رسالة يوحنا الأولى

رسالة يوحنا الأولى | الأصحاح 2

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح رسالة يوحنا الأولى

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي

علاج الخطيئة وعلامة نجعهِ وكون حفظ الوصايا الإلهية برهاناً على أننا نعرف الله ونسلك في النور (ع ١ – ٦). ووجوب المحبة الأخوية وهي أيضاً علامة السلوك في النور والوصية بهذا من جهة ليست بجديدة ومن جهة أخرى جديدة (ع ٧ – ١١). وأسباب توجيه كلامه إلى صنوف مختلفة من المؤمنين وتوصيته إياهم بأن لا يحبوا العالم (ع ١٢ – ١٧). وعلامة حوادث الأيام الأخيرة عند مجيء ضد المسيح وبيان بعض صفاته الخاصة (ع ١٨ – ٢٦). وحثهم على أن يستمروا أمناء حتى إذا جاء المسيح لا يستحون أمامه (ع ٢٧ – ٢٩).

علاج الخطيئة ع ١ و٢

١ «يَا أَوْلاَدِي، أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هٰذَا لِكَيْ لاَ تُخْطِئُوا. وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ ٱلآبِ، يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ ٱلْبَارُّ».

ع ١٢ و٢٨ وص ٣: ٧ و١٨ و٤: ٤ و٥: ٢١ ويوحنا ١٣: ٣٣ وغلاطية ٤: ١٩ ص ١: ٤ ورومية ٨: ٣٤ و١تيموثاوس ٢: ٥ وعبرانيين ٧: ٢٥ و٩: ٢٤ ويوحنا ١٤: ١٦

يَا أَوْلاَدِي خاطب كل رعيته بهذا الاسم دليلاً على محبته لهم وأنه قد طعن في السن.

أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هٰذَا ما سبق من كلامه في الله وفي حقيقة الخطيئة (ص ١: ٥ – ١٠).

لِكَيْ لاَ تُخْطِئُوا أي لكي تعيشوا عيشة مقدسة وهذا غاية تعليم الإنجيل. فليس فيه إباحة لشيء من الخطايا بتعليمه في شأن مغفرة الخطايا.

إِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ لأن كل الناس عرضة للخطيئة لفساد قلوبهم وتجارب هذه الحياة. وتسليم أن المؤمن يخطأ ليس بعذر له لأن قانون الحياة المسيحية وجوب الخلو من الخطيئة.

فَلَنَا شَفِيعٌ شفيع لكل المؤمنين ليقيهم من الخطيئة ويرفعهم إذا سقطوا. وهو «لنا بمعنى أنه هبة إلهية» (ص ٥: ١٢ و٢يوحنا ٩). و «الشفيع» هنا كالمعزي وهو الذي يقوم بأمر المُشتكى عليه (رؤيا ١٢: ١٠ وزكريا ٣: ١ و١بطرس ٥: ٨). وكان الحبر الأعظم رمزاً إلى المسيح بدخوله قدس الأقداس يوم الكفارة (عبرانيين ٧: ٢٥ و٩: ١١ و٢٤). وفي قوله «لنا شفيع» إن المؤمن طلب شفاعته فأصابها.

عِنْدَ ٱلآبِ حاضر شافع وحق شفاعته مبني على كونه ابن الآب فهو وحده يغفر الخطيئة ونسبته إلى الآب تستلزم لاهوته.

يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ ابن الإنسان وابن الله والاسمان يدلان على ناسوته ولاهوته وهو المخلص الموعود به.

ٱلْبَارُّ فقوة شفاعته مبنية على كونه باراً ولم يقل إن شفاعته مبنية على لاهوته لأنه ابن الله بل على كمال ناسوته. وهذا على وفق قول بطرس «فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ ٱلْخَطَايَا، ٱلْبَارُّ مِنْ أَجْلِ ٱلأَثَمَةِ» (١بطرس ٣: ١٨) فإنه أكمل الناموس فلم يرد أن ينقضه بل أن يقوم بكل مطاليبه. فيطلب المسيح أن يأخذ المؤمن كل ما للمسيح نفسه من الحقوق ولاتحاد المؤمن به. وهكذا الحبر الأعظم قام بكل المطاليب الناموسية رمزاً للمسيح (عبرانيين ٧: ٢٦). ولم يذكر الرسول شيئاً تتبين منه كيفية الشفاعة ويكفي أن نعلم من أمر المسيح في ذلك أنه «حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ» (عبرانيين ٧: ٢٥) فشفاعته في السماء حقيقية كفدائه على الأرض (يوحنا ١٧: ٢٤). وقيمة شفاعته هناك مبنية على ما فعله على الأرض فله قوة مؤثرة غير محدودة. وشفاعة المسيح عند عرش الله ليست شفهية كالشفاعة المعهودة على الأرض فالمراد بها أن المسيح تكفل بكل ما يُطلب من الشفيع الأرضي. وشفاعته على ما فُهم من الكتاب تقوم بثلاثة أمور:

الأول: إنه يسلّم بأننا خطأة ولا يستر خطايانا ولا ينقصها.

الثاني: يعد بأنه لا ينتج ضرر للعالم إذا غُفر لنا وعوملنا كأبرار نظراً لما فعله إكراماً للناموس.

الثالث: إنه يتكفل بأنه إذا غُفر لنا لا نرجع إلى الخطيئة ونعصي الله.

٢ «وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً».

ص ٤: ١٠ ورومية ٣: ٢٥ وعبرانيين ٢: ١٧ ص ٤: ١٤ ويوحنا ٤: ٤٢ و١١: ٥١

وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا ببذل نفسه ذبيحة كفارة بإرادته فبنى شفاعته على ما كان قد صنعه. ولم يقل كان كفارة لخطايانا بل قال هو كذلك وهو يدل على استمرار ذلك ودوامه. ولم يقل أنه مكفر بل أنه «كفارة» لأنه ذبيحة علاوة على كونه كاهناً بدليل قول بولس فيه «ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ» (رومية ٣: ٢٥). فلو كان هو المكفر فقط لكان يمكنه أن يقدم ذبيحة غير نفسه. فإنه هو وحده كفارة كما هو لنا «الطريق والحق والحياة» (يوحنا ١٤: ٦). وهو «ٱلَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ ٱللّٰهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً» (١كورنثوس ١: ٣٠). وهذا موافق لقوله «فِي هٰذَا هِيَ ٱلْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا ٱللّٰهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ٱبْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا» (ص ٤: ١٠). وهذه الكفارة التي بنى عليها شفاعته تقوم بطاعته وموته (رومية ٣: ٢٥ وعبرانيين ٢: ١٧).

لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً لا لخطايا المؤمنين فقط بل لهم بالأحرى ثم لخطايا اليهود والوثنيين. ولا بد من أن غير المؤمنين يستفيدون من تلك الكفارة شيئاً لطول أناة الله عليهم لكي يتوبوا لأنه «حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١: ٢٩). فشفاعته وخلاصه ينفعان نسل آدم كله داخل الكنيسة وخارجها في كل زمان ومكان من آدم إلى آخر مولود من الناس. فالدواء على قدر المرض والكفارة على قدر احتياج الناس إليها. والكفارة توافق كل الخطأة ويحتاج الكل إليها وهي كافية للكل ولا حاجة إلى غيرها وهي شديدة التأثر إذا استعملت (ص ٤: ١٤ ويوحنا ١: ٢٩ و٤: ٤٢ و١كورنثوس ١: ٣٠ و٢كورنثوس ٥: ١٤ و١٨ و٢١ وعبرانيين ٢: ٩ و٩: ٢٨ و١بطرس ٢: ٢٤).

إن الطاعة لله آية السلوك في النور ع ٣ إلى ٨

٣ «وَبِهٰذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا قَدْ عَرَفْنَاهُ: إِنْ حَفِظْنَا وَصَايَاهُ».

