رسالة يوحنا الأولى | الأصحاح 5
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح رسالة يوحنا الأولى
اَلأَصْحَاحُ ٱلخامس
إن نصرة الإيمان بالمسيح هي نصرة المحبة (ع ١ – ١٢) وذلك بالتفصيل.
- قوة الإيمان (ع ١ – ٥)
- وبيان أساس الإيمان (ع ٦ – ١٠).
- وما يوجب الإيمان (ع ١١ و١٢).
هذا تصريح ثان بغرضه من الكتابة إليهم وهو موافق لما كتبه قبلاً في المعنى دون اللفظ (ع ١٣). واجبات المؤمنين لمن لم يقبلوا تعليم هذه الرسالة (ع ١٤ – ١٧). وتكرير بعض الحقائق التي ذكرها قبلاً في هذه الرسالة وهي إن أولاد الله لا يخطأون (ع ١٨). وبيان علّة ثقتهم أنهم أولاد الله (ع ١٩). والتصريح بأن المسيح قد أتى بالجسد وأنهم قبلوه ونالوا بصيرة يميزون بها في الحق ويثبتون فيه بواسطة المسيح (ع ١٠). وإنذار أخير (ع ٢١).
قوة الإيمان ع ١ إلى ٥
١ «كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ ٱللّٰهِ. وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ ٱلْوَالِدَ يُحِبُّ ٱلْمَوْلُودَ مِنْهُ أَيْضاً».
ص ٤: ٢ ع ١٥ ص ٢: ٢٢ ع ٤ و ١٨ ص ٢: ٢٩ ويوحنا ١: ١٣ و٣: ٣ ويوحنا ٨: ٤٢
كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ… فَقَدْ وُلِدَ مِنَ ٱللّٰهِ هذا هو المبدأ الأصلي وذكره في هذه الرسالة مراراً (ص ٤: ٢ و١٥). والإيمان بالمسيح علامة الولادة من الله والحياة بالله أي الإيمان بشخص المسيح وبعمله. ولم يذكر هنا العلاقة بين الإيمان والولادة الجديدة لكن القرينة تدل على أنه قصد أنها المحبة الأخوية ركن من حياة المؤمن الجديدة الروحية.
كُلُّ مَنْ يُحِبُّ ٱلْوَالِدَ يُحِبُّ ٱلْمَوْلُودَ مِنْهُ أَيْضاً هذا مثل ما في (ص ٤: ٢٠) إلا أنه قال هناك «إن الذي يحب الله يحب أخاه» وقال هنا «كل من يحب الوالد يحب المولود منه» وكل من القولين يستلزم الآخر فلا نقدر أن نحب الله ما لم نحب أولاده المخلوقين على صورته لأن المحبة هي تنظر إلى صفات المحبوب لا إلى ذاته. والإيمان بالمسيح ينشئ المحبة لكل المسيحيين فإنهم إعضاء بيت واحد وإخوة روحيون. فالمحبة ليست سوى الإيمان العامل وهي تصدر طبعاً عن الحياة الروحية الجديدة.
٢ «بِهٰذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا نُحِبُّ أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ: إِذَا أَحْبَبْنَا ٱللّٰهَ وَحَفِظْنَا وَصَايَاهُ».
ص ٢: ٥ وص ٢: ١٤
بِهٰذَا أي بما يأتي.
نَعْرِفُ أَنَّنَا نُحِبُّ أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ أي نعرف أن لنا الإيمان الحق بالمسيح. وتمتاز المحبة الروحية عن المحبة الطبيعية بأنها مبنية على الطاعة لأمر الله وذلك نتيجة الإيمان. فمتى أحببنا الإخوة إطاعة لأمر الله كان ذلك برهاناً على أننا نعرف الله ونحبه لأن هذا وصيته «أن نؤمن باسم ابنه وأن نحب بعضنا بعضاً» (ص ٣: ١٣).
إِذَا أَحْبَبْنَا ٱللّٰهَ وَحَفِظْنَا وَصَايَاهُ ما يستحق الاعتبار هنا الاتفاق بين قوله هنا وقوله «وَبِهٰذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا قَدْ عَرَفْنَاهُ: إِنْ حَفِظْنَا وَصَايَاهُ» (ص ٢: ٣). وقوله «هذِهِ هِيَ وَصِيَّتُهُ: أَنْ نُؤْمِنَ بِاسْمِ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا كَمَا أَعْطَانَا وَصِيَّةً» (١يوحنا ٣: ٢٣). واعتبر حفظ «وصايا الله» علامة المحبة له وأعظم هذه الوصايا محبة الإخوة. ولم يقل الرسول في هذه الآية نحب الإخوة بل قال «نحب أولاد الله» لأن ما بينهم من النسبة التي هي علّة المحبة البنوّة لله لا النسبة الجسدية.
٣ «فَإِنَّ هٰذِهِ هِيَ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ: أَنْ نَحْفَظَ وَصَايَاهُ. وَوَصَايَاهُ لَيْسَتْ ثَقِيلَةً».
٢يوحنا ٦ ص ٢: ٣ ومتّى ١١: ٣٠ و٢٣: ٤
فَإِنَّ هٰذِهِ هِيَ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ: أَنْ نَحْفَظَ وَصَايَاهُ هذا مكرّر العبارة الأخيرة من الآية السابقة للإيضاح والتقرير. والمعنى أن تلك المحبة هي أن نجتهد دائماً في حفظ وصايا الله ونسهر لذلك فعلى قدر ما نحب نجتهد في عمل مشيئته (يوحنا ١٤: ١٥ و٢١). فمتى وافقت إرادة الإنسان إرادة الله سرّ الله بذلك كل السرور.
وَوَصَايَاهُ لَيْسَتْ ثَقِيلَةً مثال الحمل الثقيل ما في (متّى ٢٣: ٤). ومثال الحمل الخفيف ما في (متّى ١١: ٣٠). فالطاعة لأوامر الله عسرة في نفسها ما لم يهب الله قوة على القيام بها. والذي يسّهل على المؤمنين إطاعة أوامر الله هو أنها أوامر أب أفضل الآباء وأنه لا يأمرنا إلا بما هو خير لنا وإننا نقوم بها إكراماً له.
