كورنثوس الأولى

الرسالة الأولى إلى كورنثوس | 14 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الرابع عشر

فضل التبنوء على التكلم بالألسنة ع ١ إلى ٢٥

  1. إن النبوءة أفضل من الألسنة لأن المتكلم بالألسنة يخاطب الله والذي يتنبأ يخاطب الناس (ع ١ – ٣).
  2. إن المتكلم بالألسنة لا ينفع سوى نفسه ومن يتنبأ ينفع الكنيسة (ع ٤ و٥).
  3. إن الدليل على صحة ذلك حكم العقل والاختبار (ع ٦).
  4. إن الرسول أثبت أفضلية النبوءة بصدق ما يصدق على آلات الطرب عليها فإنه لا يستفيد أحد من أصواتها ما لم يفهم غايتها (ع ٧ – ٩).
  5. إن تلك الأفضلية تثبت أيضاً من اختبارنا الأجانب فإننا إذا عرفنا لغتهم استفدنا منهم وإلا فلا (ع ١٠ و١١).
  6. إنه يجب أكثر من كل شيء بنيان الكنيسة باستعمال المواهب (ع ١٢).
  7. إنه يجب على المتكلم بالألسنة أن يصلي لينال موهبة ترجمة الألسنة (ع ١٣ – ١٧).
  8. إن الرسول فضّل التكلم بخمس كلمات في لغة مفهومة على عشرة آلاف كلمة من لغة مجهولة (ع ١٨ و١٩).
  9. إنه لا يليق بمؤمني كورنثوس أن يعتبروا الاعتبار الزائد موهبة الألسنة مع قلة منفعتها (ع ٢٠).
  10. إنه يجب عليهم أن يستفيدوا مما حدث للعبرانيين الذين عوقبوا على معصيتهم بإرسال الله إليهم معلمين لم يفهموا كلامهم وإرساله إليهم حين آمنوا وتابوا أنبياء خاطبوهم بلغتهم (ع ٢١ و٢٢).
  11. إنهم إذا اجتمعوا وتكلم كل واحد بلسان مجهول كان تأثير ذلك ضاراً ولكن إذا تكلم كل واحد بإرشاد الروح بما يُفهم اقتنع السامعون وتجددوا وتمجد الله (ع ٢٣ – ٢٥).

١ «اِتْبَعُوا ٱلْمَحَبَّةَ، وَلٰكِنْ جِدُّوا لِلْمَوَاهِبِ ٱلرُّوحِيَّةِ، وَبِٱلأَوْلَى أَنْ تَتَنَبَّأُوا».

ص ١٢: ٣١ عدد ١١: ٢٥ و٢٩

اِتْبَعُوا ٱلْمَحَبَّةَ ولا تفارقوها لأنه أثبت أنها أعظم الفضائل (ص ١٣: ١٣). ولأن كل المواهب باطلة بدونها (ص ١٣: ١). فوجب عليهم أن يتبعوها معتبرين إياها الخير الأعظم ويرغبوا فيها رغبة المباري في السبق وأن يتخذوا الوسائل إلى كمالهم فيها.

جِدُّوا لِلْمَوَاهِبِ ٱلرُّوحِيَّةِ القرينة تدل على أن المراد بهذه المواهب الخاصة الخارقة العادة المذكورة في (ص ١٢: ١) فارجع إلى تفسيرها. فأمره لهم باتباع المحبة باعتبار أنها المقصد الأول لا ينفي وجوب طلبهم هذه المواهب باعتبار أنها المقصد الثاني. وقوله هنا كقوله سابقاً «جدوا للمواهب الحسنة» (ص ١٢: ٣١). فيناسب أن نعتبر هذا الأصحاح متعلقاً بهذا القول والأصحاح الثالث عشر معترضاً بينهما. ووجب عليهم أن يجدوا لتلك المواهب لأنها آية وجود الروح القدس بينهم وإظهار قوته فيهم ولذلك استحقت أن تُطلب باجتهاد.

وَبِٱلأَوْلَى أَنْ تَتَنَبَّأُوا القرينة تدل على أن مسيحيي كورنثوس فضلوا التكلم بالألسنة على التنبوء لأنها أندر منه وأظهر. وأن بولس كتب هذا الأصحاح ليبرهن لهم أن التنبوء أولى منها وأنفع. ومعنى «التنبوء» في الإنجيل التكلم بكلام الله بوحي الروح القدس للتعليم والتعزية والإنذار والتوبيخ والحث على القيام بالواجبات والأنباء بالأمور المستقبلة أحياناً.

٢ «لأَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ لاَ يُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ بَلِ ٱللّٰهَ، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَسْمَعُ. وَلٰكِنَّهُ بِٱلرُّوحِ يَتَكَلَّمُ بِأَسْرَارٍ».

أعمال ٢: ٤ و١٠: ٤٦ تكوين ١١: ٧ ومرقس ٤: ٣٣

في هذه الآية ثلاثة أمور:

  • الأول: إن التكلم بلسان غريب يكلم الله دون الناس.
  • الثاني: إن الناس لا يفهمون كلامه.
  • الثالث: إن علة عدم فهمهم عدم معرفتهم اللغة الغريبة التي تكلم بها لا شيء من متعلقات الموضوع.

لاَ يُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ أي المجتمعين في الكنيسة عند خطابه إذ ليس بينهم أجنبيون من أهل اللغة التي يتكلم بها.

بَلِ ٱللّٰهَ إذ لا سامع يفهم كلامه إلا الله.

لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَسْمَعُ أي لا أحد من الحاضرين يفهم لأن غير المفهوم بمنزلة غير المسموع أعني أنهم سمعوا صوت المتكلم لكنهم لم يستفيدوا معنىً فكأنهم لم يسمعوا.

إن الرسل حين تكلموا بالألسنة الغريبة يوم الخمسين كان بين السامعين من فهموا تلك الألسنة فلم يلم الرسول على التكلم بالألسنة الغريبة مطلقاً بل على التكلم بها حيث لا أحد من السامعين يفهم.

وَلٰكِنَّهُ الخ أي على أنه من المسلم أن الخطيب يتكلم بقوة الروح وأن موضوع خطابه من ساميات الأمور التي لم تُعلن قبلاً. والمراد «بالروح» هنا الروح القدس و «بالأسرار» الحقائق الإلهية وتسمى «عظائم الله» (أعمال ٢: ١١).

٣ «وَأَمَّا مَنْ يَتَنَبَّأُ فَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ بِبُنْيَانٍ وَوَعْظٍ وَتَسْلِيَةٍ».

كان النبي يخاطب السامعين بلغتهم بخلاف المتكلم بالألسنة وهذا أعظم الفرق بينهما فإن كلا منهما كان يتكلم بوحي الروح القدس. ولعل أهمية الحقائق في خطاب أحدهما كانت كأهمية الحقائق في كلام الآخر ولكن لا أحد من السامعين كان يفهم كلام المتكلم بالألسنة وفهموا جميعاً كلام النبي وانتفعوا بتعليمه وانتبهوا وحثوا على القيام بالواجبات واحتمال المصائب وتعزوا بسمعهم مواعيد الله والراحة والإثابة بعد الأتعاب والآلام. ولعل المتكلم بالألسنة كان «يكلمهم ببنيان ووعظ وتسلية» لو كانوا يفهمون معناه.

٤ «مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ يَبْنِي نَفْسَهُ، وَأَمَّا مَنْ يَتَنَبَّأُ فَيَبْنِي ٱلْكَنِيسَةَ».

مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ يَبْنِي نَفْسَهُ لأنه يفهم معنى ما يتكلم به ويتقوى إيمانه إذ يرى أنه آلة للروح القدس ويزيد شكره على تلك النعمة. ولكن النفع كله مقصور عليه و هذا دليل واضح على أن الذي كان يتكلم بلسان لم يكن في غيبة يُخرج ألفاظاً بلا معنى ولا ينتبه لها.

