كورنثوس الأولى

الرسالة الأولى إلى كورنثوس | 15 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الخامس عشر

قيامة الموتى

(١) إثبات قيامة المسيح (ع ١ – ١١) وما ينتج منها من إمكان قيامة شعب الله ثم القطع بها (ع ١٢ – ٤٣).

(٢) ماهية القيامة ودفع الاعتراضات عليها (ع ٣٥ – ٥٨).

(١) الإثبات ع ١ إلى ٣٤

يظهر أن بعض الناس في كنيسة كورنثوس أنكر القيامة ويتضح ذلك من احتجاج بولس في كل هذا الأصحاح ولا سيما ما قيل في (ع ١٢) ولا نعلم من أين دخل عليهم هذا الضلال. رأى بعضهم أن أصله من متنصري الصدوقيين الذين امتازوا عن سائر اليهود بنفي القيامة (أعمال ٢٣: ٨). ورأى غيره أن أصله الأبيكوريون الذين ذُكر بعض عقائدهم في (ع ٣٢). والأرجح أنه نتج من الفلسفة اليونانية كفلسفة الذين هزئوا ببولس يوم نادى بالقيامة في أثينا (أعمال ص ١٧). واحتجوا على نفيها بأن العالم الآتي ليس سوى عالم أرواح وأن الجسوم المادية لا توافق الموتى فيه. وذهب بعض هؤلاء أن الأجساد مراكز الشر فيستحيل أن الأرواح الطاهرة الممجدة تسكن فيها. ويظهر أن الضالين في كنيسة كورنثوس لم يعتقدوا سوى القيامة الروحية على مذهب هيميناس وفيليتس المذكورين في (٢تيموثاوس ٢: ١١ و١٨).

ذكر بولس الكورنثيين أن القول بالقيامة من عقائد الإنجيل الجوهرية التي نادى بها بينهم والتي يتوقف خلاصهم عليها (ع ١ – ٣) وأثبت أن المسيح قام من الموت في اليوم الثالث بخمسة أدلة:

  1. ظهوره بعد قيامته لبطرس أولاً ثم للانثي عشر.
  2. ظهوره لأكثر من خمس مئة أخ في وقت واحد لم يزل أكثرهم أحياء.
  3. ظهوره ليعقوب خاصة.
  4. ظهوره لكل الرسل.
  5. ظهوره له.

    وأثبت عقيدة القيامة بكونها من عقائد تعليم الرسل كلهم وإيمان المسيحيين كلهم (ع ١١). وأنه لا يمكن الإنسان أن يكون مسيحياً وينفي القيامة لأن الذي ينكرها ينكر قيامة المسيح ومن أنكر هذه أبطل الإنجيل (ع ١٢ – ١٤) وجعل الرسل شهود زور (ع ١٥). وآمالنا وآمال سائر المسيحيين باطلة فإن قيامة المسيح ضمانة قيامة شعبه لأنه عربونها فكما كان آدم علة الموت كان يسوع المسيح علة الحياة (ع ٢٠ – ٢٢). وقيامة المسيح مع أنها تكفلت بقيامة شعبه لم تتكفل أن يكون وقت قيامتهم وقت قيامته لأنه هو قام أولاً ولكن شعبه لا يقوم إلا عند مجيئه ثانية وعند ذلك تكون النهاية وبعد خضوع أعدائه كلهم له يسلم الملك للآب الذي تسلمه باعتبار كونه وسيطاً (ع ٢٣ و٢٤) وأنه لاق أن تدوم رئاسته للكون حتى يبيد الخطيئة وحينئذ الابن باعتبار أنه الإله الواحد المثلث الأقانيم (ع ٢٥ – ٢٨). وأثبت القيامة بدليلين فوق الأدلة المذكورة الأول المعمودية لأجل الموتى (الجارية في كورنثوس) والثاني علاقة هذه العقيدة بعقيدة كمال سعادة النفس الأبدية فنفي القيامة يستلزم نفي ذلك الكمال. فكان يحق للمسيحيين أن يقولوا «فلنأكل ولنشرب لأننا غداً نموت» (ع ٣٠ – ٣٢). وختم كلامه على هذا الجزء من موضوع بإنذاره إياهم من مخالطة الضالين المفسدين خيفة من ضرر نفوسهم الناتج عنها (ع ٣٣ و٣٤).

١، ٢ «١ وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ بِٱلإِنْجِيلِ ٱلَّذِي بَشَّرْتُكُمْ بِهِ، وَقَبِلْتُمُوهُ، وَتَقُومُونَ فِيهِ، ٢ وَبِهِ أَيْضاً تَخْلُصُونَ، إِنْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّ كَلاَمٍ بَشَّرْتُكُمْ بِهِ. إِلاَّ إِذَا كُنْتُمْ قَدْ آمَنْتُمْ عَبَثاً!».

غلاطية ١: ١١ رومية ٥: ٢ رومية ١: ١٦ وص ١: ٢١ غلاطية ٣: ٤

أُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ كأنكم لم تسمعوا قبلاً (ص ١٢: ٣ و٢كورنثوس ٨: ١). ولا يخلو كلامه من التعجب واللوم على أنهم ألجأوه إليه مع أنهم مسيحيون بمقتضى إقرارهم كما يُستدل من دعوته إياهم «إخوة».

بِٱلإِنْجِيلِ يُراد بالإنجيل أحياناً العهد الجديد كله وأحياناً بعض عقائده الجوهرية والمراد به هنا تعليم القيامة وما يتعلق بها وتسميتها «بالإنجيل» دليل على سموها وأهميتها لا كشيء اعتقاده وعدم اعتقاده سواء لعدم تأثيره بالنظر إلى الخلاص. وذكر من أمر هذا الإنجيل أربعة أمور:

  1. إنه نادى به.
  2. إنهم سلموا بصحته.
  3. إنهم اعترفوا به ولا يزالون يعترفون (فإذاً لم ينكر كلهم القيامة بل قوم من هم ع ١٢).
  4. إنه من التعاليم التي الإيمان بها يؤكد خلاصهم بشرط أن لا يزالوا متمسكين به.

بَشَّرْتُكُمْ بِهِ حين ذهب إلى كورنثوس منذ نحو ست سنين قبل أن كتب هذه الرسالة وأسس فيها الكنيسة المسيحية بتعليمه. إنه تقضى عليه فيها يومئذ سنة وستة أشهر (أعمال ١٨: ١ – ١١) فذكرهم أن ذلك الإنجيل من أول تبشيره لهم.

وَقَبِلْتُمُوهُ هذا يشير إلى أنهم صدقوه تصديقاً قلبياً.

وَتَقُومُونَ فِيهِ أي ويتمسك أكثركم به. أو أن كنيستكم بُنيت على هذا الأساس فتبقى قائمة ما دامت مستقرة عليه. وكذا يبقى رجاؤكم وتقواكم وبدونه لا يثبت شيء من دينكم.

وَبِهِ أَيْضاً تَخْلُصُونَ لأنه يتعلق به الإيمان بأن «يسوع مات من أجل خطايانا وقام لأجل تبريرنا» (رومية ٤: ٢٥). فكل رجاء المسيحيين الخلاص مبنيٌ على صدق هذا الإنجيل.

إِنْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّ كَلاَمٍ بَشَّرْتُكُمْ بِهِ وتثبتون عليه. أن تذكر الإنجيل عقلاً لا يكفي أن يخلص دون التمسك به قلباً مهماً حاول المضلون نزع الإيمان منهم.

إِلاَّ إِذَا كُنْتُمْ قَدْ آمَنْتُمْ عَبَثاً هذا متعلق بقوله وبه تخلصون. يقول أن الإيمان يخلصهم إلا على فرض المستحيل وهو أن لا قيامة كما ذهب إليه بعض الضالين في كورنثوس. ولو صحّ ذلك الفرض كان إيمانهم عبثاً لا محالة لزوال الأساس الذي بُني هو عليه (ع ١٤).

٣ «فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي ٱلأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضاً: أَنَّ ٱلْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ ٱلْكُتُبِ».

ص ١١: ٢ و٢٣ غلاطية ١: ١٢ مزمور ٢٢: ١٥ الخ وإشعياء ٥٣: ٥ الخ ودانيال ٩: ٢٩ وزكريا ٢٣: ٧ ولوقا ٢٤: ٢٦ و٤٦ وأعمال ٣: ١٨ و٢٦: ٢٣ و١بطرس ١: ١١ و٢: ٢٤

فَإِنَّنِي الفاء هنا سببية وما بعدها إلى (ع ٨) بيان ما بشرهم به سابقاً.

سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي ٱلأَوَّلِ قال هنا في شأن قيامة المسيح ما قاله في شأن العشاء الرباني وهو أنها مما أعلنه الرب يسوع له (ص ١١: ٢٣) وذلك كقوله في تعليمه «لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية ١: ١٢) ولهذا استطاع أن يتكلم بكل يقين أن كل ما يقوله له حق ليس فيه أدنى ريب. ولا ريب في أن بولس سمع قبل إيمانه أن المسيح مات وأن تلاميذه ادّعوا أنه قام من الموت لكنه لم يصدق ادعاءهم حتى ظهر له الرب وكلمه. وأراد «بالأول» أهم الأمور التي بشرهم بها لا أول المناداة بموت المسيح وقيامته.

مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا أي كفّر عنا خطايانا بموته (رومية ٣: ٢٣ – ٢٦ و٥: ٨ وغلاطية ١: ٤ و١بطرس ٢: ٢٤ و١يوحنا ٣: ٥). فقيامة المسيح برهان على أنه لم يمت من أجل خطايا نفسه بل من أجل خطايا غيره وأن الله قبل موته فداء عنها بدليل قوله «أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا» (رومية ٤: ٢٥). فكان ذلك جزءاً من إعلان المسيح لبولس لا شيئاً استنجته باستدلاله.

حَسَبَ ٱلْكُتُبِ أي نبوءات العهد القديم ففيها تصريح بموت المسيح كفارة عن الخطيئة. وقد وبخ المسيح تلاميذه لأنهم لم يؤمنوا بما قال الأنبياء في ذلك (لوقا ٢٤: ٢٥ و٢٦). وقال بولس أمام أرغيباس «أَنَا لاَ أَقُولُ شَيْئاً غَيْرَ مَا تَكَلَّمَ ٱلأَنْبِيَاءُ وَمُوسَى أَنَّهُ عَتِيدٌ أَنْ يَكُونَ: إِنْ يُؤَلَّمِ ٱلْمَسِيحُ» (أعمال ٢٦: ٢٢ و٢٣)، خلاصة الرسالة إلى العبرانيين أن كل ما كان في النظام اليهودي من الرسوم كان إشارة إلى عمل المسيح. وأبان إشعياء في ص ٥٣ من نبوءته الحقائق التي تمت بموت المسيح. وذكرتها البشائر وأبانتها أحسن إبانة (متى ٢٦: ٥٤ ولوقا ٢٤: ٢٧).

٤ «وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ حَسَبَ ٱلْكُتُبِ».

مزمور ٢: ٧ و١٦: ١٠ وإشعياء ٥٣: ١٠ وهوشع ٦: ٢ ولوقا ٢٤: ٢٦ و٤٦ وأعمال ٢: ٢٥ – ٣١ و١٣: ٣٣ – ٣٥ و٢٦: ٢٢ و٢٣ و١بطرس ١: ١١

في هذه الآية أمران الأول حقيقة دفنه وقيامته والثاني الإنباء بهما قبل حدوثهما.

أَنَّهُ دُفِنَ هذا ثبت بالمشاهدة والشهادة الكافية (يوحنا ١٩: ٤٠) وأعلنه الرب لبولس. وذكر دفنه هنا تأكيد لموته ودفعاً لتوهم أنه غيبة أو إغماء طويل.

وَأَنَّهُ قَامَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ كما بيّن في (ع ٥ – ٨ انظر تفسير متى ٢٨: ١٧).

حَسَبَ ٱلْكُتُبِ أي كتب العهد القديم فإنها أنبأت بالأمرين دفنه وقيامته كما يتبيّن من (يوحنا ٢٠: ٩ وأعمال ٢٦: ٢٣) فارجع إلى تفسيرهما. والذي استند الرسل عليه أكثر مما استندوا على سواه من الأنباء بقيامة المسيح ما في (مزمور ١٦: ١٠). فإن بطرس صرّح أن هذا الإنباء لا يصدق إلا على المسيح لأن جسد داود رأى فساداً وأما جسد المسيح فلم ير فساداً (أعمال ٢: ٢٩ – ٣١) ومثله قول بولس في (أعمال ١٣: ٣٢ – ٣٧). وأنباء آلام المسيح وموته كثيرة في أسفار العهد القديم وكذلك أنباء ملكه العام الدائم وذلك يستلزم كل الاستلزام أن المسيح يقوم بعد موته.

٥ «وَأَنَّهُ ظَهَرَ لِصَفَا ثُمَّ لِلٱثْنَيْ عَشَرَ».

لوقا ٢٤: ٣٤ متى ٢٨: ١٧ ومرقس ١٦: ١٤ ولوقا ٣٤: ٣٦ ويوحنا ٢٠: ١٩ و٢٦ وأعمال ١٠: ٤١

لم يذكر بولس كل مرار ظهور المسيح بعد قيامته بل ذكر بعضها بالاختصار على ترتيب حدوثها وأول ما ذكر ظهوره لبطرس (لوقا ٢٤: ٣٤). والثاني ظهوره للأحد عشر والذين معهم في اليوم الذي ظهر فيه لبطرس (لوقا ٢٤: ٣٣ و٣٦ – ٤٠ ويوحنا ٢٠: ١٩).

لِلٱثْنَيْ عَشَرَ صار هذا اسماً لجماعة الرسل باعتبار العدد الأصلي ثم أُطلق عليهم بقطع النظر عنه. فإنهم لم يكونوا يوم هذا الظهور سوى عشرة لأن يهوذا كان قد هلك وتوما لم يكن معهم.

٦ «وَبَعْدَ ذٰلِكَ ظَهَرَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ، أَكْثَرُهُمْ بَاقٍ إِلَى ٱلآنَ. وَلٰكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا».

ظَهَرَ… لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ لم يُشر في البشائر إشارة واضحة إلى هذا الظهور فالأرجح أنه كان يوم ظهر للتلاميذ في الجليل كقوله لهم قبل موته «وَلٰكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ» (متّى ٢٦: ٣٢). وقوله للمرأتين في صباح قيامته «اِذْهَبَا قُولاَ لإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى ٱلْجَلِيلِ، وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي» (متّى ٢٨: ١٠). وقول متّى «أَمَّا ٱلأَحَدَ عَشَرَ تِلْمِيذاً فَٱنْطَلَقُوا إِلَى ٱلْجَلِيلِ إِلَى ٱلْجَبَلِ، حَيْثُ أَمَرَهُمْ يَسُوعُ» (متّى ٢٨: ١٦). (انظر التفسير). وكان هذا الاجتماع بمقتضى الرسم والتعيين فلا ريب في أن نبأه شاع بين المؤمنين ومع أن جل القصد منه كان اجتماع الأحد عشر يتوقع أن يحضره كثيرون من أورشليم وما حولها ومن الجليل. ومَن من أتباع المسيح لا يرغب في الحضور حينئذ. وكثرة عدد الشهود تزيد الثقة بشهادتهم وتدفع إمكان انخداعهم.

أَكْثَرُهُمْ بَاقٍ إِلَى ٱلآنَ هذا يزيد قيمة الشهادة فإن أكثر أولئك الشهود لم يزالوا أحياء بعد ما بين خمس وعشرين سنة وثلاثين سنة من اجتماعهم معه فيمكن من يشك أن يواجههم ويسألهم.

بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا عبّر عن موت المسيحيين بالنوم دلالة على أن أجسادهم مستريحة في قبورها ومنتظر قيامها في صباح اليوم العظيم وأن نفوسهم مستريحة مع المسيح في السماء.

