رسالة يوحنا الأولى

رسالة يوحنا الأولى | الأصحاح 4

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح رسالة يوحنا الأولى

اَلأَصْحَاحُ ٱلرابع

وجوب امتحان الأرواح ع ١ إلى ٦

١ «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، لاَ تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ، بَلِ ٱمْتَحِنُوا ٱلأَرْوَاحَ: هَلْ هِيَ مِنَ ٱللّٰهِ؟ لأَنَّ أَنْبِيَاءَ كَذَبَةً كَثِيرِينَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى ٱلْعَالَمِ».

إرميا ٢٩: ٨ و١كورنثوس ١٢: ١٠ و٢تسالونيكي ٢: ٢ و١تسالونيكي ٥: ٢٠ ص ٢: ١٨ وإرميا ١٤: ١٤ و٢بطرس ٢: ١

أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ اعتاد الرسول أن يجعل مثل هذا الكلام مقدمة لأمر ذي شأن (انظر ع ٧ وص ٣: ٢).

لاَ تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ أراد «بالأرواح» هنا البواعث على خير أو شر في نفس الإنسان من فكر وقصد وهي إما من الله وإما من الشيطان فحذّرهم هنا من أن يثقوا بكل من ادّعوا إرشاد الروح القدس. وهذا موافق لقول المسيح «ٱنْظُرُوا، لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِٱسْمِي… وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ» (متّى ٢٤: ٤ و٥). إن المعلمين الكاذبين كانوا في كل عصر من عصور العالم يدّعون الوحي وإن الله أرسلهم ودعواهم ليست برهاناً على صدقهم. وللمسيحيين مقياس واحد يقيسون به كل تعليم ديني وهو الاعتراف بأن يسوع هو المسيح الكلمة المتجسد.

بَلِ ٱمْتَحِنُوا ٱلأَرْوَاحَ: هَلْ هِيَ مِنَ ٱللّٰهِ (١كورنثوس ١٠: ١٥ و١١: ١٣ و١٢: ١٠ وأفسس ٥: ١٠ و١تسالونيكي ٥: ٢١). أوجب الرسول على كل المؤمنين أن يميّزوا بين الحق والباطل ولم يكِل ذلك إلى خدم الدين وحدهم فأبان في هذه الآية إن علينا في أمور الدين التي هي من أعظم الأمور المختصة بالإنسان في الدنيا والآخرة أن لا نقبل معلماً يدّعي أنه من الله ما لم يأت بأوضح برهان على أنه مُرسل من الله (إشعياء ٨: ٢٠ وأعمال ١٧: ١١).

لأَنَّ أَنْبِيَاءَ كَذَبَةً كَثِيرِينَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى ٱلْعَالَمِ هذا علّة تحذيره إياهم من المعلمين الكاذبين. وأراد «بالأنبياء» هنا معلمو الدين (انظر تفسير رومية ١٢: ٦ و٢بطرس ٢: ١ وانظر أيضاً متّى ٧: ١٥ و٢٤: ١١ و٢٣ ورؤيا ١٦: ١٣ و١٩: ٢٠ و٢٠: ١٠). وكثر مثل هؤلاء الكذبة يومئذ فحذّر الرسول المؤمنين منهم لأن لهم روح ضد المسيح وعلّموا تعاليم مهلكة. ومعنى «خروجهم إلى العالم» ظهورهم بين الناس ليخدعوهم بمنزلة أنهم معلمو الدين. وإن قيل من أين خرجوا قلنا من جهنم أي من أمام صاحب جهنم أبي الكذاب (رؤيا ١٢: ٩ و١٦: ١٤ و٢٠: ٨).

٢ «بِهٰذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ ٱللّٰهِ: كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ٱلْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ ٱللّٰهِ».

١كورنثوس ١٢: ٣ ص ٢: ٢٣ ص ١: ٢ ويوحنا ١: ١٤

بِهٰذَا أي بالعلامة الآتية في هذه الآية.

تَعْرِفُونَ رُوحَ ٱللّٰهِ أي تميّزون المرسل من الله الملهم بالروح القدس أو تختبرونه أو تمتحنونه. فالكلمة المترجمة «بتعرفون» هنا هي الكلمة المترجمة «بتميزون» في (لوقا ١٢: ٥٦) و «بتختبروا» في (رومية ١٢: ٢) و «بيمتحن» في (١كورنثوس ١١: ٢٨).

كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ الخ أي إن كل معلم يدّعي إن الله أرسله يُمتحن بهذا الاعتراف (وهو صحة تعليمه صفات المسيح) فيعرف أرسول كذب هو أم رسول صدق. ومعنى «الاعتراف» هنا المناداة جهاراً بحق تجسد المسيح. والمراد «بالاعتراف بالمسيح» المناداة بأموره كما أُعلنت في الإنجيل فإن خلاصة الإنجيل المسيح وإنه هو فادي البشر. وقوله «جاء في الجسد» يتضمن كل مرسليته ومظاهره كقول المسيح نفسه «أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِٱسْمِ أَبِي» (يوحنا ٥: ٤٣) وقوله «لأَنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ وَأَتَيْتُ. لأَنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي، بَلْ ذَاكَ أَرْسَلَنِي» (يوحنا ٨: ٤٢) ومثل هذا كثير في الإنجيل. والأمر المصرّح به هنا هو أن المسيح قد أتى في الجسد حقيقة وأنجز كل المواعيد المتعلقة به (ص ٥: ٦ ويوحنا ١٩: ٣٤ و٣٥ و٢٠: ٢٥ – ٢٧). ولا ينتج من هذا القول أن كل إنسان اعتقد الاعتقاد الصحيح في شأن ناسوت المسيح يخلص بل أن ذلك الاعتقاد يومئذ كان علامة يُعرف بها إيمان كل معلم فمن أنكر ذلك أفسد سائر تعليمه وبرهن أنه غير أهل لأن يوثق به وأنه معلم كاذب. والأمر الذي أنكره المعلمون الكاذبون هو أن ابن الله تأنس حقيقة فقالوا أنه أخذ الناسوت وقتياً أو تظاهر بأنه إنسان وهو ليس بإنسان حقيقة بل ظهر كأنه إنسان.