ع ٥ وص ٣: ٢٤ و٤: ١٣ و٥: ٢ ع ٤ وص ٣: ٦ و٤: ٧ ص ٣: ٢٣ و٢٤ و٥: ٣ ويوحنا ١٤: ١٥ و١٥: ١٠ ورؤيا ١٢: ١٧ و١٤: ١٢

وَبِهٰذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا قَدْ عَرَفْنَاهُ في هذا بيان نجع العلاج لمرض الخطيئة. بدل هنا الكلام في الشركة مع الله بالكلام في معرفته والإشارة «بهذا» إلى ما يأتي. ومعنى قوله «قد عرفناه» أي عرفناه بالاختبار حق المعرفة فلم نتمسك بخيال. وعرفنا (علاوة عن النجاة من الخطيئة) إننا أصدقاؤه وخاصته وإننا نحيا باتحادنا به.

إِنْ حَفِظْنَا وَصَايَاهُ على وفق قول المسيح «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَٱحْفَظُوا وَصَايَايَ» (يوحنا ١٤: ١٥ انظر أيضاً متّى ١٩: ١٧ و٢٨: ٢٠ ويوحنا ١٤: ٢٣ و٢٤ و١٥: ١٠ و١٤).

٤ «مَنْ قَالَ قَدْ عَرَفْتُهُ وَهُوَ لاَ يَحْفَظُ وَصَايَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ وَلَيْسَ ٱلْحَقُّ فِيهِ».

تيطس ١: ١٦ وص ١: ٦ و٨

مَنْ قَالَ قَدْ عَرَفْتُهُ أي من ادّعى أنه مؤمن به وأنه تلميذه.

وَهُوَ لاَ يَحْفَظُ وَصَايَاهُ كما هي في الإنجيل. لا يمكن أن يكون ضمير الإنسان قانون أعماله فيحتاج معه إلى قانون كامل ومثال صالح تام. وهذا تم لنا بإنجيل ربنا.

فَهُوَ كَاذِبٌ كالذي قال إن «ليس فيه خطيئة» (ص ١: ٨ و١٠). كذلك يكذب الذي يقول أنه يعرف الله بابنه وهو لا يطيعه.

وَلَيْسَ ٱلْحَقُّ فِيهِ ليسوس أفكاره وبصيرته (يوحنا ٨: ٤٤). وخلا من الحق لاستيلاء الكذب على كل طبيعته.

٥ «وَأَمَّا مَنْ حَفِظَ كَلِمَتَهُ، فَحَقّاً فِي هٰذَا قَدْ تَكَمَّلَتْ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ. بِهٰذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا فِيهِ».

يوحنا ١٤: ٢٣ ص ٤: ١٢ ويوحنا ١٥: ٤

وَأَمَّا مَنْ حَفِظَ كَلِمَتَهُ أي من حفظ إعلان مشيئة الله في الإنجيل وذلك إعلان وصاياه (ع ٤). فكل الإنجيل كلمة الله وهو إعلان واحد لا إعلانات مختلفة تختار منها ما تشاء وترذل ما تشاء.

فَحَقّاً فِي هٰذَا قَدْ تَكَمَّلَتْ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ الإشارة «بهذا» إلى من «حفظ كلمته» فلا يكفي أن يعترف بصحة الكلمة لأن ذلك ليس سوى تصور عقلي لكن المحبة تصديق للقول بالفعل وبالمحبة ظهرت القوة الإلهية فيه والمراد «بمحبة الله» محبة الله لنا (١يوحنا ٣: ١). ومحبتنا لله تشبه محبته لنا لأنه هو أصلها وغايتها وهي تنشئ محبتنا للإخوة بدليل قوله «وَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ مَعِيشَةُ ٱلْعَالَمِ، وَنَظَرَ أَخَاهُ مُحْتَاجاً، وَأَغْلَقَ أَحْشَاءَهُ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ فِيهِ» (ص ٣: ١٧). فمحبة الله لنا حين قبلناها صارت ينبوع محبة فينا. وقوله «حقاً» هنا من صفات التكمل إذ تلك المحبة لم تقم بمجرد القول بل قامت بالقول والفعل معاً (ص ٣: ١٨ أنظر أيضاً يوحنا ١: ٤٧ و٨: ٣١) وكمال المحبة تظهر بكمال الطاعة.

بِهٰذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا فِيهِ أي بالطاعة التي هي تحتاج المحبة. وقوله «نعرف الخ» كقوله «نعرف أننا قد عرفناه» (ع ٣). وكقوله «لنا شركة معه» (ص ١: ٦). وقوله «فيه» يشير إلى أننا خلصنا بنعمته وإننا محاطون بمحبته ومرشدون بأفكاره وشركاء طبيعته ومملؤون من روحه القدوس وأن لنا قدوماً إليه بالصلاة وإننا ورثنا ملكوته. فقوله «فيه» يشير إلى شركة المؤمنين مع الله (يوحنا ١٤: ٢٠ و١٧: ٢١ و٢٣). وهذا يشبه الثبوت «فيه» (ع ٢٤ و٢٧ و٢٨). وبكوننا فيه ننال قوة على عمل مشيئة الله المقدسة ووقف النفس له وتحقق الاتحاد به.

٦ «مَنْ قَالَ إِنَّهُ ثَابِتٌ فِيهِ، يَنْبَغِي أَنَّهُ كَمَا سَلَكَ ذَاكَ هٰكَذَا يَسْلُكُ هُوَ أَيْضاً».

يوحنا ١٣: ١٥ و١٥: ١٠ و١بطرس ٢: ٢١

مَنْ قَالَ إِنَّهُ ثَابِتٌ فِيهِ أي لا نفع من القول بلا عمل. والثبوت في المسيح هو الشركة الدائمة معه كالغصن المثمر في شجرته.

يَنْبَغِي أَنَّهُ كَمَا سَلَكَ ذَاكَ هٰكَذَا يَسْلُكُ هُوَ أَيْضاً أي هو مكلف أن يقتدي بالمسيح في سلوكه المقدس ويعيش كما عاش. وهذا مثل قول المسيح «أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً، وَحَسَناً تَقُولُونَ، لأَنِّي أَنَا كَذٰلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا ٱلسَّيِّدُ وَٱلْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ، لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً الخ» (يوحنا ١٣: ١٣ – ١٥). فينتج من كمال المعرفة الثبوت فيه ومن كمال المحبة أن نسلك كما سلك هو. والحياة التي من الله وفي الله يجب أن تظهر فينا تمثُلاً بالمسيح وهو على الأرض فهو كان مثالاً لنا في التواضع والصبر وإنكار النفس (متّى ١١: ٢٩ ويوحنا ١٣: ١٥ ورومية ١٥: ٢ وأفسس ٥: ١ وفيلبي ٢: ٥ وعبرانيين ١٢: ٢ و١بطرس ٢: ٢١). والاقتداء يكون أحياناً بمجرد احتمال المشقات بالصبر كما احتمل المسيح على الصليب كما في الخدمة.

٧ «أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، لَسْتُ أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ وَصِيَّةً جَدِيدَةً، بَلْ وَصِيَّةً قَدِيمَةً كَانَتْ عِنْدَكُمْ مِنَ ٱلْبَدْءِ. ٱلْوَصِيَّةُ ٱلْقَدِيمَةُ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ ٱلَّتِي سَمِعْتُمُوهَا مِنَ ٱلْبَدْءِ».

ص ٣: ٢ و٢١ و٤: ١ و٧ و١١ وعبرانيين ٦: ٩ ص ٣: ١١ و٢٣ و٤: ٢١ و٢يوحنا ٥ و٦ ع ٢٤

أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ لما كان موضوعه المحبة كانت كلماته كلمات المحبة.

لَسْتُ أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ وَصِيَّةً جَدِيدَةً لأن هذه الوصية قديمة كانت منذ ابتداء التبشير بالإنجيل وكانت قانون الحياة المسيحية في أول نشأة الدين المسيحي وهي بيان الاقتداء بالمسيح لأنها حفظ وصاياه (ع ٣) والسلوك كسلوكه (ع ٦). ولم يصرّح هنا بالوصية بل أشار إليها بقوله «ينبغي الخ» (ع ٦) لأن الاقتداء بالمسيح والقيام بوصية المحبة شيء واحد. وقوله «ينبغي» هناك مبني على قوله «فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا ٱلسَّيِّدُ وَٱلْمُعَلِّمُ… يَجِبُ عَلَيْكُمْ الخ» (يوحنا ١٣: ١٤). و «الوصايا» (ع ٣) الكثيرة في هذا الشأن مجموعة في «كلمته» (ع ٥) وفي «الوصية الجديدة» في هذه الآية.

بَلْ وَصِيَّةً قَدِيمَةً كَانَتْ عِنْدَكُمْ مِنَ ٱلْبَدْءِ إنه يمكن أنه أشار «بالبدء» إلى يوم الخليقة وإلى الشريعة التي أُعطيها الإسرائيليون وكانت مكتوبة على قلوب الأمم وضمائرهم. والأرجح أنه أشار به إلى بداءة الكنيسة المسيحية وبداءة إيمانهم بالمسيح كما في (ص ٣: ١١ و٢يوحنا ع ٦).

ٱلْوَصِيَّةُ ٱلْقَدِيمَةُ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ ٱلَّتِي سَمِعْتُمُوهَا مِنَ ٱلْبَدْءِ هذه «الوصية القديمة» التي هي وصية المحبة هي الإنجيل الذي نادى الرسل به وهي كلمة الحياة التي هي دعوة لإظهار المحبة أبداً. واحترس يوحنا أن يماثل المعلمين الكاذبين بمناداته بشيء جديد يختلف عما نادى به المسيح وآمن به المسيحيون الأولون.

٨ «أَيْضاً وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ، مَا هُوَ حَقٌّ فِيهِ وَفِيكُمْ، أَنَّ ٱلظُّلْمَةَ قَدْ مَضَتْ، وَٱلنُّورَ ٱلْحَقِيقِيَّ ٱلآنَ يُضِيءُ».

يوحنا ١٣: ٣٤ وأفسس ٥: ٨ و١تسالونيكي ٥: ٤ ورومية ١٣: ١٢ ويوحنا ١: ٩

أَيْضاً وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ وهي أن يحب بعضهم بعضاً وهي تستحق أن تُنعت «بالقديمة» (ع ٧) وإن تنعت «بالجديدة» لأن المسيح نعتها بذلك (يوحنا ١٣: ٣٤) ولأنه أتى بمحركات جديدة لإطاعتها فقدم مثالاً جديداً بعمله ومواعيد جديدة للذين يحفظونها ويعطي الروح القدس نعمة جديدة للقيام بها (انظر تفسير يوحنا ١٣: ٣٤).

مَا هُوَ حَقٌّ فِيهِ أي في المسيح لا مظهر المحبة التي هي مثل محبة المسيح التي أثبتها بتعليمه وعمله.

وَفِيكُمْ أي ما يجب أن تظهروه في معاملة بعضكم لبعض وفي اختباركم. وقال «فيكم» لأنهم قد تعلموها من الروح القدس بعد موت المسيح وقيامته.

أَنَّ ٱلظُّلْمَةَ قَدْ مَضَتْ أي الجهل والضلال يوم أبغض الناس بعضهم بعضاً فكأنه عند مجيء المسيح رُفع حجاب الظلمة من وجه الأرض ليدخل نور السماء إليها.

وَٱلنُّورَ ٱلْحَقِيقِيَّ ٱلآنَ يُضِيءُ أي نور الإنجيل الذي المحبة أعظم مبادئه. وكان المسيح «نور العالم» (يوحنا ١: ٤ و٥ و٨: ١٢ وإشعياء ٩: ٢). وديانته نور أيضاً. وتعليم العهد القديم صار جديداً لاستنارته بقوة حياة المسيح وتعليمه وعمله على وفق قول بولس «إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ… ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (٢كورنثوس ٥: ١٧). و «النور» الذي كان في العالم قبل الإنجيل كان جزئياً واستعدادياً بالنسبة إلى «النور» الذي أتى به المسيح.

وجوب إظهار المحبة الأخوية ع ٩ إلى ١١

٩ «مَنْ قَالَ إِنَّهُ فِي ٱلنُّورِ وَهُوَ يُبْغِضُ أَخَاهُ، فَهُوَ إِلَى ٱلآنَ فِي ٱلظُّلْمَةِ».

ع ١١ وص ٣: ١٥ و٤: ٢٠ ص ٣: ١٠ و١٦ و٤: ٢٠ وأعمال ١: ١٥

مَنْ قَالَ إِنَّهُ فِي ٱلنُّورِ أي ادعى أنه مسيحي محاط بإخوته المسيحيين وبنور الإنجيل.

وَهُوَ يُبْغِضُ أَخَاهُ أي أحد المؤمنين المتحدين معه بالإيمان المشترك وبالمسيح. ولعل يوحنا أراد بالبغض هنا عدم المحبة وقلّتها حتى يخلو من المواساة فيسمح بأن يحسد أخاه ويظن فيه السوء فينشأ عن ذلك انشقاقات ومخاصمات.

فَهُوَ إِلَى ٱلآنَ فِي ٱلظُّلْمَةِ في حال منافية للحال التي ادعاها بقوله «إنه في النور».

١٠ «مَنْ يُحِبُّ أَخَاهُ يَثْبُتُ فِي ٱلنُّورِ وَلَيْسَ فِيهِ عَثْرَةٌ».

ع ١٠ و١١ ويوحنا ١١: ٩

مَنْ يُحِبُّ أَخَاهُ يَثْبُتُ فِي ٱلنُّورِ لأن محبته خالية من غاية شخصية فيطلب نفع أخيه ويقتدي بالمسيح ذي القدوة العظيمة وذلك ينشأ عن فعل الروح القدس.

وَلَيْسَ فِيهِ عَثْرَةٌ فإن عدم المحبة يعرّض للعثرات ومن تلك العثرات الكبرياء وحب الذات وتخطئة الإنسان غيره والتنديد به.

١١ «وَأَمَّا مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ فِي ٱلظُّلْمَةِ، وَفِي ٱلظُّلْمَةِ يَسْلُكُ، وَلاَ يَعْلَمُ أَيْنَ يَمْضِي، لأَنَّ ٱلظُّلْمَةَ أَعْمَتْ عَيْنَيْهِ».

يوحنا ١٢: ٣٥ ص ١: ٦ و٢كورنثوس ٤: ٤ و٢بطرس ١: ٩

وَأَمَّا مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ أي لا يحبه كنفسه.

فَهُوَ فِي ٱلظُّلْمَةِ كأن الظلمة محيطة به إحاطة السحاب. فحياة المحب حياة نور وسلام وحياة المبغض صدمة وعثرة دائمة.

وَفِي ٱلظُّلْمَةِ يَسْلُكُ وهذا هو الفرق بينه وبين محب أخيه فهو كالفرق بين النور والظلمة والفقير والغني.

وَلاَ يَعْلَمُ أَيْنَ يَمْضِي كالأعمى فلا يرى غاية الحياة الحقيقية. قال الحكيم «أَمَّا طَرِيقُ ٱلأَشْرَارِ فَكَٱلظَّلاَمِ. لاَ يَعْلَمُونَ مَا يَعْثُرُونَ بِهِ» (أمثال ٤: ١٩). وقال المسيح «ٱلَّذِي يَسِيرُ فِي ٱلظَّلاَمِ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ. مَا دَامَ لَكُمُ ٱلنُّورُ آمِنُوا بِٱلنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ ٱلنُّورِ» (يوحنا ١٢: ٣٥ و٣٦).

لأَنَّ ٱلظُّلْمَةَ أَعْمَتْ عَيْنَيْهِ هذا شر حال الإنسان الخالي من المحبة بناء على قول النبي «غَلِّظْ قَلْبَ هٰذَا ٱلشَّعْبِ وَثَقِّلْ أُذُنَيْهِ وَٱطْمُسْ عَيْنَيْهِ، لِئَلاَّ يُبْصِرَ بِعَيْنَيْهِ وَيَسْمَعَ بِأُذُنَيْهِ وَيَفْهَمْ بِقَلْبِهِ، وَيَرْجِعَ فَيُشْفَى» (إشعياء ٦: ١٠ ويوحنا ١٢: ٤٠). وبيان انتقام الله من الذين لا يريدون أن يبصروا (رومية ١١: ١٠ و٢كورنثوس ٤: ٤). وظلمة القلب تمنع من البصر وتعمي البصيرة فعمى القلب اختياري وذنب فضلاً عن كونه مصاباً.

ما يجب أن نعتزله إذا سلكنا في النور ع ١٢ إلى ١٧

١٢ «أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلأَوْلاَدُ لأَنَّهُ قَدْ غُفِرَتْ لَكُمُ ٱلْخَطَايَا مِنْ أَجْلِ ٱسْمِهِ».

ع ١ و١كورنثوس ٦: ١١ وأعمال ١٣: ٣٨

ذكره أحوال الظلمة الأدبية مع محبته لرعيته حملته على أن يحذّرهم من الشيطان والعالم والشهوات الجسدية والأباطيل التي القلب البشري عرضة لها. فأكد لهم أولاً محبته لهم وثقته بهم والأسباب التي حملته على الكتابة إليهم.

أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلأَوْلاَدُ قصد «بالأولاد» هنا كل قراء رسالته كما في الآية الأولى. ودعوته إياهم بذلك علامة المحبة وطعنه في السن. وقوله «أكتب إليكم» للحال وهو ما كان يكتبه من هذه الرسالة.

لأَنَّهُ قَدْ غُفِرَتْ لَكُمُ ٱلْخَطَايَا ذكر هذا بياناً لعلة ارتباطهم به وعلة انجذاب قلبه إلى أن يكتب إليهم وعلة حصولهم على المغفرة كما حصل هو عليها. والمناداة «بمغفرة الخطايا» موضوع الإنجيل لكل الذين يتوبون ويؤمنون (لوقا ٢٤: ٤٧ وأعمال ١٣: ٣٨). وموت المسيح على الصليب علّة المغفرة لخطايا كل من يقبلون المسيح بالإيمان والمحبة والطاعة.

مِنْ أَجْلِ ٱسْمِهِ لم يذكر اسم من قصد ولكن لا ريب في أنه قصد اسم المسيح على وفق قول بطرس في المسيح «لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ ٱلأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِٱسْمِهِ غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا» (أعمال ١٠: ٤٣). ومعنى قوله «من أجل اسمه» غفر لهم إكراماً له بالنظر إلى ما فعله من أجلهم (ص ٣: ٢٣ و٥: ١٣). وكونهم مغفوراً لهم علّة أن يحثهم على أن يعيشوا عيشة مقدسة وأن يعتزلوا كل ما يمنع من السلوك الطاهر.

١٣ «أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلآبَاءُ لأَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلْبَدْءِ. أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلأَحْدَاثُ لأَنَّكُمْ قَدْ غَلَبْتُمُ ٱلشِّرِّيرَ. أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلأَوْلاَدُ لأَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ ٱلآبَ».

ص ١: ١ ص ٤: ٤ و٥: ٤ ورؤيا ٢: ٧ ويوحنا ١٦: ٣٣ ومتّى ٥: ٣٧ وع ١٤ وص ٣: ١٢ و٥: ١٨ ع ٣ ويوحنا ١٤: ٧

أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلآبَاءُ خصّ بالخطاب بعض من غفر لهم ممّن امتازوا بكبر سنهم وباختبارهم.

لأَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلْبَدْءِ اختبارهم وحكمتهم أعدّاهم لأن يدركوا تعليم المسيح وعمله ومثاله والواجبات المبنية على ذلك ولهذا خاطبهم أولاً. والمراد «بالذي من البدء» المسيح كما يدل عليه ما في (يوحنا ١: ١ و٨: ٥٨ و١٧: ٥). وقوله «من اجل اسمه» في الآية السابقة.

أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلأَحْدَاثُ أراد بهم الذين في أشد قوتهم من أبناء عشرين فأكثر إلى أربعين كما في (متّى ١٩: ٢٠ و٢٢ ومرقس ١٤: ٥١ و١٦: ١٥ ولوقا ٧: ١٤ وأعمال ٢: ١٧ و١تيموثاوس ٤: ١٢).

لأَنَّكُمْ قَدْ غَلَبْتُمُ ٱلشِّرِّيرَ أي الشيطان (ص ٣: ١٢ و٥: ١٨ ومتّى ١٣: ١٩ وأفسس ٦: ١٦). فأظهروا قوتهم بانتصارهم على تجارب الشيطان ولذلك اطمأن ووثق بهم وبأنهم يثبتون على مقاومة الضلال حسب وصاياه وأن يحاموا عن الحق فكتب إليهم.

أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلأَوْلاَدُ أراد «بالأولاد» قرّاء رسالته كما في (ع ١ و١٢).

لأَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ ٱلآبَ قال في (ع ١٢) إنه «كتب لهم لأنهم قد غُفرت لهم خطاياهم» وقال هنا أنه «كتب إليهم لأنهم عرفوا الآب». ومعرفتهم الآب كانت جزئية فلا بد من أنهم كانوا يرغبون في أن يعرفوه أكثر من ذلك ولهذا كتب إليهم ولثقته بأنهم يبقون أمناء وطائعين لأبيهم السماوي. ومعرفة الآب تستلزم المحبة والخضوع له والشعور باحتياجهم إلى عنايته.

١٤ «كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلآبَاءُ لأَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلْبَدْءِ. كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلأَحْدَاثُ لأَنَّكُمْ أَقْوِيَاءُ، وَكَلِمَةُ ٱللّٰهِ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ، وَقَدْ غَلَبْتُمُ ٱلشِّرِّيرَ».

ص ١: ١ أفسس ٦: ١٠ ص ١: ١٠ ويوحنا ٥: ٣٨ و٨: ٣٧ ع ١٣

كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلآبَاءُ ذهب بعضهم إلى وجود الفرق بين قوله «كتبت إليكم» وقوله «أكتب إليكم» وإنه أراد بقوله «كتبت» ما كتبه في البشارة بقوله «أكتب» ما كتبه في الرسالة لكن المرجح أنه قصد شيئاً واحداً في كلا القولين واعتبر ما كتبه هنا أحياناً عملاً قد تمّ وأحياناً عملاً لم يتمّ وهو آخذ في إتمامه. وأراد «بالآباء» هنا البالغين وأهل الاختبار من المؤمنين.

لأَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلْبَدْءِ علّة كتابته إليهم كالعلّة المذكورة في (ع ١٣). فاختبارهم دين المسيح مدة طويلة علّة ثباتهم الدائم وإظهارهم زيادة القوة في الاقتداء بالمسيح.

كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلأَحْدَاثُ لأَنَّكُمْ أَقْوِيَاءُ أي قادرون جسداً وإيماناً. ولذلك أنتم مستعدون للخدمة وقادرون أن تجاهدوا جهاد الإيمان الحسن وتحاموا عن الحق تجاه هجمات الأعداء (أفسس ٦: ١٠). وهم كانوا أقوياء بسبب القوة التي أعطاهم إياهم المسيح (ص ٤: ٤) وكانوا أقوياء في الإيمان (عبرانيين ١١: ٣٤).

وَكَلِمَةُ ٱللّٰهِ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ هذا سرّ قوتهم كقول المرنم «بِمَ يُزَكِّي ٱلشَّابُّ طَرِيقَهُ؟ بِحِفْظِهِ إِيَّاهُ حَسَبَ كَلاَمِكَ» (مزمور ١١٩: ٩). إنهم قبلوا كلمة المسيح واقتاتوا بها وبتعليم الروح القدس (ع ٢٤ و٢٧ ويوحنا ١٥: ٧).

وَقَدْ غَلَبْتُمُ ٱلشِّرِّيرَ كما غلبه المسيح بأسلحة الكتاب المقدس (متّى ٦: ١٣ و١٢: ٢٩) وبحملهم ترس الإيمان وسيف الروح الذي هو كلمة الله (أفسس ٦: ١٧).

١٥ «لاَ تُحِبُّوا ٱلْعَالَمَ وَلاَ ٱلأَشْيَاءَ ٱلَّتِي فِي ٱلْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ ٱلْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ ٱلآبِ».

يعقوب ١: ٢٧ و٤: ٤ ورومية ١٢: ٢

لاَ تُحِبُّوا ٱلْعَالَمَ هذا النهي لجميع الذين خاطبهم من الآباء والأولاد وأسباب هذا النهي واجبة على الكل. ومعنى «العالم» في الإنجيل قد يكون المخلوقات بأسرها (أعمال ١٧: ٢١) وقد يكون الأرض (يوحنا ١: ٩) وقد يكون البشر جميعاً والمراد به هنا الناس الذين لا يخضعون لإرادة الله بل يخالفون الله بمقاصدهم وأفكارهم وعاداتهم وليس المراد أن لا نحب العالم المنظور من جباله وسهوله وبحاره وأنهاره إلى غير ذلك مما صرّح الله بأنه حسن عند خلقه إياه. وليس هو كل البشر لأنه قيل «هكذا أحب الله العالم الخ» (يوحنا ٣: ١٦). فهم خليقة الله والله لم يخلق شيئاً شريراً بالذات ولكن العالم صار شريراً بسوء استعمال حريته ولو كان العالم شريراً بالذات لم يقل المسيح «أنا نور العالم» (يوحنا ٨: ١٢).

وَلاَ ٱلأَشْيَاءَ ٱلَّتِي فِي ٱلْعَالَمِ فالذي لا يجوز أن نحبه في العالم هو عصيان الناس لله وطمعهم وكبرياؤهم وبخلهم وحب الذات ونسيان الله وحب الشهوات واللذّات المحظورة وسائر ما هو مخالف لإرادة الله فهو «العالم» الذي قيل في هذه الرسالة أنه «قد وُضع في الشرير» (ص ٥: ١٩). والممنوع هنا إعطاء العالم أقوى محبة القلب وإخضاع العقل والمشيئة له. وعبّر عن ذلك يعقوب بقوله «محبة العالم عداوة لله» (يعقوب ٤: ٤) وعبّر عنه بولس بقوله «يفتكرون في الأرضيات» (فيلبي ٣: ١٩). وأسمى خضوع القلب ما كان لله وحده فلا يجوز أن يكون القلب منقسماً بين حب العالم وحب الله بدليل قول المسيح في (متّى ٦: ٢٤). وخلاصة معنى «الأشياء التي في العالم» كل ما هو مستقل عن الله وتمنع الإنسان عن الله (متّى ١٦: ٢٦ و١كورنثوس ١: ٢٠ وغلاطية ٤: ٣ وكولوسي ٢: ٨).

إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ ٱلْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ ٱلآبِ لأن الذي يحب العالم يشغل العالم مقاصده وغاياته وأشواقه فيحسب الأرضيات أعظم الأنصبة. فمحبة العالم مضادة طبعاً لمحبة الآب وطاردة إياها. فإن شدة محبة الخليقة تمنع من محبة الخالق ومحبة المحدود تمنع من محبة غير المحدود (رومية ١: ٢٥ ويعقوب ٤: ٤). والإنسان ليس له سوى قلب واحد فيستحيل أن يحب المتضادات في وقت واحد. وقال «محبة الآب» ولم يقل محبة الله لأن الله تنازل إلى إعلان أنه موضوع محبة الإنسان بواسطة نسبته إلى المسيح ابنه. وأظهر الله محبته للناس بأنه دعاهم لأن يكونوا أولاده فيرغب في أن يحبوه أباً لهم. فالذي يحب العالم والأشياء التي في العالم لا يشعر باحتياجه إلى العناية الإلهية ولا إلى أبوة الله. إن المسيحي الحقيقي كالسفينة في البحر فكونها في الماء لا يغرّقها إنما الذي يغرّقها دخول الماء فيها كذلك المسيحي لا يضرّه كونه في العالم بل يضرّه كون العالم فيه.

١٦ «لأَنَّ كُلَّ مَا فِي ٱلْعَالَمِ شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ ٱلْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ ٱلْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ ٱلآبِ بَلْ مِنَ ٱلْعَالَمِ».

رومية ١٣: ١٤ وأفسس ٢: ٣ و١بطرس ٢: ١١ وأمثال ٢٧: ٢٠ ويعقوب ٤: ١٦

لأَنَّ هذا تعليل إن محبة العالم منافية لمحبة الآب لأن محبة العالميات تنشأ عن العالم وتنحصر فيه.

كُلَّ مَا فِي ٱلْعَالَمِ حصر كل ما في العالم في ثلاثة أشياء فيجب أن ننتبه أنه لم يقل الجسد والعيون والمعيشة محظورة بل إن المحظور هو «شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ ٱلْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ ٱلْمَعِيشَةِ».

شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ أي ميل الطبيعة غير المتجددة إلى اللذّات والاكتفاء بها بلا نظر إلى شريعة الله في استعمالها. ونُسبت الشهوة إلى الجسد لأنه هو منشئها ومركزها. والعيشة بمقتضى هذه الشهوة منافية للعيشة بمقتضى الأمور الروحية.

شَهْوَةَ ٱلْعُيُونِ أي الميل إلى المرئيات الزمنية بخلاف الميل إلى الأمور غير المنظورة الأبدية. فالخطيئة في ذلك تفضيل المخلوقات على الخالق. فبشهوة العيون سقط داود الملك (٢صموئيل ١١: ٢) وعخان (يشوع ٧: ٢١). والشيطان أرى المسيح كل ممالك العالم ومجدها بغية أن يخدعه ويحمله على السجود له (لوقا ٤: ٥ – ٧). وفي شهوة العين قال المسيح «إِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ» (متّى ٥: ٢٩).

وَتَعَظُّمَ ٱلْمَعِيشَةِ هو افتخار الإنسان بنفسه دون أن يعطي مجداً لله وتمتعه بماله كأنه هو الخير الأعظم والميل إلى الكنوز العالمية الباطلة الزائلة. وبهذه الخطيئة سقط الشيطان من السماء.

لَيْسَ مِنَ ٱلآبِ بَلْ مِنَ ٱلْعَالَمِ (يوحنا ١٥: ١٩ و١٧: ١٤ و١٦ و١٨: ٣٦). فتمتُّع الإنسان بالمخلوقات مستقلة عن الله وقطع النظر عن حق الله يجعلان الناس أشراراً وفجاراً لأنهم يستعملون عطايا الله بلا قانون وبلا شكر للخالق.

١٧ «وَٱلْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا ٱلَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ ٱللّٰهِ فَيَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ».

١كورنثوس ٧: ٣١

ٱلْعَالَمُ يَمْضِي إن العالم علاوة على كون محبته خطيئة لأنها ليست من الآب بل تفصل الإنسان عنه لا يستحق المحبة لأنه زائل وهو العالم المنظور الذي يحجب حضور الله عن قلب الإنسان واعتبره الرسول آخذاً في الزوال لأنه عاش مدة مُلك اثني عشر امبراطوراً وهم أوغسطوس وطيباريوس وكاليغولا وكلوديوس ونيرون وغلبي وأثو وفيتاليوس ويسباسيانس وتيطس ودوميسيانوس ونرفا وكلهم ادّعوا أنهم مخلصو العالم ومحسنون إليه وأكثرهم مات ميتة سوء. فالتمسك بالعالم هو التمسك بما هو خارجي زائل غير حقيقي.

وَشَهْوَتُهُ التي يحثّ العالم الإنسان على تحصيلها. وسماها بولس «الشهوة العالمية» (تيطس ٢: ١٢) وهي كالعالم في كونها باطلة زائلة.

وَأَمَّا ٱلَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ ٱللّٰهِ أي إن المؤمن مع كونه في العالم الزائل المتوقع إهلاكه إذا اجتهد أن يفعل مشيئة الله لم يكن عرضة للزوال معه (يوحنا ٤: ٢٤ و٦: ٣٨ و٧: ١٧) والمراد «بصنع مشيئة الله» استعمال كل القوى العقلية والمشيئة لإتمام إرادة الله المعلنة في الإنجيل.

فَيَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ (يوحنا ٨: ٣٥ و١٠: ٢٨ و٢٩ و١بطرس ١: ٢٥). وليس المعنى أنه لا يموت بل المراد أنه لاتحاده بالله بواسطة الإيمان بنى رجاءه على أساس أبدي كالله نفسه الذي هو يثبت إلى الأبد.

مقاومة الضلال للحق ع ١٨ إلى ٢٩

في هذا الفصل ثلاثة مواضيع:

الأول: أضداد المسيح والتمييز بينهم وبين المسيحيين الحقيقيين (ع ١٨ – ٢١).

الثاني: الحق وقوته (ع ٢٢ – ٢٥).

الثالث: الثبوت في الحق (ع ٢٦ – ٢٩).

أضداد المسيح ع ١٨ إلى ٢١

١٨ «أَيُّهَا ٱلأَوْلاَدُ هِيَ ٱلسَّاعَةُ ٱلأَخِيرَةُ. وَكَمَا سَمِعْتُمْ أَنَّ ضِدَّ ٱلْمَسِيحِ يَأْتِي، قَدْ صَارَ ٱلآنَ أَضْدَادٌ لِلْمَسِيحِ كَثِيرُونَ. مِنْ هُنَا نَعْلَمُ أَنَّهَا ٱلسَّاعَةُ ٱلأَخِيرَةُ».

رومية ١٣: ١١ و١تيموثاوس ٤: ١ و ١بطرس ٤: ٧ ع ٢٢ وص ٤: ٣ و٢يوحنا ٧ ومتّى ٢٤: ٥ و٢٤ ص ٤: ١ و٣ ومرقس ١٣: ٢٢

هِيَ ٱلسَّاعَةُ ٱلأَخِيرَةُ لا ريب في أن يوحنا رأى علامات مجيء ابن الإنسان الذي قال فيه الرب «أَمَّا ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ وَتِلْكَ ٱلسَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ مَلاَئِكَةُ ٱلسَّمَاوَاتِ، إِلاَّ أَبِي وَحْدَهُ» (متّى ٢٤: ٣٦). فإنه رأى قرب أجله وهو آخر شاهد من الاثني عشر رسولاً وبه خُتمت إعلانات الإنجيل وانتهت المعجزات. وفي أيامه نشأت البدع والانشقاقات في الكنيسة وفترت محبة كثيرين وهذا كله كان يدل على أن الساعة هي الساعة الأخيرة أي الوقت الأخير وهو وقت الجهاد والألم والمصائب الذي هو وقت استعداد لوقت الانتصار القريب (٢تيموثاوس ٣: ١ و٢بطرس ٣: ٣ ويهوذا ١٨).

كَمَا سَمِعْتُمْ أَنَّ ضِدَّ ٱلْمَسِيحِ يَأْتِي مما جاء في (متّى ٢٤: ٥ وأعمال ٢٠: ٣ و٢تسالونيكي ٢: ١ – ١٢ ويهوذا ٤). والمراد «بضد المسيح» لا المضاد له فقط بل الذي يحاول أيضاً أن يأخذ محلّه ومقامه لكي يقاومه (٢كورنثوس ١١: ١٣ ورؤيا ٢: ٢) وجعل يوحنا العلامة الدالة عليه إنكاره ناسوت المسيح الحقيقي (ع ٢٢ و٢يوحنا ٧).

صَارَ ٱلآنَ أَضْدَادٌ لِلْمَسِيحِ كَثِيرُونَ ولعل منهم هيمينايس وفيليتس (٢تيموثاوس ٢: ١٧) وديوتريفس (٣يوحنا ٩) وسيمون الساحر (أعمال ٨: ١٨ – ٢٣) والنيقولاويون (رؤيا ٢: ٦).

مِنْ هُنَا نَعْلَمُ أَنَّهَا ٱلسَّاعَةُ ٱلأَخِيرَةُ لأنه قيل في الإنجيل إن ظهورهم مقدمة للأيام الأخيرة (متّى ٢٤: ٥ و٢٤ – ٢٧).

١٩ «مِنَّا خَرَجُوا، لٰكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَّا، لأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا. لٰكِنْ لِيُظْهَرُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَمِيعُهُمْ مِنَّا».

أعمال ٢٠: ٣٠ و١كورنثوس ١١: ١٩

مِنَّا خَرَجُوا كانوا أولاً من أعضاء الكنيسة واشتركوا في كل حقوقها غير ممتازين في الظاهر عن غيرهم من الأعضاء فانفصلوا عنا لأن أصل حياتهم غير أصل حياتنا وهم ليسوا أعضاء حية في جسد المسيح الروحي. ومما كان يقوّي تعليم ضد المسيح أنه كان يتكلم باسم الكنيسة وسلطتها.

لأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا أذن الله أن يدخل هؤلاء الكاذبون بين جماعة المؤمنين ويبقوا معهم مدة ثم يخرجوا ليتبين أنهم لم يكونوا منهم مهما كانت دعواهم حسنة في الظاهر فاعتزالهم المؤمنين برهان على أنهم ليسوا منهم وخسروا بخروجهم كثيراً مما يقوّيهم على إضرار الكنيسة. وتبين من ذلك أيضاً أن ليس كل الذين ارتبطوا بالكنيسة ظاهراً لهم شركة مع المسيح فخروجهم برهان لهم ولغيرهم إن ليست لهم حياة روحية. ومن أمثلتهم من ذُكروا في (متّى ١٣: ٣ – ٧ و٢٤ – ٣٠ و٤٧ – ٥٠ وعبرانيين ٦: ٤ – ٦). والعلامة الحقيقية الوحيدة التي بها يمتاز المؤمن الحقيقي من المؤمن غير الحقيقي هي ثبوته في الحق إلى النهاية والعلّة الوحيدة لثبوت المؤمن هي حفظ الله إياه بنعمته فأمنه متوقّف على الالتجاء إلى الله دائماً.

٢٠ «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَكُمْ مَسْحَةٌ مِنَ ٱلْقُدُّوسِ وَتَعْلَمُونَ كُلَّ شَيْءٍ».

ع ٢٧ و٢كورنثوس ١: ٢١ ومرقس ١: ٢٤ وأعمال ١: ٣٨ وأمثال ٢٨: ٥ ومتّى ١٣: ١١ ويوحنا ١٤: ٢٦ و١كورنثوس ٢: ١٥

وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَكُمْ مَسْحَةٌ مِنَ ٱلْقُدُّوسِ صرّح الرسول بأنه لا يخاف من أن يرتدوا لأنهم ممسوحون من الروح القدس حتى يعرفوا الحق ويتمسكوا به. وتلك المسحة هي موهبة من الروح القدس للكنيسة في يوم الخمسين (ع ٢٧). وكان المسح بالزيت علامة إقامة الملوك والكهنة ووقفهم للخدمة (١صموئيل ١٠: ١ و١٦: ١٣ وخروج ٢٨: ٤١ و٢٩: ٧ و٣٠: ٢٥ و٤٠: ١٥). وكان ذلك الزيت رمزاً إلى نعمة الروح القدس التي جعلتهم أهلاً للقيام بما يجب عليهم في خدمتهم. فوضع الزيت عليهم علامة وقفهم لله. وكانت مسحة الملك علامة أن له قدرة على النيابة عن الله بالحكم والسياسة. ومسحة النبي علامة أن له موهبة المعرفة الروحية. وقيل في المؤمنين إنهم «ملوك وكهنة لله» (رؤيا ١: ٦) وإنهم «كهنوت ملوكي» (١بطرس ٢: ٥ و٩) وإنهم حصلوا على نعمة الروح القدس التي بها استناروا وتقدسوا وصاروا أهلاً للخدمة. ومراده هنا «بالمسحة» إنهم حصلوا على قوة روحية يستطيعون بها أن يعرفوا دين المسيح الحق ويحترسوا من الارتداد. والمراد «بالقدوس» هنا إمّا لله الآب (كما في يوحنا ١٤: ١٦ و١كورنثوس ٦: ١٩) وإما المسيح (كما في يوحنا ٦: ٦٩ وأعمال ٣: ١٤ و٤: ٢٧ و٣٠ ورؤيا ٣: ٧). وذلك لأن المسيح أرسل الروح القدس (يوحنا ١٥: ٢٦ وأعمال ٢: ٣٣) وأما الروح القدس (يوحنا ١٥: ٢٦ و٢كورنثوس ٣: ١٧ و١٨ وأفسس ٣: ١٦ وفيلبي ١: ١٩) والمرجح أن هذا هو المراد إذ قيل فيه «مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ ٱلْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ ٱلْحَقِّ» (يوحنا ١٦: ١٣).

وَتَعْلَمُونَ كُلَّ شَيْءٍ أي كل الأمور الدينية الضرورية للخلاص. فإن الروح لا يعطي قوىً جديدة للعقل وللنفس بتجديد القلب ولا يعلن للعقل تعليماً جديداً ولكنه يقوّيه على إدراك معنى كل إعلان الله في كتابه. وهذه «المسحة» تهب للمؤمن شعوراً جديداً بما كان قد عرفه من الحقائق الدينية فيرى جمالها وموافقتها لحاجته ويتقن صحتها حتى يستعد لأن يموت في سبيلها.

٢١ «لَمْ أَكْتُبْ إِلَيْكُمْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ ٱلْحَقَّ، بَلْ لأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَهُ، وَأَنَّ كُلَّ كَذِبٍ لَيْسَ مِنَ ٱلْحَقِّ».

يعقوب ١: ١٩ و٢بطرس ١: ١٢ ويهوذا ٥ ص ٣: ١٩ ويوحنا ٨: ٤٤ و١٨: ٣٧

لَمْ أَكْتُبْ إِلَيْكُمْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ ٱلْحَقَّ أي لم يقصد أن يعلّمهم تعليماً جديداً بل أن يحثهم على أن يستعملوا ما لهم من العلم نظراً للمسحة التي بها يعرفون الحق فلا يخدعهم التعليم الفاسد ويضلّهم فكأنه قال لهم لا أحسبكم تجهلون حقيقة دين المسيح لأنكم تعلمونه بالمسحة التي مسحتم بها.

وَأَنَّ كُلَّ كَذِبٍ لَيْسَ مِنَ ٱلْحَقِّ لاستحالة موافقة الكذب للحق وهذا يقي المؤمنون من تضليل المعلمين الكاذبين ولا يمكن أن يتلبس الضلال بالحق حتى يظنوه موافقاً للتقوى وسعادة النفس فيعلموا أنه لا يمكن أن يُبنى الحق على الباطل ولا الباطل على الحق.

الحق وقوته ع ٢٢ إلى ٢٥

٢٢ «مَنْ هُوَ ٱلْكَذَّابُ، إِلاَّ ٱلَّذِي يُنْكِرُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ؟ هٰذَا هُوَ ضِدُّ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي يُنْكِرُ ٱلآبَ وَٱلابْنَ».

ص ٤: ٣ و٢يوحنا ٧ ص ٤: ١٥ و٥: ١ و٢يوحنا ٩ ويوحنا ٨: ١٩ و١٦: ٣ و١٧: ٣

مَنْ هُوَ ٱلْكَذَّابُ غاية الرسول من هذا السؤال استحالة تحول الكذب حقاً بالحجج لأن معرفتهم دين المسيح ومسحتهم تقدّرِانهم أن يعرفوا الكذب متى عُرض عليهم. فالكذب من الشيطان (يوحنا ٨: ٤٤) والحق من الله (يوحنا ١٤: ٦) فإذاً يستحيل الوفاق بينهما.

إِلاَّ ٱلَّذِي يُنْكِرُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ لأن هذا الإنكار يتضمّن كل أنواع الضلال في الدين لأن المنكر ينفي أن المسيح ابن الله فلا تكون لذبيحته قيمة ولا تمكن الكفارة بموته ولا علاقة بين الله والإنسان. فضلال الدوسيتيين إن اللاهوت اتحد بالإنسان يسوع عند معموديته وانفصل عنه عند صلبه فهو خلاصة كل بدع ذلك العصر بين اليهود ولا سيما الغنوسيين فإنهم أنكروا أن يسوع الذي أنبأ الإنجيل به هو المسيح ونفوا اتحاد اللاهوت والناسوت في شخص واحد وعلى ذلك لم يصر الكلمة جسداً وبإنكارهم إن يسوع هو المسيح أنكروا كون يسوع هو المسيح الموعود به في الأنبياء وأنه هو الكلمة.

هٰذَا هُوَ ضِدُّ ٱلْمَسِيحِ لأن من صفات ضد المسيح إنكاره ناسوته الحقيقي ولاهوته ويترتب على ذلك أنه ينكر أبوّة الله وبنوّة المسيح التي جعلت التجسد ممكناً.

ٱلَّذِي يُنْكِرُ ٱلآبَ وَٱلابْنَ لأنه «لاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلاَّ ٱلابْنُ وَمَنْ أَرَادَ ٱلابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (متّى ١١: ٢٧). فالدوسيتيّون أنكروا النسبة بين الآب والابن في الثالوث وإنكار أحد الأقانيم يستلزم إنكار الآخرين والإله الذي لا يمكن أن يُعلن وليس له ابن ليس هو إله الكتاب المقدس الذي يمكننا بابنه أن نراه ونسمعه ونؤمن به ونحبه.

٢٣ «كُلُّ مَنْ يُنْكِرُ ٱلابْنَ لَيْسَ لَهُ ٱلآبُ أَيْضاً، وَمَنْ يَعْتَرِفُ بِٱلابْنِ فَلَهُ ٱلآبُ أَيْضاً».

كُلُّ مَنْ يُنْكِرُ ٱلابْنَ لَيْسَ لَهُ ٱلآبُ أَيْضاً أي ليس له آراء مصيبة في شأن الآب لأن الآب لا يُعلن للناس إلا بالابن (متّى ١١: ٢٧ ويوحنا ١٤: ٩ وعبرانيين ١: ٢ و٣). وليس لنا إعلان من الآب إلّا بالابن (يوحنا ٥: ٢٣) لأن الابن هو كلمة الله فالذي ينكر الابن ينكر أيضاً الآب الذي يدّعي أنه يكرمه.

وَمَنْ يَعْتَرِفُ بِٱلابْنِ فَلَهُ ٱلآبُ أَيْضاً لأن التعليم المتعلّق بالابن تتمة التعليم المتعلّق بالآب فمن يعرف الابن معرفة حقيقية ويعترف به قلباً وفماً يظهر أنه يعرف الآب (يوحنا ١٧: ٣ ورومية ١٠: ٩). فمعنى قوله «فله الآب» إنه يشاركه في المحبة. وهذا يحقق لنا قيمة المسحة التي تقيهم من الضلال المهلك.

٢٤ «أَمَّا أَنْتُمْ فَمَا سَمِعْتُمُوهُ مِنَ ٱلْبَدْءِ فَلْيَثْبُتْ إِذاً فِيكُمْ. إِنْ ثَبَتَ فِيكُمْ مَا سَمِعْتُمُوهُ مِنَ ٱلْبَدْءِ، فَأَنْتُمْ أَيْضاً تَثْبُتُونَ فِي ٱلابْنِ وَفِي ٱلآبِ».

ع ٧ ص ١: ١٣ ويوحنا ١٤: ٢٣ و٢يوحنا ٩

أَمَّا أَنْتُمْ غير الضالين والمضلين.

فَمَا سَمِعْتُمُوهُ مِنَ ٱلْبَدْءِ فَلْيَثْبُتْ إِذاً فِيكُمْ لم يكن للرسول وصية أسمى من هذه وهي أن يتمسكوا بالتعليم البسيط في شأن المسيح وهو الذي يسمعوه بالإنجيل فإنهم إذا قبلوا ذلك التعليم في قلوبهم كان له قوة على تجديدهم كل التجديد (يوحنا ٨: ٣١ وكولوسي ٣: ١٦ و٢يوحنا ٢). ومن هذا تتبين ضرورية الآراء الصحيحة في شأن المسيح. والمراد «بالبدء» هنا زمن إيمانهم.

فَأَنْتُمْ أَيْضاً تَثْبُتُونَ فِي ٱلابْنِ وَفِي ٱلآبِ لأنكم تنالون بذلك الشركة مع الله وتتحدون بالآب والابن الأقنومين بالمحبة والرضى.

٢٥ «وَهٰذَا هُوَ ٱلْوَعْدُ ٱلَّذِي وَعَدَنَا هُوَ بِهِ: ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ».

يوحنا ٣: ١٥ و٦: ٤٠ ص ١: ٢

وَهٰذَا هُوَ ٱلْوَعْدُ نيل الحياة الأبدية بالثبوت في الآب والابن (يوحنا ١٧: ٣).

ٱلَّذِي وَعَدَنَا هُوَ بِهِ الخ أي الذي وعدنا به المسيح ربنا لأن غايته أن يحمل الناس على تلك الشركة وتلك الحياة. ولم يعد بهذه الحياة الذين امتازوا بالمقام والنسب والأمّة والشجاعة والعلم والقوة بل الذين يتوبون عن الخطيئة ويؤمنون بالمسيح.

الثبوت في النور والحق ع ٢٧ – ٢٩

٢٦ «كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ هٰذَا عَنِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَكُمْ».

ص ٣: ٧ و٢يوحنا ٧

هٰذَا أي ما يتعلق بتعليم المضلين في الكنيسة على ما سبق (ع ١٨ – ٢٥).

ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَكُمْ أي يجتهدون أن يبعدوكم عن الحق ولكنه لم يبلغوا قصدهم لمسحة الروح (ع ٢٠).

٢٧ «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَٱلْمَسْحَةُ ٱلَّتِي أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ، وَلاَ حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ، بَلْ كَمَا تُعَلِّمُكُمْ هٰذِهِ ٱلْمَسْحَةُ عَيْنُهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهِيَ حَقٌّ وَلَيْسَتْ كَذِباً. كَمَا عَلَّمَتْكُمْ تَثْبُتُونَ فِيهِ».

ع ٢٠ يوحنا ١٤: ١٦ و١٧ و٢٦ و١كورنثوس ٢: ١٢ و١تسالونيكي ٤: ٩

وَأَمَّا أَنْتُمْ غير الضالين والمضلين.

فَٱلْمَسْحَةُ أي «مسحة من القدوس» (ع ٢٠).

ثَابِتَةٌ فِيكُمْ أي دائمة لكم لتعلمكم وتقيكم من الضلال فمواهب الله محققة مأمونة.

وَلاَ حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ شيئاً من جوهريات إيمانكم فإرشاد الله المبني على مسحته يصونكم ويقيكم ويحفظكم في طريق الأمان.

كَمَا تُعَلِّمُكُمْ هٰذِهِ ٱلْمَسْحَةُ عَيْنُهَا لأن الروح القدس أعطاكم إياها على وقفكم نفسكم للمسيح ولدينه.

وَهِيَ حَقٌّ وَلَيْسَتْ كَذِباً أي تعليم المسحة حق من جهة كل ما يتعلق بالمسيح وتجسده لأن الروح القدس هو روح الحق بدليل قول المسيح «وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ ٱلْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ» (يوحنا ١٦: ٨) ولعل المعلمين الكذبة ادّعوا أن تعليمهم حق لا كذب.

كَمَا عَلَّمَتْكُمْ تَثْبُتُونَ فِيهِ أي في المسيح فأول تعليمهم أمور المسيح كآخره.

٢٨ «وَٱلآنَ أَيُّهَا ٱلأَوْلاَدُ، ٱثْبُتُوا فِيهِ، حَتَّى إِذَا أُظْهِرَ يَكُونُ لَنَا ثِقَةٌ، وَلاَ نَخْجَلُ مِنْهُ فِي مَجِيئِهِ».

ص ٣: ٢ و٢١ وكولوسي ٣: ٤ ولوقا ١٧: ٣٠ ص ٤: ١٧ و٥: ١٤ وأفسس ٣: ١٢ ومرقس ٨: ٣٨ و١تسالونيكي ٢: ١٩

ٱثْبُتُوا فِيهِ بلا أدنى تزعزع لأن عطية الله لا تتغير والتعليم المتعلق بالمسيح لا يتغير فمهما عُرض عليكم من التعاليم الباطلة فابقوا راسخين في الإيمان والخدمة حتى يرجع الرب.

حَتَّى إِذَا أُظْهِرَ أمر إظهاره لا ريب فيه ولكن بقاء الذين كُتب إليهم إلى حين إظهاره أحياء غير محقق. وهذا الإظهار يتحققه كل شعبه (ص ٣: ٢ وكولوسي ٣: ٤ و١بطرس ٥: ٤).

يَكُونُ لَنَا ثِقَةٌ ضمّ نفسه إلى أولاده في هذا الرجاء كما في (ع ١). وهذه «الثقة» مبنية على الإيمان بوعده.

وَلاَ نَخْجَلُ مِنْهُ فِي مَجِيئِهِ كما يخجل الذين شكّوا في مجيئه وأنكروه (متّى ٧: ٢١ – ٢٣). وعلّة الخوف هي الوقوف أمامه للدينونة (رومية ١٤: ١٢ و٢كورنثوس ٥: ١٠ و٢تسالونيكي ١: ٩) فإنه وعد الذين يؤمنون حق الإيمان إنهم لا يخجلون (مرقس ٨: ٣٨ ورومية ٥: ٥ و١بطرس ٢: ٦ و٤: ١٦).

٢٩ «إِنْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ بَارٌّ هُوَ، فَٱعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَصْنَعُ ٱلْبِرَّ مَوْلُودٌ مِنْهُ».

ص ٣: ٧ و٩ ويوحنا ٧: ١٨ وص ٤: ٧ و٥: ١ و٤ و١٨ و٣يوحنا ١١ ويوحنا ١: ١٣ و٣: ٢

إِنْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ بَارٌّ أي إن علمتم أن المسيح بار وهو الذي أمرهم أن يثبتوا فيه (ع ٢٨). ودُعي «باراً» في (ع ١ وص ٣: ٧). وهذا العلم نتيجة كونهم مولودين منه لأن يوحنا لا يفكر في المؤمنين بالله إلا باعتبار كونهم متحدين بالمسيح ولا يفكر بالمسيح إلا باعتبار كونه إلهاً.

كُلَّ مَنْ يَصْنَعُ ٱلْبِرَّ مَوْلُودٌ مِنْهُ إن قداسة الحياة برهان الولادة الجديدة والبر نتيجة البنوّة والله في المسيح مصدر القداسة والمحبة علامة تلك البنوّة (ص ٤: ٧) وكذلك الإيمان بأن يسوع هو المسيح (ص ٥: ١). فكل من صنع البر يتقدم رويداً رويداً إلى أن يبلغ كمال صورة الله (ص ٣: ٧). ولكن الكاذبين الظالمين لا يمكن أن يكونوا أولاد الله ولا الذين يرتكبون الإثم عمداً. والمراد «بالمولود من الله» الذي له الله أب ويحيا حياة جديدة إلهية (ص ٣: ٩ و٤: ٧ و٥: ١).

السابق: الأصحاح الأول
اللاحق: الإصحاح الثالث
زر الذهاب إلى الأعلى