٧ «وَبَعْدَ ذٰلِكَ ظَهَرَ لِيَعْقُوبَ، ثُمَّ لِلرُّسُلِ أَجْمَعِينَ».

لوقا ٢٤: ٥٠ وأعمال ١: ٣ و٤

ثُمَّ لِلرُّسُلِ أَجْمَعِينَ هذا الظهور إما المذكور في (يوحنا ٢٠: ٢٦) أو المذكور في (أعمال ١: ٤).

٨ «وَآخِرَ ٱلْكُلِّ كَأَنَّهُ لِلسِّقْطِ ظَهَرَ لِي أَنَا».

أعمال ٩: ٤ و١٧ و٢٢: ١٤ و١٨ وص ٩: ١

وَآخِرَ ٱلْكُلِّ أي بعد سبع سنين أو ثمانٍ من صعوده وكان بولس يومئذ ذاهباً إلى دمشق (أعمال ٩: ٣ و٤).

كَأَنَّهُ لِلسِّقْطِ أي لطرحٍ. شبه نفسه بذلك لشعوره بعدم استحقاقه النعمة التي أظهرها المسيح له.

٩ «لأَنِّي أَصْغَرُ ٱلرُّسُلِ، أَنَا ٱلَّذِي لَسْتُ أَهْلاً لأَنْ أُدْعَى رَسُولاً، لأَنِّي ٱضْطَهَدْتُ كَنِيسَةَ ٱللّٰهِ».

أفسس ٣: ٨ أعمال ٨: ٣ و٩: ١ وغلاطية ١: ١٣ وفيلبي ٣: ٦ و١تيموثاوس ١: ١٣

لأَنِّي أَصْغَرُ ٱلرُّسُلِ… لَسْتُ أَهْلاً لأَنْ أُدْعَى رَسُولاً قال ذلك لفرط تواضعه وشدة أسفه على ما سبق منه قبل إيمانه. وهذا التواضع لم يمنعه من المواظبة على التصريح بسلطانه الرسولي وما يحق له من الاحترام والطاعة حين الاقتضاء ليجعل الناس يعتبرون تعليمه لأجل مجد المسيح وإثبات الحقائق التي نادى بها. وبمقتضى ذلك قال «حْسِبُ أَنِّي لَمْ أَنْقُصْ شَيْئاً عَنْ فَائِقِي ٱلرُّسُلِ» (٢كورنثوس ١١: ٥ و١٢: ١١). وعدل نفسه بيعقوب وبطرس ويوحنا (غلاطية ٢: ٦ – ٩).

لأَنِّي ٱضْطَهَدْتُ كَنِيسَةَ ٱللّٰهِ لم يغفر بولس لنفسه هذه الخطيئة وذكرها بغاية الأسف (١تيموثاوس ١: ١٣ – ١٥). فنيل مغفرة الخطيئة لا يزيل ذكرها من قلب مرتكبها ولا شعوره بعدم استحقاقه من أجلها.

١٠ «وَلٰكِنْ بِنِعْمَةِ ٱللّٰهِ أَنَا مَا أَنَا، وَنِعْمَتُهُ ٱلْمُعْطَاةُ لِي لَمْ تَكُنْ بَاطِلَةً، بَلْ أَنَا تَعِبْتُ أَكْثَرَ مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ. وَلٰكِنْ لاَ أَنَا، بَلْ نِعْمَةُ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي مَعِي».

أفسس ٢: ٧ و٨ و٢كورنثوس ١١: ٢٣ و١٢: ١١ متّى ١٠: ٢٠ ورومية ١٥: ١٨ و١٩ و٢كورنثوس ٣: ٥ وغلاطية ٢: ٨ وأفسس ٣: ٧ وفيلبي ٢: ١٣

وَلٰكِنْ بِنِعْمَةِ ٱللّٰهِ ولا سيما تأثير الروح القدس في قلبه وإنارته وتجديده وتقديسه.

أَنَا مَا أَنَا أي في الحال التي أنا عليها الآن باعتبار أني مؤمن ورسول ولولا نعمة الله لم أزل مجدفاً ومضطهداً ومفترياً.

وَنِعْمَتُهُ… لَمْ تَكُنْ بَاطِلَةً أي لم تكن بلا تأثير (٢كورنثوس ٦: ١).

تَعِبْتُ أَكْثَرَ مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ أي أكثر مما تعبوا معاً. ومن قرأ أعمال الرسل رأى صدق هذا القول وتحققه من سعة الدائرة التي تعب فيها وعظمة النتائج من تعبه في تشييد الكنائس وهدم الأباطيل اليهودية والوثنية ومن وفرة الرسائل التي كتبها وسمو تعاليمها.

وَلٰكِنْ لاَ أَنَا الخ قال ذلك إشارة إلى أنه لا يفتخر بكثرة أتعابه ولا يطلب أن يمدح نفسه على ما فعله لأن هذا كله كان بنعمة الله.

١١ «فَسَوَاءٌ أَنَا أَمْ أُولَئِكَ، هٰكَذَا نَكْرِزُ وَهٰكَذَا آمَنْتُمْ».

هذه الآية متعلقة بالآية الثامنة (وع ٩ و١٠ كلام معترض) ومعناه أن المسيح ظهر للرسل وظهر لي أيضاً فأي واحد منا بشّر كان تبشيره كتبشير سائرنا وهو الأنباء بقيامة المسيح وأنتم كلكم آمنتم بمقتضى ذلك التبشير. وأبان بهذا أن تعليم قيامة المسيح من التعاليم الأساسية في كل مناداة الرسل والمبشرين وإيمان كل المسيحيين. وقال ذلك ليثبت إيمان المؤمنين بقيامة المسيح ويدفع قول الكذبة بأن لا أدلة كافية على صحتها.

١٢ «وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ ٱلْمَسِيحُ يُكْرَزُ بِهِ أَنَّهُ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، فَكَيْفَ يَقُولُ قَوْمٌ بَيْنَكُمْ إِنْ لَيْسَ قِيَامَةُ أَمْوَاتٍ؟».

في هذه الآية والتي تليها بيان أن التسليم بقيامة المسيح يستلزم التسليم بإمكان القيامة العامة لأن ما يحدث مرة يمكن أن يحدث مراراً وكل الاعتراضات على القيامة العامة يعترض بها على قيامة المسيح.

إِنْ يُكْرَزُ بِهِ أَنَّهُ قَامَ كما تبين في (ع ٤ و١١) فالشرط هنا يفيد التعليل لوقوع فعله فكأنه قال لأنه يكرز الخ.

فَكَيْفَ يَقُولُ قَوْمٌ بَيْنَكُمْ إِنْ لَيْسَ قِيَامَةُ الاستفهام هنا للتنبيه على أن قولهم ينفي القيامة العامة بعدما سمعوا الكرازة التي أثبتت قيامة المسيح ببراهين قاطعة وآمنوا بها مضاد للعقل السليم ولاعترافهم. وقوله «قوم بينكم» يشير إلى أن المعترضين مسيحيون لكن لم يعلم من هم والأرجح أنهم من متنصري الأمم الذين اتبعوا آراء الفلاسفة اليونانيين في حال النفس بعد الموت فقالوا إما أن المعاد الجسماني محال وإما أن إرجاع النفس إلى سجن الجسد بعدما أُطلقت منه إذلالٌ لها (انظر مقدمة هذا الأصحاح وتفسير أعمال ١٧: ٣٢).

١٣ «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قِيَامَةُ أَمْوَاتٍ فَلاَ يَكُونُ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ!».

١تسالونيكي ٤: ١٤

الذي يُثبت قيامة المسيح يُثبت إمكان القيامة العامة فكل ما يُعترض به على القيامة العامة يُعترض به على قيامة المسيح لأنه مات كسائر الناس ودُفن وكان تحت سلطة الموت إلى اليوم الثالث فكل ما أصاب سائر الموتى أصابه لأنه كان إنساناً حقاً كما كان إلهاً حقاً فإن استحالت قيامة البشر استحالت قيامته.

١٤ «وَإِنْ لَمْ يَكُنِ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ».

أثبت الرسول في هذه الآية والثلاث بعدها القول بقيامة المسيح بأن نفيها يستلزم التسليم بأربع نتائج مستحيلة وجاء هنا بالنتيجة الأولى وهي أن دين المسيح كله يبطل ببطلان ذلك القول فإن المسيح جعل قيامته دليلاً على صحة دعواه أنه ابن الله ومخلص العالم وأن الله سرّ به وقبل موته فداء عن كل شعبه (متّى ١٦: ٢١ و٢٠: ١٩ ولوقا ٩: ٢٢) وهذا على وفق قول الرسول «تَعَيَّنَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ ٱلْقَدَاسَةِ، بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (رومية ١: ٤). ورأى الرسل إن أهم عمل الرسول أن يشهد بقيامة المسيح (أعمال ١: ٢٢).

فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا أي ليست حقاً ولا أساس لها فإن الرسل كرزوا بأن المسيح قام وأنه الآن حي وأثبتوا قدرته على الخلاص بقيامته وهذا كله عبث إن كان المسيح لم يزل في قبره لأن الميت لا يستطيع أن يخلص الأحياء.

وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ لأنكم آمنتم بأن المسيح قام ووطدتم إيمانكم بأنه ابن الله على قيامته وعلى أنه الآن جالس عن يمين الله في السماء يشفع فينا فإن كان لم يقم كان أساس إيمانكم الكذب والوهم ولا فائدة من مثل هذا الإيمان.

١٥ «وَنُوجَدُ نَحْنُ أَيْضاً شُهُودَ زُورٍ لِلّٰهِ، لأَنَّنَا شَهِدْنَا مِنْ جِهَةِ ٱللّٰهِ أَنَّهُ أَقَامَ ٱلْمَسِيحَ وَهُوَ لَمْ يُقِمْهُ إِنْ كَانَ ٱلْمَوْتٰى لاَ يَقُومُونَ».

أعمال ٢: ٢٤ و٢٢ و٤: ١٠ و٣٣ و١٣: ٣٠

هذه النتيجة الثانية التي يستلزمها نفي قيامة المسيح وهي أن الرسل شهود كذبة شهدوا بأنهم رأوا المسيح بعد قيامته وأنهم لمسوه وتحققوا أنه لحم وعظام وأنه أراهم آثار جراحه في يديه ورجليه وجنبه وأنهم عرفوا أنه معلمهم وربهم.

نُوجَدُ… شُهُودَ زُورٍ أي ثبت أننا خادعون ويكشف خداعنا وأننا مضلون لا ضالون. فلو ثبت أن شهادتنا زور لكان ذلك خسران لنا لأننا من أجلها خسرنا صيتنا وراحتنا وحياتنا.

لِلّٰهِ الإله الحق الذي «به توزن الأعمال» فالشهادة الكاذبة لله شر من الشهادة الكاذبة لغيره فيكون الرسل على فرض بطلان قيامة المسيح شر الشهود الكذبة.

لأَنَّنَا هذا تعليل لكونهم شهود زور لله على الفرض السابق.

شَهِدْنَا مِنْ جِهَةِ ٱللّٰهِ أَنَّهُ أَقَامَ ٱلْمَسِيحَ أي شهدنا أنه فعل ما لم يفعل. وبذلك جعل بولس نفسه من جملة الكاذبين.

إِنْ كَانَ ٱلْمَوْتٰى لاَ يَقُومُونَ لأنهم يكونون على هذا الفرض قد شهدوا بما لم يحدث ويستحيل أن يحدث لأنه إذا استحالت قيامة الموتى استحالت قيامة المسيح كما قال في (ع ١٣).

١٦ «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ ٱلْمَوْتٰى لاَ يَقُومُونَ فَلاَ يَكُونُ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ».

هذا مكرر ما في (ع ١٣) بياناً لشدة العلاقة بين القيامة العامة وقيامة المسيح فاستحالة الأولى تستلزم استحالة الثانية وتمهيداً لما في الآية التالية.

فَلاَ يَكُونُ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ وهذا يستلزم أنه ليس ابن الله بل إنه كسائر ضعفاء البشر في كونهم تحت سلطان الموت وأنه ليس هو «الشاهد الأمين الصادق» لأنه على ذلك الفرض لم يتمم قوله في شأن قيامته فلم تبق علة للثقة بغيره من أقواله.

١٧ «وَإِنْ لَمْ يَكُنِ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ. أَنْتُمْ بَعْدُ فِي خَطَايَاكُمْ!».

هذه النتيجة الثالثة من فرض بطلان قيامة المسيح.

فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ بالنظر إلى النتيجة التي توقعتموها منه وهي مغفرة الخطايا كما يتبين من العبارة التالية. أبان سابقاً بطلان ذلك الإيمان بكونه بلا أساس (ع ١٤) وأبان بطلانه هنا بكونه بلا ثمر.

أَنْتُمْ بَعْدُ فِي خَطَايَاكُم أي عرضة للدينونة عليها وتحت سلطتها. فإنه لكون قيامة المسيح ضرورية لتبريرنا (رومية ٤: ٢٥) يثبت أنه إن كان المسيح لم يقم فنحن لم نتبرر ولا زلنا عبيداً للخطيئة. فمن علم أنه ليس من قيامة علم أنه ليس من كفارة ولا غفران. ولعل نفاة القيامة لم يقصدوا أن ينفوا الكفارة لكن نفي الأول يستلزم نفي الثاني فإذا أُخذ من دين المسيح تعليم القيامة لم يُخسر عقيدة أو عقيدتين معها بل كل ما هو هام فيه.

١٨ «إِذاً ٱلَّذِينَ رَقَدُوا فِي ٱلْمَسِيحِ أَيْضاً هَلَكُوا!».

هذه النتيجة الرابعة من فرض بطلان قيامة المسيح وهي هلاك جميع المؤمنين بالمسيح.

ٱلَّذِينَ رَقَدُوا فِي ٱلْمَسِيحِ أي ماتوا متكلين على المسيح بغية الخلاص وكأنهم ماتوا على صدره وهو يعزيهم ويسندهم ويحملهم على الاطمئنان والثقة بالراحة والأمن والمجد والحياة الجديدة وراء القبر (انظر تفسير ع ٦ وأعمال ٧: ٦٠ و١تسالونيكي ٤: ١٤ ورؤيا ١٤: ١٣).

هَلَكُوا أي ذهبوا إلى جهنم لأنه إن كان المسيح لم يقم فهم لم يتبرروا وليس لهم من يشفع فيهم أمام منبر الديان فيحدث لهم ما حدث للذين لم يؤمنوا وماتوا في خطاياهم. وإثبات هذا الفرض يستلزم أن أفضل الناس الذين عاشوا على هذه الأرض كهابيل وإبراهيم ونوح وموسى وداود ودانيال والرسل والشهداء كان نصيبهم كنصيب قايين وآخاب وهيرودس ويهوذا الاسخريوطي وعلى صحة هذا يثبت أن الله سبحانه وتعالى ظالم مخلف مواعيده وهو باطل.

ومن لا يريد أن يسلم بهذه النتائج الأربع وهي أن دين المسيح باطل والرسل شهود كذبة والمؤمن تحت سلطان الإثم والدينونة عليه وأن المتوفين منهم هلكوا كأشر الأثمة فعليه ان يعتزل القول بعدم قيامة الموتى.

١٩ «إِنْ كَانَ لَنَا فِي هٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ فَقَطْ رَجَاءٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَإِنَّنَا أَشْقَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ».

٢تيموثاوس ٣: ١٢

في هذه الآية بيان أن إنكار القيامة يستلزم خسارة المؤمنين الأحياء فوق هلاك موتاهم فتكون الخسارة في الدارين الدنيا والآخرة وهي ملحق الآية الثامنة عشرة.

إِنْ كَانَ لَنَا فِي هٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ فَقَطْ رَجَاءٌ فِي ٱلْمَسِيحِ إن كان المؤمنون مع بغض الناس واضطهادهم إياهم وإهمال الحكام يومئذ حمايتهم تنتهي عند الموت كل آمالهم المبنية على قيامة المسيح ويجدون أنها أوهام وأنهم باقون في خاطاياهم تحت لعنة الناموس وغضب الله.