وَأَمَّا مَنْ يَتَنَبَّأُ الخ كما ذُكر في (ع ٣).

٥ «إِنِّي أُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَكُمْ تَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ، وَلٰكِنْ بِٱلأَوْلَى أَنْ تَتَنَبَّأُوا. لأَنَّ مَنْ يَتَنَبَّأُ أَعْظَمُ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةٍ، إِلاَّ إِذَا تَرْجَمَ، حَتَّى تَنَالَ ٱلْكَنِيسَةُ بُنْيَاناً».

أُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَكُمْ تَتَكَلَّمُونَ قال هذا لئلا يظن أحد أنه يستخف بموهبة الألسنة فإنه اعتبرها من طرق إظهار الروح (ص ١٢: ١٠) وشكر الله على منحه إياها (ع ١٨) لكنه لم يرد أن يعتبروها فوق سائر المواهب.

وَلٰكِنْ بِٱلأَوْلَى أَنْ تَتَنَبَّأُوا لما يأتي.

لأَنَّ مَنْ يَتَنَبَّأُ أَعْظَمُ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةٍ لأنه أنفع منه لغيره. إن الروح تكلم بكل منهما والفرق في اللغة.

إِلاَّ إِذَا تَرْجَمَ لأنه إن لم يترجم لم ينفع السامعين لعدم فهمهم معناه وإذا ترجم نفعهم كما ينفعهم النبي. وهذا دليل على أن الذين تكلموا بألسنة تلفظوا بكلمات ذات معان مفيدة تنفع السامعين إذا تُرجمت. وإن موهبة ترجمة الألسنة كانت تقترن أحياناً بموهبة التكلم باللسان الغريب. وإن الذين لم يلهمهم الروح أن يترجموا ما قالوه لم يُقدموا على الترجمة من تلقاء أنفسهم مع فهمهم ما تكلموا به.

٦ «فَٱلآنَ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، إِنْ جِئْتُ إِلَيْكُمْ مُتَكَلِّماً بِأَلْسِنَةٍ، فَمَاذَا أَنْفَعُكُمْ، إِنْ لَمْ أُكَلِّمْكُمْ إِمَّا بِإِعْلاَنٍ، أَوْ بِعِلْمٍ، أَوْ بِنُبُوَّةٍ، أَوْ بِتَعْلِيمٍ؟».

ما قاله الرسول في جميع المتكلمين بالألسنة قاله هنا في نفسه وصرّح بأنه لو أتى هو نفسه بمنزلة نبي بإعلان ونبوة من الله أو بمنزلة معلم يعلم بما تعلمه وخاطبهم بلغة غريبة لم يستطع أن ينفعهم شيئاً. وأشار «بالإعلان والعلم» إلى طريقين حصل بهما النبي والمعلم على ما عرفاه و «بالنبوءة والتعليم» إلى طريقي تبليغهما ذلك إلى الناس.

٧ «اَلأَشْيَاءُ ٱلْعَادِمَةُ ٱلنُّفُوسِ ٱلَّتِي تُعْطِي صَوْتاً: مِزْمَارٌ أَوْ قِيثَارَةٌ، مَعَ ذٰلِكَ إِنْ لَمْ تُعْطِ فَرْقاً لِلنَّغَمَاتِ، فَكَيْفَ يُعْرَفُ مَا زُمِّرَ أَوْ مَا عُزِفَ بِهِ؟».

بيّن لهم بواسطة ما يصدق على الأشياء العادمة النفوس كآلات االطرب عدم نفع ذوي النفوس بإتيانهم أصواتاً لا يفهمها السامعون. وقال إننا لا ننتفع شيئاً من أصوات آلات الطرب إلا إذا قدرنا أن نميز بعض تلك الأصوات من بعض ونعرف غاية كل منها كذلك الخطيب لا ينفع أحداً إلا إذا تكلم بلغة مفهومة.

مِزْمَارٌ أَوْ قِيثَارَةٌ هما آلاتا طرب استعملهما اليونانيون إحداهما من القصب تصوب بالنفخ فيه والأخرى من ذوات الأوتار يصوّت بالضرب عليه وتستعملان تارة في الفرح وتارة في الحزن بالألحان التي يقتضيها الزمان والحال.

٨ «فَإِنَّهُ إِنْ أَعْطَى ٱلْبُوقُ أَيْضاً صَوْتاً غَيْرَ وَاضِحٍ، فَمَنْ يَتَهَيَّأُ لِلْقِتَالِ؟».

هذه الآية تقرير للأية السابعة.

إِنْ أَعْطَى ٱلْبُوقُ أَيْضاً صَوْتاً غَيْرَ وَاضِحٍ إن البوق آلة من النحاس تُستعمل في الحروب ويُبلغ بها قائد الجيش أوامره بعد أن يكون العسكر قد علم ما يُراد من كل صوت من أصوات البوق المختلفة. ومعنى العبارة أنه إن قصد القائد أن يتهيأ عسكره للقتال وأمر البواق أن يخرج بالبوق الصوت المتفق عليه لذلك ولكنه لجهل أو سهو أخرج الصوت مبهماً.

فَمَنْ يَتَهَيَّأُ لِلْقِتَالِ أي لا يمكن أحداً أن يتهيأ له لعدم معرفته قصد القائد مهما كان هاماً فكان كأنه لم يسمع شيئاً. فكذلك من تكلم في الكنيسة بلغة غريبة فمهما كانت الحقائق التي يتكلم فيها ذات شأن ذهب كلامه عبثاً إذ لم يفهم السامعون معناه.

٩ «هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً إِنْ لَمْ تُعْطُوا بِٱللِّسَانِ كَلاَماً يُفْهَمُ، فَكَيْفَ يُعْرَفُ مَا تُكُلِّمَ بِهِ؟ فَإِنَّكُمْ تَكُونُونَ تَتَكَلَّمُونَ فِي ٱلْهَوَاءِ!».

نسب إليهم في هذه الآية مثل ما قاله في أمر البوق.

بِٱللِّسَانِ هو مثل البوق في الآية السابقة.

كَيْفَ يُعْرَفُ مَا تُكُلِّمَ بِهِ أي ذلك لا يمكن إلا بمعرفة السامع لغة المتكلم.

تَتَكَلَّمُونَ فِي ٱلْهَوَاءِ أي تتكلمون عبثاً كمن يتكلم حيث لا سامع.

١٠ «رُبَّمَا تَكُونُ أَنْوَاعُ لُغَاتٍ هٰذَا عَدَدُهَا فِي ٱلْعَالَمِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا بِلاَ مَعْنىً».

رُبَّمَا… هٰذَا عَدَدُهَا لم يرد أن يذكر عدد لغات العالم أسبعون هي كما ظن اليهود أم أكثر فصدّر العبارة «بربما» إرادة أن ما يقوله يصدق على كل اللغات مهما كان عددها.

لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا بِلاَ مَعْنىً أي كل لغة تفيد أهلها معنى لأنه وُضعت ليعبر المتكلمون بها من أغراضهم. قال هذا إما ليبين لهم وجوب أن يستعملوا قوة الألسنة الخارقة العادة للغاية التي يستعمل الناس لها لغتهم العادية فالغاية الإفادة لا الافتخار بالموهبة. فلذلك يجب على الموهوب له قوة التكلم بالألسنة أن يرى هل في الكنيسة من يفهم اللغة التي عزم على التكلم بها فإن كان فليتكلم وإلا فلا وإما ليبين علة حكمه على التكلم بالألسنة بعدم النفع وهي أنها ليست شيئاً في اللغة لكونها بلا معنى ولا في المتكلم إنما هي جهل السامعين.

١١ «فَإِنْ كُنْتُ لاَ أَعْرِفُ قُوَّةَ ٱللُّغَةِ أَكُونُ عِنْدَ ٱلْمُتَكَلِّمِ أَعْجَمِيّاً، وَٱلْمُتَكَلِّمُ أَعْجَمِيّاً عِنْدِي».

معنى الآية أنه لو تخاطب اثنان من الكورنثيين الذين لغتهم يونانية وتكلم المخاطب بلغة لا يعرفها المخاطب كان كل منهما كأجنبي عند الآخر. وقال هذا بياناً أنه لا نفع لاستعمال موهبة الألسنة في الكنيسة إذا لم يكن فيها سوى من لا يعرف غير اليونانية التي هي لغة كورنثوس.

١٢ «هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً، إِذْ إِنَّكُمْ غَيُورُونَ لِلْمَوَاهِبِ ٱلرُّوحِيَّةِ، ٱطْلُبُوا لأَجْلِ بُنْيَانِ ٱلْكَنِيسَةِ أَنْ تَزْدَادُوا».

هٰكَذَا أي كما فهم وجوبه مما سبق لأنه إذا تكلم بعضكم بالألسنة في الكنيسة كان أجنبياً عند الباقين إذ لا يفهم أحد معناه فلا ينتفع بكلامه.

إِذْ إِنَّكُمْ غَيُورُونَ لِلْمَوَاهِبِ ٱلرُّوحِيَّةِ قال لهم سابقاً «جدوا للمواهب الحسنى» (ص ٢١: ٣١) و «جدوا للمواهب الروحية» (ع ١) فحسب هنا رغبتهم في تلك المواهب من الأمور المسلمة.

أَنْ تَزْدَادُوا أي تزيد مواهبكم النافعة للكنيسة عظمة ومقداراً لأن نفع الكنيسة هو علة الرغبة في المواهب لا الإعجاب بها.

١٣ «لِذٰلِكَ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ فَلْيُصَلِّ لِكَيْ يُتَرْجِمَ».

هذه الآية نتيجة ما تقدم وبيان واسطة الازدياد المذكور لبنيان الكنيسة. وفيها أنه يجب على الموهوب له أن يصلي للروح القدس الواهب ويسأله أن يعطيه أيضاً موهبة الترجمة التي ذُكرت كموهبة خاصة في (ص ١٢: ١٠) والغاية من ذلك أن يكون كلامه لبنيان السامعين.

١٤ « لأَنَّهُ إِنْ كُنْتُ أُصَلِّي بِلِسَانٍ، فَرُوحِي تُصَلِّي، وَأَمَّا ذِهْنِي فَهُوَ بِلاَ ثَمَرٍ».

هذه الآية بيان لسبب طلب المتكلم بالألسنة القوة على الترجمة لأنه إن لم يترجم صلاته فلا نفع منها لغيره لأنه لا يستطيع أن يشاركه فيها (ع ١٦ و١٧).

أُصَلِّي بِلِسَانٍ لا يعرفه السامعون. ذكر الصلاة هنا لأنها إحدى طرق التكلم بالألسنة في العبادة الجمهورية وذكر منها «الترتيل» في (ع ١٥).

فَرُوحِي تُصَلِّي بإرشاد الروح القدس وتأثيره فإنه يحرك قلبه وعواطفه لطلب الأمور الروحية.

وَأَمَّا ذِهْنِي فَهُوَ بِلاَ ثَمَرٍ أي لا يأتي بما ينفع غيري.

معلوم أن اللسان ترجمان الذهن فإذا تكلم الإنسان بلغة معروفة أثمر ذهنه نفعاً وإذا تكلم بلغة مجهولة كان ذهنه عقيماً وإن كان الروح القدس مؤثراً في روحه.

١٥ «فَمَا هُوَ إِذاً؟ أُصَلِّي بِٱلرُّوحِ وَأُصَلِّي بِٱلذِّهْنِ أَيْضاً. أُرَتِّلُ بِٱلرُّوحِ وَأُرَتِّلُ بِٱلذِّهْنِ أَيْضاً».

أفسس ٥: ١٩ وكولوسي ٣: ١٦ مزمور ٤٧: ٧

فَمَا هُوَ إِذاً أي ما هو الواجب على من منحه الروح القدس المواهب.

ًأُصَلِّي بِٱلرُّوحِ وَأُصَلِّي بِٱلذِّهْنِ أَيْضا هذا جواب سؤاله السابق صرّح به بما يعتمد عمله وهو أن يصلي وروحه مملوءة تأثيراً من الروح القدس وصلاته في طريق يفيد السامعين أن يترجم بإرشاد الروح ما قاله باللغة الأجنبية فيستعمل موهبته الروحية لغايتين استفادة طبيعته الروحية وأثمار ذهنه الروحية وأثمار ذهنه لإفادة غيره وذلك لا يمكن إلا بترجمته ما تكلم به في الصلاة. وهذا يتضمن أيضاً أنه يسكت إن لم يستطيع الترجمة على وفق ما في (ع ٢٨).

أُرَتِّلُ بِٱلرُّوحِ الخ كان الترنم بالتسبيح والشكر من فروض العبادة عند المسيحيين كما كان عند اليهود والظاهر من العبارة أن بعض المسيحيين كان يترنم بالروح بألسنة غريبة فصرّح باعتماده أن يمارس موهبته الروحية في الترنيم كما يمارسها في الصلاة أي أن يمارسها لبنيان السامعين لا لنفع نفسه فقط.

١٦، ١٧ «١٦ وَإِلاَّ فَإِنْ بَارَكْتَ بِٱلرُّوحِ، فَٱلَّذِي يُشْغِلُ مَكَانَ ٱلْعَامِّيِّ، كَيْفَ يَقُولُ «آمِينَ» عِنْدَ شُكْرِكَ؟ لأَنَّهُ لاَ يَعْرِفُ مَاذَا تَقُولُ! ١٧ فَإِنَّكَ أَنْتَ تَشْكُرُ حَسَناً! وَلٰكِنَّ ٱلآخَرَ لاَ يُبْنَى».

تثنية ٢٧: ١٥ – ٢٦ ونحميا ٨: ٦ وص ١١: ٢٤

التفت من التكلم إلى الخطاب لأنه لم يقصد عمل ما يذكره بل ملامة من يعمله.

وَإِلاَّ أي إن لم «أصل وأرتل بالذهن» بكلام مفهوم ويُظهر أفكاري.

بَارَكْتَ أي سبّحت وشكرت كما يتبين من آخر هذه العبارة.

بِٱلرُّوحِ أي بتأثير الروح القدس في نفسك.

يُشْغِلُ مَكَانَ ٱلْعَامِّيِّ أي العامي نفسه. وقصده بالكناية للنزاهة. والمراد «بالعامي» هنا من لم يتعلم لغة غريبة ولم ينل موهبة الألسنة ولا ترجمتها على أنه من الإخوة المؤمنين وإلا لم يرد أن يقول عند الشكر آمين (انظر ع ٢٣ و٢٤ وأعمال ٤: ١٣ و٢كورنثوس ١١: ٦) ويتضح من العبارة أن تلك المواهب لم تكن لكل المؤمنين.

كَيْفَ يَقُولُ «آمِينَ» أي يعترف بصحة ما قيل وأنه في محله وأن رأيه موافق لرأي المتكلم وأنه يطلب ما طلبه. جاء في التلمود وهو مجموع تفاسير اليهود الدينية «من عوائد اليهود أن يقولوا عند نهاية الطلب آمين بصوت مسموع». ومعنى «آمين» ليكن كذلك. وقال يوستانيوس الشهيد في نصف القرن الثاني للميلاد «أن مسيحي عصره لم يزالوا يؤمنون في الكنائس عند ختام الدعاء».

لأَنَّهُ لاَ يَعْرِفُ مَاذَا تَقُولُ أي لا يستطيع الاعتراف بصدق قولك لجهله معناه. إن ما قاله بولس لمؤمني كورنثوس يصدق اليوم كما صدق في عصره وهو أن الصلاة بلغات غير مفهومة لا تنفع السامعين لأن من شروط الصلاة النافعة أن يشترك القلب في ما تسمعه الأذن وذلك لا يمكن ما لم يُفهم.

أَنْتَ تَشْكُرُ حَسَناً! لأن الله رضي صلاتك وأنت انتفعت ولكن ليس ذلك سوى جزء من المقصود بالصلاة الجمهورية.

وَلٰكِنَّ ٱلآخَرَ لاَ يُبْنَى إن نفع السامعين جزء من المقصود بالصلاة فهو ليس بأقل شأناً من الجزء السابق فلا تجوز الغفلة عنه.

١٨، ١٩ «١٨ أَشْكُرُ إِلٰهِي أَنِّي أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةٍ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِكُمْ. ١٩ وَلٰكِنْ فِي كَنِيسَةٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَكَلَّمَ خَمْسَ كَلِمَاتٍ بِذِهْنِي لِكَيْ أُعَلِّمَ آخَرِينَ أَيْضاً، أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلاَفِ كَلِمَةٍ بِلِسَانٍ».

شكر الله على موهبة الألسنة وصرّح بأنه يتكلم بلغات مختلفة أكثر من مسيحيي كورنثوس ومع ذلك فضل أن يتكلم خمس كلمات يفهمها السامعون وينتفعون بها على عشرة آلاف كلمة لا يفهمونها. وأراد «بالكنيسة» المعبد وفسّر «التكلم بالذهن» بتعليم الآخرين فأثبت بذلك أن معنى «التكلم بالذهن» الكلام المفهوم.

٢٠ «أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، لاَ تَكُونُوا أَوْلاَداً فِي أَذْهَانِكُمْ، بَلْ كُونُوا أَوْلاَداً فِي ٱلشَّرِّ، وَأَمَّا فِي ٱلأَذْهَانِ فَكُونُوا كَامِلِينَ».

أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ قال لهم ذلك استعطافاً ودفعاً لانقباضهم مما في كلامه من اللوم.

لاَ تَكُونُوا أَوْلاَداً أي لا تماثلوا الأولاد. وهذا مناف لما يليه وهو قوله «كونوا أولاداً» ويدفع المنافاة أن الأولاد يمتازون عن البالغين بأمرين الأول اعتبارهم الأشياء الجديدة التي لا يعبأ بها والثاني الطهارة. وكان الكورنثيون مثل الأولاد في الأول إذ ابتهجوا كثيراً بموهبة الألسنة وفضلوها على ما هو أنفع منها فأراد بولس أن ينزعوا عن هذه الحلة غير اللائقة بشأنهم وهم بالغون قادرون على تمييز الأمور بمقتضى القيمة الجوهرية.

كُونُوا أَوْلاَداً فِي ٱلشَّرِّ أي ماثلوا الأولاد في الخلوص من الشر وهو نتيجة الحسد والمباراة والخصام التي أظهرتموها في ممارسة المواهب. ومثل ذلك قول المسيح لتلاميذه «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ ٱلأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ١٨: ٣).

وَأَمَّا فِي ٱلأَذْهَانِ فَكُونُوا كَامِلِينَ أي قيسوا الأمور بمقياس عقول البالغين وافعلوا بمقتضاه. والآية كقول المسيح لتلاميذه «فَكُونُوا حُكَمَاءَ َٱلْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَٱلْحَمَامِ» (متّى ١٠: ١٦). وكقول الرسول لمؤمني رومية «أُرِيدُ أَنْ تَكُونُوا حُكَمَاءَ لِلْخَيْرِ وَبُسَطَاءَ لِلشَّرِّ» (رومية ١٦: ١٩).

٢١ «مَكْتُوبٌ فِي ٱلنَّامُوسِ: إِنِّي بِذَوِي أَلْسِنَةٍ أُخْرَى وَبِشِفَاهٍ أُخْرَى سَأُكَلِّمُ هٰذَا ٱلشَّعْبَ، وَلاَ هٰكَذَا يَسْمَعُونَ لِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ».

يوحنا ١٠: ٣٤ إشعياء ٢٨: ١١ و١٢

فِي ٱلنَّامُوسِ وهو ما أعلنه الله قانوناً للإيمان والأعمال ويُعني أحياناً الله على ضمائر الناس وقلوبهم وأحياناً أسفار موسى وأحياناً العهد القديم كله. والقرينة تعيّن المراد من هذه المعاني وتعيّن هنا المعنى الثالث كما في (يوحنا ١٠: ٣٤ و١٥: ٢٥ ورومية ٢: ١٩ و٢٠).

إِنِّي بِذَوِي أَلْسِنَةٍ أُخْرَى الخ هذا مقتبس من (إشعياء ٢٨: ١١ و١٢) وهو ما كلم الله اليهود حين اغتاظ عليهم لعدم استماعهم لأنبيائه الذين أرسلهم مخاطبين إياهم بلغتهم فأنذرهم بأنه يُرسل إليهم أمة لا يعرفون لغتها (وهي الأمة الأشورية التي أسرتهم) عقاباً لهم على معاصيهم وآية غضبه عليهم وأنهم مع ذلك كله يبقون عصاة. والرسول لم يقتبس هذه الآية باعتبار أنها نبوءة بموهبة الألسنة بلغات غريبة ليس في نفسه من البركات. فرغبتهم فيها كثيراً هي الرغبة في ما أرسله الله على قدماء اليهود عقاباً لهم. نعم إن الله وهب التكلم بالألسنة إثباتاً للإنجيل وآية أن دين المتكلمين بها سموي أما هم فاستعملوها للمباراة والمباهاة فخاطبوا بها من لا يعرفونها ولم يترجموها لهم. فجعلوا ما قصد الله أن يكون بركة للكنيسة لعنة عليها لأن كون الموهبة من الروح القدس لا يجعلها بركة ما لم تستعمل في السبيل الذي هو عيّنه وللقصد الذي هو قصده.

وذكر الجملة الأخيرة وهي «ولا هكذا يسمعون لي يقول الرب» بياناً أن استعمال اللغات الغريبة لا يجعل ولم يجعل الكفرة مؤمنين ولا العصاة طائعين. وأنهم أخطأوا بتوقعهم النفع العظيم من التكلم بالألسنة لأنه لا ينفع شيئاً بلا ترجمة. وهذا ما قصد بسطه في هذا الأصحاح.

٢٢ «إِذاً ٱلأَلْسِنَةُ آيَةٌ لاَ لِلْمُؤْمِنِينَ، بَلْ لِغَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ. أَمَّا ٱلنُّبُوَّةُ فَلَيْسَتْ لِغَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ، بَلْ لِلْمُؤْمِنِينَ».

إِذاً حرف يدل على أن ما بعده نتيجة ما قبله وهو هنا إما نتيجة آخر جملة من الآية السابقة وهي «ولا هكذا يسمعون» أو نتيجة كل ما سبق في شأن موهبة التكلم بالألسنة. فإن كان نتيجة الجملة كان معناه أن التكلم بالألسنة الغريبة بالصورة التي كلم الله بها عصاة قدماء اليهود لم يجعلهم طائعين ولا يجعل غير المؤمنين في كورنثوس مؤمنين. وهذا مع كونه صحيحاً لا يفيد مقصود الرسول هنا فثبت أنه نتيجة كل ما سبق في هذا الأصحاح في شأن هذه الموهبة. ومعناه على ذلك أن التعليم الصحيح في هذا الموضوع هو كما يأتي.