٤ «لأَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱللّٰهِ يَغْلِبُ ٱلْعَالَمَ. وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْغَلَبَةُ ٱلَّتِي تَغْلِبُ ٱلْعَالَمَ: إِيمَانُنَا».
ص ٢: ١٣ و٤: ٤
لأَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱللّٰهِ يَغْلِبُ ٱلْعَالَمَ العلاقة بين هذا وما سبق هي أن أوامر الله كلها تعسر إطاعتها (يوحنا ١٦: ٣٣ وأعمال ١٤: ٢٢) وقد يصعب على الإنسان إن يحب إخوته ولكن «المولود من الله» ينال قوة منه أعظم من قوات العالم حتى يقدر على ذلك. وأراد «بالعالم» هنا كل ما هو مناف لإرادة الله مما يجعل إطاعة أوامره عسرة على الإنسان. والله لا يأمر بشيء بلا غاية تؤول إلى خيرنا ومصلحتنا. فلو كنا كاملي القداسة لكانت أوامر الله لنا بمنزلة الغريزيات فعلى قدر ما نحب الله نشاء ما يشاء ونرى جمال أوامره وجودتها. فالمولود من الله يحارب العالم ويغلبه لأن الله يحارب معه.
وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْغَلَبَةُ ٱلَّتِي تَغْلِبُ ٱلْعَالَمَ: إِيمَانُنَا نوع الجهاد هنا يؤكد لنا الانتصار. وخلاصة الإيمان هنا الذي هو آية المحبة وواسطة الغلبة هو الاعتراف بأن يسوع هو المسيح ابن الله. إن المسيح غلب العالم (يوحنا ١٦: ٣٣) مع أن الظاهر أنه غُلب إذ مات ولكن حقيقة انتصاره ظهرت بقيامته وجلوسه على يمين الله وإرساله الروح القدس. فإذا آمنا بانتصاره أخيراً وشاركناه في الضيقات الحاضرة شاركناه أخيراً في انتصاره. فالإيمان المسيحي منتصر وعربون أننا نغلب العالم الغلبة التامة. فالانتصار المسيحي باجتهاد المؤمن ومساعدة المسيح ولذلك دعاه الرسول «إيماننا» (ص ٢: ١٣ و١٤ و١كورنثوس ١٥: ٥٥ – ٥٧).
٥ «مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَغْلِبُ ٱلْعَالَمَ، إِلاَّ ٱلَّذِي يُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰه».
ص ٤: ١٥ ع ١
مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَغْلِبُ ٱلْعَالَمَ سأل الرسول هذا السؤال ليحمل المسيحي على أن يجيب عليه بما اختبره. فإن اختباره يحقق له أنه ينتصر على العالم. وليس أحد غير المؤمن بقادر على أن يغلب العالم الذي هو عدو الله.
إِلاَّ ٱلَّذِي يُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰه موضوع الإيمان هنا هو أن الإنسان يسوع المسيح هو ابن الله وصرّح قبلاً بأن غلبة الإيمان هي الاعتراف بأن يسوع هو ابن الله وأخذ يبيّن هنا ما يستلزمه هذا الاعتراف.
أساس الإيمان ع ٦ إلى ١٠
٦ «هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي أَتَى بِمَاءٍ وَدَمٍ، يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ. لاَ بِٱلْمَاءِ فَقَطْ، بَلْ بِٱلْمَاءِ وَٱلدَّمِ. وَٱلرُّوحُ هُوَ ٱلَّذِي يَشْهَدُ، لأَنَّ ٱلرُّوحَ هُوَ ٱلْحَقُّ».
يوحنا ١٩: ٣٤ ويوحنا ١٥: ٢٦ و١٦: ١٣ – ١٥
هٰذَا المشار إليه هنا هو المدعو في الآية الخامسة «يسوع» والمدعو في هذه الآية «يسوع المسيح» إيماء إلى لاهوته وناسوته معاً.
هُوَ ٱلَّذِي أَتَى بِمَاءٍ وَدَمٍ شهد الله للمسيح برسمين ظاهرين «الماء والدم» أي معموديته وصلبه وبهذين الرسمين أظهر حقيقة عمله وطريق إجرائه. فكان ماء المعمودية التي قام بها يوحنا المعمدان ختم الناموس فإنه العلامة الخارجية الدالة على أن الذين اعتمدوا تابوا عن خطاياهم ووعدوا بحفظ الناموس حفظاً كاملاً. والمسيح «أتى بالماء» حين اعتمد بمعموديته وأعلن قصده أنه «يكمل كل برّ» (متّى ٣: ١٥). وأرسل يوحنا معمداً بالماء ليُعلن المسيح بدليل قوله «وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ. لٰكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ لِذٰلِكَ جِئْتُ أُعَمِّدُ بِٱلْمَاءِ» (يوحنا ١: ٣١). ومعمودية المسيح دليل على أنه أتى ليكمل الناموس لا لينقضه. وكانت معموديته أيضاً وسيلة خارجية لحلول الروح القدس عليه ومكثه فيه (يوحنا ١: ٣٢ – ٣٤) فأظهر بهما أن التطهير والبر اللذين طلبهما الناموس أتى ليثبتهما ويجعلهما قانون ملكوته. فالدم إشارة إلى عمل المسيح الخاص وهو عمل الكفارة والمصالحة بموته وآلامه وكل ما كانت ذبائح العهد القديم ورسومه تدل عليه. فأثبت المسيح كونه الذبيحة الحقيقية المرموز إليها «بالدم» بقداسة طبيعته وسيرته وبما صنعه من المعجزات والآيات. وبإتمامه النبوءات المتعلقة به وبسمو تعليمه. وبالحوادث الغريبة المتعلقة بحياته وموته وقيامته وصعوده. وباعتبار كل الذين عرفوه بأنه كان كلمة الله متجسداً مملوءاً نعمة وحقاً وإنه تمجد بمجد الآب. وأتى بموته على الصليب بالدم وبذلك أظهر أن عمله هو عمل الفداء وأجرى بموته ينبوع الحياة للناس (ص ١: ٧ ورؤيا ١: ١٥).
لاَ بِٱلْمَاءِ فَقَطْ أي لم يأت كيوحنا المعمدان ينادي بالتوبة وإزالة تأثيرات الخطيئة الظاهرة بمقتضى مطاليب الناموس.
بَلْ بِٱلْمَاءِ وَٱلدَّمِ علاوة على ما أتى به يوحنا المعمدان. فإنه كفّر بموته الخطيئة باعتبار كونها عصياناً لله. فحين عُلّق المسيح على الصليب ميتاً من جهة الحياة الجسدية «وَاحِداً مِنَ ٱلْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ» (يوحنا ١٩: ٣٤). فخروج الماء والدم معاً من جنبه كان إشارة إلى البركة المضاعفة أي بركة التطهير الروحي والكفارة وعربون البركة الروحية الجارية منه أبداً. إن يوحنا الرسول شهد بصلبه الشهادة التي شهدها يوحنا المعمدان بمعموديته إذ قال المعمدان «رأيت وشهدت» (يوحنا ١: ٣٤) وقال الرسول «الَّذِي عَايَنَ شَهِدَ، وَشَهَادَتُهُ حَقٌّ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ» (يوحنا ١٩: ٣٥). وهذا كان برهاناً قاطعاً على حقيقة موته الذي نفاه الدوسيتيون بقولهم إن جسده لم يكن سوى صورة خيالية وتفنيداً لتعليم سيرنثوس الذي علّم أن اللاهوت كان مع يسوع في معموديته لكنه تركه قبل موته على الصليب. فمن وسائل تأثير المسيح في الناس إتيانه بالماء ليطهّرهم من الفساد الأدبي الذي تلطخت به شفاههم وأيديهم وأفسد عاداتهم ودنس نفوسهم. فتطهروا أولاً بالتوبة وتجديد القلب الذي علامته المعمودية ثم بتطهير متكرر بكلمته وروحه الذي يطهّر من كل إثم. ومن تلك الوسائل إتيانه بدم مشير إلى موته على الصليب وكان المرموز إليه بالذبائح اليومية التي استمرت مدة أربعة آلاف سنة. ويصح أن يُقال أن المسيح أتى بالدم منذ تأسيس العالم وفي بدء خدمته فكان «وجهه نحو أورشليم» وأكمة الجلجثة منذ ظهر في العالم أتى مصلحون آخرون بالماء وحده منادين بإصلاح السيرة في الحاضر والمسيح وحده أتى بالدم مكفراً عن الناس الخطايا الماضية مؤكداً الإصلاح في المستقبل.
وَٱلرُّوحُ هُوَ ٱلَّذِي يَشْهَدُ أي الروح القدس هو الشاهد الأعظم الذي أثبت شهادة كل من سواه وذُكرت شهادته في (ع ٨ فانظر تفسيرها).
لأَنَّ ٱلرُّوحَ هُوَ ٱلْحَقُّ كما أن يسوع هو الحق (يوحنا ١٤: ٦) فالروح الذي أرسله هو روح الحق (يوحنا ١٤: ١٧ و١٥: ٢٦ و١٦: ١٣). وكون ذلك الروح هو الحق يُعلن ما يعلمه ويثبت صحته وأنه مستحق التصديق. وشهادته قائمة بالشهادة التي جاءت من العرش الأسمى وبشهادة أنبياء العهد القديم وبمعجزات المسيح وتعليمه وبتذكيره تلاميذ المسيح بعد أن فارقهم بكل ما قاله لهم.
٧ «فَإِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي ٱلسَّمَاءِ هُمْ ثَلاَثَةٌ: ٱلآبُ، وَٱلْكَلِمَةُ، وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ. وَهٰؤُلاَءِ ٱلثَّلاَثَةُ هُمْ وَاحِدٌ».
متّى ١٨: ١٦
فَإِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي ٱلسَّمَاءِ هُمْ ثَلاَثَةٌ فالثلاثة كافون لأن يثبتوا كل شهادة وهذا يصدق في الروحيات كما يصدق في الجسديات. قيل في (ع ٥) أن «يسوع ابن الله» وحسب قانون شريعة موسى يحتاج تصديق هذا القول إلى شهادة شاهدين أو ثلاثة (تثنية ١٩: ١٥ ويوحنا ٨: ١٧). وهذا العدد أي السابع لنا أسباب تحملنا على الشك في أصليته لأنه لا يوجد في أفضل النسخ وأصحها ولم يقتبسه اللاهوتيون الأولون لإثبات أن يسوع هو المسيح ولا نرى من حاجة إليه لإثبات ذلك فما الداعي إلى الشهادة في السماء وكل شيء معلن هناك وإذا لم تقدم للناس فكيف تثبت شهادتهم بإتيان المسيح. ولا يشهد في السماء وعلى الأرض إلا روح واحد وشهادته في المحلين واحدة.
٨ «وَٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي ٱلأَرْضِ هُمْ ثَلاَثَةٌ: ٱلرُّوحُ، وَٱلْمَاءُ، وَٱلدَّمُ. وَٱلثَّلاَثَةُ هُمْ فِي ٱلْوَاحِدِ».
فِي ٱلأَرْضِ مثل العدد ٧ لا يوجد في أفضل النسخ وأصحها.
ٱلرُّوحُ أي الروح القدس الذي وعد الله بإرساله فإنه شهد بأن يسوع هو المسيح.
-
- أولا: عند معموديته (متّى ٣: ١٦ و١٧).
- ثانياً: حين قيل إن المسيح امتلأ من الروح القدس إنجازاً للنبوءة به (إشعياء ١٢: ٢ و٦١: ١ ويوحنا ٣: ٣٤).
- ثالثاً: شهد له بعد قيامته بحلوله بعد صعود المسيح على المجتمعين في يوم الخمسين حين انضم إلى الكنيسة ثلاثة آلاف نفس (أعمال ٢: ٤١ – ٤٧).
- رابعاً: بالمعجزات التي صنعها الروح القدس لإثبات تعليم الرسل أمور المسيح.
- خامساً: بتجديد كل خاطئ آمن بالمسيح منذ يوم مجيئه إلى الآن. والخلاصة إن ذلك الروح شهد للمسيح بأنه ابن الله بكل نتائج الإيمان به التي هي أعمال الروح.
وَٱلْمَاءُ أي معمودية المسيح (انظر تفسير ع ٦) والحوادث المقترنة بها التي أثبتت أنه هو المسيح الموعود به وأنه شرع في عمله. والماء رمز إلى طهارته وطهارة ديانته. هو في المعمودية علامة الدخول في دينه علناً.
وَٱلدَّمُ المسفوك منه على الصليب. وشهادة الدم قائمة بما يأتي:
-
- أولاً: شهادته أن المسيح مات موتاً حقيقياً لا خيالياً.
- ثانياً: شهادة الحوادث المقترنة بموته التي حملت قائد المئة على الاعتراف بانه «ابن الله» ومنها الظلمة والزلزلة وانشقاق حجاب الهيكل.
- ثالثاً: تمام كل ما يتعلق من رموز العهد القديم به.
- رابعاً: إنه تبيّن به أن المسيح كان كفّارة للخطايا والكفّارة لا تقوم بلا سفك دم.
- خامساً: العشاء الربي الذي تتكرر الشهادة بتكرار ممارسته فإن الخمر فيه إشارة إلى الدم.
وَٱلثَّلاَثَةُ هُمْ فِي ٱلْوَاحِدِ فأصوات الشهود الثلاثة تثبت الشهادة الواحدة وهي أن يسوع هو المسيح وأنه قد أتى بالجسد. إن معمودية يوحنا كانت آخر شهادات النظام القديم للمسيح إعداداً لمجيئه. وموت المسيح على الصليب كان تكملة مرسليته. وعمل الروح كان ختماً لها. فالشريعة تطلب شاهدين وههنا ثلاثة.
٩ «إِنْ كُنَّا نَقْبَلُ شَهَادَةَ ٱلنَّاسِ فَشَهَادَةُ ٱللّٰهِ أَعْظَمُ، لأَنَّ هٰذِهِ هِيَ شَهَادَةُ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا عَنِ ٱبْنِهِ».
يوحنا ٥: ٣٤ و٣٧ و٨: ١٨ ومتّى ٣: ١٧ ويوحنا ٥: ٣٢ و٣٧
إِنْ كُنَّا نَقْبَلُ شَهَادَةَ ٱلنَّاسِ كما هو شأننا أبداً من شهادة شفهية وشهادة كتابية.
فَشَهَادَةُ ٱللّٰهِ أَعْظَمُ وهذه الشهادة الإلهية أُديت ليسوع من الشهود الثلاثة المذكورين آنفاً وأدّاها الله بصوته عند المعمودية وبإقامته المسيح من الموت وبسكبه الروح القدس على تلاميذه. إن الله منزّه عن الخطأ وهو الحق نفسه فصدقه وقداسته تمنعانه من أن يخدع.
لأَنَّ هٰذِهِ هِيَ شَهَادَةُ ٱللّٰهِ الخ أي الشهادة التي شهدها الله لابنه وهي واحدة أُدّيت في ثلاث أحوال:
- الأولى: إنها أُدّيت عند المعمودية فأقنعت يوحنا المعمدان.
- الثانية: إنها أُدّيت وقت الصلب فأقنعت قائد المئة.
- الثالثة: إنها أُدّيت يوم الخمسين فأقنعت ثلاثة آلاف نفس.
١٠ «مَنْ يُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ فَعِنْدَهُ ٱلشَّهَادَةُ فِي نَفْسِهِ. مَنْ لاَ يُصَدِّقُ ٱللّٰهَ فَقَدْ جَعَلَهُ كَاذِباً، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱلشَّهَادَةِ ٱلَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا ٱللّٰهُ عَنِ ٱبْنِهِ».
رومية ٨: ١٦ وغلاطية ٤: ٦ ورؤيا ١٢: ١٧ ص ١: ١٠ ويوحنا ٣: ١٨ و٣٣
مَنْ يُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ فَعِنْدَهُ ٱلشَّهَادَةُ فِي نَفْسِهِ الشهادة الباطنة في قلب المؤمن تغنيه عن الشهادة الخارجية وهي شهادة الروح القدس فيه وما ناله من الفرح والسلام حين آمن والتغيُّر الذي نشأ فيه بقوة الإيمان بالمسيح فهذه كلها تشهد بأن يسوع المسيح ابن الله هو مخلص العالم (رومية ٨: ١٦ و١بطرس ٣: ١٥).
مَنْ لاَ يُصَدِّقُ ٱللّٰهَ فَقَدْ جَعَلَهُ كَاذِباً الخ قال الرسول مثل هذا سابقاً في من يقول «إنه لا يخطأ» (ص ١: ١٠). فكأنه سمع صوت الله يشهد من السماء فرفضه لأن الله قد شهد بالمعجزات المقترنة بمعمودية المسيح وبخدمته وموته وقيامته بأن يسوع هو ابنه وإنه أُرسل إلى العالم ليعلنه للناس وليكون فادي العالم. فعدم قبول شهادة الله ادّعاء أنه كاذب لأن من لا يقبلها يرفض أوضح ما يمكن من البراهين الإلهية فإن الله يعرف قلب الإنسان فأتاه بأوضح ما يمكن من البراهين وباقي الآية تعليل لقوله «فقد جعله كاذباً».
خلاصة الشهادة الإلهية التي هي موضوع الإيمان ع ١١ و١٢
١١ «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلشَّهَادَةُ: أَنَّ ٱللّٰهَ أَعْطَانَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَهٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ هِيَ فِي ٱبْنِهِ».
ع ١٣ و٢٠ ص ١: ٢ و٢: ٢٥ ص ٤: ٩ ويوحنا ١: ٤
وَهٰذِهِ هِيَ ٱلشَّهَادَةُ أي ما يأتي. وهذه شهادة يسوع عينه وشهادة الرسل جميعاً وشهادة الروح القدس وشهادة الآب نفسه وهي جوهر كل الشهادات بمجيء المسيح إلى العالم وخلاصتها. قال الرسول في أول هذه الرسالة «إِنَّ ٱلْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ الخ» (ص ١: ٢). وختم الكلام هنا بما هو في معنى ذلك.
أَنَّ ٱللّٰهَ أَعْطَانَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً غاية مجيء المسيح هبة هذه الحياة وهي للمؤمنين خاصة وهم الذين يقبلونها ويحرصون عليها كما يفيد قوله «أعطانا» (يوحنا ١٠: ١٠ و٢٨ و١٧: ٢ و٢٠: ٣١). كانت شهادة الماء والدم إنه قد أتى شخص كان هو نفسه هبة الحياة للناس وكانت معموديته علامة أنه استولى على روح الحياة ليهبها للناس. وكان دمه واسطة نجاتهم من الموت. فشهادة الماء والدم اللذين جريا معاً من جنبه المطعون على الصليب كانت الشهادة الإلهية بأن المسيح أتى بنجاة البشر من الهلاك ونيلهم الحياة الجديدة الروحية وذلك نهر الحياة الوحيد الذي جرى من جنبه وهو على الصليب. والحياة هنا تشتمل على النجاة من الهلاك ونيل السماء وكل ما فيها من السعادة وضدها الهلاك الأبدي وهو الطرد من وجه الله إلى الأبد (ص ٢: ٢٥ ويوحنا ١٧: ٣ و٢تيموثاوس ١: ١٠).
وَهٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ هِيَ فِي ٱبْنِهِ فالذين اتحدوا بالمسيح اتحدوا بواسطته بالله وشاركوه في تلك الحياة (رومية ٦: ٢٣ و٢تيموثاوس ١: ١). فالمسيح هو مصدر الحياة إلى الأبد للمفديين لأنه باعتبار كونه ابن الله له حياة في نفسه فإنه بموته نال الحياة لهم (انظر تفسير يوحنا ٥: ٢٤).
١٢ «مَنْ لَهُ ٱلابْنُ فَلَهُ ٱلْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ فَلَيْسَتْ لَهُ ٱلْحَيَاة».
يوحنا ٣: ١٥ و٣٦
مَنْ لَهُ ٱلابْنُ فَلَهُ ٱلْحَيَاةُ لأنه بواسطة الابن يُعرف الآب (ص ٢: ٢٣ و٢يوحنا ع ٩). فمن اتحد بالله بإيمانه بالمسيح صار شريكه في الحياة الأبدية وقرب من الله بعد أن كان بعيداً عنه بالخطيئة. وكان له أيضاً بداءة تلك الحياة في نفسه وتأكد خلاصه.
وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ فَلَيْسَتْ لَهُ ٱلْحَيَاةُ كني المسيح هنا بكنيته الكاملة أي «ابن الله» ليبيّن إن رفض المسيح يستلزم خسران الحياة الأبدية التي الله مصدرها فرفض الإنسان الشهادة للمسيح يستلزم رفض الحياة التي أتى لكي يهبها ورفض الآب الذي أرسله فبذلك يمكث في الموت وهذا على وفق ما في (مرقس ١٦: ١٦ ويوحنا ٣: ٣٦). وخسارة الحياة مجموع كل الخسائر.
بيان الغاية من كتابة هذه الرسالة ثانية ع ١٣
١٣ «كَتَبْتُ هٰذَا إِلَيْكُمْ أَنْتُمُ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لَكُمْ حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلِكَيْ تُؤْمِنُوا بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ».
يوحنا ٢٠: ٣١ ص ٣: ٢٣
كَتَبْتُ هٰذَا إِلَيْكُمْ كرّر هنا بيان الغاية من كتابة هذه الرسالة. قال قبلاً إن الغاية من كتابتها «بيان إن الحياة الأبدية أُظهرت لكي يكون فرحهم بنيلها كاملاً» (ص ١: ٢ – ٤). وأبان هنا أن تلك الغاية قد تمت لأن شعورهم ببداءة الحياة الأبدية أكد لهم شركتهم مع الله وفرحهم الكامل (يوحنا ٢٠: ٣١). وأبان بقوله «كتبت» أنه راجع ما كتبه وذكر الغاية التي جعلها أمامه ورجا أنه بلغ تلك الغاية.
لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لَكُمْ حَيَاةً أَبَدِيَّةً علم اليقين الدائم (ص ٢: ٢٩ و٣: ١٤) والثقة الناشئة عن ذلك العلم من مواهب الروح القدس فيحق لكل مؤمن أن يثق هذه الثقة ويمكنه أن يتحقق أن له الحياة الأبدية بواسطة أثمار تلك الحياة فيه ولكن ربما تأخرت تلك الأثمار فدلهم على علامة باطنة وأعلن أن تلك الثقة من خواص المؤمنين فإيمانهم بابن الله آية تلك الحياة وعربون اقتنائهم إياها إلى الأبد. أما القول «أنتم المؤمنين باسم ابن الله» فلا يوجد في أفضل النسخ وأصحها.
ثقة المؤمن بأن الله يسمع طلباته وما يجب عليه لمن لم يسلكوا بمقتضى هذه الرسالة ع ١٤ إلى ١٧
١٤ «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلثِّقَةُ ٱلَّتِي لَنَا عِنْدَهُ: أَنَّهُ إِنْ طَلَبْنَا شَيْئاً حَسَبَ مَشِيئَتِهِ يَسْمَعُ لَنَا».
ص ٣: ٢١ و٢٢ و٢: ٢٨ ومتّى ٧: ٧ ويوحنا ١٤: ١٣
وَهٰذِهِ هِيَ ٱلثِّقَةُ ٱلَّتِي لَنَا عِنْدَهُ العلاقة بين هذه الآية والآية التي قبلها هي أن «العلم» المذكور في الآية التي قبلها ينشئ في المؤمن ثقة بأن الله يسمع صلاته. قال الرسول قبلاً إن الثقة بسمع الله صلاتنا ناشئة عن إيماننا بالله وثقتنا به وذلك قوله «فَلَنَا ثِقَةٌ مِنْ نَحْوِ ٱللّٰهِ. وَمَهْمَا سَأَلْنَا نَنَالُ مِنْهُ، لأَنَّنَا نَحْفَظُ وَصَايَاهُ» (ص ٣: ٢١ و٢٢). وهذه الثقى نتيجة إيماننا بابن الله والضمير في قوله «عنده» يرجع إلى الله.
إِنْ طَلَبْنَا شَيْئاً حَسَبَ مَشِيئَتِهِ أي مشيئة الله الذي نحن أولاده مولودين ثانية على صورته ومتوقعين الحياة الأبدية. وتلك «الثقة» أي الثقة بالله الآب المذكورة هنا هي من أول بركات التبني بدليل قول بولس الرسول «أَخَذْتُمْ رُوحَ ٱلتَّبَنِّي ٱلَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: يَا أَبَا ٱلآبُ!» (رومية ٨: ١٥). وهذا على وفق وعد المسيح وهو قوله «كُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ فِي ٱلصَّلاَةِ مُؤْمِنِينَ تَنَالُونَهُ» (متّى ٢١: ٢٢).
يَسْمَعُ لَنَا شرط سمعه لنا أن يكون طلبنا حسب مشيئته. والله يشاء نفع الإنسان الروحي الأبدي وكل ما يؤول إلى ذلك من الوسائل الخارجية.
١٥ «وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَهْمَا طَلَبْنَا يَسْمَعُ لَنَا، نَعْلَمُ أَنَّ لَنَا ٱلطِّلْبَاتِ ٱلَّتِي طَلَبْنَاهَا مِنْهُ».
ع ١٨ و١٩ و٢٠
معنى الآية أن المؤمن متى سأل الله تحقق الإجابة لأنه قد علّمه الروح القدس ماذا يطلب (رومية ٨: ٢٦) وهذا يمنعه من أن يطلب ما ينافي مشيئة الله لأن مشيئة الله قد صارت مشيئته وإن أبطأ بالإجابة لا يشك في أنه قبِلَ الطلبة وسوف يجيبها.
١٦ «إِنْ رَأَى أَحَدٌ أَخَاهُ يُخْطِئُ خَطِيَّةً لَيْسَتْ لِلْمَوْتِ، يَطْلُبُ، فَيُعْطِيهِ حَيَاةً لِلَّذِينَ يُخْطِئُونَ لَيْسَ لِلْمَوْتِ. تُوجَدُ خَطِيَّةٌ لِلْمَوْتِ. لَيْسَ لأَجْلِ هٰذِهِ أَقُولُ أَنْ يُطْلَبَ».
يعقوب ٥: ١٥ وعبرانيين ٦: ٤ – ٦ و١٠: ٢٦ وعدد ١٥: ٣٠ وإرميا ٧: ١٦ و١٤: ١١
إِنْ رَأَى أَحَدٌ أَخَاهُ يُخْطِئُ محبة المؤمن لإخوته تحمله على الصلاة من أجلهم باعتبار أن ذلك من أفضل وسائل نفعهم. والعلاقة بين الصلاة المطلقة في الآية السابقة والصلاة من أجل الأخ الذي يخطأ في هذه الآية هي أن مغفرة خطيئته من أعظم البركات التي يفتقر إليها ودعاؤه له أعظم أدلة محبته لأن شركته مع الله تستلزم شركته مع المؤمنين (ص ١: ٣). وقوله «إن رأى» أراد به إذا تحقق لا إذا ظن فقط أو توقف في أنه يخطأ. وهذا يوجب على المؤمن أن يسأل الله أن يغفر له لأن كل مؤمن أخ لغيره من أولاد الله وعضو من أعضاء جسد المسيح.
خَطِيَّةً لَيْسَتْ لِلْمَوْتِ إن «الحياة» هي الاتحاد بالمسيح فالخطيئة مرض روحي لأنها تستلزم انفصال الخاطئ عن المسيح. وكل خطيئة من الخطايا توجب ذلك الانفصال ولكنها كلها على درجة واحدة وليس كل منها يوجب الانفصال الأبدي. والذي فرضه الرسول هنا من الخطيئة التي «ليست للموت» العثرة أو السقوط من شدة التجربة مما لا يشير إلى الانفصال عن الله عمداً واختياراً.
يَطْلُبُ تبرعاً بلا أمر بذلك فلا حامل له على الطلب سوى محبته لأخيه. وهذا الطلب يستلزم أنه يدعوه إلى التوبة وأن يشاركه في الصلاة وطلب المغفرة وأن الخاطئ يتوب.
فَيُعْطِيهِ حَيَاةً الخ أي يعطي الله الخاطئ حياة وهو يعطي الحياة للذين لا يخطأون للموت. فإعطاء الحياة من حقوق الله ونعمه (ع ١١ ويوحنا ٦: ٣٣ و١٠: ٢٨ و١٧: ٢). لم يعتبر يوحنا الحياة (بقوله «فيعيطه») إنها فارقت المؤمن بل أنها كانت على وشك أن تفارقه.
تُوجَدُ خَطِيَّةٌ لِلْمَوْتِ أي توجد خطية تمتاز عن سائر الخطايا توجب على مرتكبها كل الانفصال عن المسيح وحسب تعليم هذه الرسالة أن «الخطية للموت» هي رفض الحياة الأبدية التي أتى المسيح بها وهذا يدل على عناد القلب القاسي الذي لم يبق قادراً على قبول الحق بعد عرضه عليه. و «الخطية للموت» هي مثل الخطية التي قال المسيح أنها لا تُغفر (لوقا ١٢: ١٠) لأن الذي ارتكبها رفض الروح القدس الذي به وحده يمكن الخاطئ أن يرجع إلى الله لينال المغفرة منه. وتشبه خطية المرتدين (عبرانيين ٦: ٤ – ٦) لأنهم رفضوا كفارة المسيح. وخلاصة ما قاله إن الذين قسّوا قلوبهم حتى لم يستطيعوا قبول الروح القدس يخطأون خطية للموت فالصلاة من أجلهم عبث لأنهم قطعوا كل علاقة بينهم وبين تلك القوة القادرة أن تخلصهم.
لَيْسَ لأَجْلِ هٰذِهِ أَقُولُ أَنْ يُطْلَبَ لم يأذن بالصلاة من أجل الذي يخطأ للموت ولم ينهَ عنها فترك الأمر كأنه ليس من موضوع كلامه.
١٧ «كُلُّ إِثْمٍ هُوَ خَطِيَّةٌ، وَتُوجَدُ خَطِيَّةٌ لَيْسَتْ لِلْمَوْتِ».
ص ٣: ٤ و٢: ١ وع ١٦
كُلُّ إِثْمٍ هُوَ خَطِيَّةٌ قال هذا بياناً أن من الخطايا ما ليس للموت مما كل المؤمنين عرضة له وهو يدعو إلى الشفقة على مرتكبيه وسؤال الله أن يغفر لهم وأراد «بالإثم» هنا اعتداء بعض الناس على بعض في حقوقه كما يفيده الأصل اليوناني. والمراد «بالخطية» مخالفة إرادة الله عموماً وشريعته المعلنة خصوصاً وهي «تعدٍّ» أيضاً (ص ٣: ٤). فإذاً كل من «الإثم» و «الخطية» مخالفة إرادة مشيئة الله فهما مختلفان باعتبار عظمتهما. ومرتكب كل منهما محتاج إلى المغفرة. ويمكن أن يكونا ناشئين عن النقص والضعف وشدة التجربة وليسا بدليلين على تمام انفصال مرتكبيها عن الله.
تُوجَدُ خَطِيَّةٌ لَيْسَتْ لِلْمَوْتِ يرتكبها الذين جلّ قصدهم مقاومة الخطية والسير في سنن القداسة أبداً فإذا ارتكبوا الخطية على غير عمد يحسب الإنجيل أنهم لم يخطأوا مع أن كل مخالفة لإرادة الله خطية. قال الرسول ذلك لا ييأس المؤمن من نيل المغفرة إذا وقع في التجربة وتاب. فعليه أن يذكر أن لا خطية مما نهى عنه الكتاب المقدس لم يرتكبها بعض الذين هم في المجد إلا التجديف على الروح القدس. فإذاً فظاعة الإثم لا تمنع من المغفرة للتائب إنما يمنع منها الإضرار عليه أي عدم التوبة عنه.
تكرير بعض الحقائق ذات الشأن ع ١٨ إلى ٢٠
١٨ «نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱللّٰهِ لاَ يُخْطِئُ، بَلِ ٱلْمَوْلُودُ مِنَ ٱللّٰهِ يَحْفَظُ نَفْسَهُ، وَٱلشِّرِّيرُ لاَ يَمَسُّهُ».
ص ٣: ٩ ويعقوب ١: ٢٧ ويهوذا ٢١ ص ٢: ١٣ يوحنا ١٤: ٣٠
كرّر الرسول (مع وجود بعض الخطايا التي للموت بين الإخوة) في بعض ما ذكره سابقاً من بركات الولادة الجديدة (١٨) وبركات البنوّة الإلهية والسلامة من العالم الشرير (ع ١٩) والنمو في معرفة الله بواسطة الشركة معه (ع ٢٠) وابتدأ الكلام في كل من هذه الأمور بقوله «نعلم».
نَعْلَمُ ذكّرهم ما علموه سابقاً من أنه لا يليق بالمولود من الله أن يخطأ لئلا يستخف الأخ الخاطئ بالخطية بما قاله في طلب المغفرة له. وهذا العلم نتيجة الاختبار وشهادة الإنجيل وهي قوله «كُلُّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ مِنَ ٱللّٰهِ لاَ يَفْعَلُ خَطِيَّةً، لأَنَّ زَرْعَهُ يَثْبُتُ فِيهِ الخ» (ص ٣: ٩).
أَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱللّٰهِ لاَ يُخْطِئُ لأنه بإيمانه انفصل عن ملكوت الشيطان واتحد بالله إنما قد يعثر ويحتاج إلى صلاة إخوته لأجله. غير أنه لا يخطئ عمداً واختياراً (انظر ص ٣: ٩ وتفسيره).
بَلِ ٱلْمَوْلُودُ مِنَ ٱللّٰهِ يَحْفَظُ نَفْسَهُ من الخطية المهلكة. اعتبر الرسول الأخ الخاطئ ابن الآب السماوي وإن خطئ كما أن يسوع يعتبره «لأنه يستحي أن يدعوهم إخوته» (عبرانيين ٢: ١١) ويحفظ المتجدد نفسه بقوة الله لا بقوته هو واجتهاده. فلو كان الإنسان هو الحافظ نفسه من الخطية والهلاك يئس من خلاصه فلا يحفظ المؤمنون أنفسهم من الخطية ما لم يحفظهم الله منها (يوحنا ١٧: ١١) إن عدوهم العالم قوي منتبه لكن الله حافظهم أقوى منه وهو لا ينعس ولا ينام.
وَٱلشِّرِّيرُ لاَ يَمَسُّهُ ليجرحه جرحاً مميتاً (يوحنا ١٧: ١٥ وأفسس ٦: ١١ و١بطرس ٥: ٨ ورؤيا ٣: ١٠).
١٩ «نَعْلَمُ أَنَّنَا نَحْنُ مِنَ ٱللّٰهِ، وَٱلْعَالَمَ كُلَّهُ قَدْ وُضِعَ فِي ٱلشِّرِّيرِ».
ص ٤: ٦ ويوحنا ١٢: ٣١ و١٧: ١٥ وغلاطية ١: ٤
نَعْلَمُ أَنَّنَا نَحْنُ مِنَ ٱللّٰهِ أي نتيقن. إن هذا يصدق على نسبة المؤمنين (الذين هو واحد منهم) إلى الله فهو مصدر حياتهم الجديدة وهم متحدون به فيحيون بحياته. فالتباين بين المؤمنين المتحدين بالله وأهل العالم الذين تحت عبودية الشيطان تام (ص ٢: ٣ و٥ و٢٩ و٣: ٩ و٢٤ وص ٤: ٧ و١٣ و١٥ وص ٥: ١ و١٠).
وَٱلْعَالَمَ كُلَّهُ قَدْ وُضِعَ فِي ٱلشِّرِّيرِ أي إن الناس كلهم منفصلون عن الله وتحت سلطة الشيطان (غلاطية ١: ٤). فأراد «بالعالم» الجنس البشري و «بالشرير» الشيطان ويندرج في العالم شهواته ومبادئه وغاياته ومجراه ونهايته وهي كلها من لوازم الشركة مع الشيطان. كان المسيح كفارة للعالم كله ومخلص العالم كله ولولا ذلك لم يؤمن به أحد من العالم وانفصل عن العالم فإذاً يصدق قول الرسول الآن إن العالم كله بلا الإيمان وُضع في الشرير عدو الله.
٢٠ «وَنَعْلَمُ أَنَّ ٱبْنَ ٱللّٰهِ قَدْ جَاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْرِفَ ٱلْحَقَّ. وَنَحْنُ فِي ٱلْحَقِّ فِي ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. هٰذَا هُوَ ٱلإِلٰهُ ٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ».
ع ٥ يوحنا ٨: ٤٢ ولوقا ٢٤: ٤٥ ويوحنا ١٧: ٣ ورؤيا ٣: ٧ ويوحنا ١: ١٨ و١٤: ٩ وص ٢: ٢٣ ورؤيا ٣: ٧ ويوحنا ١: ١٨ و١٤: ٩ وص ٢: ٢٣ ص ١: ٢ ع ١١
نَعْلَمُ أَنَّ ٱبْنَ ٱللّٰهِ قَدْ جَاءَ أرسله الله فأتى وهو معنا الآن ويمكث فينا. وهذا موافق لقول المسيح لليهود «إِنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ وَأَتَيْتُ. لأَنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي، بَلْ ذَاكَ أَرْسَلَنِي» (يوحنا ٨: ٤٢). تيقّن الرسول وصرّح بما تيقّنه هنا أن ابن الله تجسد وسكن بين الناس وهذه آخر شهاداته في هذه الرسالة وأراد بها أن يؤكد للمؤمنين حياتهم الأبدية ويقيهم من السقوط في الضلال. فقول المسيح في الإنجيل «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متّى ٢٨: ٢٠) كرّره الرسول هنا. وأعظم كل الحقائق عنده إن الذي كان صديقاً وسيداً له منذ ما يزيد على ستين سنة أتضح أنه «كلمة الله المتجسد» (ص ١: ١ و٢ و٢: ١٣ و٣: ٥ و٨ و١٦ و٢٣ و٤: ٢ و٩ و١٠ و٥: ١ و٥ و٩ و١١).
وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْرِفَ ٱلْحَقَّ أي أعطانا قوة التمييز بين الحق والباطل وبين الله والحق وكل ما سواه. ونعرف أن الله بشعورنا الباطن بما علّمنا إياه الروح القدس لأن تلك المعرفة إحدى مواهبه (ص ٢: ٢٠ و٢٧ ويوحنا ١٤: ٢٦ و١٦: ١٣). فالإله الحق الواحد يمتاز عن كل الآلهة الغريبة وكل ما سواه من معبودات الناس بدليل قول بولس لأهل تسالونيكي «كَيْفَ رَجَعْتُمْ إِلَى ٱللّٰهِ مِنَ ٱلأَوْثَانِ لِتَعْبُدُوا ٱللّٰهَ ٱلْحَيَّ ٱلْحَقِيقِيَّ» (١تسالونيكي ١: ٩). والمسيح هو معلن الآب (يوحنا ١: ١٨ و١٤: ٩) وإعلان الآب بالمسيح وافٍ بما يفتقر البشر إليه ولا يفي بذلك إلا هو. ومعرفة الله بالمسيح هي الحياة الأبدية. وتحقق يوحنا أن تلاميذ المسيح مبنيون على الحق الكامل الثابت لأنهم آمنوا بابنه الحي وتمسكوا به.
وَنَحْنُ فِي ٱلْحَقِّ فِي ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي أن المؤمنين الآن في شركة مع الله. وهذا تفسير لتلك الشركة فإنهم متحدون بالله بواسطة اتحادهم بالمسيح. وأشار بقوله «في ابنه يسوع المسيح» إلى كون هذا الابن إنساناً وإلهاً معاً. فالمؤمنون شركاء المسيح في كل ما له وكل ما عمل وكل ما سيكون له فماتوا معه ويحيون به وقاموا معه وسيجلسون معه «في السماويات» وتبرروا وأحبهم الآب بمحبته إياه وصاروا أبناء الله بنسبتهم إليه وورثة ميراثهم وسيمجدهم بمجده. فالمسيح في كل الذين يؤمنون به فهم يحيون ولكن ليسوا هم الذين يحيون بل المسيح هو الذي يحيا فيهم فهو حياتهم وقوتهم وموضوع ترنيمهم.
هٰذَا هُوَ ٱلإِلٰهُ ٱلْحَقُّ أي الله الآب هو الإله الخ كما أعلنه ابنه. فلو لم يكن الكلمة الله لم يستطع أن يُعلن الآب للناس.
وَٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ أي الله المعلن بابنه هو الحياة الأبدية وهذا معنى قوله «هٰذِهِ هِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ ٱلإِلٰهَ ٱلْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (يوحنا ١٧: ٣). قابل بهذا (ع ١١ و١٢ و١٣).
الإنذار الأخير ع ٢١
٢١ «أَيُّهَا ٱلأَوْلاَدُ ٱحْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ ٱلأَصْنَامِ. آمِينَ».
ص ٢: ١ و١كورنثوس ١٠: ٧ و١تسالونيكي ١: ٩
أَيُّهَا ٱلأَوْلاَدُ اهتمامه بهم حمله على اتخاذ لقب المحبة الذي استعمله كثيراً في أول الرسالة وعدل عنه من (ص ٤: ٤) إلى هنا.
ٱحْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ ٱلأَصْنَامِ هذا مثل تعليم يهوذا (ع ٢١). إنهم يستطيعون أن يحفظوا أنفسهم لأن المسيح يحفظهم ويشفع فيهم (يوحنا ١٧: ١١ و١٢). وهذا لا يعيقهم من إدامة الاجتهاد في أن يحفظوا أنفسهم. والمراد «بالأصنام» هنا كل ما يشغل موضع الله من القلب من موجود ومعدوم ومنظور وغير منظور ومادة وروح وهي تشتمل على معبودات الأمم الباطلة والوسطاء الموهومة يومئذ وكل ما يوثق به من المخلوقات الثقة التي يستحقها الله وحده بالمسيح من ملائكة وقديسين وغيرهم من البشر وأعمال صالحة وصور وتماثيل والكنيسة وأسرارها وكل ما يحجب بيننا وبين الله باعتبار كونه موضوع الإيمان والمحبة ويمنعنا من الإيمان به أو بالمسيح لأنه به وحده الحياة الأبدية. وهذا الإنذار احتاجت إليه الكنيسة في كل عصر لأن أقدس الأمور يمكن أن يكون عثرة أو صنماً لنا لأننا نميل إلى جعل كل ما نحبه صنماً ويُنقص محبتنا لله. فختم الرسول رسالته ختاماً غريباً فلم يأت بكلمة وداع ولا بركة على الكنيسة أو على أحد من أعضائها ولا دعاء لها. وهذا الأب المسيحي أظهر رقة قلبه عليهم بدعوته إياهم «أولاده» وبنصحه أخيراً لهم بأن «يحفظوا أنفسهم من الأصنام».
السابق: الأصحاح الرابع |