فَإِنَّنَا أَشْقَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ لأن آمال المؤمنين أعظم من آمال غيرهم وقد خابت على الفرض السابق مع كونهم عاشوا بناء على تلك الآمال غرباء ونزلاً على الأرض أنكروا أنفسهم وحملوا صليبهم واحتملوا وافر المشقات والأرزاء من عار وسلب أموال وسجن ورجم وتعذيب وقتل فإن صح الفرض المذكور كان ذلك كله عبثاً وثبت كونهم أشقى الناس.

إن ما قيل هنا غير مقصور على الرسل بالنظر إلى فرط أتعابهم ومشقاتهم بل يصدق على كل المؤمنين. ولا يفيد أن المسيحيين أقل سعادة من غيرهم في هذه الدنيا لأن هذا غير حق فإن سعادتهم أعظم من سعادة غيرهم كثيراً ولا يفيد عدم المجازاة فيها على حياة التقى لأنها كثيرة إلى حد يُرى عنده أنه خير للإنسان أن يعيش عيشة مسيحية من أن يعيش عيشة شريرة. فمعناه إن هلك المؤمنون والأشرار معاً فيرثى للأولين أكثر مما يرثى للآخرين لأن آمال أولئك كانت أعظم من آمال هؤلاء فتكون خيبتهم أعظم. إنهم تعبوا وأنكروا أنفسهم واضطُهدوا عبثاً والأشرار عاشوا متسريحين وأخذوا النصيب الذي اختاروه من لذات العالم.

٢٠ «وَلٰكِنِ ٱلآنَ قَدْ قَامَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ ٱلرَّاقِدِينَ».

١بطرس ١: ٣ أعمال ٢٦: ٢٣ وع ٢٣ وكولوسي ١: ١٨ ورومية ١: ٥

وَلٰكِنِ ٱلآنَ أي بالنظر إلى البراهين الجلية على قيامة المسيح المذكورة (ع ٤ – ٨) وإلى عدم إمكان صحة النتائج التي يستلزمها إنكار تلك القيامة (ع ١٢ – ١٩).

قَدْ قَامَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ فإذاً كرازتنا ليست باطلة وإيمانكم ليس باطلاً ولستم بعد في خطاياكم ولسنا نحن الرسل شهود زور لله والموتى في المسيح لم يهلكوا وليس المؤمنون أشقى جميع الناس وقد ثبت بثبوت تلك القيامة كل ما بُني عليها من الآمال.

وَصَارَ بَاكُورَةَ ٱلرَّاقِدِينَ أي سبقت قيامته قيامة شعبه وكانت عربونها كما أن باكورة الحصاد عربون الحصاد كله وتأكيد له فجسده الممجد الذي قام كان باكورة حصاد أجساد شعبه الممجدة التي سوف تقوم كما قام بدليل قوله «ٱلَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ» (فيلبي ٣: ٢١ انظر رومية ٨: ٢٣ و١تسالونيكي ٤: ١٤). وما قيل هنا على وفق القول «أنه بكر من الأموات» (كولوسي ١: ١٣ ورؤيا ١: ٥).

هل قصد بولس بتشبيهه قيامة المسيح بالباكورة الإشارة إلى ما أمر الله به الإسرائيليين من تقديم باكورة كل غلالهم في هيكله (لاويين ٢٣: ١٠ و١١) ذلك لا نعلمه ولكن إن كان قد قصده فقد جاء على غاية الموافقة لأن اليوم الذي قام فيه المسيح هو يوم تقديم الباكورة أي غد سبت الفصح. وليس المقصود بكون المسيح باكورة الراقدين أنه لم يقم أحد قبله من الموت لأنه قام قبله أليعازر وابن أرملة نايين وبنت يآيرس وغيرهم لكنه أول من قام ولم يتسلط عليه الموت بعد. وليس هذا فقط بل قام أيضاً عن كل المؤمنين شعبه ومتحداً بهم اتحاداً يضمن إقامتهم من الموت وكان أول الكل باعتبار عظمة مقامه وأهمية قيامته بالنظر إلى نتائجها. ومعنى «الراقدين» هنا الذين ماتوا مؤمنين بالمسيح.

٢١ «فَإِنَّهُ إِذِ ٱلْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ، بِإِنْسَانٍ أَيْضاً قِيَامَةُ ٱلأَمْوَاتِ».

مفاد هذه الآية أن قيامة المسيح تأكيداً لقيامة شعبه لأن العلاقة بينه وبينهم في الحياة كالعلاقة بين آدم ونسله في الموت وأن ما أُخذ منا بإنسان يرد علينا بإنسان.

ٱلْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ أي بآدم ولم يبيّن في هذه الآية كيف صار آدم علة موت نسله لكن أشار إلى ذلك في الآية التالية وأوضح في أماكن أُخر من الكتاب المقدس أن الموت عاقبة إثمه. والموت المذكور هنا موت الجسد فقط لأن القيامة في الجزء الثاني من الآية قيامة الجسد فقط. ولا يلزم من ذلك أن الموت بآدم ليس سوى موت جسدي كما لا يلزم منه أن الحياة بالمسيح ليست سوى حياة جسدية. وبمقتضى هذه الآية إنه لولا خطيئة آدم لم يكن من موت فكان الناس إما أن يبقوا على الأرض أبداً وإما أنهم يُنقلون إلى السماء كأخنوخ وإيليا.

بِإِنْسَانٍ أَيْضاً أي بالرب يسوع المسيح ابن الله المتجسد.

قِيَامَةُ ٱلأَمْوَاتِ أي الموتى المؤمنين لأن قيامة المسيح عربون قيامتهم ولأنه علتها (ع ٢٣). وكلام الرسول هنا مقصور على قيامة المؤمنين بدلالة القرينة وقيامة الأشرار ذُكرت في غير هذا الموضع (يوحنا ٥: ٢٨ و٢٩ وأعمال ٢٤: ١٥).

٢٢ «لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ ٱلْجَمِيعُ هٰكَذَا فِي ٱلْمَسِيحِ سَيُحْيَا ٱلْجَمِيعُ».

هذه الآية تفسير للآية الحادية والعشرين وبيان أن اتحادنا بآدم بالطبيعة والعهد علة موتنا واتحادنا بالمسيح علة حياتنا وأن آدم كان رأسنا ونائبنا ونحن بسكنى الروح القدس فينا شركاء طبيعته وحياته وبره.

كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ ٱلْجَمِيعُ سبق إيضاح معنى هذه الآية في تفسير (رومية ٥: ١٢ – ٢١ و٨: ٩ – ١١).

فِي ٱلْمَسِيحِ سَيُحْيَا ٱلْجَمِيعُ لأنه رأس المؤمنين ونائبهم لأنه رب الحياة والبر وقيامته باكورة قيامتهم. وقوله «سيحيا» يتضمن ما يزيد على إحياء الجسد وهو الحياة المجيدة الأبدية أي الخلاص التام. وجميع الذين يهب المسيح لهم الحياة ليس هم سوى المؤمنين والأطفال والبله وغير القادرين على الإيمان لأن المسيح ليس باكورة الذين يقومون «للعار والازدراء الأبدي» على أن قوله «في المسيح» لا يوصف به غير المؤمنين لأن الأشرار ليسوا فيه وهو ليس رأسهم ولا نائبهم. والحياة المنسوبة إليهم في قوله «سيحيا» تُنسب إلى المؤمنين دون غيرهم (يوحنا ٥: ٢١ و٦: ٦٣ ورومية ٨: ١١ و١كورنثوس ١٥: ٤٥ وغلاطية ٣: ٢١). والقرينة تمنع نسبتها إلى غيرهم (ع ٢٣). ومفاد الكتاب المقدس كله أن الأشرار لا ينالون الحياة الأبدية المشار إليها هنا.

ذهب بعض المفسرين إلى أن الرسول إراد بكلامه هنا الإشارة إلى الضدين العظيمين الموت والحياة ومنشأيهما آدم والمسيح وأن المسيح أعد الطريق لتمتد الحياة بواسطته على قدر امتداد الموت بآدم أن ينال الحياة التي يهبها المسيح بالإيمان به. فالمشار إليه حق لكن لا دليل على أنه المراد بالآية هنا. وذهب آخر إلى أن الرسول لم يتكلم هنا على سوى قيامة الجسد وأنه قصد بقوله «الجميع» كل أولاد آدم ولو صح مذهبه لقال سيقوم لا «سيحيا» وقال «بالمسيح» أي بقوته باعتبار كونه ديّاناً لا «في المسيح» أي بالاتحاد به.

٢٣ «وَلٰكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ. ٱلْمَسِيحُ بَاكُورَةٌ، ثُمَّ ٱلَّذِينَ لِلْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ».

ع ٢٠ و١تسالونيكي ٤: ١٥ إلى ١٧

كُلَّ وَاحِدٍ أي كلاً من المسيح والمؤمنين به باعتبارهم شخصاً واحداً.

فِي رُتْبَتِهِ كون قيامة المسيح على قيامة المؤمنين به لا يلزم منه أنهم قاموا حين قام لكن المسيح قام أولاً وبعد ذلك يقوم الذين له.

ٱلْمَسِيحُ بَاكُورَةٌ (ع ٢٠ وتفسيره).

ٱلَّذِينَ لِلْمَسِيحِ (غلاطية ٥: ٢٤) إن المؤمنين للمسيح لأن أباه أعطاه إياهم (يوحنا ١٠: ٢٩) ولأنه هو اختارهم (يوحنا ١٥: ١٦) ولأنه فداهم (رؤيا ٥: ٩) ولأنهم وقفوا أنفسهم له (رومية ١٢: ١).

فِي مَجِيئِهِ أي المجيء الثاني (١تسالونيكي ٣: ١٣ و٤: ١٤ – ١٩). ولعل الرسول قصد في هذه الآية أن ينفي تعليم القائلين «بأن القيامة قد صارت» (٢تيموثاوس ٢: ١٨).

٢٤ «وَبَعْدَ ذٰلِكَ ٱلنِّهَايَةُ، مَتَى سَلَّمَ ٱلْمُلْكَ لِلّٰهِ ٱلآبِ، مَتَى أَبْطَلَ كُلَّ رِيَاسَةٍ وَكُلَّ سُلْطَانٍ وَكُلَّ قُوَّةٍ».

دانيال ٧: ١٤ و٢٧

ما في هذه الآية إلى الآية الثامنة والعشرين كلام معترض أُتي به بياناً لبعض توابع القيامة.

بَعْدَ ذٰلِكَ أي بعد مجيء المسيح والقيامة.

ٱلنِّهَايَةُ أي نهاية نظام العالم الحاضر وإتمام عمل الفداء (متّى ١٣: ٣٩ و٢٤: ٣ و٦ و١٤ و٢٨: ٢٠).

قيل هنا أن هذه النهاية تكون على أثر قيامة الأشرار لأن الرسول لم يقصد هنا الكلام في قيامة الأشرار لكن نعلم من مواضع أُخر في الإنجيل أن الأشرار يقومون أيضاً بدليل قوله «تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ ٱلَّذِينَ فَعَلُوا ٱلصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلْحَيَاةِ وَٱلَّذِينَ عَمِلُوا ٱلسَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلدَّيْنُونَةِ» (يوحنا ٥: ٢٨ و٢٩ انظر أيضاً ٢تسالونيكي ١٢: ٧ – ١٠).

لم يقل الرسول أن نهاية العالم ومجيء المسيح يكونان في وقت واحد لكنه ذكر ثلاثة أمور متوالية قيامة المسيح ثم قيامة شعبه ثم النهاية ولكنه لم يذكر حدوث شيء بين قيامة شعبه ونهاية العالم ولذلك يحق لنا أن نستنتج أنه لا يحدث شيء بعد تلك القيامة وهذا موافق لآيات كثيرة في الإنجيل تقرن مجيء المسيح باليوم الأخير والقيامة والدينونة كأنها أجزاء أمر واحد (متّى ١٣: ٣٩ – ٤١ و٢٤: ٣ و٣٠ و٣١ و٢٥: ٣١ و٣٢ ويوحنا ٦: ٣٩ و٤٠ و١١: ٢٤).

مَتَى سَلَّمَ ٱلْمُلْكَ أي متى سلم المسيح الملك الخاص الذي أخذه باعتبار كونه وسيطاً لإجراء عمل الفداء. ولا منافاة بين ما قيل هنا من تسليم الملك وبين قول المرنم في شأن ملكوت المسيح «مُلْكُكَ مُلْكُ كُلِّ ٱلدُّهُورِ، وَسُلْطَانُكَ فِي كُلِّ دَوْرٍ فَدَوْرٍ» (مزمور ١٤٥: ١٣). وقول الرسول «وَأَمَّا عَنْ ٱلٱبْنِ (فيقول) «كُرْسِيُّكَ يَا أَللّٰهُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ» (عبرانيين ١: ٦) وقول بطرس «لأَنَّهُ هٰكَذَا يُقَدَّمُ لَكُمْ بِسِعَةٍ دُخُولٌ إِلَى مَلَكُوتِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلأَبَدِيِّ» (٢بطرس ١: ١١) لأن كلام الله يذكر ملك المسيح بثلاثة معان:

  • الأول: ما يخصه طبعاً باعتبار كونه إلهاً. فهذا ملك عام كل المخلوقات باق له أبداً فلا يسلمه.
  • الثاني: ما له باعتبار كونه ابن الله المتجسد رأس شعبه المُفتدى وربه. وهذا أيضاً باق له إلى الأبد بدليل قوله «لأَنَّ ٱلْحَمَلَ ٱلَّذِي فِي وَسَطِ ٱلْعَرْشِ يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إِلَى يَنَابِيعِ مَاءٍ حَيَّةٍ» وقوله «وَعَرْشُ ٱللّٰهِ وَٱلْحَمَلِ يَكُونُ فِيهَا، وَعَبِيدُهُ يَخْدِمُونَهُ» (رؤيا ٧: ١٧ و٢٢: ٣).
  • الثالث: الملك الذي أخذه بعد قيامته جزاء على اتضاعه الاختياري وتوسلاً إلى الإتيان بعمل الفداء إلى نهايته المجيدة وذُكر ذلك في (متّى ٢٨: ١٨ وأفسس ١: ٢٠ – ٢٣ وفيلبي ٢: ٩ و١٠ وكولوسي ٢: ١٠ و١٥). وهذا هو الذي سيسلمه لأن عمل الفداء اقتضى أن يسلم المسيح باعتبار كونه وسيطاً قوة كافية على إجرائه فمتى كمل ذلك العمل لا يبقى من حاجة إلى أن يكون له سلطان خاص فيليق حينئذ أن يسلمه.

لِلّٰهِ ٱلآبِ أي أب كل خلائقه باعتبار كونه خالق الكل والمعتني بالكل بدليل قوله «فَإِنَّكَ أَنْتَ أَبُونَا وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْنَا إِبْرَاهِيمُ، وَإِنْ لَمْ يَدْرِنَا إِسْرَائِيلُ. أَنْتَ يَا رَبُّ أَبُونَا، وَلِيُّنَا مُنْذُ ٱلأَبَدِ ٱسْمُكَ» (إشعياء ٦٣: ١٦). وقوله «وَٱلآنَ يَا رَبُّ أَنْتَ أَبُونَا» (إشعياء ٦٤: ٨). ومثله في (ملاخي ١: ٦ ومتى ٦: ٩ و١٤ و١بطرس ١: ١٧). وهذا يفيد أنه بعد إتمام عمل الفداء لا يبقى عمل خاص لكل أقنوم من الأقانيم الثلاثة فيكون السلطان كله كما كان قبل الشروع في عمل الفداء لله الإله الواحد الأزلي المثلث الأقانيم أبي الجميع الذي يطلب أن «يعبد بالروح والحق» (يوحنا ٤: ٢٣) «ويرى في الخفاء ويجازي علانية» (متى ٦: ٤). «ويغفر ذنوب الذين يغفرون للناس زلاتهم» (متى ٦: ١٥). ويأمر بالتشبه به كما في قوله «كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متى ٤: ٤٨). وهذا على وفق قوله «كي يكون الله الكل في الكل» (ع ٢٨).