ٱلأَلْسِنَةُ آيَةٌ لاَ لِلْمُؤْمِنِينَ المراد «بالألسنة» هنا قوة تكلم الناس بلغات لم يتعلموها. ومعنى قوله «آية» معجزة تدل على كون الله مع المتكلم وأن كلامه حق بخلاف «الألسنة الأخرى» المذكورة في نبوة إشعياء فإنها ضربة لا آية (ع ٢١ مرقس ١٦: ١٧ و٢كورنثوس ١٢: ١٢). ولم تكن الألسنة آية للمؤمنين لأنهم لم يحتاجوا إليها لتيقنهم صحة الدين المسيحي فلم ينتفعوا بها للبنيان لأنهم لم يفهموا مراد المتكلم بها. ولم يقصد بولس أن ليس فيها شيء من النفع للمؤمنين لمعرفته أنه يقوي إيمانهم إنما قابل نفعه للمؤمنين بنفع النبوءة لهم فوجده كذلك.

بَلْ لِغَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لأنها تثبت لهم صحة تعليم المتكلم بها لتيقنهم أن لا أحد يقدر على ذلك إلا بقوة الله. وكذا كان تأثيرها في السامعين يوم الخمسين (أعمال ٢: ١ – ١٥). فإنهم دهشوا بها ثم انتبهوا لما سمعوا ثم اقتنعوا ثم آمنوا. وفهم كل منهم ما قيل بلغته وعرف بشهادة غير أهل لغته أنهم فهموا ما قيل بلغاتهم.

أَمَّا ٱلنُّبُوَّةُ وهي تفسير كلام الله والتعليم الديني بوحي الروح القدس بلغة السامعين.

فَلَيْسَتْ لِغَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لأنهم غير مستعدين للاستفادة من التعليم قبل أن يتيقنوا من الله إذ لم يروا فيه ما يدل على أنه من السماء. وليس مراد بولس أن النبوة لا تنفع غير المؤمنين شيئاً لكنه أراد أن انتفاعهم بها ليس شيئاً بالنسبة إلى انتفاع المؤمنين وإلا نافى قوله هنا قوله في (ع ٢٤ و٢٥).

بَلْ لِلْمُؤْمِنِينَ أي أن معظم نفع النبوة لهم أن الله وهبها لهم لتكون دليلاً على رضاه ووسيلة إلى تقدمهم في معرفة الأمور الإلهية.

٢٣ «فَإِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلْكَنِيسَةُ كُلُّهَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ ٱلْجَمِيعُ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ، فَدَخَلَ عَامِّيُّونَ أَوْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، أَفَلاَ يَقُولُونَ إِنَّكُمْ تَهْذُونَ؟».

أعمال ٢: ١٣

هذه الآية نتيجة ما سبق من أن التكلم بالألسنة في اجتماعات الكنيسة (وليس من يعرفها) عبث وأتى بالفرض توصلاً إلى إثبات ذلك.

فَإِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلْكَنِيسَةُ أي جماعة المؤمنين.

وَكَانَ ٱلْجَمِيعُ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أي وكان المتكلمون كلهم يتكلمون بلغات غريبة. فلا يلزم من ذلك أن كلا من أعضاء الكنيسة كان يتكلم وأنهم تكملوا معاً على أنه يظهر من ع ٢٧ و٣٠ أنه كان يتكلم أحياناً اثنان أو أكثر في وقت واحد.

عَامِّيُّونَ أي جاهلوا اللغات التي يسمعونها.

غَيْرُ مُؤْمِنِينَ يهوداً أم وثنيين جاءوا لمجرد التفرج على أمور جديدة أو إجابة لطلب بعض أصحابهم من المؤمنين.

أَفَلاَ يَقُولُونَ إِنَّكُمْ تَهْذُونَ أي لا عجب من أن يقولوا أن المتكلمين مجانين حين يسمعون أصواتاً كثيرة لا يفهمون شيئاً منها ويحكمون من ذلك أن المتكلمين لا يفهمون ما يتكلمون به لأنه من خواص المجانين أن يلتفظوا بما لا معنى له. وعلى هذا حكم بعض الناس يوم الخمسين أن الرسل كانوا سكارى (أعمال ٢: ١٣). ولنا من هذا أنه يجب على المسيحيين أن يعتزلوا في العبادة كل ما يوهم الناس أنهم مجانين أو يجلب عاراً على دين المسيح.

٢٤، ٢٥ «٢٤ وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ ٱلْجَمِيعُ يَتَنَبَّأُونَ، فَدَخَلَ أَحَدٌ غَيْرُ مُؤْمِنٍ أَوْ عَامِّيٌّ، فَإِنَّهُ يُوَبَّخُ مِنَ ٱلْجَمِيعِ. يُحْكَمُ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْجَمِيعِ. ٢٥ وَهٰكَذَا تَصِيرُ خَفَايَا قَلْبِهِ ظَاهِرَةً. وَهٰكَذَا يَخِرُّ عَلَى وَجْهِهِ وَيَسْجُدُ لِلّٰهِ، مُنَادِياً أَنَّ ٱللّٰهَ بِٱلْحَقِيقَةِ فِيكُمْ».

إشعياء ٤٥: ١٤ وزكريا ٨: ٢٣

هذا نتيجة أخرى مما قيل في (ع ٢١ و٢٢) من أن التكلم بالألسنة الغريبة بلا ترجمة غير نافع وأن النبوة وافرة النفع.

إِنْ كَانَ ٱلْجَمِيعُ يَتَنَبَّأُونَ أي كل من يتكلم منهم يتكلمون بوحي الروح القدس بكلام مفهوم على التوالي وإلا لم يفهم أحد شيئاً.

يُوَبَّخُ مِنَ ٱلْجَمِيعِ أي من تأثير كلام المتنبئين لسمو تعليمهم وموافقته لعقله وضميره وقوة البراهين التي أقاموها ولا سيما تأثير الروح القدس مع إعلانهم الحق. والذي يوبخ عليه هو «الخطيئة والبر والدينونة الآتية» ومعظم التوبيخ على عدم الإيمان بالمسيح (يوحنا ١٦: ٨).

يُحْكَمُ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْجَمِيعِ أي أن تأثير وعظ كل من المتنبئين فيه يكون كدينونة له لأنه يثبت عليه أنه خاطئ وعرضة للهلاك الأبدي. وعلة تأثير ما تنبأ به كونه كلام الله بدليل قوله «أَلَيْسَتْ هٰكَذَا كَلِمَتِي كَنَارٍ يَقُولُ ٱلرَّبُّ، وَكَمِطْرَقَةٍ تُحَطِّمُ ٱلصَّخْرَ» (إرميا ٢٣: ٢٩). وقوله «لأَنَّ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ ٱلنَّفْسِ وَٱلرُّوحِ وَٱلْمَفَاصِلِ وَٱلْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ ٱلْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ» (عبرانيين ٤: ١٢).

تَصِيرُ خَفَايَا قَلْبِهِ ظَاهِرَةً أي تظهر لنفسه فيرى أنه مذنب أمام الله خال من كل بر مستوجب غضبه تعالى وعقابه.

يَخِرُّ عَلَى وَجْهِهِ فيدل ذلك على تواضعه وتوبته وترك كل اتكاله على بره أو قوته على عمل الصلاح.

وَيَسْجُدُ لِلّٰهِ الإله الواحد الحي الحقيقي بالوقار والمحبة والإيمان والطاعة.

مُنَادِياً أَنَّ ٱللّٰهَ بِٱلْحَقِيقَةِ فِيكُمْ يأتي ذلك لأنه من أول أثمار الإيمان أن يشهد المؤمن علناً بالحق الذي آمن به بدليل قوله «لأَنَّ ٱلْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ، وَٱلْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاَصِ» (رومية ١٠: ١٠). ومضمون ندائه أن دين الإنجيل من الله وأن المسيحيين ليسوا ضالين ولا مضلين وأنهم أولاد منقادون بالروح القدس الساكن فيهم. والذي جعله يتيقن ذلك ما اختبره في قلبه من قوة الحق وشهادة الروح القدس لروحه بصحة سمعه (رومية ٨: ١٦).

بيان الأسلوب الحسن في ممارسة المواهب في الاجتماعات الدينية ع ٢٦ إلى ٤٠

أمر بأن تكون الغاية من استعمال المواهب البنيان (ع ٢٦). وبأنه إذا تكلم بالألسنة فليتكلم اثنان أو ثلاثة لا غير وليترجم واحد وأنه إن لم يكن من مترجم فلا يكن تكلم بالألسنة (ع ٢٧ و٢٨). وبأنه إذا تنبأوا فليتنبأ اثنان أو ثلاثة وليحكم سائر الأنبياء هل ما تُكلم به من الروح القدس أولاً. وإنه إذا أُوحي إلى أحد الأنبياء وكان نبي آخر يتكلم فلا يتكلم إلا بعد أن يفرع المتكلم من كلامه ولا يتنبأ اثنان معاً (ع ٢٩ – ٣٣). ونهى النساء عن التكلم في الكنيسة (ع ٣٤ و٣٥). وأبان أنه لا يليق بمؤمني كورنثوس أن يتصرفوا كأن كنيتسهم كل كنيسة المسيح أو أولى كنائسه. وأنه يجب عليهم أن يعتبروا أن وصاياه وصايا المسيح نفسه (ع ٣٧ و٣٨). وأن يجدوا في طلب التنبوء ولا يمنعوا التكلم بالألسنة وأن يعملوا كل شيء يليافة وترتيب (ع ٣٩ و٤٠).

٢٦ «فَمَا هُوَ إِذاً أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ؟ مَتَى ٱجْتَمَعْتُمْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَهُ مَزْمُورٌ، لَهُ تَعْلِيمٌ، لَهُ لِسَانٌ، لَهُ إِعْلاَنٌ، لَهُ تَرْجَمَةٌ: فَلْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ لِلْبُنْيَانِ».

ص ١٢: ٨ – ١٠ و ع ٦ ص ١٢: ٧ و٢كورنثوس ١٢: ١٩ وأفسس ٤: ١٢

فَمَا هُوَ إِذاً أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ؟ أي كيف أنتم هل سلكتم بموجب القوانين التي ذكرتها. ولا يخلو هذا السؤال من التوبيخ على تصرفهم واحتياجهم إلى الإصلاح.

مَتَى ٱجْتَمَعْتُمْ لعبادة الله في الكنيسة. يظهر مما يأتي أن كلا منهم كان مستعداً أن يمارس موهبته الخاصة.

لَهُ مَزْمُورٌ أي ملهم بالروح القدس أن ينشئ مزموراً لمجد الله ولعله ألهمه بأن يترنم به أيضاً. وهذا مثل ما كان يأتيه زكريا أبو يوحنا المعمدان وسمعان الشيخ.

لَهُ تَعْلِيمٌ أي مُلهم ببيان عقيدة من عقائد الدين المسيحي.

لَهُ لِسَانٌ أي مُلهم بأن يخاطب الكنيسة بلغة غريبة أو يصلي فيها ويرغب في ذلك.

لَهُ إِعْلاَنٌ أي مُلهم بإعلان يريد أن ينبئ به الآخرين وذلك إما نبوءة بمستقبل أو كشف أسرار مكتومة.

لَهُ تَرْجَمَةٌ للخطاب بلغة غريبة تكلم بها سابقاً هو أو غيره (ص ١٢: ١٠). ولا ريب أنه كان في كنيسة كورنثوس خدمة الدين معيّنين لتعليم الشعب وترتيب أمور العبادة ويظهر من هذه الآية أن مواهب الروح لم تنحصر في خدم الكنيسة بل كانت لكثيرين غيرهم وأن كل ذي موهبة رأى أنه مكلف بممارستها ولا بد من أنه نتج من ذلك التشويش والضجيج.

فَلْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ لِلْبُنْيَانِ هذا قانون وضعه الرسول لاستعمال المواهب في كل اجتماعات العبادة وهو أن لا يطلب الإنسان اشتهار مواهبه ولا قصّر النفع على نفسه ولا يرى أنه مكلف بممارسة موهبته بدون نظر إلى الأحوال فعليه أن يلاحظ ما يقتضيه بنيان الكنيسة فإن اقتضى استعمال الموهبة استعملها وإلا فلا.

٢٧ «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ، فَٱثْنَيْنِ ٱثْنَيْنِ، أَوْ عَلَى ٱلأَكْثَرِ ثَلاَثَةً ثَلاَثَةً، وَبِتَرْتِيبٍ، وَلْيُتَرْجِمْ وَاحِدٌ».

هذا أمر الرسول للمتكلمين بالألسنة في الكنيسة وهو أن المتكلمين في اجتماع واحد لا يزيدون على ثلاثة وأنهم لا يتكلمون معاً بل على التوالي وإن واحداً يترجم كلامهم.

٢٨ «وَلٰكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَرْجِمٌ فَلْيَصْمُتْ فِي ٱلْكَنِيسَةِ، وَلْيُكَلِّمْ نَفْسَهُ وَٱللّٰهَ».

معنى هذه الآية أنه إذا كان أحد له موهبة الألسنة وأراد أن يتكلم وليس له موهبة الترجمة وليس في الكنيسة من له هذه الموهبة فعليه أن يسكت ويناجي نفسه وإلهه في ما أعلن له فينفع بذلك نفسه. ولنا من هذه الآيات أن الروح القدس يوحي بهذه الموهبة اللفظ والمعنى.

٢٩، ٣٠ «٢٩ أَمَّا ٱلأَنْبِيَاءُ فَلْيَتَكَلَّمِ ٱثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ، وَلْيَحْكُمِ ٱلآخَرُونَ. ٣٠ وَلٰكِنْ إِنْ أُعْلِنَ لآخَرَ جَالِسٍ فَلْيَسْكُتِ ٱلأَوَّلُ».

في هاتين الآيتين قوانين ممارسة النبوة وهي ان عدد المتنبئين في اجتماع واحد لا يزيد على ثلاثة وإن سائر الأنبياء يمارسون موهبة «تمييز الأرواح» المذكور في (ص ١٢: ١٠) فيحكمون بإلهام المتكلم أو بعدم إلهامه على وفق قول يوحنا الرسول «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، لاَ تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ، بَلِ ٱمْتَحِنُوا ٱلأَرْوَاحَ: هَلْ هِيَ مِنَ ٱللّٰهِ الخ» (١يوحنا ٤: ١ – ٣). ولنا من ذلك انه كان لأصحاب موهبة النبوة موهبة تمييز الأرواح أيضاً وكان عليهم أن يمارسوها حين يتكلم بعضهم. فإن أُعلن لأحدهم أمر والمتكلم آخر لم يجز له أن يتكلم إلا بعد أن يفرغ المتكلم من كلامه أو يسكت ليجعل له فرصة للتكلم والأول هو الأرجح لأنه لا يقدر أن يوقف المتكلم في أثناء كلامه ويحفظ الترتيب الواجب في الكنيسة.

٣١ «لأَنَّكُمْ تَقْدِرُونَ جَمِيعُكُمْ أَنْ تَتَنَبَّأُوا وَاحِداً وَاحِداً، لِيَتَعَلَّمَ ٱلْجَمِيعُ وَيَتَعَزَّى ٱلْجَمِيعُ».

في علة منعه عن أن يتكلموا معاً وهي أنه لا داعي إليه إذ لكل نبي نوبة للتكلم إذا لم تكن في هذا الاجتماع كانت في ذاك لأن عدد المتكلمين في اجتماع واحد محدود.

لِيَتَعَلَّمَ ٱلْجَمِيعُ هذه الغاية المطلوبة فنبوة أحدهم تقتضيها احتياجات بعض السامعين ونبوة آخر تقتضيها احتياجات أُخر وهكذا ينتفع الجميع.

٣٢ «وَأَرْوَاحُ ٱلأَنْبِيَاءِ خَاضِعَةٌ لِلأَنْبِيَاءِ».

١يوحنا ٤: ١

هذه الآية علة ما في (ع ٣٠) وهي أن الروح لا يجبر الموحى إليهم أن يتكلموا في الحال فيقدرون أن يتكلم كل في نوبته.

أَرْوَاحُ ٱلأَنْبِيَاءِ التي حلّ عليها الروح القدس.

خَاضِعَةٌ لِلأَنْبِيَاءِ فيمكنه أن يتكلم متى شاء ويسكت متى شاء فهو غير مضطر إلى تسكيت غيره ليتكلم هو. وهذا مناف لرأي الوثنيين في أمر الذين ادعوا سكنى الآلهة فيهم فزعموا أنه لا يمكن الكهنة والكاهنات أن يضبطوا أنفسهم متى أثّرت آلهتهم فيهم.

٣٣ «لأَنَّ ٱللّٰهَ لَيْسَ إِلٰهَ تَشْوِيشٍ بَلْ إِلٰهُ سَلاَمٍ، كَمَا فِي جَمِيعِ كَنَائِسِ ٱلْقِدِّيسِينَ».

ص ١١: ١٦

هذا بيان لعدم إمكان أن لا تخضع أرواح الأنبياء للأنبياء فإنهم موحى إليهم من الله في كنائس الله وهو يحب النظام والسلام أبداً ويكره التشويش والشغب. فيلزم من ذلك أن يخضع كل روح يرسله للنطام وأن تكون كنائسه مواضع الترتيب والوفاق وأن كل تأثير يهيج الناس إلى العمل بلا قياس ونزع راحة الكنيسة ليس منه. وكون الله «سلام» يستلزم أن يكون نوابه في الكنيسة محبي السلام.

كَمَا فِي جَمِيعِ كَنَائِسِ ٱلْقِدِّيسِينَ الأرجح أن هذا جزء من الآية الرابعة والثلاثين وأنه متعلق بصمت النساء في الكنائس. وأن جعلناه جزء الآية التي حُسبت منها فهو متعلق بقوله «لأن الله ليس إله تشويش» الخ. فأشار بولس إلى الهدوء والترتيب ا للذين في كل الكنائس المسيحية بإرشاد الروح القدس وإطاعة أوامر الله بياناً لكون الله إله نظام ووفاق ولكن لاحاجة إلى هذا البيان لأن نظام الكون كله يدل أوضح دلالة على صحة ذلك. على أنه من أحسن الموافقات أن يُذكّر بولس كنيسة كورنثوس بما اعتادته الكنائس المسيحية كلها ليبرهن لهم أن ما فعلته نساؤهم من التكلم في الكنائس عير لائق ومخالف للنظام فيكون كلامه هنا مطابقاً لقول سابقاً ما خلاصته «يجب أن تسلك نساء كنيسة كورنثوس سلوك نساء سائر الكنائس» (ص ١١: ١٦).

٣٤ «لِتَصْمُتْ نِسَاؤُكُمْ فِي ٱلْكَنَائِسِ، لأَنَّهُ لَيْسَ مَأْذُوناً لَهُنَّ أَنْ يَتَكَلَّمْنَ، بَلْ يَخْضَعْنَ كَمَا يَقُولُ ٱلنَّامُوسُ أَيْضاً».

اتيموثاوس ٢: ١١ و١٢ ص ١١: ٣ وأفسس ٥: ٢٢ وكولوسي ٣: ١٨ وتيطس ٢: ٥ و١بطرس ٣: ١ تكوين ٣: ١٦

لِتَصْمُتْ نِسَاؤُكُمْ فِي ٱلْكَنَائِسِ يتبين من هذا أن كل ما قاله في هذا الأصحاح في شأن التكلم بالألسنة والتنبوء مختص بالرجال المكلفين بالتعليم في الكنائس. والعلة الأولى لصمت النساء في كنيسة كورنثوس ما ذُكر في (ع ٣٣) وهو صمت النساء في سائر الكنائس المسيحية وهذا وحده دليل قوي على أنه هو ما يقتضيه الدين المسيحي.

لَيْسَ مَأْذُوناً لَهُنَّ أَنْ يَتَكَلَّمْنَ في الاجتماعات العامة في الكنيسة نعم أُذن لهن أن يتنبأن كما قيل في (يوئيل ٢: ٢٨) وكما قال بطرس يوم الخمسين بإنجاز نبوءة يوئيل (أعمال ٢: ١٧). وكما فعلت بنات أغابوس الأربع (أعمال ٢١: ٩). فقال بولس هنا أنه لا يؤذن لهن استعمال موهبة النبوءة في تلك الاجتماعات التي يحضرها الرجال والنساء وهذا لا يمنعهن من التنبوء في غيرها.

بَلْ يَخْضَعْنَ لرجالهن فإن علّمن في الكنيسة كالرجال لم يكن خاضعات كذلك لما في منزلة الخطيب أو المعلم من السلطة على السامعين في بيان واجباتهم وأمرهم بالقيام بها. ومثل هذا قوله «لتتعلم المرأة بسكوت في كل خضوع ولكن لست آذن للمرأة أن تعلم ولا تتسلط على الرجل بل تكون في سكوت».

كَمَا يَقُولُ ٱلنَّامُوسُ أَيْضاً أي شريعة الله القديمة في تعيين نسبة المرأة إلى الرجل ولا سيما قوله في (تكوين ٣: ١٦).

فالأمر واضح أن النساء تقدمن كثيراً منذ أيام بولس في المعرفة والعلم والتهذيب وتغيرت العوائد في شأنها كثيراً ولكن لم يكن في ذلك شيء يوجب إبطال الترتيب الإلهي الذي جعل بيت المرأة محلاً لإظهار فضائلها ومواهبها لا منبر الكنيسة.

٣٥ «وَلٰكِنْ إِنْ كُنَّ يُرِدْنَ أَنْ يَتَعَلَّمْنَ شَيْئاً، فَلْيَسْأَلْنَ رِجَالَهُنَّ فِي ٱلْبَيْتِ، لأَنَّهُ قَبِيحٌ بِٱلنِّسَاءِ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي كَنِيسَةٍ».

لم يرد أن تجهل النساء شيئاً من الحقائق الدينية فدلهن على أن يستفهمن من رجالهن في البيت ما لم يفهمنه في الكنيسة. وهذا أوفق من أن يوقفن الخطيب في الكنيسة ليسألنه عن معنى كلامه ويرفعن أصواتهن بالسؤال على خلاف ما يتوقع من المرأة في الكنيسة.

لأَنَّهُ قَبِيحٌ بِٱلنِّسَاءِ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي كَنِيسَةٍ أي يجلب العار عليهن وعلى الكنيسة المؤذنة لهن في ذلك لما فيه من مخالفة العوائد في عالم النساء ولما يليق بالنساء من الحشمة والتواضع وللنظام الذي عيّنه الله وهو أن يكون خدم الكنائس وأصحاب السلطة فيها رجالاً. وكتب اليهود تشتمل على القانون الذي في كتب المسيحيين في أمر النساء. وما قيل هنا في صمت النساء مختص بالاجتماعات المختلطة من الجنسين فلا يمنع أن تتكلم المرأة وتصلي في اجتماعات النساء فإنهن يعلمن في المدارس العادية ومدارس الأحد. وللنساء وسائط كثيرة لخدمة المسيح ومد ملكوته دون أن تتكلم في المجتمعات العامة فتقدر أن تخدم الله كما خدمته بريسكلا فإنها شرحت لأبلوس طريق الرب (أعمال ٢٩: ٢٦) وكما فعلت طابيثا «هٰذِهِ كَانَتْ مُمْتَلِئَةً أَعْمَالاً صَالِحَةً وَإِحْسَانَاتٍ كَانَتْ تَعْمَلُهَا» (أعمال ٩: ٣٦). وكما فعلت لوئيس وأفنيكي في تربية تيموثاوس (٢ تيطس ١: ٥ و٣: ١٥).