٣ «وَكُلُّ رُوحٍ لاَ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ٱلْجَسَدِ فَلَيْسَ مِنَ ٱللّٰهِ. وَهٰذَا هُوَ رُوحُ ضِدِّ ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي سَمِعْتُمْ أَنَّهُ يَأْتِي، وَٱلآنَ هُوَ فِي ٱلْعَالَمِ».

٢يوحنا ٧ ص ٢: ٢٢ ع ١٨ ص ٢: ١٨ و٢تسالونيكي ٢: ٣ – ٧

كُلُّ رُوحٍ لاَ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ٱلْجَسَدِ فَلَيْسَ مِنَ ٱللّٰهِ هذه العقيدة ضرورية في الإيمان المسيحي فالذي ينكرها بعد ما عُرضت عليه لا يمكن أن يُعتبر معلماً صادقاً ولا مسيحياً لأن المسيح لو لم يتأنس كذب كل ما قيل في شأن آلامه في جثسيماني وفي محكمة بيلاطس وعلى الصليب ولم يكن إلا خادعاً للمشاهدين. فيلزم من ذلك أنه لم يسفك دمه ولم يمت على الصليب فلم تكن من كفارة وبطلت قيامته وكان كل دينه خدعة وحيلاً. ومعنى مجيئه في الجسد ظهوره بالناسوت الكامل.

وَهٰذَا هُوَ رُوحُ ضِدِّ ٱلْمَسِيحِ أي هذا أحد أنواع الضلال الذي يختص بذلك المضل فمهما كان له من مظاهر التقوى لا يُقال فيه فقط أنه ليس من الله بل يُقال أيضاً أنه روح ضد المسيح.

ٱلَّذِي سَمِعْتُمْ أَنَّهُ يَأْتِي (انظر تفسير ص ٢: ١٨).

وَٱلآنَ هُوَ فِي ٱلْعَالَمِ تمت النبوّة قبل أن تتوقع الكنيسة إنجازها.

٤ «أَنْتُمْ مِنَ ٱللّٰهِ أَيُّهَا ٱلأَوْلاَدُ، وَقَدْ غَلَبْتُمُوهُمْ لأَنَّ ٱلَّذِي فِيكُمْ أَعْظَمُ مِنَ ٱلَّذِي فِي ٱلْعَالَمِ».

ص ٢: ١ و١٣ و٣: ٢٠ و٢ملوك ٢: ١٦ ورومية ٨: ٣١ ويوحنا ١٢: ٣١

أَنْتُمْ مِنَ ٱللّٰهِ أي أولاد الله (ص ٣: ١ و٢) لأنكم ثبتم في الحق وتحققتم بنوتكم والمعلمون الكاذبون ليسوا كذلك.

وَقَدْ غَلَبْتُمُوهُمْ أي غلبتم الأنبياء الكذبة أعداء المسيح الأرواح التي «ليست من الله». وغلبوهم بواسطة المسيح لأنه هو الذي غلبهم وانتصر عليهم كقوله «أَنَا قَدْ غَلَبْتُ ٱلْعَالَمَ» (يوحنا ١٦: ٣٣) وانتصاره انتصارهم.

لأَنَّ ٱلَّذِي فِيكُمْ أَعْظَمُ مِنَ ٱلَّذِي فِي ٱلْعَالَمِ أي الذي في الكنيسة المسيحية (التي هي ضد العالم) أعظم من قوة العالم. فعلّة انتصار الكنيسة قوة روح الله الحال فيها (ص ٢: ١٤) أو قوة الله في المسيح أو كلمة الله الثابتة فيهم (ص ٢: ١٤) أو «المسحة التي أخذوها» (ص ٢: ٢٧). أو «زرع الله» (ص ٣: ٩) والقوة التي في العالم هي قوة الشيطان فنسب الرسول قوة كل الأرواح المضلة إلى رئيس هذا العالم ( يوحنا ١٢: ٣١ و١٤: ٣٠) لأنه قيل في العالم أنه «وُضع في الشرير» (ص ٥: ١٩).

٥ «هُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ. مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ يَتَكَلَّمُونَ مِنَ ٱلْعَالَمِ، وَٱلْعَالَمُ يَسْمَعُ لَـهُمْ».

يوحنا ١٥: ١٩ و١٧: ١٤ و١٦

هُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ هذه العلامة المميزة لهم وعلّة دينونتهم. فالعالم مسكنهم ودائرة أفكارهم وآمالهم ومقاصدهم. وقصد «بالعالم» صفات أهل العالم الأدبية باعتبار كون العالم منفصلاً عن الله (ص ٢: ١٦ ويوحنا ١٥: ١٩ و١٧: ١٤ و١٦).

مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أي لأنهم حصلوا على روحهم وتعليمهم ممن هم جزء من العالم.

يَتَكَلَّمُونَ مِنَ ٱلْعَالَمِ أي جوهر تعليمهم دنيوي.

وَٱلْعَالَمُ يَسْمَعُ لَـهُمْ أي إن تعليمهم مقبول عند العالم فيسمعونه بلذة ورغبة. قد ذكر «العالم» هنا ثلاث مرات كما كُرر في (يوحنا ٣: ١٧).

٦ «نَحْنُ مِنَ ٱللّٰهِ. فَمَنْ يَعْرِفُ ٱللّٰهَ يَسْمَعُ لَنَا، وَمَنْ لَيْسَ مِنَ ٱللّٰهِ لاَ يَسْمَعُ لَنَا. مِنْ هٰذَا نَعْرِفُ رُوحَ ٱلْحَقِّ وَرُوحَ ٱلضَّلاَلِ».

ع ٤ ويوحنا ٨: ٢٣ و٤٧ و١٠: ٣ و١٨: ٣٧ و١كورنثوس ١٤: ٣٧ ويوحنا ١٤: ١٧ و١تيموثاوس ٤: ١

نَحْنُ مِنَ ٱللّٰهِ هذا صفة المعلمين الصادقين الذي حسب نفسه وسائر الرسل منهم ووصف بمثل هذا المؤمنين الذين خاطبهم (ع ٤) وهذا بيان اتحادهم بالله اتحاداً حياً وإن الله يعلن الحق لهم وللذين يسمعونهم.

فَمَنْ يَعْرِفُ ٱللّٰهَ يَسْمَعُ لَنَا أهل العالم يسمعون للمعلمين الكاذبين لأن تعليمهم موافق لهم ولكن المؤمنين يسمعون لمن يتكلم في الله الحق ويرغبون في السمع له. ورغبتهم في السمع تنشأ عن شوقهم إلى المعرفة الروحية التي يلذون بها لينموا فيها على وفق قول المسيح «اَلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ يَسْمَعُ كَلاَمَ ٱللّٰهِ» (يوحنا ٨: ٤٧). ومعرفة الله نامية تطلب الزيادة والإعلان الأكمل أبداً.

وَمَنْ لَيْسَ مِنَ ٱللّٰهِ لاَ يَسْمَعُ لَنَا أي أهل العالم لا يسمعون للرسل ولا للذين تعلّموا من الرسل.

مِنْ هٰذَا نَعْرِفُ رُوحَ ٱلْحَقِّ أي من قوة التمييز التي يهبها الله وهذه القوة لكل المؤمنين لا لخدم الدين دون غيرهم. والمراد «بروح الحق» الروح القدس الذي يتكلم في الرسل وأمثالهم بالحق ويسكن في قلوب المؤمنين الحقيقيين وهذا يقويهم على تمييز الحق وقبوله ورفض الضلال بدليل قول المسيح «رُوحُ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ ٱلْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ» (يوحنا ١٤: ١٧). وقول الرسول «نَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ الْعَالَمِ، بَلِ الرُّوحَ الَّذِي مِنَ اللهِ، لِنَعْرِفَ الأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللهِ» (١كورنثوس ٢: ١٢).

وَرُوحَ ٱلضَّلاَلِ هذا ضد روح الحق وهو روح الكذب (رومية ١: ٢٥ وأفسس ٤: ٢٤ و٢تسالونيكي ٢: ١١) ويُعرف من رفضه للحق.

انتهى كلام يوحنا هنا في «روح ضد المسيح» و «روح الضلال» وأخذ يتكلم في كمال الحياة المسيحية الناشئة عن معرفة إن الله محبة وهذا تكملة الأصحاح الثالث عشر من رسالة كورنثوس الأولى.

كون المحبة المبدأ الأصلي في الدين المسيحي ع ٧ إلى ١٠

٧ «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً، لأَنَّ ٱلْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ ٱللّٰهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ ٱللّٰهِ وَيَعْرِفُ ٱللّٰهَ».

ص ٢: ٧ و٣: ١١ و٥: ١ و٢: ٣ و٢٩ و١كورنثوس ٨: ٣

لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً (انظر تفسير هذا في تفسير يوحنا ١٣: ٣٤ و٣٥ وانظر أيضاً ص ٣: ١١ و٢٣). فعلينا أن نحب كل البشر كما إن الله أحب العالم وأن نحب إخوتنا خاصة لأن هذا أسمى مظاهر المحبة.

لأَنَّ ٱلْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ ٱللّٰهِ هذا بيان لمصدر المحبة فالله مصدر كل المحبة في قلوب الملائكة والقديسين في السماء وفي المؤمنين على الأرض وقد أظهرها الله في كل عطاياه ولا سيما عطيته ابنه (يوحنا ٣: ١٤). فمحبتنا بعضنا لبعض تبيّن أن لنا روحه وأننا خاصته كأولاده فالمحبة تجعلنا نزيد مشابهة له بزيادتها وهي علامة التبني (ص ٣: ١٩).

كُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ ٱللّٰهِ أي يشترك في حياة الله فإن المحبة صفة من صفاته كما أنه من صفات الشمس أن تضيء ومن صفات الينبوع أن يخرج ماء ومن صفات الشجرة أن تحمل ثمراً. فشعور المؤمن بالمحبة لله يحقق له بنوّته لله. وهذا يُظهر ضرورية المحبة وبركتها.

وَيَعْرِفُ ٱللّٰهَ وحقيقة الإعلان الذي منه. لأن حياته الروحية من الله وهو متحدٌ بالله.

٨ «وَمَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ ٱللّٰهَ، لأَنَّ ٱللّٰهَ مَحَبَّةٌ».

ع ١٦ و١٧

مَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ ٱللّٰهَ حين اعترف به. فإقراره في المعمودية مثلاً غير مبني على معرفة صحيحة. أبان الرسول في الآية السابعة إن وجود المحبة يستلزم زيادة معرفة الله وأبان هنا إن عدم المحبة برهان إن ما يدّعيه من معرفة الله ليس بحقيقي.

لأَنَّ ٱللّٰهَ مَحَبَّةٌ فمن عرف الله يحب كما أنه تعالى يحب فالمعرفة الحقيقية تستلزم المشابهة في الروح. أبان الرسول في أول هذه الرسالة إن «الله نور» (ص ١: ٥) وبذلك نسب إليه الحق والمعرفة والقداسة والقوة والعدل. وقوله هنا «إن الله محبة» يستلزم أنه أصل الحلم واللطف والشفقة والصداقة والسرور بسعادة الخليقة والجودة والرغبة في أن يحيط به عبيده السعداء المقدسون ليكونوا موضوع محبته.

٩ «بِهٰذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ فِينَا: أَنَّ ٱللّٰهَ قَدْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ».

ع ١٦ ويوحنا ٩: ٣ ويوحنا ٣: ١٦ ع ١٠ وص ٥: ١١

بِهٰذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ في هذا بيان إن إتيان المسيح إلى العالم وتجسده وعمله مظهر محبته. وخلاصة ذلك إن الله أحب العالم فأرسل ابنه وكانت تلك المحبة منه هبة مجانية (رومية ٨: ٣٢). وقوله «أُظهرت» يدل على ما كان في نفس الله منذ الأزل من محبته للبشر وظهر في وقت إتيان المسيح بدليل قول المسيح نفسه عند نهاية عمله «ٱلْعَمَلَ ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ» (يوحنا ١٧: ٤ انظر أيضاً ٢تيموثاوس ١: ٩).

فِينَا نحن المؤمنين. فإن معظم إظهار محبة الله كان من أجلهم فالمؤمن آية محبة الله.

أَنَّ ٱللّٰهَ قَدْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ إِلَى ٱلْعَالَمِ كما قيل في (يوحنا ٣: ١٦). فأظهر الله عظمة محبته بعظمة عطيته التي هي ابنه الوحيد فإنه أرسله إلى العالم والعالم منفصل عنه وعدو له فأرسله ونحن نتمتع بالبركات التي نشأت عن مجيئه (ع ١٤ ويوحنا ٥: ٣٦ و٢٠: ٢١). ونعت ابنه الآزلي «بالوحيد» تمييزاً له عن أولاده بالتبني وهم المؤمنون به.

لِكَيْ نَحْيَا بِهِ كنا في الحال الطبيعية أمواتاً (ص ٣: ١٤ ويوحنا ٥: ٣٥ و٦: ٥١ و٥٧ و١١: ٢٥ و١٤: ١٩). والحياة هنا تستلزم النشاط للعمل علاوة على الخلاص. والضمير في قوله «به» للمسيح بدليل قول المسيح نفسه «كَمَا أَرْسَلَنِي ٱلآبُ ٱلْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِٱلآبِ، فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي» (يوحنا ٦: ٥٧). وقول بولس «إِنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فِي ٱللّٰهِ» (كولوسي ٣: ٣). وقوله في المسيح ما يفيد إن المسيح غاية حياتنا (رومية ١٤: ٨). وقوله «لِيَ ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ» (فيلبي ١: ٢١). فالحياة بالمسيح هي الحياة الوحيدة الحقيقية وتكمل حين يتصور المسيح فينا (غلاطية ٤: ١٩) ونكون شركاء الطبيعة الإلهية (٢بطرس ١: ٤).

١٠ «فِي هٰذَا هِيَ ٱلْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا ٱللّٰهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ٱبْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا».

رومية ٥: ٨ و١٠ ع ١٩ ص ٢: ٢ ويوحنا ٣: ١٦ وص ٥: ١١

فِي هٰذَا هِيَ ٱلْمَحَبَّةُ أي أعظم مظاهر المحبة وبيان حقيقتها كأن المحبة لا يمكن أن تكون علّة أكثر ما فعل المسيح بتجسده. ولم يقل محبة الله ولا محبة الناس بل أطلق المحبة على كل ما يتصور منها. وهذه هي التي أظهرها الله والبرهان على ذلك ما أتاه من بذل ابنه اختياراً.

لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا ٱللّٰهَ أي لا شيء فينا حمله على محبته لنا. فلو كنا محبين وطائعين لكان ذلك علّة محبته لنا.

بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا بمجرد مشيئته فأحبنا نحن الخطأة غير المستحقين المحبة العصاة الفاقدي الشكر الذين لا إرادة لنا أن نحبه ولا أن نرضيه. وهو لم يحب خطايانا بل أحب نفوسنا وأراد خلاصها فمحبته محبة الشفقة والجودة (يوحنا ٣: ١٦ و١٥: ١٦ ورومية ٥: ٨ – ١٠ وأفسس ٢: ٤ و٢تسالونيكي ٢: ١٦ وتيطس ٣: ٣ – ٥).

وَأَرْسَلَ ٱبْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا هذه الكفارة هي التي اقتضتها خطايانا للمصالحة لا ما اقتضتها محبتنا له. وذُكر الكلام على الكفارة في (رومية ٣: ٢٥ و١يوحنا ٢: ٢).

الحث على المحبة ع ١١ إلى ١٥

١١ «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ قَدْ أَحَبَّنَا هٰكَذَا، يَنْبَغِي لَنَا أَيْضاً أَنْ يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً».

ص ٢: ٧ و٣: ١١

بعد ما أبان الرسول مصدر المحبة وأعظم آياتها بتجسد المسيح وبذله نفسه كفارة لخطايانا أخذ يتكلم في ما أوجبته تلك المحبة علينا.

إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ قَدْ أَحَبَّنَا هٰكَذَا كما يظهر من إرساله ابنه كفارة لنا. وذكر اسم «الله» هنا بيان لجلال الذي أظهر محبته.

يَنْبَغِي لَنَا أَيْضاً أي إن محبة الله لنا أوجبت علينا ما يأتي.

أَنْ يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً يحق أن يقال أن نحب الله ولكنه قال أن يحب بعضنا بعضاً وذلك لأن الله أحبنا مجاناً وأحب الذين هم غير مستحقين وهم في غاية الدناءة بالنسبة إلى عظمته فيجب بالأحرى أن نحب الذين هم مساوون لنا فنظهر أننا مشابهون لله وإن لنا من روحه وأن نوفي بعض ديننا لله برغبتنا في نفع إخوتنا البشر. والله يسمح لنا في أن نكون وكلاءه في نفع الناس.

١٢ «اَللّٰهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ. إِنْ أَحَبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً فَٱللّٰهُ يَثْبُتُ فِينَا، وَمَحَبَّتُهُ قَدْ تَكَمَّلَتْ فِينَا».

يوحنا ١: ١٨ و١تيموثاوس ٦: ١٦ وع ٢٠ ص ٢: ٥ وع ١٧

اَللّٰهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ هذا مثل ما في (يوحنا ١: ١٨) فانظر التفسير هناك فإنه بُيّن هناك أنه لا يستطيع أحد أن يرى الله بعيني جسده. وبُيّن هنا كيف يقدر الإنسان أن يعرف الله بحلول الله فيه وشركته الدائمة له. وهذا خير من المشاهدة بالعين الباصرة فمهما نال القديسون من الانتصار ومن التقرب إلى الله لم يستطيعوا أن يروه كما هو. وفي هذه الآية ثلاثة أمور:

الأول: كون موضوع المحبة غير منظور.

الثاني: سكنى هذا غير المنظور فينا.

الثالث: عمله الكامل في قلوبنا.

إِنْ أَحَبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً هذا شرط تحصيل معرفتنا لله وهو إننا نحصل بالمحبة على ما لا نحصل عليه بالقوة الباصرة.

فَٱللّٰهُ يَثْبُتُ فِينَا كما جاء أيضاً في (ع ١٥) وهذا يشبه قول المسيح «أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ الخ» (يوحنا ١٧: ٢٣).

وَمَحَبَّتُهُ قَدْ تَكَمَّلَتْ فِينَا أي إن محبة الله أُعلنت لنا بأفضل طريق. فإن المؤمن يقبل في قلبه محبة الله ويجعلها محبته. فاعتبر يوحنا المحبة الأخوية آية حضور الله في المسيحيين ومكثه فيهم لأنه رأى بذلك صورة الله فيهم وأنهم وُلدوا ثانية. وهذا يبين لنا أننا (بمحبتنا لإخوتنا لكونهم مسيحيين ونفعنا إياهم بممارسة أعمال المحبة) نقترب على سنن الزيادة إلى المشابهة لله وإكمال ما يطلبه منا. قال سابقاً إن محبة الله تتكمل فينا بحفظ كلمته (ص ٢: ٥). وقال هنا إنها تتكمل بمحبة بعض المؤمنين لبعض والقولان متفقان لأن تكملة المحبة تكملة الطاعة لأنه أوصى تلاميذه بأن «يحب بعضهم بعضاً» (ص ٣: ٢٣). وقيل أيضاً «إن المحبة الكاملة تطرح الخوف» (ع ١٧ و١٨) فإذاً المحبة تتكمل بثلاثة أشياء وهي الطاعة والمحبة الخالصة والثقة الكاملة.

١٣ «بِهٰذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا نَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِينَا: أَنَّهُ قَدْ أَعْطَانَا مِنْ رُوحِهِ».

ص ٣: ٢٤ ورومية ٨: ٩

بِهٰذَا أي بأن يكون لنا روح المحبة.

نَعْرِفُ أي نشعر في قلوبنا بأن الله ساكن فينا.

أَنَّنَا نَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِينَا أثبت الجزء الأول من هذا ما قاله في (ع ١٢) وأثبت الجزء منه بما في (ع ١٥). ومعنى قوله «يثبت فيه» في تفسير (ص ٣: ٢٤) فارجع إليه. وينتج من هذا إن كل مظاهر الله لإبراهيم ولموسى ولغيرهما من الآباء لم تكون سوى النور في الهيكل الذي كان علامة حضور الله لا جوهره تعالى. وقال هذا بياناً لعدم إمكان رؤية الله بالعين الباصرة ولقيمة تجسد المسيح الذي كان بدلاً من تلك الرؤية ولقيمة إرسال الروح القدس لإعلان الله.

أَنَّهُ قَدْ أَعْطَانَا مِنْ رُوحِهِ أي الروح القدس (١تسالونيكي ٤: ٩). إن المسيح وعد تلاميذه بإرسال الروح القدس (يوحنا ١٤: ١٦ و١٧ و٢٦ و١٥: ٢٦ و١٦: ٧). وحضور هذا الروح في القلب أفضل الأدلة على كوننا أولاد الله (رومية ٨: ١٦).

١٤ «وَنَحْنُ قَدْ نَظَرْنَا وَنَشْهَدُ أَنَّ ٱلآبَ قَدْ أَرْسَلَ ٱلابْنَ مُخَلِّصاً لِلْعَالَمِ».

ص ١: ٢ ويوحنا ١٥: ٢٧ و٣: ١٧ و٤: ٤٢ وص ٢: ٢

نَحْنُ قَدْ نَظَرْنَا وَنَشْهَدُ أي نحن الرسل قد نظرنا الخ. كثيراً ما صرّح هذا الرسول بأن شهادة الرسل للمسيح أساس تعليم الإنجيل (ص ١: ١ – ٣ ويوحنا ١: ١٤ و١٦ وأعمال ٤: ٢٠ و٢٢: ١٥ و٢٦: ١٦) وشاركتهم الكنيسة الأولى كلها في النظر والشهادة بقبولها شهادتهم ولم تزل هذه الشهادة في الكنيسة إلى الآن. من المعلوم أن الله لا يُرى ولكن الإيمان به مبني على صريح الإعلان بالمسيح وبالشهود الذين عيّنهم.

أَنَّ ٱلآبَ قَدْ أَرْسَلَ ٱلابْنَ مُخَلِّصاً لِلْعَالَمِ كما سبق في قوله «وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً» (ص ٢: ٢). وقوله «لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ» (يوحنا ٣: ١٧). وذلك على وفق شهادة السامريين «إِنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا هُوَ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱلْمَسِيحُ مُخَلِّصُ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ٤: ٤٢). وشهادة بولس «قَدْ أَلْقَيْنَا رَجَاءَنَا عَلَى ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ، ٱلَّذِي هُوَ مُخَلِّصُ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ وَلاَ سِيَّمَا ٱلْمُؤْمِنِينَ» (١تيموثاوس ٤: ١٠).

١٥ «مَنِ ٱعْتَرَفَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، فَٱللّٰهُ يَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِي ٱللّٰهِ».

ص ٢: ٢٣ و٥: ٥ و٣: ٢٣ و٤: ٢ و٥: ١ ورومية ١٠: ٩ ص ٢: ٢٤ و٣: ٢٤

مَنِ ٱعْتَرَفَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ أي من قبل الشهادة الرسولية للمسيح حق القبول في قلبه وجاهر بإيمانه به أظهر بذلك أنه مولود من الله لأن «َهٰذِهِ هِيَ وَصِيَّتُهُ: أَنْ نُؤْمِنَ بِٱسْمِ ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ… وَمَنْ يَحْفَظْ وَصَايَاهُ يَثْبُتْ فِيهِ وَهُوَ فِيهِ» (ص ٣: ٢٣ و ٢٤). وهذا على وفق قوله «كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ٱلْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ ٱللّٰهِ» (ع ٢). فاعتراف المؤمن بصدق إعلان الله آية حضور الله فيه وعلى وفق قول بولس «لِذٰلِكَ أُعَرِّفُكُمْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِرُوحِ ٱللّٰهِ يَقُولُ: يَسُوعُ أَنَاثِيمَا. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (١كورنثوس ١٢: ٣).

فَٱللّٰهُ يَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِي ٱللّٰهِ كون الله في المؤمن يهب له قدرة على خدمته على الأرض وكون المؤمن في الله يحقق شركته الكاملة مع الله والسعادة التامة. قال قبلاً إن محبة الله تثبت في المؤمن المخلص (ص ٣: ١٧). وقال في (ع ١٦) إن محبة الله فينا فمن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه. وقال في المؤمن المحب إن الحياة الأبدية ثابتة فيه (ص ٣: ١٥) وقال إن الحياة الأبدية في ابنه (أي ابن الله) (ص ٥: ١١). وقال إن كلمة الله ثابتة في المؤمن (ص ٢: ١٤) «وإن المؤمن يثبت في كلام الله» (يوحنا ٨: ٣١) فكل من الأمور الثلاثة المذكورة يصدق طرداً وعكساً.

قوة المحبة في قلب المؤمن ومعاملته لإخوته ع ١٦ إلى ٢١

١٦ «وَنَحْنُ قَدْ عَرَفْنَا وَصَدَّقْنَا ٱلْمَحَبَّةَ ٱلَّتِي لِلّٰهِ فِينَا. اَللّٰهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي ٱلْمَحَبَّةِ يَثْبُتْ فِي ٱللّٰهِ وَٱللّٰهُ فِيهِ».

يوحنا ٦: ٦٩ ع ٩ ويوحنا ٩: ٣ وع ٧ و٨ و١٢

نَحْنُ أي الذين يقدرون أن يشهدوا من اختبارهم (ع ١٤).

قَدْ عَرَفْنَا وَصَدَّقْنَا إنه لا بدّ من بعض المعرفة قبل الإيمان ولكن الإيمان بالمسيح يقدّر الإنسان للحصول على زيادة المعرفة.

ٱلْمَحَبَّةَ ٱلَّتِي لِلّٰهِ فِينَا إن الله يحب جميع الناس (يوحنا ٣: ١٦) لكن محبته للمؤمنين ذات تأثير عظيم فتظهر فيهم وتؤثر في غيرهم بواسطتهم بدليل قول بولس «حَامِلِينَ فِي ٱلْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً فِي جَسَدِنَا» (٢كورنثوس ٤: ١٠) لأن حياة المسيح فينا هي أفضل إعلانات محبة الله.

اَللّٰهُ مَحَبَّةٌ ذكر الرسول هذا قبلاً باعتبار كون محبة الله للمؤمن علّة ولادته الجديدة وعلّة معرفته (ع ٧ و٨). وذكره هنا باعتبار كونه علّة نمو المؤمن وعمله وبيان أنه يجب أن تكون طبيعة المؤمن موافقة لطبيعة الله وكرّره ليكون موضوعاً جديداً لكلامه.

مَنْ يَثْبُتْ فِي ٱلْمَحَبَّةِ إن حياة المؤمن التي هي حياة إنكار النفس بغية نفع غيره هي حياة الشركة مع الله والتمثل به. لم يذكر الرسول من هو المحبوب لكن لا ريب في أنه هو الله في المسيح لأن هو الوحيد المستحق أسمى المحبة.

يَثْبُتْ فِي ٱللّٰهِ فيكون الله محيطاً به روحياً إحاطة الهواء به جسدياً. وهذا مثل قوله أنه يثبت في محبة المسيح (يوحنا ١٥: ٩) وقوله يثبت في الكلمة (يوحنا ٨: ٣١) وكذلك قيل في المؤمن أنه يثبت في النور (ص ٢: ١٠). وفي غير المؤمن أنه يثبت في الظلمة (يوحنا ١٢: ٤٦) وفي الموت (ص ٣: ١٤). وثبوت الله في المؤمن وثبوت المؤمن في الله يؤكدان له قوته على الخدمة والتعزية في الضيقات. وهذه البركة المزدوجة قيل قبلاً أنها مقترنة بالطاعة (ص ٣: ٢٤) وبالاعتراف بالمسيح (ع ١٥). وهذه المحبة تستلزم الطاعة وهي شرط زيادة المعرفة على وفق قول المسيح «اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ ٱلَّذِي يُحِبُّنِي، وَٱلَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي» (يوحنا ١٤: ٢١).

١٧ «بِهٰذَا تَكَمَّلَتِ ٱلْمَحَبَّةُ فِينَا: أَنْ يَكُونَ لَنَا ثِقَةٌ فِي يَوْمِ ٱلدِّينِ، لأَنَّهُ كَمَا هُوَ فِي هٰذَا ٱلْعَالَمِ هٰكَذَا نَحْنُ أَيْضاً».

ص ٢: ٥ وع ١٢ وص ٢: ٢٨ ومتّى ١٠: ١٥ ص ٢: ٦ و٣: ١ و٧ و١٦ ويوحنا ١٧: ٢٢

بِهٰذَا أي بثبوت الله في المؤمن وثبوت المؤمن في الله.

تَكَمَّلَتِ ٱلْمَحَبَّةُ فِينَا إن المحبة كاملة في الله من قبل ومن بعد. والله يريد أن تكون كاملة في المؤمن أيضاً حتى إذا أحاطت به أشد الأهوال كأهوال يوم الدين لم يخف.

أَنْ يَكُونَ لَنَا ثِقَةٌ فِي يَوْمِ ٱلدِّينِ حين يأتي المسيح ليدين العالم (ص ٢: ٢٨). فذلك اليوم يمتحن إيمان المؤمنين وثقتهم أكثر من كل الأيام فثقتهم يومئذ برهان على أنها تدوم إلى الأبد.

لأَنَّهُ كَمَا هُوَ فِي هٰذَا ٱلْعَالَمِ إيماننا به يستلزم الشركة في طبيعته وهذا يستلزم أن نكون مثله في كل الصفات الممكنة فكلما زادت محبتنا لله ولإخوتنا تغيرنا حتى نكون في شبه الديان وهذا يطرد منا كل الخوف منه. وقال «في هذا العالم» لأنه مسكننا الوقتي والمسيح ترك هذا العالم ولكن تلاميذه بقوا فيه (يوحنا ١٧: ١١) وعليهم عمل يجب أن يعملوه (يوحنا ١٧: ١٨) وفي هذا العمل كان يسوع مثالاً لهم. والتمثل به قانون حياتهم. وهذا التشبيه قائم بكل طبيعتهم لا بصفة واحدة كالإيمان أو المحبة وذلك على وفق صلاته من أجل تلاميذه في (يوحنا ص ١٧).

١٨ «لاَ خَوْفَ فِي ٱلْمَحَبَّةِ، بَلِ ٱلْمَحَبَّةُ ٱلْكَامِلَةُ تَطْرَحُ ٱلْخَوْفَ إِلَى خَارِجٍ لأَنَّ ٱلْخَوْفَ لَهُ عَذَابٌ. وَأَمَّا مَنْ خَافَ فَلَمْ يَتَكَمَّلْ فِي ٱلْمَحَبَّةِ».

رومية ٨: ١٥ وغلاطية ٤: ٣٠

لاَ خَوْفَ فِي ٱلْمَحَبَّةِ ذكره الثقة جعله يذكر ضدها الخوف. والخوف في قلب الإنسان طبعاً والمحبة من شأنها أن تطرده فالمحبة والخوف لا يجتمعان في قلب الإنسان. فعلى قدر ما نحب أحداً ونرغب في خيره نقترب منه ولا يبقى من داع إلى الانفصال عنه والخوف منه. و «الخوف» هنا خوف المذنب من محاكمه أو العبد من سيده (رومية ٨: ١٥) لا هيبة الابن لوالده (عبرانيين ٥: ٧). وثقة المؤمن في يوم الدين ناشئة عن كون المسيح صديقه وعن أنه خلص من الخطيئة التي هي علة خوفه.

بَلِ ٱلْمَحَبَّةُ ٱلْكَامِلَةُ تَطْرَحُ ٱلْخَوْفَ أي متى كملت المحبة تطرح الخ. وهذا يستلزم أنه باق في المؤمن بعض الخوف في أول حياته الروحية مع بداءة المحبة. وهذا ضروري لكي يمتنع عن الخطيئة. ولكن مع نموه في المحبة والقداسة لا يبقى في قلبه شيء من الخوف (أفسس ٣: ٢ و٤: ١٣ وعبرانيين ٥: ١٤ ويعقوب ١: ٤).

لأَنَّ ٱلْخَوْفَ لَهُ عَذَابٌ أي له ألم. وهذا يصدق على كل أنواع الخوف من خوف الفقر والخسارة وانتقام الأعداء والمرض والموت الزمني والموت الأبدي ولا سيما خوف الله لأن قدرته لا تحد. والخوف من الله نتيجة الانفصال عنه بالخطيئة. وقصد الله به الإنذار والتأديب فوجوده يدل على وجود علّة فيجب إزالة العلة لنيل الاطمئنان. فالذي يحب الله لا يخاف الموت فإن علّة الخوف مما بعد الموت زالت. فالذي غُفرت خطاياه لا داعي إلى خوفه من الدينونة. إن الملائكة الذين يحبون الله أبداً لا يخافونه وكذلك المفديون الذين في السماء لارتفاع علّته هنالك وهي الشعور بالخطيئة وتوقع العقاب عليها. وإزالة الخطيئة تستلزم إزالة الخوف إذ حلت محله المحبة والطاعة.

مَنْ خَافَ فَلَمْ يَتَكَمَّلْ فِي ٱلْمَحَبَّةِ أي خوفه يدل على أن المحبة لم تفعل فعلها التام في قلبه. لعل قليلين من المؤمنين حصلوا على قدر عظيم من المحبة حتى أنهم استراحوا من خوف الله قبل أن يدخلوا السماء ويسمعوا منه كلام الترحيب الذي يسكّن كل المخاوف.

١٩ «نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً».

هذه الآية تفسير ثالث للآية الثانية عشرة والتفسير الثاني للآية السابعة عشرة.

نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً أي إن محبته لنا أساس محبتنا له لأنها علّة معرفتنا إياه وإن لنا قوة المحبة لأن محبتنا ليست إلا قبساً من محبة الله كما كانت نار المذبح في الخيمة والهيكل من نار سماوية (لاويين ٩: ٢٤ و٢أيام ٧: ١ – ٣). وهذا بيان أن أصل المحبة من الله وأنها ثابتة (يوحنا ١٥: ١٦) وحب الله للمؤمن قبل حب المؤمن لله أوجب على المؤمن أن يحب غيره قبل أن يحبه غيره ولا يتوقع أن غيره يحبه أولاً (متّى ٥: ٤٤ ورومية ٥: ٨).

٢٠ «إِنْ قَالَ أَحَدٌ: إِنِّي أُحِبُّ ٱللّٰهَ وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ ٱلَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟».

ص ١: ٦ و٨ و١٠ و٢: ٤ ص ٢: ٩ و١١ و٣: ١٧ وع ١٢ ١بطرس ١: ٨

إِنْ قَالَ أَحَدٌ: إِنِّي أُحِبُّ ٱللّٰهَ وَأَبْغَضَ أَخَاهُ هذا قول أحد المعلمين الكاذبين في الدين المسيحي. قال الرسول قبلاً من يبغض أخاه فهو الآن في الظلمة (ص ٢: ٩) وقال إن الذي لا يحب أخاه ليس من الله (ص ٣: ١٠) وجمع القولين هنا إن محبة الله حسب وصيته تستلزم محبة الإخوة فمن ادعى أنه يحب الله ولم يُظهر محبته له بمحبته لإخوته كالذي يدّعي معرفة الله وهو لا يطيعه (ص ٢: ٤).

فَهُوَ كَاذِبٌ بشهادة وجدانه وشهادة الله في كتابه (ص ١: ١٠ و٥: ١٠ ويوحنا ٨: ٤٤ و٥٥).

لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ ٱلَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ الخ النظر يقدّرنا على معرفة حقائق المنظورات لنستحسنها أو نرفضها وأوضح أنه أسهل علينا أن نحب الأخ الذي هو مثلنا لأننا نراه من أن نحب غير المنظور. وتسمية الرسول الذي يجب أن نحبه «أخاً» يدل على أن الله ساكن فيه. إن الله أعلن نفسه في المسيح بواسطة الناس بدليل قول المسيح «بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هٰؤُلاَءِ ٱلأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ» (متّى ٢٥: ٤٠). فالذي لم يبصر الله المعلن في شعبه لا يستطيع أن يحبه لأنه رفض الوسيلة التي عيّنها لتقديره على معرفته وحبه بواسطة صورته التي خلق المؤمنين عليها.

٢١ «وَلَنَا هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ مِنْهُ: أَنَّ مَنْ يُحِبُّ ٱللّٰهَ يُحِبُّ أَخَاهُ أَيْضاً».

متّى ٥: ٤٣ و٢٢: ٣٧ ويوحنا ١٣: ٣٤ ولاويين ١٩: ١٨ ص ٣: ١١

لَنَا هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ المتضمنة في الآية السابقة ولم تُذكر صريحاً ولكنها ذُكرت في (ص ٣: ٢٣).

مِنْهُ أي من الله الآب فإنه ببذله ابنه من أجلنا علّمنا أن نحبه. ذكر في الآية السابقة إن علّة محبة الإخوة «البصر» وذكر هنا علّة أعظم منها وهي «وصية الله»

أَنَّ مَنْ يُحِبُّ ٱللّٰهَ يُحِبُّ أَخَاهُ أَيْضاً إن المسيح أوصى تلاميذه بقوله «وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً» (يوحنا ١٣: ٣٤) لكن أصل الوصية من الله. وتلك الوصية علّة كافية لأن نحب إخوتنا محبة إخلاص. ويوافق ذلك قول المسيح لشاول المضطهد لتلاميذه «شَاوُلُ، شَاوُلُ، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي» (أعمال ٩: ٤). إن المسيح مع كونه في السماء جالساً على يمين الله حاضر على الأرض بتلاميذه بدليل قوله في (متّى ١٠: ٤٠ و١٨: ٥ و٢٥: ٣٥ – ٤٠).

السابق: الأصحاح الثالث
اللاحق: الأصحاح الخامس
زر الذهاب إلى الأعلى