مَتَى أَبْطَلَ كُلَّ رِيَاسَةٍ الخ أي متى أخضع كل أعدائه من الناس والشياطين فيتم حيئنذ قوله «صارت كممالك العالم لربنا ومسيحه» (رؤيا ١١: ١٥).

٢٥ «لأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ حَتَّى يَضَعَ جَمِيعَ ٱلأَعْدَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ».

مزمور ١١٠: ١ وأعمال ٢: ٣٤ و٣٥ وأفسس ١: ٢٢ وعبرانيين ١: ١٣ و١٠: ١٣

في هذه الآية بيان علة أن المسيح لم يسلم في الحال ملكه باعتبار كونه وسيطاً وأنه يسلمه وقتئذ.

لأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ بمقتضى قصد الله من إعطائه ذلك السلطان.

حَتَّى يَضَعَ جَمِيعَ ٱلأَعْدَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ كما قال في الآية السابقة من إبطال «كل رياسة وسلطان وقوة» وكقول الله بلسان المرنم «أُعْطِيَكَ ٱلأُمَمَ مِيرَاثاً لَكَ وَأَقَاصِيَ ٱلأَرْضِ مُلْكاً لَكَ. تُحَطِّمُهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ. مِثْلَ إِنَاءِ خَزَّافٍ تُكَسِّرُهُمْ» (مزمور ٢: ٨ و٩). وكمقاد (مزمور ١١٠: ١) إلاأنه قيل فيه أن الله يضع الأعداء موطئاً لقدمي المسيح. وكثيراً ما نُسب في الكتاب المقدس عمل لمسيح إلى الله لأن الله عمله بواسطته. والأعداء التي يضعها المسيح تحت قدميه فوق أشرار الناس والأبالسة كل الشرور الجسدية والأدبية بدليل أن الموت واحد منها. وليس لمراد من إخضاع الأعداء ملاشاتهم حتى لا يبق شرير وشر إنما المعنى أنه لا يبقى حينئذ طريق للشيطان أو غيه للإساءة إلى شعب الله وتنحصر كل الشرور في مملكة الظلمة.

٢٦ «آخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ ٱلْمَوْتُ».

٢تيموثاوس ١: ١٠ ورؤيا ٢٠: ١٤

آخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ من الأعداء التي أُخضعت قبل هذا العدو القلب البشري الفاسد الذي أُخضع بقوة الإنجيل وقوة الروح القدس والشيطان الذي كُسر صولجانه وسُلبت قوته على الأضلال والإيذاء وكل الأديان الكاذبة التي خدعت الناس وأهلكتهم.

هُوَ ٱلْمَوْتُ شخّص الموت ملكاً يسود إلى يوم النشر ومن ثم لا يكون له أدنى سلطة على أحد «فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ ٱلْكَلِمَةُ ٱلْمَكْتُوبَةُ: «ٱبْتُلِعَ ٱلْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ» (ع ٥٤). لأن المسيح يكون قد أبطله (٢تيموثاوس ١: ١٠ «إِذْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَمُوتُوا أَيْضاً، لأَنَّهُمْ مِثْلُ ٱلْمَلاَئِكَةِ، وَهُمْ أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ، إِذْ هُمْ أَبْنَاءُ ٱلْقِيَامَةِ» (لوقا ٢٠: ٣٦ انظر أيضاً رؤيا ٢٠: ١٤). وسمي الموت عدواً لأنه دخل العالم بالخطيئة وكان عقاباً عليها ورب الحياة ينزع أهواله من المؤمنين ومع ذلك يظل يحسبه عدواً.

٢٧ «لأَنَّهُ أَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. وَلٰكِنْ حِينَمَا يَقُولُ «إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُخْضِعَ» فَوَاضِحٌ أَنَّهُ غَيْرُ ٱلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ ٱلْكُلَّ».

مزمور ٨: ٥ ومتّى ٢٨: ١٨ وعبرانيين ٢: ٨ و١بطرس ٣: ٢١

لأَنَّهُ أَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ حسب النبوءة التي في مزمور ١١٠ ومزمور ٨ ففي كل من هذين المزمورين نسبت الرئاسة العامة إلى المسيح. واقتبس ما في المزمور ١١٠ لإثبات سلطانه المطلق في (ع ٢٥ ومتّى ٢٢: ٤٤ وأعمال ٢: ٣٤ وأفسس ١: ٢٢ وعبرانيين ١: ١٣ و١٠: ١٢ و١٣) واقتبس لذلك ما في المزمور الثامن هنا وفي (عبرانيين ٢: ٨ و١بطرس ٣: ٢٢). ولولا وحي الله ما علمنا أن هذا المزمور يشير إلى المسيح لأنه هو الذي أعلن لنا معناه الخفي.

حِينَمَا يَقُولُ أي الله. و «يقول» هنا إما للاستمرار وإما للاستقبال فإن كان للاستمرار فالإشارة إلى ما أعلنه الله من قصده في الآية بفم الأنبياء ويقول المسيح «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْض» (متى ٢٨: ١٨). وإن كان للاستقبال فالمعنى أن الله سيعلن ذلك عند إتمام قصده وإخضاع كل عدو وتخليص كل مؤمن.

فَوَاضِحٌ أَنَّهُ غَيْرُ ٱلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ ٱلْكُلَّ أي أنه غير الله. قال ذلك تمهيداً لما في الآية الآتية وتفسيراً للآية الرابعة والعشرين.

٢٨ «وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ ٱلْكُلُّ، فَحِينَئِذٍ ٱلٱبْنُ نَفْسُهُ أَيْضاً سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ ٱلْكُلَّ، كَيْ يَكُونَ ٱللّٰهُ ٱلْكُلَّ فِي ٱلْكُلِّ».

فيلبي ٣: ٢١

وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ ٱلْكُلُّ أي متى تم عمل الفداء ونُشر الموتى ودينوا وأُخضع كل أعداء المسيح.

ٱلٱبْنُ نَفْسُهُ أَيْضاً سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ ٱلْكُلَّ معنى هذا كمعنى قوله «سلم الملك لله الآب» (ع ٢٤). والمراد «بالابن» هنا المسيح أي الأقنوم الثاني متجسداً فإنه استولى على الملك المطلق في السماء وعلى الأرض لإجراء عمل الفداء باعتبار كونه وسيطاً وبعد إتمامه هذا العمل وكل ما أعطي الملك الخاص لإجرائه يسلم هذا الملك ويعود كل شيء إلى الحال التي كان عليها قبل الشروع في عمل الفداء. فخضوع الابن لله تسليمه السلطان الذي وُكل إليه وقتياً لا يستلزم البتة أن ابن الله الأزلي كلمة الله الذي كان في البدء عند الله الأقنوم الثاني من اللاهوت يكون دون الآب والروح القدس لأنه مخالف لكل تعليم الكتاب المقدس الذي يبيّن أن الأقانيم الثلاثة متساوون في القدرة والمجد.

كَيْ يَكُونَ ٱللّٰهُ ٱلْكُلَّ فِي ٱلْكُلِّ إن الله الواحد الأحد الأزلي الأبدي المثلث الأقانيم سيملك الكل خلافاً لما كان منذ قيامة المسيح إلى الآن وما سيكون إلى يوم الدين لأن الله في تلك المدة يسوس العالمين بواسطة المسيح (انظر تفسير ع ٢٤).

٢٩ «وَإِلاَّ فَمَاذَا يَصْنَعُ ٱلَّذِينَ يَعْتَمِدُونَ مِنْ أَجْلِ ٱلأَمْوَاتِ؟ إِنْ كَانَ ٱلأَمْوَاتُ لاَ يَقُومُونَ ٱلْبَتَّةَ، فَلِمَاذَا يَعْتَمِدُونَ مِنْ أَجْلِ ٱلأَمْوَاتِ؟».

هذه الآية متعلقة بالآية الثالثة والعشرين وفي موضوعها وهو إثبات القيامة بالأدلة وكل ما بين تينك والآيتين معترض ومعنى الآية أن الاعتماد من أجل الأموات يستلزم أنهم يقومون.

وَإِلاَّ أي وإن لم يكن من قيامة.

فَمَاذَا يَصْنَعُ ٱلَّذِينَ أي كيف يبرروا أنفسهم بعلمهم المذكور في الآية وأي علة يستطيعون أن يحتجوا بها.

يَعْتَمِدُونَ مِنْ أَجْلِ ٱلأَمْوَاتِ؟ الآراء في المراد من هذه العبارة كثيرة نذكر ثمانية منها:

  1. اعتماد الحي عمن مات من أقربائه بلا معمودية. فالظاهر أن من ضلالات أهل كورنثوس في شأن القيامة زعمهم أنه إن مات المستعد للاشتراك في عضوية الكنيسة قبل اعتماده جاز لأحد أقربائه أن يعتمد عنه لكي يكتب اسمه في دفتر الكنيسة ويحصل له منفعة ذلك السر. ومن المعلوم أن بعض الفرق المسيحية وهم السيرنثيون (Cerinthians) والمركيونيون (Marcionites) في القرن الثاني اعتقدوا ذلك واتفق الكنائس المسيحية على الحكم بضلالهم. ومن المظنون أن بعض أهل كورنثوس سبق إلى تلك الضلالة في عصر بولس وأن الرسول اكتفى بذكرها دون تفنيدها بغية أن يحجهم بما اعتقدوه للمنافاة بينه وبين إنكارهم للقيامة. والذين ذهبوا إلى غير هذا المعنى دفعوه بقولهم لو كان كلام الرسول في تلك الضلالة ما أمكن أن يذكرها ويسكت عن توبيخ أهلها عليها. وأجيب على ذلك بأنه ذكر تكلم النساء في الاجتماعات العامة ولم يوبخهن على ذلك وهو يوبخهن على ظهورهن وقتئذ بلا قُنع (ص ١١: ٦) على أنه وبخهن عليه في موضع آخر (ص ١٤: ٣٤) وبأنه تكلم في ولائم الهياكل الوثنية ولم يمنع من حضورها إلا لكونه عثرة للأخ الضعيف (ص ١٠: ٨). على أنه قال في موضع آخر أنه «ليس سوى عبادة أوثان» (ص ١٠: ١٤ – ٢٢). وبأنه سكت عن هذه الضلالة لقصده أن يتكلم عليها بالتفصيل حين يأتي إليهم «ويرتب الأمور الباقية» (ص ١١: ٣٤). وبأن بولس لم يقل فماذا نصنع نحن الذين نعتمد من أجل الأموات بل قال «ماذا يصنع الذين يعتمدون» الخ بياناً لرفضه تلك الضلالة.
  2. إن المراد بالاعتماد من أجل الأموات اعتراف كل مؤمن عند معموديته بأن قيامة الأموات من ضروريات الدين وأنه يعتمد بناء على رجائه ذلك بدليل أنه يسأل عند تقدمه للمعمودية هل تؤمن بقيامة الموتى وهل تعتمد معترفاً بذلك. فكأن الرسول سألهم كيف ساغ لكم أن تعتمدوا معترفين بقيامة الأموات وأنتم تنفونها. وعلى هذا ففي العبارة حذف والتقدير فماذا يصنع الذين يعتمدون من أجل رجاء قيامة الأموات ولا يخفى ما في ذلك من التكلف فضلاً عن أن بولس نسب الاعتماد على بعضهم وهو بهذا المعنى مما يعتقده الجميع وأبى إدخال نفسه بين أهله كما ذكرنا في الرأي الأول.
  3. إن المراد «بالأموات» في هذه العبارة المسيح لكونه واحداً منهم فيكون معنى السؤال ما الفائدة من الإيمان بمخلص ميتٍ والاعتماد باسم شخص ميت لم يزل بين الأموات على القول بأن الموتى لا يقومون. ولو قصد الرسول هذا المعنى لقال يعتمدون من أجل الميت لا الأموات.
  4. إن «الأموات» هنا هم الشهداء الذين قُتلوا لاعتقادهم قيامة الموتى ولا سيما قيامة الميسح وأن «الذين يعتمدون» هم المتنصرون حديثاً ليقوموا مقامهم في الإيمان وتعرض النفوس للأخطار. ولو قصد الرسول هذا لقال فماذا يصنع الذين يعتمدون ليقوموا مقام الأموات.
  5. إن الأموات الذين يعتمدون لأنهم عرّضوا أنفسهم للموت قتلاً من أعداء الدين المسيحي باعتماده باسم المسيح فكأنهم باعتمادهم به ختموا بأيديهم القضاء عليهم بالموت. فيكون ذلك على وفق قول الرسول «لأَنَّنَا نَحْنُ ٱلأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِماً لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ» (٢كورنثوس ٤: ١١). على أن الرسول لو قصد هذا المعنى لقال الذين يعتمدون للموت.
  6. إن الأموات هنا المسيحيون الذين ماتوا مطمئنين فرحين برجاء قيامتهم بالمجد والذين يعتمدون من أجلهم أصدقاؤهم الذين لم يكونوا قد آمنوا بصحة دين المسيح لكنهم اقتنعوا بها مما شاهدوه من اطمئنان أولئك وسرورهم عند الموت ولذلك طلبوا أن يعتمدوا فكأنهم قالوا ليكن رجاؤنا ومعموديتنا معموديتهم. ولو قصد بولس ذلك لقال يعتمدون مؤمنين إيمان الأموات.
  7. إن «الأموات» هم الذين على زعم نفاة القيامة لا يقومون أبداً والذين يعتمدون هم الذين ينضمون بمعموديتهم إلى كنيسة الموتى ويعترفون بأن إيمانهم ورجاءهم إيمانها ورجاؤها. ولو أراد بولس هذا المعنى لقال فماذا يصنع الذين ينضمون باعتمادهم إلى الأموات وهم لا يقومون.
  8. إن المعمودية المشار إليها هنا هي معمودية الدم كالتي أشار إليها المسيح بسؤاله لابني زبدي «أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا ٱلْكَأْسَ ٱلَّتِي سَوْفَ أَشْرَبُهَا أَنَا، وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِٱلصِّبْغَةِ ٱلَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا» (متى ٢٠: ٢٢ ولوقا ١٢: ٥٠). فيكون معنى السؤال في الآية لماذ يسفك الأموات دمهم باطلاً على فرض عدم قيامة المسيح وقيامة شعبه. ولا يخفى البعد بين هذا ومقتضى اللفظ. وبعد النظر في كل هذه الآراء نرجّح الأول مع الاعتراف بأننا لا نعلم حقيقة المعنى.

فَلِمَاذَا يَعْتَمِدُونَ الخ إن صح زعم نفاة القيامة فلا داعي إلى المعمودية فهم بين أن اعتقادهم يجبرهم أن يبطلوا المعمودية أو أن المعمودية تجبرهم على أن يبطلوا اعتقادهم.

٣٠ «وَلِمَاذَا نُخَاطِرُ نَحْنُ كُلَّ سَاعَةٍ؟».

٢كورنثوس ١١: ٢٦ وغلاطية ٥: ١١

نُخَاطِرُ نَحْنُ الخ أي لماذا يعرّض الرسل الذين أنا واحد منهم أنفسهم للخطر. وعُرضوا لذلك دائماً بتبشيرهم بالإنجيل وهذا كله عبث على فرض أن ليس من قيامة لأنه برهن قبلاً أنه يلزم من نفي القيامة نفي قيامة المسيح وأن إيمانهم باطل وأن ليس من كفارة ولا خلاص. فإنه من أفظع الجهل أن يعرّضوا أنفسهم للخطر العظيم بتبشير الناس وطلب خلاصهم وكل ذلك عبث.