٣٦ «أَمْ مِنْكُمْ خَرَجَتْ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ؟ أَمْ إِلَيْكُمْ وَحْدَكُمُ ٱنْتَهَتْ؟».

وبّخ مسيحي كورنثوس بهذا لأنهم أدخلوا في الكنائس عوائد جديدة كأنهم مستقلون غير مكلفين أن يطيعوه ويسلكوا بمقتضى النظام الجاري في سائر الكنائس وذلك لا يحق لهم إلا على فرض أن كنيستهم أم كل الكنائس المسيحية أو أنها الكنيسة الوحيدة وأن أصل الإنجيل منها وذلك بعيد عن الحق بمراحل. وينتج من هذه الآية أن النظام الذي عيّنه الرسل لكل الكنائس وقبلته هو الحق لأنهم كانوا ملهمين بالروح القدس في ما رسموه وذلك الروح ساكن في الكنيسة أيضاً. وقوله هنا كقوله في (ص ١١: ١٦).

٣٧ «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْسِبُ نَفْسَهُ نَبِيّاً أَوْ رُوحِيّاً، فَلْيَعْلَمْ مَا أَكْتُبُهُ إِلَيْكُمْ أَنَّهُ وَصَايَا ٱلرَّبِّ».

٢كورنثوس ١٠: ٧ و١يوحنا ٤: ٦ ص ٣: ١ – ٣ وغلاطية ٦: ١

يَحْسِبُ نَفْسَهُ نَبِيّاً أَوْ رُوحِيّاً أي له موهبة النبوة أو غيرها من المواهب الروحية الخاصة.

فَلْيَعْلَمْ الخ أي فليسلم بأن لي سلطاناً من الله باعتبار أني رسول. فيكون ذلك دليلاً على صحة دعواه لأن وحي النبي لا يناقض وحي الرسول. ومثل هذا قول يوحنا الرسول «نَحْنُ مِنَ ٱللّٰهِ. فَمَنْ يَعْرِفُ ٱللّٰهَ يَسْمَعُ لَنَا، وَمَنْ لَيْسَ مِنَ ٱللّٰهِ لاَ يَسْمَعُ لَنَا. مِنْ هٰذَا نَعْرِفُ رُوحَ ٱلْحَقِّ وَرُوحَ ٱلضَّلاَلِ» (١يوحنا ٤: ٦).

صرّح بولس في هذه العبارة أن له سلطاناً من الله أن يسنّ للكنيسة شرائع لا يمكن أن يكون الإنسان مسيحياً مدعواً من الله وهو يرفض أن يسمع رسوله ويطيعه فتعليم بولس هنا موافق لتعليم الإنجيل كله وهو أن الرسل آلات الروح القدس وأنهم معصومون في التبليغ والتعليم. فرفض تعليمهم العقائد والأعمال عصيان لله. وما صح عليهم يصح على أنبياء العهد القديم ولنا اليوم تعليم الفريقين في أسفار العهدين. فإذا ادّعى معلم أنه مرسل من الله وأنه يجب أن نسمعه ونطيعه فعلينا أن نقايل تعليمه بتعليم كتاب الله فإن لم يوافقه تيقنا أنه ليس من الله. وأراد بقوله «ما أكتبه إليكم» ما ضمنه هذا الأصحاح من الكلام على استعمال المواهب الروحية. وما صدق على هذا الأصحاح يصدق على كل الكتب الرسولية أي أنها كلها من الله وأن علينا قبولها وإطاعتها. ومعنى قوله «إنه وصايا الرب» إن الرب يسوع المسيح رأس الكنيسة يسوس كنيسته بمن أرسلهم من الرسل وألهمهم بالروح القدس.

٣٨ «وَلٰكِنْ إِنْ يَجْهَلْ أَحَدٌ فَلْيَجْهَلْ!»

مراد الرسول بهذه الآية أن جهل أحد سلطانه الإلهي ولم يقبل تعليمه فالمسؤولية وعواقبها عليه فقد أبان الرسول آيات كونه رسولاً وصرّح بوصايا الله فلم يرد أن يضيع الوقت بمناظرة معاندٍ.

٣٩ «إِذاً أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ جِدُّوا لِلتَّنَبُّؤِ، وَلاَ تَمْنَعُوا ٱلتَّكَلُّمَ بِأَلْسِنَةٍ».

ص ١٢: ٣١ وع ١ و١تسالونيكي ٥: ٢٠

كل كلام هذا الأصحاح على الموهبتين المذكورتين هنا فهذه الآية خلاصته وهي أن الأولى أفضل من الثانية ويجب على الإنسان أن يرغب فيها ويجد في طلبها كما في (ع ١). وإنه لا يجوز أن يمنع استعمال الثانية في الكنيسة لأنها ثمينة ونافعة إذا استعملت على شرط وجود من يترجم (ع ٢٧ و٢٨) ووجود من يستفيد (ع ٢٢).

٤٠ «وَلْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ بِلِيَاقَةٍ وَبِحَسَبِ تَرْتِيبٍ».

ع ٢٣

هذه قاعدة عامة مبنية على ما تقدم يجب أن يُسلك بمقتضاها في كل أمور الكنيسة.

لْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ بِلِيَاقَةٍ أي يجب أن تكون كل أمور العبادة حسنة ومستحسنة عند كل ذي عقل سليم يرضاها الله المعبود وتناسب بيته الذي يُعبد فيه.

وَبِحَسَبِ تَرْتِيبٍ كما في الجيش حيث كل يعرف محله ويعمل في الوقت المعيّن في الطريق المعيّنة. وهذا مناف لأن تعمل كنيسة محلية بالاستقلال عن سائر الكنائس (ع ٣٣) وأن عضواً من كنيسة يعمل بالاستقلال عن سائر أعضائها. وخلاصته أنه يجب أن يكون الوفاق والنظام في الكنائس إفراداً وإجمالاً (انظر أفسس ٥: ٢١ وكولوسي ٢: ٥).

فوائد

  1. إن المواهب الروحية الخاصة التي ذُكرت في هذا الأصحاح وإن زالت من الكنيسة لم تزل أعمال العبادة المذكورة فيه التي وجب على الكنيسة أن تمارسها دائماً وهي تعليم كتاب الله (وقراءته) (ع ٢ و٣ و٥ و١٣ و١٩). والصلاة (ع ١٤ و١٥) والترنم (ع ١٥). ويتضح مما قيل هنا وجوب أن تكون كلمات العبادة كلها مما يفهمه الشعب (ع ٤ و٥) لكي يستفيدوا من التعليم ويشتركوا في الصلاة والترنم (ع ١٦).
  2. إنه يجب أن يكون التعليم أو الوعظ في الكنيسة على غاية الوضوح حتى يمكن الصغار إدراك المعنى وأن تكون غايته نفع السامعين لا بيان فصاحة المتكلم وعلمه (ع ٥ و٢٦).
  3. إن كلام الله هو الآلة التي يتخذها الروح القدس لتجديد القلوب فيجب على الواعظ أن يبين بكل وضوح تعليم الكتاب في أمر خطايانا كما هي أمام الله ليشعر السامعون بأن «خفايا قلوبهم أُعلنت» وقد وُبخوا من الجميع وأن يبيّن أيضاً الخلاص بيسوع المسيح حتى يلجأ الخطاة إلى رحمته من العقاب الذي أوجبته خطاياهم عليهم (ع ٢٥).
  4. إنه من أحسن ما يليق بالمسيحيين بعد سمعهم الوعظ في الكنيسة أن يتحدثوا بموضوعه في بيوتهم لزيادة معرفته وتقريره في الذاكرة والعمل بموجبه. وأمر النساء بأن يسألن رجالهن في البيوت عما قيل في الكنيسة يستلزم أن يكون الرجال عارفين الدين حسناً متعلمين من الروح القدس مختبرين الحقائق الروحية ليستطيعوا تفسيرها لنسائهم (ع ٣٤ و٣٥).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى