال النعمة والقداسة والسعادة والحياة وهذه الولادة فعل الروح وتسمى «ولادة من فوق» (يوحنا ٣: ٣). و «خليقة جديدة» (٢كورنثوس ٥: ١٧ وغلاطية ٦: ١٥) و «ٱلْمِيلاَدِ ٱلثَّانِي وَتَجْدِيدِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (تيطس ٣: ٥). و «الولادة من الله» (يعقوب ١: ١٨ و١يوحنا ٥: ١ و١٨). وهذا التجديد متوقف على كفارة المسيح واتحادنا به (ع ١٩ وص ٢: ٢٤ و٣: ١٨).
لِرَجَاءٍ حَيٍّ كنا في حال الطبيعة «بلا رجاء» ولكن ولادتنا الجديدة والنِسب الجديدة التي أدركناها بها أدخلتنا في حياة جوهرها الرجاء أي شدة التيقن حقيقة. والمراد بكون الرجاء حياً أنه محي وأنه قوي ومؤثر وينشئ الأعمال الصالحة وإن الغرض المنتظر منه هو الحياة الأبدية. إن كثيراً من آمالنا يموت قبلنا فندفنه ونبكي عليه أو يموت حين نموت ولكن ذلك الرجاء يبقى معنا إلى نهاية الحياة الأرضية وبعدها والذي ندركه في السماء أعظم مما رجوناه على الأرض (رومية ٨: ٢٤).
بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ على هذا بُنيت كل آمال المؤمن فإنه لما مات المسيح ودُفن وبقي في القبر مات كل ما في قلوب التلاميذ من الرجاء كما يُعلم من قول اثنين منهم «كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ ٱلْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ» (لوقا ٢٤: ٢١). وكان تأثير مشاهدة المسيح بعد قيامته في بطرس وسائر الرسل مثل ولادة جديدة ومنذ ذلك الوقت صارت قيامة المسيح واسطة حياة جديدة للمؤمنين بالنظر إلى اتحادهم به بالإيمان فقاموا معه بقيامته وهم يحيون بحياته (ص ٣: ٢١ ورومية ٦: ٤ و١١). ولأن المسيح قام ويحيا إلى الأبد كان الرجاء المبني عليه حياً. إن قيامة المسيح أساس رجاء المؤمنين لأنها تحقق صحة كل ما ادعاه المسيح ووعد به وهي عربون قيامتهم (١كورنثوس ١٥: ١ – ٢٠ و٢تيموثاوس ١: ١٠ و١تسالونيكي ٤: ١٤).
٤ «لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ».
أعمال ٢٠: ٣٢ ورومية ٨: ١٧ وكولوسي ٣: ٢٤ ص ٥: ٤ و٢تيموثاوس ٤: ٨ وعبرانيين ١١: ١٦
لِمِيرَاثٍ هذا متعلق «بولدنا» فإن الله لما ولدنا للرجاء ولدنا للميراث أيضاً بدليل قول بولس «فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضاً، وَرَثَةُ ٱللّٰهِ وَوَارِثُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ» (رومية ٨: ١٧). وميراث المؤمن ذُكر في (أعمال ٢٠: ٣٢ وأفسس ١: ١ و١٤ و١٨ وكولوسي ١: ١٢). وصار المؤمنون «ورثة» لأنهم أبناء الله بالتبني ووعدهم أبوهم السماوي بالسماء ميراثاً لهم وكان ذلك دليل حبه إياهم.
لاَ يَفْنَى لا يزول كالميراث الأرضي (١كورنثوس ٩: ٢٥) فنضطر أن نترك هذا الميراث بعد قليل وأما ذاك فهو أبدي.
وَلاَ يَتَدَنَّسُ كثيراً ما تتدنس المواريث الأرضية بأن تنال بالخداع وتُحرز بالظلم والاختلاس وكثيراً ما يدنس الوارث ميراثه بأن يُقاد به إلى الكسل والإسراف والتمتع باللذات الدنيئة. لكن الميراث الأبدي لا يلحقه شيء من هذه المدنسات فوارثه يتقدم دائماً في سبيل المعرفة والقداسة والرغبة في خدمة الله.
لاَ يَضْمَحِلُّ أي لا يزول مجده وبهاؤه خلافاً لبهاء الأزهار وجمال كل المقتنيات الأرضية. وصف ذلك الميراث بالصفات الثلاث المذكورة يثبت دوامه وطهارته وعدم تغيره. ولعل بطرس قابل في نفسه ميراث المؤمنين في السماء بميراث بني إسرائيل في الأرض المقدسة فإنه زال عنهم وتدنس بالأوثان والعصيان.
مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ لأنه عُيّن لكم وحُفظ لأن الله الذي منحه هو حافظه وهو أعده لكم منذ تأسيس العالم (متّى ٢٥: ٣٤). وفيه قال المسيح «أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً» (يوحنا ١٤: ٢). وهذا كتعليم المسيح في أمر كنز المؤمن وأجره في السماء (متّى ٦: ٢٠ و١٩: ٢١). وتعليم بولس بقوله «مِنْ أَجْلِ ٱلرَّجَاءِ ٱلْمَوْضُوعِ لَكُمْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (كولوسي ١: ٥). على الذين يقولون بأن المؤمنين يملكون مع المسيح على الأرض أن يتأملوا في هذه العبارة.
٥ «أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ بِقُوَّةِ ٱللّٰهِ مَحْرُوسُونَ، بِإِيمَانٍ، لِخَلاَصٍ مُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ فِي ٱلزَّمَانِ ٱلأَخِيرِ».
فيلبي ٤: ٧ ويوحنا ١٠: ٢٨ وأفسس ٢: ٨ و١كورنثوس ١: ٢١ و٢تسالونيكي ٢: ١٣ وص ٤: ١٣ و١٥ ورومية ٨: ١٨
أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ بِقُوَّةِ ٱللّٰهِ مَحْرُوسُونَ إن الذي يحفظ الميراث للورثة هو الذي يحفظ الورثة أنفسهم فلا يسمح بأن يرتدوا ويهلكوا. إنهم ضعفاء ومحاطون بتجارب كثيرة فإن تركوا لأنفسهم لم يرج أن يثبتوا. وأشدهم عزماً يعجز عن أن يثبت ولكن الله يثبتهم لأن قدرته غير محدودة (فيلبي ١: ٦ و٢تيموثاوس ١: ١٢ و٤: ١٨).
بِإِيمَانٍ إن الله لم يحفظهم بلا واسطة كما يحفظ الشمس في دورانها لكنه يحفظهم بإنشاء الإيمان في قلوبهم. فما دام لهم الإيمان بالله ومواعيد كلمته والتمسك بالذراع الإلهية لا يسقطون. ويلزم من هذا أن الله مع أنه قادر أن يحفظ المؤمنين دون سعيهم استحسن أن تتفق إرادة الإنسان وإرادته وأن لا يستعمل قوته لمساعدة الإنسان ما لم يستعمل الإنسان القوة التي منحه هو إياها.
لِخَلاَصٍ هذا متعلق بقوله «محروسون» فإن الله لا يزال يحرس المؤمنين حتى يخلصوا الخلاص التام بعد كل ما وقع عليهم من التجارب والمشقات والاضطهادات وما أتوه من الجهاد. وتيقن المؤمن أن الله قضى أن يحفظه «بإيمان لخلاص» هو من أقوى أركان التعزية. قال المسيح في خرافه «لاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي» وقال أيضاً «لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي» (يوحنا ١٠: ٢٨ و٢٩).
مُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ أي معدٌّ ومستعدٌّ فما بقي إلا أن يرفع ما يحجبه عن العيون ومتى رُفع ذلك يُعلن.
فِي ٱلزَّمَانِ ٱلأَخِيرِ وهو الزمان الذي عيّنه الله (دانيال ١٢: ٩ و١٣). ونُعت «بالأخير» لأنه وقت نهاية العالم. وحينئذ يظهر لكل الملائكة والناس أن للمختارين ميراثاً حُفظ وهم محروسون لينالوه.
كثرة المصائب لا تمنع من السرور الناشئ عن الرجاء المذكور ع ٦ إلى ٩
٦ «ٱلَّذِي بِهِ تَبْتَهِجُونَ، مَعَ أَنَّكُمُ ٱلآنَ إِنْ كَانَ يَجِبُ تُحْزَنُونَ يَسِيراً بِتَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ».
رومية ٥: ٢ وص ٣: ١٧ و٥: ١٠ ويعقوب ١: ٢ وص ٤: ١٢
ٱلَّذِي بِهِ تَبْتَهِجُونَ الضمير في «بهِ» يرجع إما إلى كل ما ذُكر آنفاً من الولادة الجديدة ورجائهم الميراث وكونه محفوظاً لهم وهم له حتى لا يستطيع شيء أن يمنعهم من نيله والتمتع به إلى الأبد أو يرجع إلى الخلاص المذكور في الآية الأخيرة «المُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ فِي ٱلزَّمَانِ ٱلأَخِيرِ». وغاية الرسول هنا أن يبين أن الأسباب الموجبة لفرحهم أعظم من الأسباب الموجبة لحزنهم. وإذا كانت هذه غايته كان الأولى أن يرجع الضمير إلى كل أسباب الفرح المذكورة في (ع ٣ – ٥). و «الابتهاج» يدل على أسمى صنوف الفرح كالفرح الذي نُسب إلى المسيح (لوقا ١٠: ٢١). وكالفرح الذي أمر تلاميذه بأن يفرحوه حين يُضطهدون من أجل المسيح (متّى ٥: ١٢). وكفرح مريم أم المسيح بتسبحتها (لوقا ١: ٤٧).
مَعَ أَنَّكُمُ ٱلآنَ إِنْ كَانَ يَجِبُ تُحْزَنُونَ يَسِيراً بِتَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ المراد «بالتجارب» هنا كل المشقات بلا نظر إلى علتها (يعقوب ١: ٢) أو ما نشأ من الاضطهادات التي كانوا هم عرضة لها كما ذُكر في (ص ٣: ١٤ – ١٧ وص ٤: ١٢ – ١٩). ودُعيت «متنوعة» لكثرتها واختلافها من إهانة الأمم وتهمهم الكاذبة وخسارة المال والآلام الجسدية التي سمح الله أن يقعوا فيها لامتحان إيمانهم وصبرهم وثباتهم في الحق. ذُكر في هذه العبارة أمرين لتخفيف ثقل تلك النوازل:
- الأول قوله «إن كان يجب» أن تحتملوها إتماماً لإرادة الله. وهذا يدل على أن الرزايا لا تأتي ما لم ير الله أنها ضرورية للنفع وأنها لا تحدث اتفاقاً وأن الله «لاَ يُذِلُّ مِنْ قَلْبِهِ وَلاَ يُحْزِنُ بَنِي ٱلإِنْسَانِ» (مراثي إرميا ٣: ٣٣). وأن البلايا لا تزيد عدداً وثقلاً ومدة على ما قضت به حكمة الله ومحبته بالنظر إلى كونها ضرورية للنفع.
- الثاني: قوله «يسيراً» فإنه دليل على أن مدتها قصيرة جداً بالنسبة إلى زمان الإثابة عليها فهي أمر يسري ولو صحبت كل حياتهم على الأرض. وهذا يشبه قول بولس «لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا ٱلْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً» (٢كورنثوس ٤: ١٧).
٧ «لِكَيْ تَكُونَ تَزْكِيَةُ إِيمَانِكُمْ، وَهِيَ أَثْمَنُ مِنَ ٱلذَّهَبِ ٱلْفَانِي، مَعَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِٱلنَّارِ، تُوجَدُ لِلْمَدْحِ وَٱلْكَرَامَةِ وَٱلْمَجْدِ عِنْدَ ٱسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
يعقوب ١: ٣ وأيوب ٣٣: ١٠ ومزمور ٦٦: ١٠ وأمثال ١٧: ٣ وإشعياء ٤٨: ١٠ وزكريا ١٣: ٩ وملاخي ٣: ٢ و١كورنثوس ٣: ١٣ ورومية ٢: ٧ و١٠ و٢كورنثوس ٤: ١٧ وعبرانيين ١٢: ١١ وص ٤: ١٣ ولوقا ١٧: ٣
في هذه الآية بيان الغاية الأولى من تلك المحن وهي تمهيد للغاية الثانية العظمى المذكورة في (ع ٩).
تَزْكِيَةُ إِيمَانِكُمْ أي إثبات أنه زكي بالامتحان (يعقوب ١: ٣).
وَهِيَ أَثْمَنُ مِنَ ٱلذَّهَبِ ٱلْفَانِي، مَعَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِٱلنَّارِ في هذا أمران الأول إن تزكية إيمانهم أهم من نقاوة الذهب بالامتحان باعتبار نتائج التزكية. والثاني إن الإيمان نفسه على ما يستلزمه المعنى أثمن من الذهب عينه. ووصف «الذهب بالفاني» لأنه مادة فله كل صفات المادة العامة. وإذا كان الذهب الذي لا يُستعمل إلا إلى حين ويفنى بالاستعمال يحتاج إلى الامتحان بالنار فبالأولى أن إيمانهم بالمسيح الذي يبقى إلى الأبد (١كورنثوس ١٣: ١٣) يحتاج إلى الامتحان لكي يظهر أنه خالص من كل غش وكثيراً ما يشبه امتحان الإيمان بامتحان الذهب بالنار (أيوب ٣٣: ١٠ ومزمور ٦٦: ١٠ وإرميا ٩: ٧ وزكريا ١٣: ٩ وملاخي ٣: ٢). وكما أن الذهب يتنقى بالنار من الغواشي كذلك يتنقى الإيمان بالتجارب من الاتكال على النفس وعلى الحكمة البشرية والبر الذاتي والقوة الذاتية.
تُوجَدُ الضمير في «توجد» راجع إلى تزكية إيمانهم بواسطة التجارب. والمعنى أنه يعرفها في اليوم الأخير بعد ذلك الامتحان الله الديان وكل المشاهدين من الملائكة والبشر (متّى ٢٥: ٢٣ و١تيموثاوس ٤: ٨ وعبرانيين ١٢: ١١ ويعقوب ١: ١٢ ورؤيا ٢: ٨ – ١٠).
لِلْمَدْحِ وَٱلْكَرَامَةِ وَٱلْمَجْدِ نسب الرسول إلى السماويات ما اعتاد الناس أن ينسبوه إلى الأشياء التي يستحسنونها فيمدحونها قولاً ويحزنون فاعليها فعلاً برفع مقامهم ويعظمونهم فكراً. و «الْمَدْحِ وَٱلْكَرَامَةِ وَٱلْمَجْدِ» ليست سوى جزء مما يثيب به الله من نعمته عبيده الأمناء بعد احتمالهم الامتحانات وهذا مثل ما في (متّى ٢٥: ٢١ ويوحنا ١٢: ٢٦ ورومية ٢: ٧ و١٠ و٩: ٢٣ و١كورنثوس ٤: ٥ و٢كورنثوس ٣: ١٨ وفيلبي ٣: ٢١ ورؤيا ٢٢: ٤).
عِنْدَ ٱسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي عند مجيئه ثانية في الزمان الأخير (ع ٥) ليدين العالم (٢تيموثاوس ٤: ١) واستعلانه بالمجد يقترن «باستعلان أبناء الله» (رومية ٨: ١٩) بدليل قوله «كَمَا ٱشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ ٱلْمَسِيحِ ٱفْرَحُوا لِكَيْ تَفْرَحُوا فِي ٱسْتِعْلاَنِ مَجْدِهِ أَيْضاً مُبْتَهِجِينَ» (ص ٤: ١٣).
٨ «ٱلَّذِي وَإِنْ لَمْ تَرَوْهُ تُحِبُّونَهُ. ذٰلِكَ وَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَرَوْنَهُ ٱلآنَ لٰكِنْ تُؤْمِنُونَ بِهِ، فَتَبْتَهِجُونَ بِفَرَحٍ لاَ يُنْطَقُ بِهِ وَمَجِيدٍ».
أفسس ٣: ١٩ ويوحنا ٢٠: ٢٩
ٱلَّذِي وَإِنْ لَمْ تَرَوْهُ تُحِبُّونَهُ قبل استعلانه المنتظر وبدون مشاهدتكم إياه وهو في الجسد. كتبت هذه الرسالة للمؤمنين المتغربين من الشتات (ع ١) فلم تكن لهم الفرصة التي كانت لبطرس وسائر الرسل وهي فرصة مشاهدة المسيح وهو على الأرض في الجسد لكنهم سمعوا نبأه من صفاته وتعليمه ومعجزاته وموته من أجلهم على الصليب ولذلك أحبوه. ولا تخلو كلمات بطرس هنا من شيء من الشفقة كأنه قال ليتكم رأيتموه كما رأيته فتحبونه أكثر مما أحببتموه.
ذٰلِكَ وَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَرَوْنَهُ ٱلآنَ لٰكِنْ تُؤْمِنُونَ بِهِ كان إيمانهم الإيمان الذي وُصف في الرسالة إلى العبرانيين وعُرف بأنه «الإيقان بأمور لا تُرى» (عبرانيين ١١: ١). وتظهر أهمية هذه الفضيلة من أنها قد كُررت ثلاثاً في آيات قليلة من هذه الرسالة. وهذا الإيمان هو الذي مدحه المسيح بقوله لتوما «لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يوحنا ٢٠: ٢٩). وبُني إيمانهم (فضلاً عما سمعوه من أموره) على أنهم اقتربوا منه في الصلاة ونالوا منه ما طلبوه وهو أعلن نفسه لقلوبهم بروحه القدوس الذي كان «يأخذ مما له ويخبرهم به» (يوحنا ١٦: ١٥). وكذلك ألوف وربوات منذ ذلك الوقت إلى الآن ما رأوه إلا بعين الإيمان ولكنهم أحبوه أكثر من كل من سواه.
فَتَبْتَهِجُونَ بِفَرَحٍ لاَ يُنْطَقُ بِهِ وَمَجِيدٍ الإيمان بالمسيح ينشئ محبة له ويقين رجاء الخلاص الذي ينشأ عنه أعظم المسرات. قال يوحنا في التلاميذ إذ شاهدوا يسوع بعد قيامته «فَرِحَ ٱلتَّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا ٱلرَّبَّ» (يوحنا ٢٠: ٢٠). ولكن الفرح المذكور هنا الذي لا نقدر أن نتصور أعظم منه لم يُنسب إلى الذين نظروه بل إلى الذين آمنوا به. وهذا كل الذي بقي لبطرس حين كتب هذه الكلمات ولمن كتب إليهم ولسائر المسيحيين منذ ذلك الوقت إلى الآن لكن الذين يشعرون بفرط ذلك الابتهاج قليلون. إن هذا الفرح ثمر الإيمان والمحبة وهما يفعلان معاً وكل منهما يسند الآخر حتى إذا سأل أحد ماذا أفعل لكي أحب المسيح فالجواب آمن به وإن سأل كيف أومن به فالجواب أحببه. وبعض ذلك الابتهاج يناله المؤمن على الأرض لكن وصفه بأنه «مجيد» يدل على أنه الابتهاج في السماء فإذا قابلنا به كل فرح أرضي كان بالنسبة إليه زهيداً جداً فانياً.
٩ «نَائِلِينَ غَايَةَ إِيمَانِكُمْ خَلاَصَ ٱلنُّفُوسِ».
رومية ٦: ٢٢
يعسر علينا القطع بأن هذه الآية تشير إلى ما يحصل المؤمن عليه وهو على الأرض بالإيمان والرجاء أو ما سيحصل عليه في السماء. فإن كان ما يحصل عليه وهو على الأرض كان معناها أن ذلك الرجاء الحي يجعله ينظر إلى الثواب المستقبل كأنه قريب منه ومحقق إلى حد أن يفرح به كأنه حصل بين يديه كما كان من أمر الآباء بالنظر إلى المواعيد فإنهم «مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا» (عبرانيين ١١: ١٣). وإن كان ما يحصل عليه في السماء كان معناها أنهم يحصلون على ذلك الابتهاج بعد موتهم وذهابهم إلى السماء فيختبرون هنالك ما انتظروه هنا.
إن غاية الساعي في السباق هي إدراك قصب السبق وغاية المجاهد الإكليل الذي يُكلل به وهو منتصر (١كورنثوس ٩: ٢٤ و١تيموثاوس ٤: ٧ و٨ وعبرانيين ١٢: ١). وغاية إيمان المسيحي هي خلاص نفسه وهي نهاية الإيمان لنيله ما كان يؤمن به ويرجوه ولتحول الإيمان إلى اختبار. وأما قول بولس الرسول «بثبات الإيمان والرجاء» (١كورنثوس ١٣: ١٣) فيصح بدوام الخلاص الذي نيل ومظاهر جديدة لهما. فالمرجح أن مراد الرسول «بغاية الإيمان» نيل الثواب في السماء الذي يتمتع به إلى أبد الآبدين.
إن الرسول جمع هنا «بالخلاص» كل ما وُعد به المؤمن من نتائج طاعة المسيح وموته وشفاعته ونعمة الآب من النجاة من جهنم ونيل القداسة والسعادة في حضرة الله والملائكة الأطهار والمفديين من الناس. ويسمى الخلاص في الكتب الإلهية «الحياة الأبدية» (رومية ٦: ٢٢). وكونه مستحقاً أن يكون غاية الإيمان يظهر من قول المسيح «مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ» (متّى ١٦: ٢٦). وقوله في بذله حياته لخلاص الناس (متّى ٢٧: ٤٢). وأضاف الخلاص إلى النفوس لأن النفس الجزء الأسمى من الإنسان وهي عرضة للخطر الأعظم وقابلة للسعادة العظمى ولكن إضافته إلى النفوس لا تمنع أن الأجساد تشترك في الخلاص بدليل قول بولس في المسيح «ٱلَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ» (فيلبي ٣: ٢١).
إن عظمة هذا الخلاص تتبين من كونه موضوع نبوآت العهد القديم وإعلان الإنجيل وموضوع بحث الملائكة ع ١٠ إلى ١٢
١٠ «ٱلْخَلاَصَ ٱلَّذِي فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ أَنْبِيَاءُ، ٱلَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي لأَجْلِكُمْ».
ع ١٠ – ١٢ ومتّى ١٣: ١٧ ولوقا ١٠: ٢٤ ومتّى ٢٦: ٢٤ ولوقا ٢٤: ٢٧ و٤٤ وع ١٣ وكولوسي ٣: ٤
ٱلْخَلاَصَ ٱلَّذِي فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ أَنْبِيَاءُ مراده بالخلاص واضح من وصفه بأنه «ولادة ثانية لرجاء حي» (ع ٣) وأنه «مستعد أن يعلن في الزمان الأخير» وأن المؤمنين «يبتهجون برجاء نيله» ابتهاجاً لا يوصف مع أنهم في هذه الحياة محاطون بتجارب كثيرة متنوعة (ع ٦). وأضاف إلى ما قاله ثلاثة أشياء تثبت عظمة هذا الخلاص ليرغب قارئي رسالته في أن يتمسكوا به (ع ١٣). الأول أنه موضوع بحث أنبياء العهد القديم ونسب إليهم ما نُسب إلى الذين يحفرون في جوف الأرض بغية أن يجدوا الجواهر الثمينة (أيوب ٢٨: ١٥ – ١٩ وأمثال ٣: ١٤ – ١٨). والأنبياء هنا منهم دانيال وإشعياء وداود ويوئيل بدليل قول دانيال «أَنَا دَانِيآلَ فَهِمْتُ مِنَ ٱلْكُتُبِ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَنْهَا كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ إِلَى إِرْمِيَا ٱلنَّبِيِّ لِكَمَالَةِ سَبْعِينَ سَنَةً عَلَى خَرَابِ أُورُشَلِيمَ. فَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَى ٱللّٰهِ ٱلسَّيِّدِ طَالِباً بِٱلصَّلاَةِ وَٱلتَّضَرُّعَاتِ، بِٱلصَّوْمِ وَٱلْمَسْحِ وَٱلرَّمَادِ» (دانيال ٩: ٢ و٣). وقول المسيح «أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ وَمُلُوكاً أَرَادُوا أَنْ يَنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَلَمْ يَنْظُرُوا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا» (لوقا ١٠: ٢٤). وقول بطرس في يوئيل (أعمال ٢: ١٦ و١٧) وفي داود (أعمال ٢: ٣١ و٣: ٢٤). والذي رغبوا في أن يعرفوه هو معنى نبوآتهم التي ألهمهم الروح القدس أن يتكلموا بها وكانت تلك النبوآت موضوع بحثهم لا نتيجته. وقول بطرس هنا يشبه قول المسيح «طُوبَى لِعُيُونِكُمْ لأَنَّهَا تُبْصِرُ، وَلآذَانِكُمْ لأَنَّهَا تَسْمَعُ. فَإِنِّي ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ وَأَبْرَاراً كَثِيرِينَ ٱشْتَهَوْا أَنْ يَرَوْا مَا أَنْتُمْ تَرَوْنَ وَلَمْ يَرَوْا الخ» (متّى ١٣: ١٦ و١٧). وغاية المسيح من هذا كغاية بطرس من قوله وهو أن يعتبروا الإعلان ويفرحوا بأن كُشف لهم ما كُتم عن الأنبياء.
ٱلَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي لأَجْلِكُمْ هذا إما وصف لمعنى كل نبوآت العهد القديم وأما بيان أن النبوآت التي أشار إليها مختصة بالنعمة المعلنة في الإنجيل لا النبوآت المتعلقة ببابل وأشور ومصر ونحوها. وهذه النعمة هي التي أتى بها المسيح المؤمنين (الذين بطرس منهم) بإتيانه بالجسد وتعليمه وموته كل ما يتعلق بذلك كما هو معلن في الإنجيل. وفسر كلامه هنا في الآية الآتية وهي قوله «الذي كان يدل عليه روح المسيح إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها».
١١ «بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا ٱلْوَقْتُ ٱلَّذِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي فِيهِمْ، إِذْ سَبَقَ فَشَهِدَ بِٱلآلاَمِ ٱلَّتِي لِلْمَسِيحِ وَٱلأَمْجَادِ ٱلَّتِي بَعْدَهَا».
رومية ٨: ٩ و٢بطرس ١: ٢١ ومتّى ٢٦: ٢٤ ولوقا ٢٤: ٢٧ و٤٤
بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا ٱلْوَقْتُ هذا تفصيل للبحث المذكور آنفاً. إنهم عرفوا بإتيان الخلاص لكنهم جهلوا وقته وأسلوبه وحقيقته وعلموا أنهم تكلموا فيه بالوحي لكنهم لم يفهموا سوى بعض ما أُعلن لهم لأن فيه أسراراً لم يدركوها بدليل قول بضعهم «وَأَنَا سَمِعْتُ وَمَا فَهِمْتُ» (دانيال ١٢: ٨). إن الله لم يتخذ الأنبياء معازف يضرب العازف أوتارها ليُظهر انفعالات قلبه. ولا نحسب أنهم فهموا كل ما كتبوه فلا نظن أن إشعياء مثلاً فهم ما كتبه في شأن عمانوئيل وأنه يولد من عذارء كما فهمنا نحن من أمر يسوع ومريم أمه لكنهم كانوا بين الأمرين أي بين أن أدركوا ككتبة البشائر وكونهم مجرد آلات.
ٱلَّذِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي فِيهِمْ المراد بهذا «الروح» هو الروح القدس وقال إنه «روح المسيح» لأنه هو الروح الذي كان في المسيح منذ الأزل باعتبار كونه «كلمة الله». وأنه «خبّر» بأمور الآب. وأنه «مملوء نعمة وحقاً». وأنه «نور» الكنيسة (متّى ١١: ٢٧ ويوحنا ١٧: ١٤ و١٥). وهذا موافق لقول أحد الأنبياء «رُوحُ ٱلرَّبِّ تَكَلَّمَ بِي وَكَلِمَتُهُ عَلَى لِسَانِي» (٢صموئيل ٢٣: ٢). والذي سماه بولس في موضع «روح الله» سماه في آخر «روح المسيح» (رومية ٨: ٩). وكان أولئك الأنبياء متعلمين من المسيح قبل أن يأتي متجسداً فأخبرهم أنه يأتي لكنه لم يخبرهم أنه هو يسوع وما عيّن لهم العصر الذي يأتي فيه ولا أحوال ذلك العصر مثل أنه وقت حرب أو وقت سلام وأن الأمة اليهودية تكون مستقلة حينئذ أو مستعبدة. وتلك النبوآت لم تزل مبهمة إلى عصر المسيح (متّى ٢٢: ٤٢ ولوقا ٣: ١٥ و٢٣: ٣٥ ويوحنا ٣: ٢٨ و٧: ٢٦ و٤١ وأعمال ٢: ٣٦).
فَشَهِدَ بِٱلآلاَمِ ٱلَّتِي لِلْمَسِيحِ ومن شهاداته النبوءات التي في (إشعياء ٥٢: ١٣ – ٥٣: ١٢ ودانيال ٩: ٢٥ – ٢٧). وعسر على اليهود كثيراً أن يتصوروا المسيح متألماً وأنه يأتي بآلامه بخلاص شعبه الخاص وسائر العالم (متّى ١٦: ٢١ و٢٢ ولوقا ٢٤: ٢٥ – ٢٧ وأعمال ٣: ١٨ و٨: ٢٩ – ٣٤ و١٣: ٢٧ و١٧: ٣ و٢٦: ٢٣).
وَٱلأَمْجَادِ ٱلَّتِي بَعْدَهَا وهي التي قصد الله أن يثيب المسيح بها على آلامه. ودلوا على تلك الأمجاد بإنبائهم بقيامة المسيح وصعوده وجلوسه على يمين الآب وخلاص شعبه الناشئ عن ذلك وبإتيانه أخيراً ليدين العالم (مزمور ١٦: ٨ – ١١ وإشعياء ٣٨: ١١ وأعمال ٢: ٢٥ – ٢٨) فصح أن يُقال أن الإنجيل كله إتمام لتلك النبوآت.
١٢ «ٱلَّذِينَ أُعْلِنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَيْسَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لَنَا كَانُوا يَخْدِمُونَ بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ ٱلَّتِي أُخْبِرْتُمْ بِهَا أَنْتُمُ ٱلآنَ بِوَاسِطَةِ ٱلَّذِينَ بَشَّرُوكُمْ فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلْمُرْسَلِ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. ٱلَّتِي تَشْتَهِي ٱلْمَلاَئِكَةُ أَنْ تَطَّلِعَ عَلَيْهَا».
ع ٢٥ وص ٤: ٦ وأعمال ٢: ٢ – ٤ ولوقا ٢: ١٣ وأفسس ٣: ١٠ و١تيموثاوس ٣: ١٦
كانت الآية الحادية عشرة تفسيراً لقوله «فَتَّشَ وَبَحَثَ» (ع ١٠). وأول هذه الآية تفسير لقوله «تَنَبَّأُوا عَنِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي لأَجْلِكُمْ» (ع ١٠).
لَيْسَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لَنَا كَانُوا يَخْدِمُونَ أي أن الإعلان لم يكن جواباً لما فتشوا وبحثوا عنه بل كان لنفع الذين بعدهم كما يتضح من القول في الرسالة إلى العبرانيين «هٰؤُلاَءِ كُلُّهُمْ، مَشْهُوداً لَهُمْ بِٱلإِيمَانِ، لَمْ يَنَالُوا ٱلْمَوْعِدَ، إِذْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَنَظَرَ لَنَا شَيْئاً أَفْضَلَ، لِكَيْ لاَ يُكْمَلُوا بِدُونِنَا» (عبرانيين ١١: ٣٩ و٤٠). ومثال ذلك أنباء الله بأن الأمم يشتركون في النعمة المعطاة لليهود. ولم يقصد الرسول بقوله «لنا» أناساً معينين بل المؤمنين كلهم ممن كتب إليهم وغيرهم في عصر المسيح وما بعده.
أُخْبِرْتُمْ بِهَا أَنْتُمُ ٱلآنَ بِوَاسِطَةِ ٱلَّذِينَ بَشَّرُوكُمْ هذا الأمر الثاني الذي يثبت عظمة الخلاص المعلن في الإنجيل. أراد بقوله «أنتم» مؤمني بنتس وغلاطية وكبدوكية الخ وهم الذين خاطبهم بهذه الرسالة. وقصد بمن بشروهم الرسل أو المبشرين بالإنجيل. ولم يقل بواسطتي أنا الذي أبشركم لأن أكثرهم قبلوا الإنجيل بواسطة بولس فأراد أن يثبت تبشير بولس بشهادته كما فعل في الرسالة الثانية (٢بطرس ٣: ١٥).
فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلْمُرْسَلِ مِنَ ٱلسَّمَاءِ أي الروح الذي تكلم بأنبياء العهد القديم ورسل العهد الجديد وبرهان ذلك المعجزات التي صنعوها إثباتاً لتعليمهم كما حدث يوم الخمسين وأوقاتاً أُخر كثيرة من الكنيسة الأولى. وهذا على وفق ما قيل في رسالة العبرانيين «كَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاَصاً هٰذَا مِقْدَارُهُ، قَدِ ٱبْتَدَأَ ٱلرَّبُّ بِٱلتَّكَلُّمِ بِهِ، ثُمَّ تَثَبَّتَ لَنَا مِنَ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا، شَاهِداً ٱللّٰهُ مَعَهُمْ بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَمَوَاهِبِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، حَسَبَ إِرَادَتِهِ» (عبرانيين ٢: ٣ و٤). وقول بولس «أَنَّ إِنْجِيلَنَا لَمْ يَصِرْ لَكُمْ بِٱلْكَلاَمِ فَقَطْ، بَلْ بِٱلْقُوَّةِ أَيْضاً، وَبِالرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَبِيَقِينٍ شَدِيدٍ» (١تسالونيكي ١: ٥).
ٱلَّتِي تَشْتَهِي ٱلْمَلاَئِكَةُ أَنْ تَطَّلِعَ عَلَيْهَا هذا الأمر الثالث الذي يدل على عظمة الخلاص المعلن في الإنجيل. وهذه الأشياء التي رغب الأنبياء في البحث عنها في شأن آلام المسيح والأمجاد التي بعدها. وهي من أسرار الفداء الذي قال فيه بولس الرسول «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي ٱلرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ، رُفِعَ فِي ٱلْمَجْدِ» (١تيموثاوس ٣: ١٦ انظر تفسير أفسس ٣: ١٠ و١كورنثوس ٤: ٩) وذكر رغبة الملائكة في الاطلاع على أمور الخلاص ليدل على أن هذه الأمور مستحقة اعتناء القراء بها وثبوتهم فيها وشكرهم لله عليها.
ولا ريب في أن الملائكة تشتهي أن تطلع على كل الأمور التي تُعلن صفات الله وكل مقاصده. والمرجّح أن الملائكة يحصلون على معرفة الله باجتهادهم كالناس. إنه ليس من طبيعتهم أن يعرفوا كل شيء فيحتاجون إلى التفتيش والبحث واستعمال كل قواهم لكي يفهموا ما أُبهم عليهم من مقاصد الله. وقول المسيح «يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ» (لوقا ١٥: ١٠) يبرهن أن الملائكة يهتمون بإنقاذ الساقطين. وهذا ينتج أيضاً من كونهم «جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحاً خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ ٱلْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا ٱلْخَلاَصَ» (عبرانيين ١: ١٤) واشتراكهم في عمل الفداء ظاهر من (متّى ١: ٢٠ و٤: ١١ و٢٨: ٢ و لوقا ١: ٢٦ و٢: ٩ و٢٢: ٤٣ ويوحنا ١: ٥١).
إن عظمة الخلاص أوجبت عليهم الغيرة والصحو والرجاء والطاعة والقداسة والتقى ع ١٣ إلى ٢١
١٣ «لِذٰلِكَ مَنْطِقُوا أَحْقَاءَ ذِهْنِكُمْ صَاحِينَ، فَأَلْقَوْا رَجَاءَكُمْ بِٱلتَّمَامِ عَلَى ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي يُؤْتَى بِهَا إِلَيْكُمْ عِنْدَ ٱسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».
أفسس ٦: ١٤ وص ٤: ٧ و٥: ٨ و١تسالونيكي ٥: ٦ و٨ و٢تيموثاوس ٤: ٥ ورومية ١٢: ٣ وتيطس ٢: ٦
لِذٰلِكَ بناء على كل ما سبق في عظمة الخلاص الذي دُعيتم إلى الاشتراك فيه بالنعمة.
مَنْطِقُوا أَحْقَاءَ ذِهْنِكُمْ أي استعدوا للاجتهاد في الروحيات اجتهاد أهل العالم في الدنيويات. فالكلام مجاز مأخوذ من عمل الإسرائيليين في الاستعداد للهرب (خروج ١٢: ١١). وما كان من إيليا استعداداً للجري أمام آخاب (١ملوك ١٨: ٤٦). وهذا مثل قول المسيح لتلاميذه «لتكن أحقاؤكم ممنطقة» (لوقا ١٢: ٣٥). وأمر المسيح تلاميذه بذلك ليستعدوا لمجيئه ثانية. والغاية من كلام بطرس الغاية من كلام المسيح عينها وهي الإستعداد لذلك المجيء.
صَاحِينَ أي في حال اليقظة والانتباه (ص ٥: ٨ و١تسالونيكي ٥: ٦ و١تيموثاوس ٣: ٢ وتيطس ١: ٨).
فَأَلْقَوْا رَجَاءَكُمْ بِٱلتَّمَامِ هذا تصريح ونص بوجوب الرجاء التام الخالص من كل ريب ويأس هم عرضة لهما مما يحيط بهم من المشقات ومقاومة الأعداء وارتداد الأصحاب.
عَلَى ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي يُؤْتَى بِهَا إِلَيْكُمْ أي الخلاص الذي يحصلون عليه عند مجيء المسيح ثانية (ع ١٠).
عِنْدَ ٱسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ في مجده الذي هو الآن محجوب عنا وهو يستعلن فيه حين يأتي ليدين العالم ويثيب شعبه (ع ٧ وكولوسي ٣: ٤ و٢تسالونيكي ١: ٧) فارجع إلى التفسير هناك.
١٤ «كَأَوْلاَدِ ٱلطَّاعَةِ لاَ تُشَاكِلُوا شَهَوَاتِكُمُ ٱلسَّابِقَةَ فِي جَهَالَتِكُمْ».
رومية ١٢: ٢ وص ٤: ٢ وأفسس ٤: ٨
كَأَوْلاَدِ ٱلطَّاعَةِ دعاهم «أولاداً» بالنظر إلى نسبتهم إلى الآب وأنهم «ولدوا ثانية» (ع ٣) وأنهم «ورثة» (ع ٤). ومعنى العبارة أنهم يسلكون كما يليق بأولاد الله غير متمردين كبني إسرائيل في أكثر أوقاتهم فإن المتمردين أولاد الغضب (أفسس ٢: ٣ و٢بطرس ٢: ١٤).
و «أولاد الطاعة» هم «أولاد النور» (أفسس ٥: ٨) وهم يظهرون الطاعة لله بخضوعهم لإرادته وحفظهم أوامره واتكالهم عليه دائماً كاتكال الأولاد على والدهم المحب.
لاَ تُشَاكِلُوا شَهَوَاتِكُمُ ٱلسَّابِقَةَ ذكّرهم هنا بسلوكهم قبل أن آمنوا ونهاهم عن كل ما يشبهه. وبيّن يوحنا تلك الشهوات بقوله «لأَنَّ كُلَّ مَا فِي ٱلْعَالَمِ شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ ٱلْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ ٱلْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ ٱلآبِ بَلْ مِنَ ٱلْعَالَمِ» (١يوحنا ٢: ١٦). ووصفها بولس بأنها من «أعمال الجسد» (غلاطية ٥: ١٩) وكانوا سابقاً أسرى تلك الشهوات.
فِي جَهَالَتِكُمْ هذا ما امتاز به الوثنيون (أفسس ٣: ١٨) فإنهم جهلوا الله وأموره وجرم الخطيئة وخطر الهلاك والمسيح وطريق الخلاص.
١٥ «بَلْ نَظِيرَ ٱلْقُدُّوسِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ».
١تسالونيكي ٤: ٧ و١يوحنا ٣: ٣ و٢كورنثوس ٧: ١ ويعقوب ٣: ١٣
نَظِيرَ ٱلْقُدُّوسِ أي اتخذوا الله مثالاً واقتدوا به على وفق قول المسيح «كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متّى ٥: ٤٨). وقول بولس «وَتَلْبَسُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلْجَدِيدَ ٱلْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ ٱللّٰهِ فِي ٱلْبِرِّ وَقَدَاسَةِ ٱلْحَقِّ» وقوله «كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِٱللّٰهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ» (أفسس ٤: ٢٤ و٥: ١). وقول يوحنا «وَكُلُّ مَنْ عِنْدَهُ هٰذَا ٱلرَّجَاءُ بِهِ، يُطَهِّرُ نَفْسَهُ كَمَا هُوَ طَاهِرٌ» (١يوحنا ٣: ٣). و «القدوس» الصفة التي أعلن الله بها غالباً في العهد القديم في جانب الآلهة الوثنية.
ٱلَّذِي دَعَاكُمْ الدعوة المقصودة هنا هي دعوة أن يكونوا أولاد الله (رومية ٨: ٣٠ وغلاطية ١: ٦ و٢بطرس ١: ٣ و١يوحنا ٣: ١).
كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً قِدِّيسِينَ أمام الله والناس. والمعنى كمعنى ما في ١: ٢٧ فارجع إلى التفسير.
١٦ «لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ».
لاويين ١١: ٤٤ و١٩: ٢٠ و٢٠: ٧
لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ (لاويين ١١: ٤٤ و١٩: ٢ و٢٠: ٢) كان هذا الأمر المكتوب موجهاً إلى الإسرائيليين ويصح أن يوجه إلى المسيحيين لكونهم شعب الله أيضاً. وبناء على ذلك وجب أن يتمثلوا بالله ويؤيد ذلك قول النبي «لأَنَّ جَمِيعَ ٱلشُّعُوبِ يَسْلُكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ بِٱسْمِ إِلٰهِهِ، وَنَحْنُ نَسْلُكُ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِنَا إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ» (ميخا ٤: ٥).
١٧ «وَإِنْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَباً ٱلَّذِي يَحْكُمُ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ حَسَبَ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ، فَسِيرُوا زَمَانَ غُرْبَتِكُمْ بِخَوْفٍ».
مزمور ٨٩: ٢٦ وإرميا ٣: ١٩ وملاخي ١: ٦ ومتّى ٦: ٩ و١٦: ٢٧ وأعمال ١٠: ٣٤ وص ٢: ١١ وأفسس ٢: ١٩ وص ٣: ١٥ و٢كورنثوس ٧: ١ وعبرانيين ١٢: ٢٨
وَإِنْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَباً ٱلَّذِي يَحْكُمُ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ حَسَبَ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ «إن» هنا للقطع لا للشك. ومراد الرسول من العبارة أن الذي تدعوه أباً هو ديان أيضاً وأنه يرى أعمالنا دائماً ويميز بينها بالنظر إلى كونها من مطيع أو من عاص. ولم يشر هنا إلى قضاء يوم الدين الذي وكله الآب إلى الابن (يوحنا ٥: ٢٢). بل إلى ما يحكم به كل يوم وساعة وقال «بغير محاباة» دفعاً لتوهم اليهود أنهم لا يدانون لكونهم أولاد إبراهيم وظنوا أنهم تبرروا جميعاً بنسبتهم إليه. ودفع يوحنا المعمدان هذا الوهم بقوله «لاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ ٱللّٰهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةِ أَوْلاَداً لإِبْراهِيمَ» (متّى ٣: ٩). إن الله ينظر إلى القلب والعواطف كما ينظر إلى الأعمال ويقابلها كلها بشريعته المقدسة وليس له قانون يدين به اليهود يختلف عن القانون الذي يدين به الأمم وليس عنده قياس للأغنياء وقياس للفقراء. فإنه تعالى منع موسى من دخول الأرض المقدسة لمعصية واحدة وهذا أقوى دليل على أن لا محاباة عنده (٢أيام ١٩: ٧ وأعمال ١٠: ٣٤ ورومية ٢: ١١). وقال «حسب عمل كل واحد» لا أعمال كل واحد لأنه ينظر إلى أعمال الإنسان جملة ويحكم بحسب أسلوبها إن كان عاملها صالحاً أو شريراً مطيعاً أو عاصياً راغباً في رضى الله أو في رضى نفسه خادماً لله أو خادماً لإبليس. وجاء مثل هذا في قول بولس الرسول «لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِٱلْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً» (٢كورنثوس ٥: ١٠). وقول المسيح «هَا أَنَا آتِي سَرِيعاً وَأُجْرَتِي مَعِي لأُجَازِيَ كُلَّ وَاحِدٍ كَمَا يَكُونُ عَمَلُهُ» (رؤيا ٢٢: ١٢).
فَسِيرُوا زَمَانَ غُرْبَتِكُمْ بِخَوْفٍ قال «بخوف» احترازاً من أن يغيظوا الله من نتائج إغاظته لأنه على قدر ما يعظم الإنسان رضى الله يخشى أن يفعل ما يحرمه إياه. فلا شيء يفصل بين الله والنفس سوى الخطية ولذلك يخاف شعبه من أن يسقطوا فيها. و «فِي مَخَافَةِ ٱلرَّبِّ ٱلْحَيَدَانُ عَنِ ٱلشَّرِّ» (أمثال ١٦: ٦). وعلى هذا قوله تعالى «أَقْطَعُ لَـهُمْ عَهْداً أَبَدِيّاً… وَأَجْعَلُ مَخَافَتِي فِي قُلُوبِهِمْ فَلاَ يَحِيدُونَ عَنِّي» (إرميا ٣٢: ٤٠) ولهذا قال الحكيم «طُوبَى لِلإِنْسَانِ ٱلْمُتَّقِي دَائِماً» (أمثال ٢٨: ١٤ انظر تثنية ٦: ٢ و١٣ و٢٤ وأمثال ١: ٧ و١٤: ٢٦ و٢٧). ولا شيء في هذا الخوف ما ينافي الإيمان لأن الرسالة التي فيها الكلام على الإيمان أكثر من غيرها جاء فيها ما نصه «فَلْنَخَفْ، أَنَّهُ مَعَ بَقَاءِ وَعْدٍ بِٱلدُّخُولِ إِلَى رَاحَتِهِ، يُرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنَّهُ قَدْ خَابَ مِنْهُ» (عبرانيين ٤: ١). فالخوف أفضل وسيلة إلى الحفظ من الكفر بدليل قول النبي «قَدِّسُوا رَبَّ ٱلْجُنُودِ فَهُوَ خَوْفُكُمْ وَهُوَ رَهْبَتُكُمْ. وَيَكُونُ مَقْدِساً» (إشعياء ٨: ١٣ و١٤). فخوف المؤمن الذي هو التقوى بعينها يختلف كل الاختلاف عن خوف الإنسان الذي «خشيته تضع شركاً» (أمثال ٢٩: ٢٥). ومن هذا حذر المسيح تلاميذه بقوله «لاَ تَخَافُوا مِنَ ٱلَّذِينَ يَقْتُلُونَ ٱلْجَسَدَ وَلٰكِنَّ ٱلنَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِٱلْحَرِيِّ مِنَ ٱلَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ ٱلنَّفْسَ وَٱلْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ» (متّى ١٠: ٢٨). ويختلف عن الخوف الوهمي (إرميا ١٠: ٢). وقوله «سيروا زمان غربتكم بخوف» يستلزم وجوب أن نخاف كل مدة حياتنا على الأرض لأن هذه الأرض بالنظر إلى المؤمنين بلاد غربة. والأخطار التي تحيط بهم هي التي تحيط بالمسافرين في أرض غريبة فيها أعداء كثيرون وخطر دائم (عبرانيين ١١: ١٣). وهذا الأمر تعزية لأن فيه تلميحاً أنه لا داعي إلى الخوف إلا زمناً يسيراً وأنه تنتهي سياحتهم في أرض الغربة بعد قليل فيصيرون إلى بيت أبيهم حيث الأمن التام فلا خطيّة ولا تجربة ولا خطر.
١٨ «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلآبَاءِ».
إشعياء ٥٢: ٣ و١كورنثوس ٦: ٢٠ وتيطس ٢: ١٤ وعبرانيين ٩: ١٢ و٢بطرس ٢: ١ ومتّى ٢٠: ٢٨ وفيلبي ٤: ١٧
عَالِمِينَ ذكرهم بما عرفوه من الثمن العظيم الذي أدى بغية نجاتهم من الإثم لكي يوجب عليهم أن يعيشوا بالتقوى والقداسة.
ٱفْتُدِيتُمْ الفداء هنا وفي موضع آخر من الكتاب المقدس تأدية ثمن النجاة من الأسر والعبودية (متّى ٢٠: ٢٨ ومرقس ١٠: ٤٥ و١تيموثاوس ٢: ٦ وتيطس ٢: ١٤).
لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ ذكر الذهب والفضة دون غيرها لأنهما يؤديان غالباً فدية عن أسرى الحرب. ونسب إليهما «الفناء» لأنهما يفنيان بالاستعمال أو لأنهما يتلاشيان مع سائر مواد العالم.
وصرّح بطرس للمؤمنين الذين كتب إليهم هذه الرسالة بأنهم مفديون من الخطيئة والموت وهما عبودية الأسر في بابل. والفدية منهما أعظم ما يؤدي فداء عن العبيد والأسرى.
سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ فداؤهم من الخطيئة والموت يستلزم بالضرورة الفداء من السيرة الباطلة. وتلك السيرة حالهم قبل أن آمنوا بالمسيح وتجددوا بالروح القدس. ونعت تلك «السيرة بالباطلة» لأنهم كانوا قد انفصلوا بها عن الله. وكانت حالهم بذلك كحال الوثنيين وعبادتهم غير نافعة كعبادة الوثنيين (رومية ١: ١٨ و١كورنثوس ٨: ٤).
ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلآبَاءِ تلك «العبادة الباطلة» اتصلت من الآباء إلى الأبناء ومن الجيل السابق إلى الجيل اللاحق فاكتفوا بأنها قديمة. وكانوا مربوطين «بسيرتهم الباطلة» بربط الولادة والقرابة والعادة والقدوة وما استطاعوا أن ينجوا منها إلا بقوة أعظم من قوة الذهب والفضة. وكانت ديانة اليهود في عصر المسيح الديانة التي أخذوها عن الكتبة والفريسيين أشد أعداء المسيح الذي أتى ليخلص شعبه (أعمال ١٣: ٣٩).
١٩ «بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ».
أعمال ٢٠: ٢٨ وع ٢ ويوحنا ١: ٢٩ وعبرانيين ٩: ١٤
بِدَمٍ كَرِيمٍ هذا هو الثمن المؤدي فدية عنهم ويؤيد ذلك قول بولس «مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ الخ» (رومية ٣: ٢٤ و٢٥). ونُعت «بالكريم» بالنظر إلى قيمته في ذاته لأنه دم ابن الله أي حياته التي لا شيء في العالمين خير منها وبالنظر إلى تأثيره في إنشاء الفداء الذي يستحيل أن ينشأ بالفضة والذهب.
كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ حُسب الحمل أي الخروف أطهر البهائم وكانت الحملان المختارة للتقدمة أطهر الحملان (خروج ١٢: ٥ وتثنية ٢٨: ٣ و١١ ولاويين ٤: ٣٢ و٢٢: ٢٠ وعبرانيين ٩: ١٤). وعلى ذلك كان حمل التقدمة رمزاً إلى المسيح الذي هو «قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ» (عبرانيين ٧: ٢٦) وقدّم لله ذبيحة كفارة عن الخطأة (يوحنا ١: ٢٩ و٣٥ – ٤٢ وإشعياء ٥٣: ٧ و١ كورنثوس ٥: ٧ و٢كورنثوس ٥: ٢١ وعبرانيين ٧: ٢٦).
٢٠ «مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، وَلٰكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ».
أعمال ٢: ٢٣ ع ٢ وأفسس ١: ٤ ورؤيا ١٣: ١٨ ومتّى ٢٥: ٣٤ وعبرانيين ٩: ٢٦ و٢: ١٤
مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ أي قضى الله به منذ الأزل. وهذا مثل قول يوحنا «أَسْمَاؤُهُمْ مَكْتُوبَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ فِي سِفْرِ حَيَاةِ ٱلْحَمَلِ ٱلَّذِي ذُبِحَ» (رؤيا ١٣: ٨). وقول بطرس في يوم الخمسين «هٰذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ» (أعمال ٢: ٢٣). وفي هذا برهان على عظمة الخلاص بيسوع وكونه حقاً يقيناً فإن الله قضى به منذ الأزل وقضى أن يكون فداؤهم بذبيحة المسيح فإنه تعالى لم يسلم ابنه للموت ليصلح ما حدث فيه بعد الخليقة بأربعة آلاف سنة حين خطئ الإنسان وأفسد طريقه على الأرض ولم تكن بشارة الفداء بالمسيح أمراً اخترعه بولس من نفسه وعلمهم إياه خلافاً لما في العهد القديم الذي صنعه الله لشعبه.
قَدْ أُظْهِرَ فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ إن الله أعلن منذ الأزل من يكون مسيحه أي حمله «الذي يرفع خطية العالم» وأين يولد ولكنه كتم تمام إعلانه منذ العصور الخالية مع أن الأنبياء قد أنبأوا بمجيئه وآلامه فأُعلن لهم جلياً لكي يفهموه ويقبلوه. وأراد بقوله «من أجلكم» كل المؤمنين بالمسيح كما في (١كورنثوس ٢: ٧). وأراد «بالأزمنة الأخيرة» كل المدة بين مجيء المسيح الأول ومجيئه الثاني (أعمال ٢: ١٧ و٢تيموثاوس ٣: ١).
٢١ «أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ بِهِ تُؤْمِنُونَ بِٱللّٰهِ ٱلَّذِي أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ وَأَعْطَاهُ مَجْداً، حَتَّى إِنَّ إِيمَانَكُمْ وَرَجَاءَكُمْ هُمَا فِي ٱللّٰهِ».
أعمال ٢: ٢٤ ورومية ٤: ٢٤ و١: ٩ وعبرانيين ٣: ٩ و١تيموثاوس ٣: ١٦ ويوحنا ١٧: ٥ و٢٤
أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ بِهِ تُؤْمِنُونَ بِٱللّٰهِ كان إيمانهم بالمسيح وسيلة إلى تقوية إيمانهم بالله وهذا مثل قول المسيح «ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِي لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي بَلْ بِٱلَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا ١٢: ٤٤). فإذاً تعليم الخلاص بالمسيح ليس بتعليم حديث يختلف عن إيمان قدماء الإسرائيليين الأتقياء.
ٱلَّذِي أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ كما أبان بوعظه في يوم الخمسين وغيره (أعمال ٢: ٢٣ و٢٤ و٣: ١٥ و٢٦ و٥: ٣٠) وكما قال بولس (أعمال ١٣: ٣٠ و٣٣ – ٣٧).
وَأَعْطَاهُ مَجْداً بعد أن أقامه من الأموات (أفسس ١: ٢٠) وأصعده إلى السماء وأجلسه على يمينه (يوحنا ١٧: ١ ورومية ٦: ٤ و٨: ١١ وفيلبي ٢: ٩ وأفسس ١: ٢٠ و٢١ و١تيموثاوس ٣: ١٦).
حَتَّى إِنَّ إِيمَانَكُمْ وَرَجَاءَكُمْ هُمَا فِي ٱللّٰهِ أي حتى إن إيمانكم بالمسيح المقام من الأموات ورجاء الخلاص به يحملانكم على الإيمان بالله الآب الذي أقامه ومجده وعلى رجاء الخلاص منه لأن الآب أظهر بذلك قوته وأمانته العظمى في مواعيده.
وجوب المحبة الأخوية بناء على ما سبق من كونهم غرباء ونزلاء ومفديين بثمن واحد وعلى ما يأتي من كونهم مولودين ثانية بكلمة الله ع ٢٢ إلى ٢٥
٢٢ «طَهِّرُوا نُفُوسَكُمْ فِي طَاعَةِ ٱلْحَقِّ بِٱلرُّوحِ لِلْمَحَبَّةِ ٱلأَخَوِيَّةِ ٱلْعَدِيمَةِ ٱلرِّيَاءِ، فَأَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ».
يعقوب ٤: ٨ ويوحنا ١٣: ٣٤ ورومية ١٢: ١٠ وعبرانيين ١٣: ١ وص ٢: ١٧ و٣: ٨ و١تيموثاوس ١: ٥
طَهِّرُوا نُفُوسَكُمْ إن تقديس النفس من الأعمال المختصة بالروح القدس لكن ذلك لا يمنع الإنسان من الاجتهاد في نيله لا بل يوجب عليه أن يبذل ما في وسعه في سبيل الطهارة حتى لا تكون نعمة الله قد مُنحت له عبثاً. فالتطهير الذي احتاجوا إليه تمهيداً للمحبة الأخوية المطلوبة في هذه الآية هو التطهير من محبة الذات وهي «نظر كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ» (فيلبي ٢: ٤) ومن الحسد والبغض.
فِي طَاعَةِ ٱلْحَقِّ بِٱلرُّوحِ إن طاعة الإنجيل الذي هو إعلان الحق هي الواسطة التي يتخذها الروح القدس لتنقية قلوب المؤمنين من حب الذات والحسد والبغض (يوحنا ٣: ٥ وتيطس ٣: ٥ و٦). إن الحق لا يطهر القلب بدون فعل الروح القدس والروح القدس لا يفعل إلا بواسطة الحق وقبول الإنسان إياه بالطاعة.
لِلْمَحَبَّةِ ٱلأَخَوِيَّةِ ٱلْعَدِيمَةِ ٱلرِّيَاءِ أي أنه لا بد من تطهير القلب تمهيداً لسبيل هذه المحبة لعلهم كانوا غير مخلصين المحبة الأخوية لكون بعضهم من متنصري الأمم وبعضهم من متنصري اليهود.
فَأَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً الخ هذا يستلزم أن تكون المحبة خالصة وأن تكون شديدة (انظر يوحنا ١٣: ٣٤ و٣٥ وأفسس ٥: ٢ و١تسالونيكي ٤: ٩ وعبرانيين ١٣: ١ و١يوحنا ٣: ١٤ – ١٨ وتفسير ذلك).
٢٣ «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ».
ع ٣ ويوحنا ٣: ٣ و١: ١٣ وعبرانيين ٤: ١٢
مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً بنى وجوب المحبة الأخوية على دخولهم حياة جديدة لأن المحبة من شرائع تلك الحياة وعلامة اشتراكهم فيها كأنهم دم واحد وأعضاء جسد المسيح بالإيمان.
لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى لم يحصلوا على الولادة الجديدة بتسلسلهم من والديهم لأن ذلك التسلسل عرضة للفناء إذ كل الذين يولدون ولادة طبيعية يموتون. وقال هذا دفعاً لما افتخر به اليهود واتكلوا عليه من تسلسلهم من إبراهيم طبيعياً وعدم نفع هذا التسلسل من الأسباب الحاملة لمتنصري اليهود على أن لا يستهينوا بمتنصري الأمم.
بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى لأنهم مولودون من الله ولادة روحية (يوحنا ١: ١٣ و١يوحنا ٣: ٩).
بِكَلِمَةِ ٱللّٰه (يعقوب ١: ١٨) أي بالإنجيل الذي هو وسيلة إلى الخلاص لمن يسمعونه أو يقرأونه ولا سيما ما أُعلن فيه من أمور القيامة (ع ٣) «وآلام المسيح والأمجاد التي بعدها» (ع ١١). وهذا على وفق قول الرسالة إلى العبرانيين «كَلِمَةَ ٱللّٰهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ ٱلنَّفْسِ وَٱلرُّوحِ وَٱلْمَفَاصِلِ وَٱلْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ ٱلْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ» (عبرانيين ٤: ١٢).
ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ بالنظر إلى مؤلفها الله المؤثر بواسطتها. فلكلام الله القوة التي لصوته الذي يقيم الموتى (يوحنا ٥: ٢٨ و٢٩). ولا فرق هنا بين كلمة الله والله نفسه الذي يفعل بواسطتها ويجعلها حية بحياته ودائمة بدوامه. ومثل هذا جاء في الرسالة إلى العبرانيين فإنها نسبت في بعض المواضع إلى الله ما نسبته في موضع آخر إلى كلمته (عبرانيين ٤: ١٢ و١٣). و «كلمة الله الحية» محيية أيضاً فالذين يقبلونها يحيون بها وهي باقية إلى الأبد فحياة النعمة الناشئة عنها لا تزول بل تكون بداءة حياة المجد الأبدية.
٢٤ «لأَنَّ كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ، وَكُلَّ مَجْدِ إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ. ٱلْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ».
إشعياء ٤٠: ٦ الخ ويعقوب ١: ١٠
في هذه الآية إثبات الله لما قاله وهو أن «كلمة الله حية وباقية إلى الأبد». وما يأتي إثباتاً لذلك مقتبس من (إشعياء ٤٠: ٦ – ٨) وقد اقتبس بعضه بلفظه ومعناه وبعضه بمعناه فقط.
لأَنَّ كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ أي كل الناس بالنظر إلى طبيعتهم الجسدية لأنهم مولودون من زرع يفنى فهم كالعشب في عدم الثبوت «ٱلإِنْسَانُ مِثْلُ ٱلْعُشْبِ أَيَّامُهُ. كَزَهْرِ ٱلْحَقْلِ كَذٰلِكَ يُزْهِرُ. لأَنَّ رِيحاً تَعْبُرُ عَلَيْهِ فَلاَ يَكُونُ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مَوْضِعُهُ بَعْدُ» (مزمور ١٠٣: ١٥ و١٦ انظر أيضاً أيوب ٨: ١٢ و١٤: ٢ ومزمور ٩٠: ٥ و٦ وإشعياء ٣٧: ٢٧).
وَكُلَّ مَجْدِ إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ أي كل ما يفتخر به الإنسان من غنى ومقام وعلم وجمال صورة بهاء ثياب سريع الزوال.
ٱلْعُشْبُ يَبِسَ الخ كما يشهد الاختبار دائماً فكذلك مجد الإنسان.
٢٥ «وَأَمَّا كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ. وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ ٱلَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا».
عبرانيين ٦: ٥
وَأَمَّا كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ أي تبقى ولا تتغير كالأمور الأرضية المختصة بالبشر من أجسادهم ومساكنهم وممالكهم فإنها تتغير وتتلاشى.
وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ المراد بهذا ما أشار إليه إشعياء «بكلمة الله الحية الباقية» (ع ٢٣). وهذا يصدق على الإنجيل لأن مواعيده تبقى بلا تغير على توالي العصور وحقائقه أزلية كالله الذي أوحى به ونتائجه أبدية في الأفراد والكنائس والممالك المستنيرة بها.
ٱلَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا بواسطة بولس أولاً وبواسطتي ثانياً. أراد بطرس أن يحقق لهم أن ما بشر هو به وليس سوى التعليم الذي نادى به بولس ورفقاؤه وهو كلمة الله الحي الحية.
السابق |
التالي |