كُلَّ سَاعَةٍ أي دائماً (٢كورنثوس ٤: ١١).

٣١ «إِنِّي بِٱفْتِخَارِكُمُ ٱلَّذِي لِي فِي يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا أَمُوتُ كُلَّ يَوْمٍ».

رومية ٨: ٣٦ وص ٤: ٩ و٢كورنثوس ٤: ١٠ و١١ و١١: ٢٣

إِنِّي بِٱفْتِخَارِكُمُ أي بافتخاري بكم ومراده «بالافتخار» هنا المسرة. أتى بهذا توكيداً لقوله أنه يموت كل يوم في سبيل الإنجيل فأفاد أنه لا ريب في افتخاره بذلك وأنه يجب أن لا يكون ريب في موته كل يوم. وعلى افتخاره بهم أنهم أولاده الروحيون وختم رسالته في الرب.

فِي يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا باعتبار كوني رسوله وخادمه ومتحداً به واعتبار أنه علة كل نجاحي في التبشير بالإنجيل. فحسب هداية أهل كورنثوس بواسطته علامة رضى المسيح عنه على وفق قوله «ألستم أنتم عملي في الرب» (ص ٩: ١).

أَمُوتُ كُلَّ يَوْمٍ أي أرى نفس عرضة للقتل دائماً وهذا كقوله «إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ ٱلنَّهَارِ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ» (رومية ٨: ٣٦). وقوله «حَامِلِينَ فِي ٱلْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ» (٢كورنثوس ٤: ١٠).

٣٢ «إِنْ كُنْتُ كَإِنْسَانٍ قَدْ حَارَبْتُ وُحُوشاً فِي أَفَسُسَ، فَمَا ٱلْمَنْفَعَةُ لِي؟ إِنْ كَانَ ٱلأَمْوَاتُ لاَ يَقُومُونَ، فَلْنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ لأَنَّنَا غَداً نَمُوتُ!».

٢كورنثوس ١: ٨ جامعة ٢: ٢٤ وإشعياء ٢٢: ١٣ و٥٦: ١٢ ولوقا ١٢: ١٩

كتب بولس هذه الرسالة من أفسس وأشار في هذه الآية إلى أمر حدث له منذ قليل صار به إلى شدة خطر الموت وأشار إليه بقوله في موضع آخر «لاَ نُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ ضِيقَتِنَا ٱلَّتِي أَصَابَتْنَا فِي أَسِيَّا، أَنَّنَا تَثَقَّلْنَا جِدّاً فَوْقَ ٱلطَّاقَةِ، حَتَّى أَيِسْنَا مِنَ ٱلْحَيَاةِ أَيْضاً» (٢كورنثوس ١: ٨ – ١٠).

كَإِنْسَانٍ أي كأحد عامة الناس الذين لا يكترثون بسوى هذه الحياة ولا يتوقعون القيامة ولا الحياة الخالدة.

حَارَبْتُ وُحُوشاً فِي أَفَسُسَ الوحوش هنا إما حقيقية وهي الحيوانات المفترسة التي اعتاد الرومانيون أن يجبروا بعض الناس على محاربتها في المشاهد عقاباً له على ذنوبه وتلذذاً بمشاهدته في تلك الحال. وإما مجازية يراد بها الناس الظالمون الذين صفاتهم كصفات الوحوش وأعمالهم كأعمالها (مزمور ٢٢: ١٢ و١٣ و٢٠ و٢١). والذي يمنع من إرادة الحقيقة ثلاثة أمور:

  • الأول: أن بولس روماني أي له حقوق الرومانيين المدنية وشريعتهم تمنع من إجبار مثله على تلك المحاربة. نعم أنه مع منع تلك الشريعة من جلد الرومانيين جلده الحكام الرومانيون ثلاث مرات (٢كورنثوس ١١: ٢٥) لكنه لو طلب حقوقه لمنعهم من جلده.
  • الثاني: إن لوقا لم يذكر في أعمال الرسول محاربة بولس للوحوش مع أنه أخذ يكتب من تاريخ بولس الأمور ذات الشأن.
  • الثالث: إن بولس لم يذكر ذلك بين المخاطر والمصائب التي ذكرها في (٢كورنثوس ١١: ٢٣ و٢٩) مع أن بعضها دونه كثيراً. ويعسر علينا تصديق كونه حقيقة ولم يذكره لوقا في أعماله ولا بولس في رسائله. والذي يثبت المعنى المجازي وهو أن المراد بالوحوش أشرار الناس الذين أخلاقهم كأخلاق الوحوش أن ذلك المجاز كثيراً ما استعمله القدماء المحدثون وأنه موافق لقول في هذه الرسالة «أَمْكُثُ فِي أَفَسُسَ إِلَى يَوْمِ ٱلْخَمْسِينَ، لأَنَّهُ قَدِ ٱنْفَتَحَ لِي بَابٌ عَظِيمٌ فَعَّالٌ، وَيُوجَدُ مُعَانِدُونَ كَثِيرُونَ» (ص ١٦: ٨ و٩ انظر أيضاً ص ٤: ٩ و٢تيموثاوس ١٤: ١٧). وموافق لما نعلم أنه حدث له في أفسس بعد قليل من كتابته هذه الرسالة وهو السجس الذي أثاره ديمتريوس وأصحابه (أعمال ص ١٩). فيكون معنى الرسول أن الأخطار التي عرّض لها في أفسس جعلته كأنه مطروح بين وحوش ضارية جائعة.

فَمَا ٱلْمَنْفَعَةُ لِي أي لا نفع لي البتة من كل تلك الأخطار والآلام على فرض أني كأحد الناس لا أعتقد القيامة والا الخلود.

إِنْ كَانَ ٱلأَمْوَاتُ لاَ يَقُومُونَ، فَلْنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ هذا الذي قاله عصاة أورشليم يوم حاصرهم ملك عيلام ودعاهم الله إلى البكاء والنوح فأبوا ذلك وأولموا في ما بقي لهم من الوقت قبل سبيهم (إشعياء ٢٢: ١٢ و١٣). وهذا ما يحمل عليه إنكاره القيامة طبعاً في كل وقت من أوقات الضيق إذ لا منفعة من محاربة الوحوش ولا من إنكار النفس لأنه إذا بطل رجاء القيامة بطل رجاء الخلاص ورجاء السعادة الأبدية. والحق أنه إن متنا موت البهائم فخير لنا أن نحيا حياتهم ما دمنا أحياء ونتمتع بكل ما يمكننا من مشتهيات الدنيا. ومثل هذه القول خلاصة أقوال فلاسفة اليونان الأبيكوريين.

لأَنَّنَا غَداً نَمُوتُ أي لأن أجلنا قريب سنموت ولا نحيا بعد الموت ولا ننشر. ولا يخفى فساد التعليم المؤدي إلى مثل تلك النتيجة.

٣٣ «لاَ تَضِلُّوا! فَإِنَّ ٱلْمُعَاشَرَاتِ ٱلرَّدِيَّةَ تُفْسِدُ ٱلأَخْلاَقَ ٱلْجَيِّدَةَ».

ص ٥: ٦

كانت غاية أن يبيّن لهم أن نتيجة إنكارهم القيامة مصيرهم شهوانيين مثل الأبيكوريين الذين مبدأهم «فلنأكل ونشرب الخ» ولذلك حذرهم من المعلمين الكذبة الذين أنكروا القيامة ومن الميل إلى ضلالهم. ولا يلزم من هذا التحذير أن أولئك المعلمين علموا تعليم الأبيكوريين بل أن عاقبة تعليمهم كانت كعاقبة تعليم أولئك.

لاَ تَضِلُّوا احذروا المعلمين الكاذبين وأدلتهم السفسطية على نفي القيامة فإنه كثيراً ما يحدث أن ما يرفضه الإنسان من التعليم الفاسد في أول سمعه إياه يميل إليه بعد أن يتكرر على سمعه كثيراً ثم يسلم به ولا سيما إذا كانت بينه وبين ألمضل صداقة ومودة.

ٱلْمُعَاشَرَاتِ ٱلرَّدِيَّةَ تُفْسِدُ ٱلأَخْلاَقَ ٱلْجَيِّدَةَ اقتبس بولس هذه القاعدة من أقوال مينندر Menander الشاعر اليوناني الذي كان في سنة ٢٩٣ ق. م وهي على وفق اختبار الناس في كل عصر حتى سارت مثلاً. ومثلها قول طرفة بن العبد البكري:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي

وغاية الرسول بيان أنهم لا يستطيعون أن يعاشروا المعلمين المضلين ويلتذوا بمصاحبتهم وأحاديثهم ولا يُضرون ديناً وأدباً. والأحداث أكثر الناس خطراً من الرفاق الأشرار فإن كلام هؤلاء الرفاق مثل بذار نباتات سامة تتأصل في القلب وتأتي بأثمار الشكوك والفتور في الدين ثم الكفر والفجور. ويستثنى من هذه القاعدة من يرافق الأشرار بغية إصلاحهم والإتيان بهم إلى التوبة والخلاص كالمسيح فإنه لهذا كان يأكل ويشرب مع العشارين والخطأة فالذي يعاشر الأشرار لمجرد ذلك القصد يحق له أن يتوقع أن الله يحفظه من فساد أخلاقه.

٣٤ «اُصْحُوا لِلْبِرِّ وَلاَ تُخْطِئُوا، لأَنَّ قَوْماً لَيْسَتْ لَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِٱللّٰهِ. أَقُولُ ذٰلِكَ لِتَخْجِيلِكُمْ!».

رومية ١٣: ١١ وأفسس ٥: ١٤ ١تسالونيكي ٤: ٥ ص ٦: ٥

كان الكورنثيون محاطين بالتجارب من الفلاسفة الوثنيين ومن المعلمين المضلين من المسيحيين فخاطبهم الرسول كأنهم خُدعوا بهم وخضعوا لهم وهم غافلون.

اُصْحُوا لِلْبِرِّ أي لكي تثبتوا في البر أو تحصلوا عليه لأنكم بإصغائكم إلى التعليم الفاسد خُدعتم وصرتم كالسكارى لا يعرفون الخطر الذي عرضوا أنفسهم له ديناً وأدباً.

وَلاَ تُخْطِئُوا الأخطاء الذي لا بد من أن ترتكبوه إن أصغيتم بعد إلى تعليم القائلين «فلنأكل ونشرب» الخ لأن ذلك يزيل كل موانع الشهوات ويفتح كل الأبواب المؤدية إلى الفجور. فإنكار القيامة ليس من الأمور الزهيدة بل من جوهريات الدين المسيحي. وفي الآية بيان التلازم الكلي بين سوء التعليم وسوء السيرة فإن الأول مؤد إلى الثاني.

لأَنَّ قَوْماً لَيْسَتْ لَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِٱللّٰهِ بينكم ولذلك أنكروا القيامة. والذي جهلوه من أموره قدرته على إحياء الموتى وقصده إجراء ذلك. ومثل هذا قول المسيح للصدوقيين «تَضِلُّونَ إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ ٱلْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ ٱللّٰهِ» (متّى ٢٢: ٢٠). وهذا تعليل لقوله «اصحوا».

أَقُولُ ذٰلِكَ لِتَخْجِيلِكُمْ لأنه عار عليكم أن يكون في كنيستكم أناس يشكون في هذا التعليم الجوهري الإنجيلي الذي إنكاره يفسد الدين والآداب وإن اضطر انا إلى إقامة البراهين لتثبيت إيمانكم به.

حقيقة جسد القيامة ع ٣٥ إلى ٥٨

فرغ الرسول من الكلام على إثبات القيامة وغايته في باقي هذا الأصحاح بيان حقيقة الجسد الذي يقوم الميت به دفعاً لاعتراض المعترضين الذين يقولون باستحالة قيامة أجسادنا لأنها لحم ودم وتحتاج إلى قوت ونوم خلافاً لما نعرفه من أحوال الحياة السماوية. قال بولس أنه من الوهم القول بأن أجساد القيامة كالأجساد هنا في كل الأمور نعم أنها تكون مادية والأجساد التي سكنتها أنفسنا ونحن على الأرض لكنها تكون على نظام آخر. وضرب لبيان ذلك مثل البزر يُزرع في الأرض وينبت عشباً أو شجرة لا بزراً. وقال إن أجسادنا المستقبلة يمكن أن تكون بالنسبة إلى أجسادنا الحاضرة كنسبة البزور إلى نباتها (ع ٣٥ – ٣٧). وإن من صفات المادة تركبها على هيآت كثيرة مختلفة كما نرى في النبات والحيوان (ع ٣٨ و٣٩). وكذا تتنوع الأجرام السماوية كالشمس والقمر والنجوم فهي يختلف بعضها عن بعض في المجد كذلك يمكن أن تختلف أجسادنا المستقبلة عن أجسادنا الحاضرة (ع ٤٠ و٤١). فما أبان الرسول إمكانه صرح الكتاب بالقطع به فالجسد الضعيف الفاسد المهان الطبيعي الذي يوضع في القبر يُقام منه قادراً غير قابل الفساد ممجداً روحياً (ع ٤٢ – ٤٤). لأن الكتاب يقول إن آدم خُلق بجسد طبيعي موافق لحياته على الأرض وإن للمسيح جسداً روحانياً موافقاً لكونه روحياً محيياً وكما أن آدم سبق المسيح تسبق أجسادنا الروحية وكما لبستا صورة الترابي ستلبس أيضاً صورة السماوي (ع ٤٥ – ٤٩). وإنه من المسلم أن أجسادانا الحاضرة لا تناسب السماء (ع ٥٠) لكنها تتغير في يوم القيامة سواء كانت أجساد الأحياء أو أجساد الأموات «ويلبس هذا المائت عدم موت» (ع ٥١ – ٥٣). وحينئذ يتم قوله «ابتلع الموت إلى غلبة» (ع ٥٤). ولا يتسلط الموت بعد على المؤمن لأنه لم يكن للموت شوكة إلا من الخطيئة ولم يكن للخطية سلطة إلا من الناموس ولم يكن للناموس سلطان للدينونة على الذين هم بيسوع المسيح فإذاً الشكر لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح (ع ٥٥ – ٥٧). فيجب أن نكون راسخين غير متزعزعين الخ (ع ٥٨).

٣٥ «لٰكِنْ يَقُولُ قَائِلٌ: كَيْفَ يُقَامُ ٱلأَمْوَاتُ، وَبِأَيِّ جِسْمٍ يَأْتُونَ؟».

حزقيال ٢٧: ٣

غاية السؤالين في هذه الآية بيان حقيقة جسد القيامة فبولس فرض أن معترضاً يسأل هذين السؤالين بياناً لاستحالة أن تقوم أجسادنا بعد فسادها وانحلالها ويقول لو سلم بقيامة هذه الأجساد لاستحال أن توافق الحال الروحية الخالدة في السماء. ونستنتج من جواب الرسول أن معظم الاعتراض مبني على توهم أن جسد القيامة هو عين الجسد الحاضر وهو اعتراض الصدوقيين على المسيح وهو أفحمهم كما أفحم بولس معترضي كورنثوس بيان أن أجسامنا المستقبلة لا تكون أعيان أجسادنا الحاضرة (متى ٢٢: ٢٣ – ٣٠).

كَيْفَ يُقَامُ ٱلأَمْوَاتُ هذا السؤال ناتج عن اعتقاد السائل استحالة قيامة الأموات وأن الموت نهاية كل حي. فكأنه قال كيف يمكن أن يُنشر الجسد بعدما فارقته الحياة وانحل إلى عناصره فاختلط بعضها بالهواء وبعضها بالماء وبعضها بالتراب أو بعد ما أحرق بالنار أو افترسته الوحوش وصار بعض أجزائه نباتاً وبعضها بالتراب أو بعد ما أحرق بالنار افترسته الوحوش وصار بعض أجزائه نباتاً وبعضها حيواناً. إن المؤمن يسلم بما في هذا الاعتراض من الصعوبات كالمعترض لكنه يقول «غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله».

وَبِأَيِّ جِسْمٍ يَأْتُونَ مفاد هذا السؤال أنه يستحيل أن يكون لنا أجساد في السماء لأنها لحم ودم وتحتاج إلى الأكل والشرب والنوم فالحياة الروحية هنالك تمنع من هذا. والرسول أجاب على هذا السؤال والذي قبله بما يأتي.

٣٦ «يَا غَبِيُّ! ٱلَّذِي تَزْرَعُهُ لاَ يُحْيَا إِنْ لَمْ يَمُتْ».

يوحنا ١٢: ٢٤

يَا غَبِيُّ! النداء هنا للاستهزاء والتوبيخ كما في (لوقا ١٢: ٢٠ و٢٤: ٢٥ ورومية ١: ٢٢ وأفسس ٥: ١٥). والذي حمل الرسول على مخاطبة المعترض بهذه الصفة غايته أن يظهر له جهله برفض عقيدة ذات شأن خطير أُعلنت بالوحي لتوهمه أن الميت لا يقوم مع أن اختباره في عالم النبات يدله على خلاف ذلك.

ٱلَّذِي تَزْرَعُهُ لاَ يُحْيَا إِنْ لَمْ يَمُتْ أظهر الرسول جهل المعترض بتوجيه أفكاره إلى ما يزرعه وهو من البزور وإلى اختباره ضرورية موت ذلك البزر لكي يحيا. لأنه إن لم يمت بقي بزراً بلا تغير ولكنه «إن مات أتى بثمر كثير» (يوحنا ١٢: ٢٤). فينتج من ذلك أن الموت ليس هو تلاشياً بل انتقالاً من حال إلى حال. فالذي يصدق على البزر الموضوع في الأرض يمكن أن يصدق على الجسد الموضوع في القبر أي أن تنبت له حياة جديدة بدلاً من الحياة القديمة فيبقى واحداً مع تغير هيئته. إن شجرة البلوط الكاملة تفرق في هيئتها وبعض صفاتها عن البزرة التي نتجت عنها لكن حياتها هي حياة البزرة عينها كذلك الجسد بعد القيامة يختلف في هيئته وبعض صفاته عن الجسد الموضوع في القبر مع أنه هو هو عينه.

ولم يبين الرسول كيف تكون أجسادنا المستقبلة كأجسادنا الحاضرة لكنه اكتفى بأنها لاتزال هي هي. ويصعب أن نوضح كيف أن جسد الإنسان شيخاً هو جسده طفلاً مع كثرة التغيرات التي طرأت عليه في تلك المدة ومع ذلك لا يستطيع أحد أن ينكر وحدته كذلك لا حق لأحد أن ينكر أن جسد القيامة هو جسد الموت لمجرد عجزه عن بيان كيفية ذلك مع كل ما يطرأ عليه من التغييرات منذ الموت إلى القيامة.

٣٧ «وَٱلَّذِي تَزْرَعُهُ، لَسْتَ تَزْرَعُ ٱلْجِسْمَ ٱلَّذِي سَوْفَ يَصِيرُ، بَلْ حَبَّةً مُجَرَّدَةً، رُبَّمَا مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ أَحَدِ ٱلْبَوَاقِي».

برهن في الآية السابقة على أن موت بزر ضروري لحياة نباته. وقال هنا أن النباتة الناتجة عن البزر تختلف عنه في بعض صفاتها فتزرع حبة قمح فتنبت نباتة مختلفة عن الحبة في بعض الصفات وتضع في القبر جسداً طبيعياً فاسداً فيخرج منه يوم القيامة جسداً روحياً لا يقبل الفساد بدليل ما شاهدناه من البزور ونباتاتها فنعلم من ذلك أنه لا يلزم أن تكون أجسادنا المستقبلة مثل أجسادنا الحاضرة فيمكن أن تكون أمجد منها كثيراً كما أن السنبلة أمجد من القمحة التي هي أصلها.

لَسْتَ تَزْرَعُ ٱلْجِسْمَ ٱلَّذِي سَوْفَ يَصِيرُ أي لم تزرع النبتة وثمرها.

بَلْ حَبَّةً مُجَرَّدَةً أي بلا ساق ولا ورق ولا ثمر.

أَوْ أَحَدِ ٱلْبَوَاقِي أي بزر ما بقي من الحبوب أو القطاني.

٣٨ «وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ يُعْطِيهَا جِسْماً كَمَا أَرَادَ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ ٱلْبُزُورِ جِسْمَهُ».

في هذه الآية إن ما نشاهده في نمو النباتات من أن النبتة تفرق شيئاً عن بزورها هو نتيجة النظام الذي وضعه الله وهو يحفظه دائماً وبمقتضى هذا النظام كان لكل بزرة نبتة خاصة فمن القمحة تنبت السنبلة ومن بزرة البلوط تنبت البلوطة كذا أراد الله وكذا قضى. وما فعله الله في الحبوب يستطيع أن يفعله في أجسادنا فكما أنه أعطي النباتات هيآتها يقدر أن يعطي أجساد القيامة هيآتها فإذا نظرنا إلى البزر ما استطعنا أن نحكم ماذا تكون هيئة نبتة كذلك لا نقدر أن نحكم من مشاهدة أجسادنا الحاضرة بالهيئة التي تكون عليها أجسادنا المستقبلة. والذي نعلمه هو أن أجسادنا لا تتلاشى بعد أن توضع في القبر كما أن البزر لا يتلاشى بعد وضعه في الأرض فمن البزور المدفونة ينتج حصاد وافر ومن الأجساد المدفونة قيامة مجيدة. فكل بزرة مدفونة لها نبتة خاصة وكل إنسان مدفون له جسد مختص به يوم القيامة بينه وبين جسده الأرضي شيء من التعلق لا يخرج به جسد القيامة عن كونه جسده الأصلي.

٣٩ «لَيْسَ كُلُّ جَسَدٍ جَسَداً وَاحِداً، بَلْ لِلنَّاسِ جَسَدٌ وَاحِدٌ وَلِلْبَهَائِمِ جَسَدٌ آخَرُ، وَلِلسَّمَكِ آخَرُ وَلِلطَّيْرِ آخَرُ».

نرى في النظام الذي رتبه الله أن أجساد الحيوانات مع كون كل منها لحماً ودماً يختلف بعضها عن بعض كثيراً على وفق أحوالها فلبعضها أجساد مناسبة للمشي ولبعضها أجسام مناسبة للسباحة ولبعضها أجساد مناسبة للطيران. وهذا يدلنا أنه ليس من الضروري أن تكون أجسادنا في السماء مثل أجسادنا على الأرض فكما أن الله أعطى بحكمته وقدرته وعنايته كل حيوان الجسد الذي اقتضته حاله كذلك يعطينا في السماء أجساداً تقتضيها حالنا هناك.

٤٠ «وَأَجْسَامٌ سَمَاوِيَّةٌ وَأَجْسَامٌ أَرْضِيَّةٌ. لٰكِنَّ مَجْدَ ٱلسَّمَاوِيَّاتِ شَيْءٌ وَمَجْدَ ٱلأَرْضِيَّاتِ آخَرُ».

الذي تحققناه من كثرة صنوف الأجساد النباتية والحيوانية سنتحققه أيضاً في الأجسام السماوية فإنها كثيرة الصنوف مختلفة عن الأجسام الأرضية.

أَجْسَامٌ سَمَاوِيَّةٌ ذهب البعض إلى أن هذه الأجسام هي الأجساد التي كان الملائكة يتخذونها حين ظهورهم على الأرض وهي منيرة مجيدة بدليل ما قيل في الملاك الذي ظهر على قبر المسيح من أنه «كَانَ مَنْظَرُهُ كَٱلْبَرْقِ، وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَٱلثَّلْجِ» (متّى ٢٨: ٣ انظر أيضاً أعمال ١٢: ٧) وأن بولس قصد أن يقول أن أجساد الملائكة تختلف عن أجساد الناس. وذهب آخر أن تلك الأجسام هي أجساد القديسين في السماء وأنه قصد أن يقول كما أن الأجساد الأرضية يختلف بعضها عن بعض كذلك أجساد القديسين في السماء ولكن الأرجح أن المراد «بالأجسام» هنا الأجرام السماوية أي الكواكب وهي الشمس والقمر والنجوم المذكورة في الآية التالية وأن علة ذكرها هناك بيان معناها هنا. ومفاد الآية أن الله جعل الأجرام السماوية مختلفة عن الأجسام التي خلقها على الأرض فيلزم من ذلك أنه قادر أن يغير هيئة الأجساد الأرضية وبعض صفاتها متى أراد أن ينقلها من الأرض إلى السماء.

٤١ «مَجْدُ ٱلشَّمْسِ شَيْءٌ وَمَجْدُ ٱلْقَمَرِ آخَرُ، وَمَجْدُ ٱلنُّجُومِ آخَرُ. لأَنَّ نَجْماً يَمْتَازُ عَنْ نَجْمٍ فِي ٱلْمَجْدِ».

سبق في ع ٤٠ أن الأجسام السماوية تختلف عن الأجساد الأرضية في المجد وقيل هنا «إن الأجرام السماوية يمتاز بعضها عن بعض في الأقدار واللمعان كما يتبين بالمشاهدة. ولا يستطيع أحد أن ينكر امتياز الشمس عن القمر والقمر عن النجوم وامتياز بعض النجوم عن بعض. والنتيجة التي نصل إليها من كثرة صنوف الأجسام وأشكالها في السماء وعلى الأرض هي أنه من أشد الغباوة القول بأن التسليم يلبسنا أجساداً في السماء يستلزم كون تلك الأجساد كثيفة ثقيلة فاسدة التي على الأرض لأن الذي خلق كل تلك الأجسام يقدر بالأولى أن يعيدها بعد انحلالها بصور جديدة ومجد أعظم».

٤٢ «هٰكَذَا أَيْضاً قِيَامَةُ ٱلأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ».

دانيال ١٢: ٢ و٣ ومتّى ١٣: ٤٣

هٰكَذَا أَيْضاً قِيَامَةُ ٱلأَمْوَاتِ أي كذلك أجساد القيامة. فالمعنى أنه كما يمتاز النباتات عن بزورها والأجسام السماوية عن الأجسام الأرضية ونجمٌ عن نجم هكذا يمتاز جسد القيامة عن جسدنا الحاضر. وما يأتي بيان أنه بماذا يمتاز هذا عن ذاك. والذي يستحق الملاحظة هنا أن الرسول أبان في كل مقابلته بين المزروع والمقام أن الذي يقام هو الذي يزرع عينه.

يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ قال «يزرع» ولم يقل يُدفن لأن جسد المؤمن عند موته يوضع في القبر كما يوضع البزر في الأرض فإن البزر لا يوضع في الأرض ليتلاشى ولا ليبقى فيها دائماً بل لينبت ويحصل على حياة جديدة أمجد من الأولى. (ولعل هذا علة تسمية المقبرة بالتربة لأنها مزرعة أجساد الموتى على رجاء القيامة) وكذلك أجساد المؤمنين ونُسب الفساد للمرض والموت وبعد الموت عرضة للانحلال حتى يكرهه المحب فإن إبراهيم قال على أثر موت سارة لبني حث «أَعْطُونِي مُلْكَ قَبْرٍ مَعَكُمْ لأَدْفِنَ مَيِّتِي مِنْ أَمَامِي» (تكوين ٢٣: ٤).

يُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ غير قابل للضعف والمرض والتدنس والموت والانحلال.

٤٣، ٤٤ «٤٣ يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ. يُزْرَعُ فِي ضَعْفٍ وَيُقَامُ فِي قُوَّةٍ. ٤٤ يُزْرَعُ جِسْماً حَيَوَانِيّاً وَيُقَامُ جِسْماً رُوحَانِيّاً. يُوجَدُ جِسْمٌ حَيَوَانِيٌّ وَيُوجَدُ جِسْمٌ رُوحَانِيٌّ».

فيلبي ٣: ٢١

يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ متى وضع في القبر ليرجع إلى التراب الذي أُخذ منه وفارقه كل ما كان له من الجمال والقوة والإكرام والهيبة. فهوان العبيد هنا بالنسبة إلى الأحرار ليس شيئاً بالنسبة إلى هوان الموتى إذ لا عبودية كعبودية الموت. ومعظم هوان الموت ناتج عن كونه دخل العالم عقاباً على الخطيئة.

يُقَامُ فِي مَجْدٍ أي في غاية الجمال وكمال القوة لأنه يُقام بصورة المسيح بدليل قوله «ٱلَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ» (فيلبي ٣: ٢١). فإن الله يزيل عنه كل آثار الخطيئة ويؤهله لسكنى عالم المجد ومعاشرة الملائكة وغيرهم من الممجدين. ومن الواضح أن الرسول لم يتكلم هنا إلا على قيامة الأبرار. فقوله فيها كقول المسيح «حِينَئِذٍ يُضِيءُ ٱلأَبْرَارُ كَٱلشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ أَبِيهِمْ» (متّى ١٣: ٤٣ انظر أيضاً لوقا ٩: ٢٩ – ٣١ و١يوحنا ٣: ٢٠).

يُزْرَعُ فِي ضَعْفٍ لا شيء أضعف من جثة الميت لأنها عاجزة عن العمل والدفع عن نفسها.

يُقَامُ فِي قُوَّةٍ هي القوة المناسبة للحياة الجديدة الخالدة التي يقدر بها على إجراء كل مقاصده وأوامر الله بلا تعب ولا يكون حينئذ عرضة لشيء من المرض أو الضعف ولعله يحصل حينئذ على قوى جديدة ومواهب لا نستطيع تصورها هنا.

وصف بولس هنا جسد القيامة بثلاث صفات وهي عدم الفساد والمجد والقوة وهي مما لا نقدر أن تصور شيئاً أحسن من الحصول عليها.

يُزْرَعُ جِسْماً حَيَوَانِيّاً هذا خلاصة ما نسبه إليه من الفساد والهوان والضعف. وهذا الجسم حيواني لأننا ولدنا فيه وهو موافق لحالنا على الأرض ومركب من لحم ودم يحتاج إلى قوت وكسوة ورياضة وراحة وبه نلذ يالشهوات ونتعرض للآلام ونشارك البهائم في أكثر الأشياء. وهذا الجسم موافق أيضاً لكوننا عقلاء. ولولا تأثير الخطيئة في الشهوة لوافقت تلك الأجساد حياتنا الروحية (٢كورنثوس ٥: ٢ و٤).

يُقَامُ جِسْماً رُوحَانِيّاً نعلم قليلاً من صفات هذا الجسم غير الصفات الثلاث المذكورة آنفاً وهي «عدم الفساد والمجد والقوة» لكننا على يقين أنه يكون موافقاً لسكنى السماء التي هي عالم الأرواح كما كان موافقاً لسكنى الأرض حيث كان في حاجة إلى ما يحتاج إليه سائر الحيوان. وإننا لا نزال نكون ذوي أجسام في الحال الروحانية لكن تلك الأجسام تكون خالية من الشهوات الدنيوية مستغنية عن المقومات التي تحتاج إليها الأجسام الحيوانية ولا تكون من لحم ودم (ع ٥٠). ولا تجوع بعد ولا تعطش (رؤيا ٧: ١٦). وتكون ذوات صور تتمايز بها بدليل ما في (١تسالونيكي ٤: ١٢ – ١٥) ويسمى الجسم الروحاني أيضاً «بِنَاءٌ مِنَ ٱللّٰهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ… مَسْكَنَنَا ٱلَّذِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ» (٢كورنثوس ٥: ١ و٢).

يُوجَدُ جِسْمٌ حَيَوَانِيٌّ وَيُوجَدُ جِسْمٌ رُوحَانِيٌّ كرر هذا للتوكيد ولبيان أنه إذا صدقت وجود الأول وجب أن تصدق وجود الثاني. وأنه لا منافاة بين كون الشيء جسماً وكونه روحانياً فكأنه قال أن للإنسان جسماً موافقاً لطبيعته وهو على الأرض يشارك فيه سائر الحيوانات فكما حققت ذلك يجب أن تصدق أن يكون له جسم موافق لطبيعته الممجدة وهو في السماء يشارك فيه الملائكة الأطهار. ويحتمل أنه قصد نتيجة التنظير بين البزر والنبات فأنزل الجسم الحيواني منزلة البزر والجسم الروحاني منزلة النبات الناتج عنه فكأنه قال يوجد جسم حيواني يصدر عنه جسم روحاني كما أنه يوجد بزر يخرج منه النبات. ونسبة إلى الإنسان جسمين «حيوانياً وروحانياً» لا يمنع من أن يكون جسماً واحداً لأن النفس التي سكنت الأول هي التي تسكن الثاني والعلاقة بين الأول والثاني حقيقة وإن لم نستطع بيانها. فيصح لنا القول بأن الجسد الذي مات يقوم ولا يصح أن نسمي ما يحدث له من التغير في السماء خلقاً جديداً إنما يُسمى قيامة.

٤٥ «هٰكَذَا مَكْتُوبٌ أَيْضاً: صَارَ آدَمُ ٱلإِنْسَانُ ٱلأَوَّلُ نَفْساً حَيَّةً، وَآدَمُ ٱلأَخِيرُ رُوحاً مُحْيِياً».

تكوين ٢: ٧ رومية ٥: ١٤ يوحنا ٥: ٢١ و٦: ٣٣ و٣٩ و٤٠ و٥٤ و٥٧ وفيلبي ٣: ٢١ وكولوسي ٣: ٤

هٰكَذَا مَكْتُوبٌ أَيْضاً قال هذا دليلاً على أن كلامه على وفق كلام الوحي.

صَارَ آدَمُ ٱلإِنْسَانُ ٱلأَوَّلُ نَفْساً حَيَّةً هذا مقتبس من (تكوين ٢: ٧). جمع فيه كل ما يتعلق بخلق آدم وهو أن الله جبل جسده من التراب ونفخ في أنفه نسمة الحياة. ومفاده أن لآدم نفساً وجسداً موافقاً لها ولسكنها الأرض ولذلك كان جسده يختلف قليلاً عن أجسادنا اليوم. نعم أنه خُلق ليحيا إلى الأبد لأن الموت أجرة الخطيئة على ما علمنا الوحي لكن ما صرّح به في هذه الآية بمقابلة جسد آدم الترابي الفاني بجسد المسيح الروحي الباقي يستلزم أن جسد آدم حين خُلق لم يكن أهلاً للخلود. فالأرجح أنه لو لم يخطأ آدم لتغير جسده وأجساد نسله بلا موت كما قال بولس إن أجساد المؤمنين الذين لا يزالون أحياء عند مجيء المسيح تتغير (١تسالونيكي ٤: ١٥ و١٧). فالظاهر أن شجرة الحياة كانت رمزاً إلى ذلك التغير لأن الله طرد آدم من الجنة بعدما خطئ «لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ ٱلْحَيَاةِ أَيْضاً وَيَأْكُلُ وَيَحْيَا إِلَى ٱلأَبَدِ» (تكوين ٣: ٢٢). ونتيجة كل ذلك أن أجسادنا الحاضرة ورثناها من آدم وهي موافقة لحياتنا على الأرض.

آدَمُ ٱلأَخِيرُ أي يسوع المسيح رأس البشر الثاني ونائبهم كما كان آدم (رومية ٥: ١٤). ودعي «الأخير» لأنه جاء متجسداًً بعد آدم ولأنه لا يأتي بعده رأس ونائب آخر.

رُوحاً مُحْيِياً باعتبار اتحاد طبيعته الإلهية بطبيعته الإنسانية بدليل قوله «لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذٰلِكَ أَعْطَى ٱلٱبْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ». وقوله «لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلآبَ يُقِيمُ ٱلأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذٰلِكَ ٱلٱبْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ» (يوحنا ٥: ٢٦ و٢١ انظر أيضاً يوحنا ٦: ٥١ و١٠: ١٠ و١١: ٢٥). قال بعضهم إن المسيح صار روحاًً محيياً حين تجسده بدليل ما في الآيات المستشهد بها فإنه قالها قبل قيامته وصعوده. وقال آخر أنه صار كذلك عند قيامته وغيره أنه صار كذلك عند صعوده ولكل حجج على مذهبه. والأمر الجوهري في الآية بيان تمييز طبيعة المسيح وهو في السماء عن طبيعة آدم وهو على الأرض بقطع النظر عن الوقت الذي صار فيه روحاً محيياً. ولا شيء في كلام الرسول ينفي أن المسيح إنسان مولود من امرأة وأنه ذو نفس حية. ومعظم التمييز بين المسيح وآدم أن طبيعة المسيح كانت روحية سامية وأنه قادر أن يحيي غيره. وفي الآية إن جسد القيامة يكون روحياً كجسد المسيح موافقاً للحياة السماوية ونحصل على ذلك الجسد الروحي بالمسيح لأنه روح محيي.

٤٦ «لٰكِنْ لَيْسَ ٱلرُّوحَانِيُّ أَوَّلاً بَلِ ٱلْحَيَوَانِيُّ، وَبَعْدَ ذٰلِكَ ٱلرُّوحَانِيُّ».

الترتيب المذكور في هذه الآية موافق لما نشاهده في سائر أعمال الله المتوالية فإن السافل يسبق العالي والناقص يسبق الكامل والضعيف الفاسد المائت يسبق القوي غير الفاسد الخالد والحياة الأرضية تسبق السماوية كما أن ولادتنا الجسدية تسبق ولادتنا الروحية وهذا كله باعتبار حياتنا على الأرض زرعاً وحياتنا في السماء حصاداً.

٤٧ «ٱلإِنْسَانُ ٱلأَوَّلُ مِنَ ٱلأَرْضِ تُرَابِيٌّ. ٱلإِنْسَانُ ٱلثَّانِي ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ».

يوحنا ٣: ٣١ تكوين ٢: ٧ و٣: ١٩ يوخنا ٣: ١٢ و٣١

هذه الآية تفصيل للمبدإ العام الذي في الآية السادسة والأربعين ومفادها أن آدم سبق المسيح.

ٱلإِنْسَانُ ٱلأَوَّلُ مِنَ ٱلأَرْضِ تُرَابِيٌّ أي أن آدم كان ترابياً لأن جسده خُلق من الأرض وكان موافقاً للسكن عليها.

ٱلإِنْسَانُ ٱلثَّانِي ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ أي ابن الله في حال تجسده بدليل قوله «ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ» (يوحنا ٣: ١٣). ومفاد ذلك أن المسيح بالذات من السماء لبس هنا جسداً ووُلد من امرأة ولادة خارقة العادة فصار إنساناً وقصد الله أن يكون ذلك الجسد للسماء هذا الجسد الآن في السماء في الحال الموافقة للحياة هناك وتكون أجساد المؤمنين بعد القيامة مثله. وغاية بولس الوصول إلى هذه النتيجة فكأنه قال آدم من الأرض ومن الواضع أننا مثله هنا والمسيح من السماء وسنكون مثله هناك.

٤٨ «كَمَا هُوَ ٱلتُّرَابِيُّ هٰكَذَا ٱلتُّرَابِيُّونَ أَيْضاً، وَكَمَا هُوَ ٱلسَّمَاوِيُّ هٰكَذَا ٱلسَّمَاوِيُّونَ أَيْضاً».

فيلبي ٣: ٢٠ و٢١

ٱلتُّرَابِيُّ أي آدم.

ٱلتُّرَابِيُّونَ أي نسل آدم لأن أجسادهم من التراب كجسده.

ٱلسَّمَاوِيُّ المسيح.

ٱلسَّمَاوِيُّونَ المؤمنون عند القيامة وبعدها فإنهم «يكونون على صورة جسد مجده» (فيلبي ٣: ٢١).

٤٩ «وَكَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ ٱلتُّرَابِيِّ سَنَلْبَسُ أَيْضاً صُورَةَ ٱلسَّمَاوِيِّ».

تكوين ٥: ٣ رومية ٨: ٢٩ و٢كورنثوس ٣: ١٨ و٤: ١١ وفيلبي ٣: ٢١ و١يوحنا ٣: ٢

لَبِسْنَا صُورَةَ ٱلتُّرَابِيِّ أي ورثنا من آدم طبيعة كطبيعته ضعيفة قابلة للمرض والألم والفساد والموت.

سَنَلْبَسُ أَيْضاً صُورَةَ ٱلسَّمَاوِيِّ هذا جواب سؤال المعترض في (ع ٣٥) وهو أن أجساد القيامة لا تكون مثل أجسادنا الحاضرة بل تكون مثل جسد المسيح الممجد. ولا إشارة هنا إلى الصورة الأدبية مع أنها من الواقعات التي بُينت في أماكن أُخر.

٥٠ «فَأَقُولُ هٰذَا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ: إِنَّ لَحْماً وَدَماً لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ يَرِثَا مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ، وَلاَ يَرِثُ ٱلْفَسَادُ عَدَمَ ٱلْفَسَادِ».

متّى ١٦: ١٧ ويوحنا ٣: ٢ و٥

فَأَقُولُ هٰذَا هذه العبارة تنبيه على ما يأتي من جهة حقيقة جسد القيامة وبيان أنه لا يريد أن يغفلوا عنه أو أن يشكوا فيه.

إِنَّ لَحْماً وَدَماً أي أجسادنا على تركيبها هنا وهي الحيوانية والكتاب المقدس لم يستعمل هذا قط للإشارة إلى طبيعة البشر الخاطئة بدليل قوله «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلاَدُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا الخ» (عبرانيين ٢: ١٤) والمسيح لا يمكن أن يشترك في الإثم (انظر أيضاً متّى ١٦: ١٧ وغلاطية ١: ١٦ وأفسس ٦: ١٢). نعم إن الإنسان غير المتجدد لا يرث ملكوت الله ولكن بيان هذا ليس من غرض الرسول هنا فإن غايته الإشارة إلى أجسادنا الضعيفة المحتاجة إلى المقومات المادية التي لا تفتأ تنحل أجزاؤها وتتجدد مدة حياتها على الأرض وهي قابلة المرض والألم والموت والفساد.

لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ يَرِثَا مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ أي الملكوت السماوي الذي يسكنه المؤمنون مع المسيح بعد قيامتهم على ما في قوله «إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِبِ وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ٨: ١١ انظر أيضاً لوقا ١٣: ٢٨ و١كورنثوس ٦: ٩ وغلاطية ٥: ٢١ و٢تيموثاوس ٤: ١٨). وعلة عجز اللحم والدم عن أن يرثا السماء إنهما لا يوافقان الحياة الروحانية فيها وأحوال السماء تمنعهما من ذلك.

وَلاَ يَرِثُ ٱلْفَسَادُ عَدَمَ ٱلْفَسَادِ هذا تكرار الجملة السابقة بالمعنى وبيان علة ما قيل فيها. «والفساد» عبارة عن كل صفات الجسد الأرضي الحيواني. و «عدم الفساد» عبارة عن كل صفات أجساد الممجدين في السماء. وهذان الأمران نقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان فكأنه قال الميت يستحيل أن يكون خالداً والفاني أن يكون باقياً. فينتج من ذلك أنه من الضرورة أن تتغير أجسادنا ليمكنها أن تكون خالدة باقية وأكد الرسول ذلك بالوحي في ما يأتي.

٥١ «هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلٰكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ».

١تسالونيكي ٤: ١٥٦ إلى ١٧ فيلبي ٣: ٢١

هُوَذَا هذا تنبيه على أن ما يأتي ذو شأن يستحق كل الاعتناء به.

سِرٌّ أي حقيقة أعلنها الوحي ولولاه لبقيت وراء حجب الخفاء كما في (متّى ١٣: ١١ و١كورنثوس ٤: ١). ومواضع أُخر كثيرة. والإعلان الذي عبر عنه «بالسر» هنا عبّر عنه بكلمة «الرب» في (١تسالونيكي ٤: ١٥).

لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا المراد «بالرقاد» هنا الموت (انظر شرح ص ١١: ٣٠). وبقوله «كلنا» جميع المؤمنين الماضين والحاضرين والآتين. ومفاد العبارة أن بعض المؤمنين يكونون أحياء عند مجيء المسيح.

وَلٰكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ سبق قوله في (ع ٥٠) «إِنَّ لَحْماً وَدَماً لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ يَرِثَا مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ» وصرّح هنا أنه لا بد من تغير جميع الذين يدخلون ذلك الملكوت ممن ماتوا قبل مجيء المسيح وممن بقوا أحياء عند مجيئه. وقال أنه عرف بالوحي إن الموتى يبلغون عند إقامتهم من الموت ذلك التغير المبارك وإن أجساد الأحياء لا تبقى قابلة الفساد بل تحصل على ما حصل عليه أولئك وبذلك يكون الأموات والأحياء معاً معدين لمسكنهم السماوي.

لا شيء هنا يدل على أن بولس توقع أن يبقى هو ومسيحيو عصره أحياء إلى مجيء المسيح لأن معنى قوله هنا كمعنى قوله «إِنَّنَا نَحْنُ ٱلأَحْيَاءَ ٱلْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ ٱلرَّبِّ لاَ نَسْبِقُ ٱلرَّاقِدِينَ» (١تسالونيكي ٤: ١٥). وقد حذر التسالونيكيين في رسالته الثانية إليهم من توقع مجيء المسيح في الحال وأنبأهم بأنه يسبق ذلك المجيء الارتداد العظيم «وَيُسْتَعْلَنَ إِنْسَانُ ٱلْخَطِيَّةِ، ٱبْنُ ٱلْهَلاَكِ» (٢تسالونيكي ٢: ٣). والرسل اعترفوا بأنهم يجهلون وقت مجيء المسيح فإذاًً لا يمكن بولس أن يقول «بكلمة الرب» إنه يأتي في عصره.

٥٢ «فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ ٱلْبُوقِ ٱلأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ ٱلأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ».

زكريا ٩: ١٤ ومتّى ٢٤: ٣١ ويوحنا ٥: ٢٥ و١تسالونيكي ٤: ١٦

فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ أي إن تغيير أجساد المؤمنين يكون في أصغر ما يمكن فرضه من الوقت.

عِنْدَ ٱلْبُوقِ ٱلأَخِيرِ في اليوم الأخير. والنفخ في البوق يُستعمل لجمع الناس إلى الحرب أو إلى احتفال كبير. فكنى بصوت البوق هنا إلى جمع جمهور عظيم كما في قول المسيح «فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِبُوقٍ عَظِيمِ ٱلصَّوْتِ، فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ ٱلأَرْبَعِ ٱلرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ ٱلسَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَائِهَا» (متّى ٢٤: ٣١). قابل هذا بما في إشعياء ٢٧: ١٣ و١تسالونيكي ٤: ١٦). ووصف هذا البوق بكونه «أخيراً» لأنه لا يُنفخ في مثله بعده وهو الذي يدعو الموتى إلى القيامة.

فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ هذا تكرار للتوكيد ولتحقيق أن صوته يسمع حينئذ كما تحققنا أن الإسرائليين سمعوا في طور سينا الرعود «وَصَوْتُ بُوقٍ شَدِيدٌ جِدّاً» (خروج ١٩: ١٦).

٥٣ «لأَنَّ هٰذَا ٱلْفَاسِدَ لاَ بُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ، وَهٰذَا ٱلْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ».

٢كورنثوس ٥: ٤

في هذه الآية بيان علة كون التغير ضرورياً وهي مكرر (ع ٥٠) ومفادها استحالة أن يرث الفاسد الخلود بلا تغير وهذا يصدق على الأموات والأحياء كليهما (فيلبي ٣: ٢١). وفيها إيضاح أن الجسد الروحاني مقام لا خلق جديد لقوله «إن هذا الجسد الفاسد المائت عينه لا بد من أن يصير غير قابل الفساد ولا الموت» ولم يقل إن هذه النفس التي انفصلت عن الجسد لا بد من أن تلبس عدم الفساد وعدم الموت.

٥٤ «وَمَتَى لَبِسَ هٰذَا ٱلْفَاسِدُ عَدَمَ فَسَادٍ، وَلَبِسَ هٰذَا ٱلْمَائِتُ عَدَمَ مَوْتٍ، فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ ٱلْكَلِمَةُ ٱلْمَكْتُوبَةُ: ٱبْتُلِعَ ٱلْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ».

إشعياء ٢٥: ٨ وعبرانيين ٢: ١٤ و١٥ ورؤيا ٢٠: ١٤

معنى هذه الآية أنه متى تم التغير المذكور في الأموات والأحياء غُلب الموت كما أنبأ إشعياء (إشعياء ٢٥: ٨). وقيل هذا أولاً على اليهود ونسبه الرسول هنا إلى آدم وكل نسله والانتصار على الموت يكون أبدياً لأنه يتحرر كل الذين أُسروا في سجن القبر «والموت لا يكون فيما بعد» (رومية ٢١: ٤).

٥٥ «أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟».

هوشع ١٣: ١٤

في هذه الآية والتي بعدها النتائج العظيمة من تعليم القيامة وبها صور الأمور المستقبلة حاضرة كأن المسيح غلب الموت علناً وأقام الموتى ومنح كل شعبه الخلود. ورأى الرسول عند ذلك أنه يحق له وللذين يخاطبهم أن يهتفوا هتاف النصر.

أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ شبه الموت بلادغ سام كالعقرب لدغته مؤلمة مهلكة (رؤيا ٩: ٥ و١٠). والاستفهام إنكاري معناه أنه ليس للموت حينئذ من قوة على الإيلام والإهلاك.

أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ خاطب هنا القبر أو مسكن الأموات كأنه سجان قاس مقتدر تسلط على البشر على توالي العصور لكنه انكسر أخيراً وأُطلقت أسراه إلى الأبد. والألفاظ التي استعملها الرسول هنا كالألفاظ التي استعملها هوشع النبي في قوله «مِنْ يَدِ ٱلْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ ٱلْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ. أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟ تَخْتَفِي ٱلنَّدَامَةُ عَنْ عَيْنَيَّ» (هوشع ١٣: ١٤). لكن غاية كل منهما غير غاية الآخر.

٥٦ «أَمَّا شَوْكَةُ ٱلْمَوْتِ فَهِيَ ٱلْخَطِيَّةُ، وَقُوَّةُ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ ٱلنَّامُوسُ».

رومية ٤: ١٥ و٥: ١٣ و٧: ٥ و١٣

أَمَّا شَوْكَةُ ٱلْمَوْتِ فَهِيَ ٱلْخَطِيَّةُ لولا الخطيئة لم يكن للموت قوة على الإيذاء لعلتين الأولى إنه لولاها لم يكن للموت من وجود بدليل قوله «وبالخطيئة الموت» (رومية ٥: ١٢). والثانية إن أهوال الموت بعد دخوله كلها من الخطيئة فليس للموت من سلطان للإيذاء على من غُفرت خطاياه إنما يكون وسيلة لنقله من حال سافلة إلى حال عالية.

وَقُوَّةُ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ ٱلنَّامُوسُ الناموس هنا شريعة الله المقدسة على الإطلاق وإذا قصرناه على الشريعة الموسوية الرمزية كانت العبارة بلا معنى. ولكون قوة الخطيئة الناموس علتان:

الأولى: إنه لولا الناموس لم تكن الخطيئة (رومية ٤: ١٥). فحقيقة الخطيئة هي عصيان العقلاء لشريعة الله فلو لم يكن الناموس مكتوباً على قلوبهم أو معلناً لهم بالوحي ما أمكنهم أن يخطأوا.

الثانية: إنه لولا الناموس لم تكن من دينونة «لأن الخطيئة لا تحسب إن لم يكن ناموس» (انظر تفسير رومية ٥: ١٣). وذكر الرسول في غير هذا الموضع إن الناموس يهيج الخاطئ أيضاً على المقاومة (رومية ٧: ٨ – ١٢) ولكن ليس من غرضه هنا الإشارة إلى ذلك.

فاتضح من هذه الآية عجز الناموس عن إزالة خوف الموت من قلب الخاطئ وعن تحريره من سلطانه فأثبت شدة افتقاره إلى الإنجيل وإلى فداء المسيح المعلن فيه.

٥٧ «وَلٰكِنْ شُكْراً لِلّٰهِ ٱلَّذِي يُعْطِينَا ٱلْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

رومية ٧: ٢٥ ١يوحنا ٥: ٤ و٥

تيقن الرسول الانتصار حمله على تصور إدراكه إياه وعلى شكر الله عليه.

شُكْراً لِلّٰهِ ٱلَّذِي يُعْطِينَا ٱلْغَلَبَةَ إن الله يستحق الشكر على تلك الغلبة لأنه هو الذي قضى بها وأوجد وسائط نيلها وختمها بإقامة أجسادنا من القبر وجعلها مشاركة لأنفسنا في ميراث الحياة الأبدية.

بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ اي بواسطته لا بواسطة غيره لأمرين:

الأول: إنه أوفى مطاليب الناموس نيابة عنا بدليل قوله «لاَ شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ ٱلآنَ عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (رومية ٨: ١). وقوله «مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي ٱللّٰهِ؟ اَللّٰهُ هُوَ ٱلَّذِي يُبَرِّرُ! مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ ٱلَّذِي مَاتَ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً، ٱلَّذِي هُوَ أَيْضاً عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَا!» (رومية ٨: ٣٣ و٣٤). إن المسيح بموته أباد ذلك الذي له سلطان الموت أي إبليس «وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ ٱلَّذِينَ خَوْفاً مِنَ ٱلْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ ٱلْعُبُودِيَّةِ» (عبرانيين ٢: ١٥). ولأنه كانت قوة الخطيئة بالناموس وبالخطيئة كانت شوكة الموت أبطل المسيح لما أوفى مطاليب الناموس قوة الموت على إيذاء شعبه.

الثاني: إن المسيح نجانا من الموت لأنه بقوته غير المحدودة يخلق النفس ثانية على صورة الله ويصلح كل ما أفسدته الخطيئة من طبيعتنا وحالنا ويطلق أجسادنا من القبور ويصورها على شكل جسد مجده ويدخلها حال السعادة التي هي أعظم مما لا يقدر مما خسرناه بالخطيئة.

٥٨ «إِذاً يَا إِخْوَتِي ٱلأَحِبَّاءَ، كُونُوا رَاسِخِينَ، غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ، مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ ٱلرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي ٱلرَّبِّ».

٢بطرس ١٢: ٤ ص ٣: ٨

إِذاً أي بناء على كل ما سبق من البراهين على صحة القيامة ومن أنها من جوهريات الدين المسيحي وإيضاح حقيقتها ونتائجها العظيمة حثهم على أمرين هما الثبوت في الإيمان والغيرة في العمل.

يَا إِخْوَتِي ٱلأَحِبَّاءَ خاطبهم بكلمات اللطف والمودة ترغيباً لهم في قبول نصيحته.

كُونُوا رَاسِخِينَ، غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ أي غير ملتفتين إلى المعلمين المفسدين الذين أتوكم بآراء الصدوقيين والفلاسفة اليونانيين ليحملوكم على إنكار تلك العقيدة الجوهرية في الدين المسيحي التي بُني عليها كل ثقتكم بأن المسيح قد قام ورجائكم لمغفرة خطاياكم واشتراككم في السعادة السماوية الأبدية وخلاصة ذلك وجوب أن تثبتوا في إيمان الإنجيل.

مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ ٱلرَّبِّ كُلَّ حِينٍ المراد بعمل الرب هنا العمل الذي تكون الغاية منه تمجيد الرب وهو العمل الذي هو يأمرنا به ويمارسه الآن بشفاعته وفعل روحه القدوس وهو إبطال الخطيئة من قلوبنا وقلوب غيرنا وربح الحياة الأبدية لأنفسنا ولسائر الناس. وواسطة ذلك التبشير بالإنجيل والمناداة بأن خلاص المسيح لكل مؤمن. ولم يقتصر على إيجابه عليهم ذلك العمل بل سألهم أن يكثروا منه لا في يوم أو سنة بل في كل حين.

عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي ٱلرَّبِّ ففي هذا الحامل على الثبوت والخدمة وهو تيقنهم أن الله أعلن أن يكون قيامة مجيدة وثواب لكل فاعل أمين في كرم الرب فإن لم تكن قيامة لم يكن ما يحملهم عليها لأنه يكون بدونها كل أتعابهم عبثاً ولكن تيقن القيامة إثابة الأبرار بنعمة الله وباستحقاق المسيح.

ختم الرسول كلامه على القيامة بإظهار العلاقة بين الحياة الحاضرة والحياة المستقبلة وإن الأمانة في التمسك بالحق وإعلانه للغير هنا استعداد للمجد والسعادة هناك. وتقييده التعب بكونه «ليس باطلاً في الرب» توكيد أن الرب لا يغفل عما عمله أو احتمله في خدمته مهما كان صغيراً ومحتقراً في عيون الناس.

فوائد

  1. إن تأثير هذا الأصحاح إزالة هول الموت من قلب المسيحي لأنه أكد له إن الموت ليس سوى رقاد سلام يعقبه قيامة مجيدة وسعادة أبدية (ع ٦).
  2. إن عقائد الإنجيل متعلق بعضها ببعض كحلقات سلسلة وكحجارة قنطرة فإبطال أحدها إبطال الكل (ع ١٣ – ١٧).
  3. إنه لا يكفينا الإيمان بأن المسيح مات على الصليب ليفدينا من الموت فيجب أن نؤمن أيضاً بأنه حي الآن حتى نشاركه في الحياة الأبدية (ع ١٩).
  4. إنه لا يمكن أن نجد حادثة في ما مضى من تاريخ العالم ذات أدلة أقوى من الأدلة على قيامة المسيح فمن أنكرها بحجة ضعف أدلتها وجب عليه إن ينكر كل تواريخ الأرض (ع ٢٠).
  5. إن قيامة المسيح بالنظر إلى نتائجها العظيمة تستحق أن تكون موضوع سرورنا الأعظم وشكرنا الأوفر وترنيمنا الأسمى ويستحق يوم حدوثها أن يكون أول الأسبوع وأن يُبدل من يوم السبت فيكون يوماً لذكر القيامة وإكمال الله خلق العالمين معاً.
  6. إنه حدث في التاريخ ثلاث حوادث عظيمة يسوغ أن يُقال فيها «قد أُكمل» مر منهما إثنتان الأولى انتهاء عمل الخليقة في ستة أيام لما « وَرَأَى ٱللّٰهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً» (تكوين ١: ٣١). والثانية موت المسيح على الصليب إعداداً لخلاص البشر (يوحنا ١٩: ٣٠). وبقيت الثالثة وهي التي ذُكرت في (ع ٢٤ و٢٥) وتحدث حين تتبين كل نتائج عمل الفداء بقيامة المؤمنين وتمجيدهم وغلبة المسيح على كل أعدائه (ع ٢٤ – ٢٦).
  7. إن العالم الآن على ما في هذا الأصحاح وما في (متى ٢٨: ١٨) تحت رئاسة يسوع المسيح فهو يرأسه بغية توسيع ملكوته فعلينا أن نحسب كل الحوادث وسائل إلى إدراك غايته ولا قوة لأعدائه كقوته فإذا لا بد من انتصاره فويل لمقاوميه وطوبى للذين يجاهدون معه (ع ٢٥).
  8. إن أعظم أعدائنا الشيطان والعالم والخطيئة والموت وسننتصر عليها لأن المسيح غلبها أولاً وسينصرنا عليها (ع ٢٦).
  9. إنه يجب أن نشارك المسيح هنا في آلامه إذا توقعنا أن نشاركه هناك في انتصاره فلا حق لأحد أن يترنم بقوله «ابتلع الموت إلى غلبة» (ع ٤٥) إلا من يقدر أن يقول عن اختبار قول بولس «أموت كل يوم» (ع ٣١).
  10. إن المسيحي عرضة للخسارة والخطر والاضطهاد لأجل المسيح فإن أعداء المسيح أعداؤه يهجمون عليه أحياناً هجوم الوحوش فيحتمل أن يُسجن ويُعذب لكنه يتعزى برجاء أن تكون كل تلك النوازل وقتية بعدها حياة السعادة الأبدية (ع ٢٩ – ٣٢).
  11. إنه من أفظع الجهل إنكار أمر أعلنه الوحي لمجرد عجزنا عن إدراك بعض متعلقاته أو عن معرفة الطريق التي يجبره الله فيها لأننا بذلك نجعل عقلنا مقياساً لعقل الله وقوتنا مقياساً لقدرته (ع ٣٥ و٣٦).
  12. إن التغير العظيم المجيد الذي سيكون بمقتضى ما ذُكر هنا يوم القيامة لا يحصل عليه إلا من تغير على الأرض قلباً بدليل قول الكتاب «مَنْ يَظْلِمْ فَلْيَظْلِمْ بَعْدُ. وَمَنْ هُوَ نَجِسٌ فَلْيَتَنَجَّسْ بَعْدُ. وَمَنْ هُوَ بَارٌّ فَلْيَتَبَرَّرْ بَعْدُ. وَمَنْ هُوَ مُقَدَّسٌ فَلْيَتَقَدَّسْ بَعْدُ» (رؤيا ٢٢: ١١). فإن غلبة الإيمان ١يوحنا ٥: ٤) يجب أن تسبق غلبة اليوم الأخير (ع ٥٧).
  13. إن الذي ينصرنا على كل تجربة وشهوة وحيلة شيطانية هو الله بواسطة يسوع المسيح وسينصرنا ساعة الموت ويوم القيامة فلا وقت نستطيع أن نقول فيه يميننا نصرتنا فيجب علينا أن نقول مع سائر المفديين «ليس لنا يا رب ليس لنا لكن لاسمك اعط مجداً» (ع ٥٧).
  14. إنه كلما فرحنا برجاء النصر الذي نحصل عليه في السماء وجب أن لا نغفل عما كلف المسيح تحصيله لنا من الضعة والفقر والدموع والعار والألم والموت والدفن فذلك كله لكي نترنم قائلين «أين شوكتك يا موت أين غلبتك يا هاوية» (ع ٥٧).
  15. إنا لا ندرك قدر انتصار المسيح على الموت ما لم نفكر في من طواهم من الألوف والربوات الكثيرة منذ دخل العالم وفي الدموع والأهوال التي نتجت عنه وفي أننا نحن أيضاً نموت ثم نتيقن أنه سوف يأتي الوقت الذي لا يكون فيه موت ويسلم البحر وكل القبور موتاها (ع ٥٤).
  16. إن اعتقاد القيامة الذي يحسبه فلاسفة العالم من أفظع ضروب الجهل هو ركن رجاء المؤمنين وسرورهم فما كان موضوع الهزء والضحك في أريوس باغوس هو موضوع ترانيم النصر للمسيحي في ساعة الموت وعند دخوله السماء (ع ٥٥).
  17. إنه يظهر مما قيل هنا شدة العلاقة بين العقائد والأعمال المسيحية فعلينا أن نكون راسخين في الإيمان مجتهدين في الخدمة فلا نفع من أن يكون إيماننا صالحاً ونحن فاترون في الخدمة ولا من أن نكون مجتهدين في العمل الروحي وإيماننا متزعزع بل إننا نُضر بذلك أكثر من أن نُنفع (ع ٥٨).
  18. إن المسيح قصد أن يعزينا رجاؤنا المجد الآتي في كل ضيقاتنا ويحثنا على العمل ويشجعنا في الجهاد ويصبّرنا في الأهوال (ع ٥٨).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى