كورنثوس الأولى

الرسالة الأولى إلى كورنثوس | 10 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح العاشر

وجوب إنكار الذات واعتزال ما ارتكبه قدماء الإسرائيليين في البرية من الخطايا

ما في هذا الأصحاح نصائح أخرى في إنكار النفس والاجتهاد في الروحيات (ع ١ – ١٣) ونهي المؤمنين عن الاشتراك في ولائم الهياكل الوثنية (ع ١٤ – ٢٢). وكلام على أكل الذبائح الوثنية في البيوت (ع ١٣ – ٣٣).

بنى الرسول في هذا الأصحاح وجوب إنكار النفس على ما حدث لبني إسرائيل في البرية. وكان قد أوجب على المؤمنين في آخر الأصحاح التاسع إنكار النفس لتحصيل إكليل الحياة. وأبان هنا أن عدم ذلك الإنكار كان علة هلاك أكثر بني إسرائيل في البرية مع أن الله ميّزهم بكثير من البركات العظمى (ع ١ – ٥) فكان ذلك عبرة لسائر الناس ليحترسوا من التجربة (ع ٦) ويهربوا من عبادة الأوثان (ع ٧). ومن الزنى (ع ٨). وتجربة المسيح (ع ٩). والتذمر (ع ١). في مصائب الإسرائيليين تحذير للمسيحيين من أن يتكلوا على أنفسهم فيسقطوا (ع ١١ و١٢). إن الله حنّان لا يسمح أن يُجرب المؤمنون بما لا يقدرون أن يحتملوه (ع ١٣) والباقي من هذا الأصحاح متعلق بما سبق من الكلام على أكل ما ذُبح للأوثان (ص ٨: ٤ – ١٣). وفيه بيّن الخطر من حضور ولائم الهياكل المعدة إكراماً للأوثان. ولعل الوثنيين ألحوا على أصحابهم المسيحيين أن يحضروا تلك الولائم بحجة أن ذلك لا يقودهم إلى أن يصيروا وثنيين لكونهم متعمدين ومعروفين أنهم مسيحيون. والكلام على سقوط بني إسرائيل في التجربة وعقابهم عليه مقدمة لكلامه على خطر حضور الولائم في الهياكل الوثنية.

١ «فَإِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ أَنْ تَجْهَلُوا أَنَّ آبَاءَنَا جَمِيعَهُمْ كَانُوا تَحْتَ ٱلسَّحَابَةِ، وَجَمِيعَهُمُ ٱجْتَازُوا فِي ٱلْبَحْرِ».

خروج ١٣: ٢١ و٤٠: ٣٤ وعدد ٩: ١٨ و١٤: ١٤ وتثنية ١: ٣٣ ونحميا ٩: ١٢ و١٩ ومزمور ٧٨: ١٤ و١٠٥: ٣٩ خروج ١٤: ٢٢ وعدد ٣٣: ٨ ويشوع ٤: ٢٣ ومزمور ٧٨: ١٣

لَسْتُ أُرِيدُ… أَنْ تَجْهَلُوا اصطلح الرسول أن يأتي بمثل هذه العبارة إذا تكلم في أمر ذي شأن لينبّه المخاطبين له (رومية ١: ١٠ و١١: ٢٥).

أَنَّ آبَاءَنَا جَمِيعَهُمْ المراد «بالآباء» هنا الإسرائيليون الذين خرجوا من مصر. وأبوتهم لمؤمني كورنثوس روحية لأن بولس لو أراد أنها دموية لخص بالكلام متنصري اليهود ولكن كلامه موجه إلى كل مؤمني كورنثوس فصار متنصري اليهود ومتنصري الأمم واحداً في المسيح با لإيمان. فيحق لمؤمني الأمم أن يدعوا النسبة الروحية إلى الآباء الإسرائيليين (غلاطية ٣: ٢٩ وأفسس ٢: ١٩).

قال الرسول في (ص ٩: ٢٤) إن الجميع يجرون في الميدان ولكن واحداً منهم يأخذ الجعالة حثا لهم على الاجتهاد. وبهذا القصد قال هنا ما معناه أن جميع آبائنا تركوا مصر بغية دخول أرض الميعاد لكن لم يدخلها سوى اثنين منهم وهما يشوع وكالب. ولا ريب في أنهم ظنوا حين خرجوا من مصر وعبروا البحر الأحمر أنهم نجوا من كل خطر وأن دخولهم أرض كنعان أمر لا ريب فيه. فزيادة اطمئنانهم أغرتهم بإهمال الاجتهاد فهلكوا. وكذا متنصرو كورنثوس ظنوا بعد قبولهم الإنجيل أن هذا القبول كاف لتأكيد دخولهم السماء.

كَانُوا تَحْتَ ٱلسَّحَابَةِ التي كانت ترافقهم في البرية كل مسيرهم منذ خروجهم من مصر لإرشادهم ووقايتهم بها بدليل قول موسى «وَكَانَ ٱلرَّبُّ يَسِيرُ أَمَامَهُمْ نَهَاراً فِي عَمُودِ سَحَابٍ لِيَهْدِيَهُمْ فِي ٱلطَّرِيقِ، وَلَيْلاً فِي عَمُودِ نَارٍ لِيُضِيءَ لَهُمْ… لَمْ يَبْرَحْ عَمُودُ ٱلسَّحَابِ نَهَاراً وَعَمُودُ ٱلنَّارِ لَيْلاً مِنْ أَمَامِ ٱلشَّعْبِ» (خروج ١٣: ٢١ و٢٢ انظر أيضاً عدد ٩: ١٥ و٢٣ و١٤: ١٤ وتثنية ١: ٣٣ ومزمور ٧٨: ١٤). وكانت تلك السحابة من أعظم الأدلة على أن الله محب لهم ومعتن بهم وآية دائمة على وجود الله بينهم فلم يكن لأمة سواهم على وجه الأرض مثل هذه الدلالة الظاهرة على رضى الله بهم فاطمأنوا متيقنين نجاحهم في الحال وخلاصهم في المستقبل.

وَجَمِيعَهُمُ ٱجْتَازُوا فِي ٱلْبَحْرِ أي البحر الأحمر الذي هلك فيه جنود المصريين. وكان ذلك بإرشاد موسى وقوة الله العظيمة فاتخذ بنو إسرائيل هذا دليل الأمن في كل أسفارهم. والكلمة ذات الشأن في هذه الآية والثلاث التي بعدها لفظة «جميعهم» والغاية منها بيان أنه لم يظن أحد منهم حرمانه دخول أرض كنعان بعدما شاهد أدلة رضى الله به.

٢ «وَجَمِيعَهُمُ ٱعْتَمَدُوا لِمُوسَى فِي ٱلسَّحَابَةِ وَفِي ٱلْبَحْرِ».

إن الذين اعتمدوا ليوحنا المعمدان اعترفوا بأنهم تلاميذه. كذلك صار الناس بالمعمودية تلاميذ المسيح. والإسرائيليون بمعموديتهم في السحابة التي ظللتهم وفي البحر الذي جازوا فيه بإرشاد موسى أوجبت عليهم الإقرار بأن الله عيّن لهم موسى قائداً يجب أن يطيعوه. فتأثير السحابة والبحر فيهم في أول اتباعهم موسى كان بمنزلة تأثير المعمودية في المسيحيين في أول اتباعهم المسيح. وليس في ما قيل هنا أدنى إشارة إلى كيفية المعمودية مثل كونها بالرش أو السكب أو التغطيس.

٣ «وَجَمِيعَهُمْ أَكَلُوا طَعَاماً وَاحِداً رُوحِيّاً».

خروج ١٦: ١٥ و٣٥ ونحميا ٩: ١٥ و٢٠ ومزمور ٧٨: ٢٤

هذا الطعام هو المن (خروج ١٦: ١٥ ونحميا ٩: ١٥ و٢٠) وسمي «روحياً» بالنظر إلى مصدره لأن الله أعطاهم إياه بروحه كما يعطي كل الهبات الخاصة. فلم يأتهم المن بوسائل طبيعية بل بمعجزة كما أتاهم الماء من الصخرة. وبهذا المعنى قيل من جهة إسحاق أنه «وُلد حسب الروح» لأن ولادته كانت بعناية الله الخاصة (غلاطية ٤: ٢٩). وقد تقدم أن اجتياز الإسرائيليين في البحر ومسيرهم تحت السحابة كانا بمنزلة سر معمودية المسيحيين بالماء باسم يسوع وكان لأولئك المن بمنزلة سر العشاء الرباني لهؤلاء وكلاهما لا يحقق الخلاص للمعتمدين والآكلين.

٤ «وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا شَرَاباً وَاحِداً رُوحِيّاً لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ، وَٱلصَّخْرَةُ كَانَتِ ٱلْمَسِيحَ».

خروج ١٧: ٦ وعدد ٢٠: ١١ ومزمور ٧٨: ١٥ تثنية ٩: ٢١ ومزمور ١٠٥: ٤١

شَرِبُوا شَرَاباً وَاحِداً رُوحِيّاً في هذا إشارة إلى ما حدث للإسرائيليين في رفيديم إذ قال الله لموسى «هَا أَنَا أَقِفُ أَمَامَكَ هُنَاكَ عَلَى ٱلصَّخْرَةِ فِي حُورِيبَ، فَتَضْرِبُ ٱلصَّخْرَةَ فَيَخْرُجُ مِنْهَا مَاءٌ لِيَشْرَبَ ٱلشَّعْبُ. فَفَعَلَ مُوسَى هٰكَذَا أَمَامَ عُيُونِ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ» (خروج ١٧: ٦). وسمى الماء روحياً لأن الله وهبه للشعب بروحه بطريق خارقة العادة. فشربوا منه عند انفجاره وبقوا يشربون منه زمناً طويلاً.

كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ يحتمل كلام الرسول هنا معنىً تاريخياً حقيقياً ومعنىً مجازياً روحياً ولم يترك لنا سبيلاً لنعلم أيهما قصد فأتينا في أول شرح هذه الآية بالمعنى الحقيقي وفي آخره بالمعنى الروحي.

ويتضح من هذه العبارة أمران الأول أن الإسرائيليين بقوا يشربون مدة طويلة من الماء الذي جرى بالمعجزة. والثاني أن مصدر ذلك الماء هو المسيح ولكنه لم يتضح طريق اتباع الصخرة لهم ولا وجه كونها المسيح. فمن تقاليد اليهود الوهمية أن الصخرة التي ضُربت كانت تتدحرج ورأهم أين اتجهوا والماء لا ينفك جارياً منها. فذهب بعض المفسرين أن الرسول هنا جرى على اعتقادهم ولكن لا دليل على صحة هذا المذهب. وظن بعضهم أن مراد الرسول أن ماء الصخرة كان يتبعهم. وهذا موافق لقول المرنم «شَقَّ ٱلصَّخْرَةَ فَٱنْفَجَرَتِ ٱلْمِيَاهُ. جَرَتْ فِي ٱلْيَابِسَةِ نَهْراً» (مزمور ١٠٥: ٤١) وهو من الأدلة على وفرة الماء وجريانه إلى أمد بعيد. كانت الأرض حول جبل حوريب مرتفعة فمن الطبع أن النهر الجاري منها في أحد الأودية يجري إلى البحر الأحمر إلى أحد خليجيه الشرقي أو الغربي فكفى الإسرائيليين كل مدة سيرهم على عدوتِه أو على مقربة منها. ويتضح من تاريخ أسفارهم في البرية أنهم كانوا بعد سبع وثلاثين سنة لخروجهم من مصر في عصيون جابر وهو محل عند خليج البحر الأحمر الشرقي فأمكنهم أن يشربوا من ذلك النهر في أثناء سفرهم وفي آخره كما شربوا منه في أوله فساغ بهذا المعنى قول الرسول «إن الصخرة تابعتهم».

إنه انفجر الماء بمعجزة أخرى من صخرة أخرى في مريبة (عدد ٢٠: ١١). والأرجح أن الرسول أراد الصخرة التي انفجر ماؤها في حوريب. ولا يلزم من قول الرسول أن الصخرة نفسها تبعتهم ولا أن الماء تبعهم بل أن المسيح تبعهم الذي هو بمنزلة الصخرة لهم فإنه «ملاك العهد» الذي ما انفك يسير مع الإسرائيليين في البرية. وهو يهوه الذي ظهر لهم وكلمهم «بأنواع وطرق كثيرة». وهو ابن الله الذي اتخذ بعد ذلك طبيعتنا وعُرف بيسوع المسيح فأمدهم بكل ما احتاجوا إليه وكان لهم ينبوع ماء حي لم يفارقهم قط.

وَٱلصَّخْرَةُ كَانَتِ ٱلْمَسِيحَ ليس المراد أن المسيح ظهر للإسرائيليين في صورة صخرة بل المراد أن الله إلههم كان لهم كالصخرة للبيت المبني عليها وملجأ لهم كالحصن في الحرب ومظللاً لهم كصخرة في الرمضاء. وهذا الإله تجسد بعد ذلك وعُرف بأنه المسيح. وكثيراً ما شبه الله بالصخرة في العهد القديم. ومن ذلك قوله «حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ وَمُبَارَكٌ صَخْرَتِي» (٢صموئيل ٢٢: ٤٧) وقوله «قَالَ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ. إِلَيَّ تَكَلَّمَ صَخْرَةُ إِسْرَائِيلَ» (٢صموئيل ٢٣: ٣ انظر أيضاً ١صموئيل ٢: ٢ ومزمور ١٨: ٢ و٣١: ٣ و٦٢ ٧ و٧١: ٣).

أخبر بولس مؤمني كورنثوس أن يهوه الإسرائيليين الذي اعتبروه صخرتهم كان المسيح حقيقة ليعرفوا أنهم حصلوا على البركات التي حصل عليها المسيحيون عينها ولكن هذه البركات لم تتكفل بخلاصهم.

٥ «لٰكِنْ بِأَكْثَرِهِمْ لَمْ يُسَرَّ ٱللّٰهُ، لأَنَّهُمْ طُرِحُوا فِي ٱلْقَفْرِ».

عدد ١٤: ٢٩ و٣٢ و٣٥ و٢٦: ٦٤ و٦٥ ومزمور ١٠٦: ٢٦ وعبرانيين ٣: ١٧ ويهوذا ٥

لٰكِنْ أي مع كل ما أظهر الله للإسرائيليين من الحنو والمحبة والبركة.

بِأَكْثَرِهِمْ أي كل البالغين الذين خرجوا من مصر سوى يشوع وكالب وفينحاس الكاهن (عدد ١٤: ١٦ و٢٩ و٣٠ ويشوع ٢٢: ١٣).

لَمْ يُسَرَّ ٱللّٰهُ أي اغتاظ ودليل ذلك ما ذُكر في سائر الآية. وعلة اغتياظه سوء تصرفهم وعصيانهم وكفرهم وعبادتهم للأوثان.

طُرِحُوا فِي ٱلْقَفْرِ أي ماتوا بالأوبئة والحروب لا بمجرد أسباب الموت العادية.

٦ «وَهٰذِهِ ٱلأُمُورُ حَدَثَتْ مِثَالاً لَنَا، حَتَّى لاَ نَكُونَ نَحْنُ مُشْتَهِينَ شُرُوراً كَمَا ٱشْتَهَى أُولَئِكَ».

عدد ١١: ٤ و٣٣ و٣٤ ومزمور ١٠٦: ١٤

وَهٰذِهِ ٱلأُمُورُ أي النوازل التي كانت علة هلاكهم.

مِثَالاً لَنَا أي أن الله قصد أن تكون عبرة وتعليماً وإنذاراً لنا علاوة على كونها عقاباً للإسرائيليين على خطاياهم.

إن هلاكهم في البرية رمز إلى الهلاك في جهنم الذي هو حظ من يغيظ الله كما أغاظوه.

حَتَّى لاَ نَكُونَ نَحْنُ مُشْتَهِينَ شُرُوراً الخ حذّر الرسول مؤمني كورنثوس من عدة خطايا حرمت الإسرائيليين دخول الأرض المقدسة لكي لا يُحرموا دخول السماء بارتكابها وأول تلك الخطايا ما ذُكر هنا. وأنبأ موسى به بقوله «عَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَيْضاً وَبَكَوْا وَقَالُوا: مَنْ يُطْعِمُنَا لَحْماً؟» الخ (عدد ١١: ٤ – ٧). وذكر عقابهم على ذلك بقوله «وَإِذْ كَانَ ٱللَّحْمُ بَعْدُ بَيْنَ أَسْنَانِهِمْ… حَمِيَ غَضَبُ ٱلرَّبِّ عَلَى ٱلشَّعْبِ، وَضَرَبَ ٱلرَّبُّ ٱلشَّعْبَ ضَرْبَةً عَظِيمَةً جِدّاً. فَدُعِيَ ٱسْمُ ذٰلِكَ ٱلْمَوْضِعِ «قَبَرُوتَ هَتَّأَوَةَ» لأَنَّهُمْ هُنَاكَ دَفَنُوا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَهَوْا» (عدد ١١: ٣٣ – ٣٥ انظر أيضاً مزمور ٧٨: ٢٧ – ٣١ و١٠٥: ١٤ و١٥). والشرور التي نهى بولس أهل كورنثوس عن ارتكابها هي التي تقترن بأكل الولائم في الهياكل الوثنية إكراماً للأوثان التي فيها ودُعي المؤمنون إليها. ولعل ما ذُكر في (ع ٧ و٨) تفسير للمراد باشتهاء الشرور.

٧ «فَلاَ تَكُونُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ كَمَا كَانَ أُنَاسٌ مِنْهُمْ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: جَلَسَ ٱلشَّعْبُ لِلأَكْلِ وَٱلشُّرْبِ، ثُمَّ قَامُوا لِلَّعِبِ».

ع ١٤ خروج ٣٢: ٦

فَلاَ تَكُونُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ لم يكن مؤمنو كورنثوس أقل من الإسرائيليين تعرضاً لعبادة الأصنام.

كَمَا كَانَ أُنَاسٌ مِنْهُمْ يوم صنعوا العجل من الذهب (خروج ٣٢: ١ – ٥). إن الإسرائيليين لم يظنوا إنهم صاروا عبدة أوثان بذلك لأنهم قصدوا أن يعبدوا الإله الحق بواسطته كما يظهر من قول هرون «غداً عيد للرب» (خروج ٣٢: ٥). كذلك ادعى بعض مؤمني كورنثوس أن اشتراكهم في أكل الولائم في هياكل الأوثان ليس بعبادة وثنية ولكن الله الذي لم يقبل حجة الإسرائيليين وعاقبهم على عبادة الوثن لم يقبل حجتهم على اشتراكهم في آثام غيرهم إذ زعم كون المحظور حلالاً لا يبيحه.

كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ في (خروج ٣٢: ٦).

جَلَسَ ٱلشَّعْبُ لِلأَكْلِ وَٱلشُّرْبِ كان هذا الجلوس جزءاً من عبادة العجل لأنهم أعدوا الوليمة إكراماً له.

ثُمَّ قَامُوا لِلَّعِبِ أي للرقص على الأغاني وألحان آلات الطرب إكراماً للعجل كما يظهر من (خروج ٣٢: ١٨). كان رفض الوثنيين يقترن بالفجور غالباً لكنه لا دليل في تاريخ موسى على أن رفض الإسرائيليين وقتئذ كان مقترناً بذلك.

٨ «وَلاَ نَزْنِ كَمَا زَنَى أُنَاسٌ مِنْهُمْ، فَسَقَطَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ثَلاَثَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفاً».

ص ٦: ١٨ ورؤيا ٢: ١٤ عدد ٢٥: ١ و٩ ومزمور ١٠٦: ٢٩

كثيراً ما تقود العبادة الوثنية إلى الزنى كما يظهر من قصة بني إسرائيل المشار إليها هنا وهي مذكورة في سفر العدد (عدد ٢٥: ١ – ٩). فإنه كان من عبادة بعل فغور أن العذارى يقفن أنفسهن للزنى إكراماً للوثن وكان مثل ذلك في كورنثوس إكراماً للزهرة (انظر صفحة ٢٠ من مقدمة هذه الرسالة) فكان من المحال ان يحضر مؤمني كورنثوس الولائم الوثنية في هيكلها بدون أن يتدنسوا.

فَسَقَط…َ ثَلاَثَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفاً وفي النسخة العبرانية التي ترجمتنا العربية منها أربعة وعشرون ألفاً ولا نعلم علة هذا الفرق. ولعل ما كُتب في النسخة التي كانت لبولس ثلاثة وعشرون ألفاً. أو الذين ماتوا كانوا ألفاً فصح التعبير عن عددهم بأحد العددين. ولو قصد الروح القدس أن يعلمنا عدد الذين ماتوا بالضبط لألهم موسى أن يذكر كم يزيد على الثلاثة والعشرين ألفاً أو ينقص عن الأربعة والعشرين ألفاً لكن الروح قصد إنذار القراء بالحادثة لا تعيين العدد تماماً وذكره بالتقريب للاختصار.

٩ «وَلاَ نُجَرِّبِ ٱلْمَسِيحَ كَمَا جَرَّبَ أَيْضاً أُنَاسٌ مِنْهُمْ، فَأَهْلَكَتْهُمُ ٱلْحَيَّاتُ».

خروج ١٧: ٢ و٧ وعدد ٢١: ٥ وتثنية ٦: ١٦ ومزمور ٧٨: ١٨ و٥٦ و٩٥: ٩ و١٠٦: ١٤ عدد ٢١: ٦

جرّب الناس الله لما طمعوا في طول أناته وصبره وشكوا في قوته وأمانته ووفائه لعهوده (متى ٤: ٧ وأعمال ٥: ٩ و١٥: ٠ وعبرانيين ٣: ٩). وعلى هذا الأسلوب جربه الإسرائيليين في البرية. قال الله «رَأَوْا مَجْدِي وَآيَاتِي ٱلَّتِي عَمِلْتُهَا فِي مِصْرَ وَفِي ٱلْبَرِّيَّةِ، وَجَرَّبُونِي ٱلآنَ عَشَرَ مَرَّاتٍ وَلَمْ يَسْمَعُوا لِقَوْلِي» (عدد ١٤: ٢٢). وحذر بولس مؤمني كورنثوس من أن يجربوا المسيح مثلهم بتذمرهم وعصيانهم ولا سيما طلب اللذات الجسدية العالمية التي تلذذوا بها قبل أن آمنوا كولائم الهياكل الوثنية.

فَأَهْلَكَتْهُمُ ٱلْحَيَّاتُ بدليل قوله «فَأَرْسَلَ ٱلرَّبُّ عَلَى ٱلشَّعْبِ ٱلْحَيَّاتِ ٱلْمُحْرِقَةَ فَلَدَغَتِ ٱلشَّعْبَ، فَمَاتَ قَوْمٌ كَثِيرُونَ مِنْ إِسْرَائِيلَ» (عدد ٢١: ٦). فأفاد الكورنثيين بذلك أنهم إذا طمعوا بحلم الله وصبره وتعدوا وصاياه جلبوا على أنفسهم شر النوازل.

١٠ «وَلاَ تَتَذَمَّرُوا كَمَا تَذَمَّرَ أَيْضاً أُنَاسٌ مِنْهُمْ، فَأَهْلَكَهُمُ ٱلْمُهْلِكُ».

خروج ١٦: ٢ و١٧: ٢ وعدد ١٤: ٢ و١٦: ٤١ خروج ١٢: ٢٣ وعدد ١٤: ٣٧ و١٦: ٤٩ و٢صموئيل ٢٤: ١٦ و١أيام ٢١: ١٥

لاَ تَتَذَمَّرُوا ينشأ التذمر عن عصيان القلب لله في ما تعيّنه العناية له.

كَمَا تَذَمَّرَ أَيْضاً أُنَاسٌ مِنْهُمْ أشار بهذا إلى قوله «تَذَمَّرَ عَلَى مُوسَى وَعَلَى هَارُونَ جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ لَهُمَا كُلُّ ٱلْجَمَاعَةِ: لَيْتَنَا مُتْنَا فِي أَرْضِ مِصْرَ، أَوْ لَيْتَنَا مُتْنَا فِي هٰذَا ٱلْقَفْرِ» الخ (عدد ١٤: ١ – ٤ و١٠: ١٢ و٢٧). وأما إلى ما ذُكر من عصيان قورح ورفاقه الذي اشترك فيه كثيرون من بني إسرائيل ومات به أربعة عشر ألف نفس وسبع مئة نفس (عدد ١٦: ١ – ٥٠). والثاني هو الأرجح لأن بولس يذكر أن بعضهم تذمر وفي الأول أن الجميع تذمروا.

تذمر الإسرائيليون على الله حين اشتكوا موسى وهرون وأرادوا رفض سلطانهما وإرشادهما. فتذمر بعض أهل كورنثوس باستخفافهم ببولس ورفضهم سلطانه تذمر على الرب الذي هو رسوله.

فَأَهْلَكَهُمُ ٱلْمُهْلِكُ أي الملاك الذي أرسله الله ليعاقبهم بالوباء. وذكر موسى الوباء بدون أن يذكر الملاك (عدد ١٤: ١٤). وذكر الملاك والوباء معاً في (٢صموئيل ٢٤: ١٥ و١٦ قابل ما في مزمور ٧٨: ٥٠ بما في خروج ١٢: ٢٣ وانظر أعمال ١٢: ٢٣).

١١ « فَهٰذِهِ ٱلأُمُورُ جَمِيعُهَا أَصَابَتْهُمْ مِثَالاً، وَكُتِبَتْ لإِنْذَارِنَا نَحْنُ ٱلَّذِينَ ٱنْتَهَتْ إِلَيْنَا أَوَاخِرُ ٱلدُّهُورِ».

رومية ١٥: ٤ وص ٩: ١٠ ص ٧: ٢٩ وفيلبي ٤: ٥ وعبرانيين ١٠: ٢٥ و٣٧ و١يوحنا ٢: ١٨

أَصَابَتْهُمْ مِثَالاً قصد الله أن يتعلم كل الناس بواسطة عقاب الإسرائيليين على خطاياهم ماذا يعرضون أنفسهم له كلما خطئوا أي أن الذين يخطأون كما خطئ الإسرائيليون من عبادة الأوثان والزنى والتذمر الخ يُعاقبون كما عوقبوا.

كانت بركات بني إسرائيل مثال بركات المسيحيين ونقمات المستهينين منهم بتلك البركات مثال نقمات الذين يستهينون ببركات الإنجيل منّا.

لإِنْذَارِنَا لئلا نتبع خطوات أولئك المعتدين ونرتكب ما ارتكبوا من الآثام ونُعاقب مثلما عوقبوا.

أَوَاخِرُ ٱلدُّهُورِ تدل هذه العبارة غالباً على المدة بين مجيء المسيح الأول بالاتضاع ومجيئه الثاني بالمجد ليدين العالم. وسُميت أيضاً «ملء الزمان» و «ملء الأزمنة» (غلاطية ٤: ٤ وأفسس ١: ١٠). و «الأيام الأخيرة» (عبرانيين ١: ١). و «انقضاء الدهر» (عبرانيين ٩: ٢٦) و «نهاية كل شيء» (١بطرس ٤: ٧ انظر تفسير أعمال ٢: ١٧).

١٢ «إِذاً مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ».

رومية ١١: ٢٠

هذه القاعدة التي كان على الكورنثيين أن يتعلموها من تاريخ الإسرائيليين وهي أن الإنسان ما دام على الأرض فهو عرضة للسقوط في التجربة والخطيئة. وليس لأحد أن يتكل على عزمه أن يثبت في الإيمان ولا أن يأمن السقوط بما بلغه من المعرفة والقداسة.

مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ أي لا يشك البتة في قوته على مقاومة التجربة وبقائه ثابتاً في الإيمان وفي التقوى وفي أنه يدخل السماء بعد موته.

فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ في خطيئة من الخطايا. والناس كثيراً ما يسقطون في الخطيئة التي لا يخافون الوقوع فيها فالذي يتكل على قوة عزمه للثبوت هو أكثر من غيره عرضة للسقوط ومثال ذلك سقوط بطرس الوقتي فإن علته كانت اتكاله على نفسه. فكل من يرجو الخلاص بمجرد كونه من أعضاء الكنيسة أو بتيقنه أنه من المختارين فلا بد من خيبته لأنه من المحال أن يخلص أحد إن لم يثبت في القداسة إلى النهاية وهذا محال إن لم يجتهد ويسهر ويصلي. إن طبيعة الإنسان ضعيفة مائلة إلى السقوط أبداً والشيطان منتبه مجرب دائماً. فعلى المؤمن أن يخاف ويجتهد إلى أن يدخل أبواب المدينة السماوية.

١٣ «لَمْ تُصِبْكُمْ تَجْرِبَةٌ إِلاَّ بَشَرِيَّةٌ. وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ أَمِينٌ، ٱلَّذِي لاَ يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ، بَلْ سَيَجْعَلُ مَعَ ٱلتَّجْرِبَةِ أَيْضاً ٱلْمَنْفَذَ، لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحْتَمِلُوا».

ص ١: ٩ مزمور ٢٥: ٣ و٢بطرس ٢: ٩ إرميا ٢٩: ١١

الغاية من هذه الآية تقوية قلوب المؤمنين وتعزيتهم لئلا ييأسوا من الخلاص مما فُهم من كلامه على سقوط غيرهم من أنهم عرضة للسقوط والأرجح إن ما أشار إليه من التجارب هنا عبادة الأوثان لأنه قال في الآية الآتية «اهربوا من عبادة الاثوان».

لَمْ تُصِبْكُمْ تَجْرِبَةٌ للخطيئة من تملق الناس أو اضطهادهم أو نوازل الدهر.

إِلاَّ بَشَرِيَّةٌ مما يتعرض له البشر أمثالكم فإن كثيرين من شعب الله جُربوا مثلكم ويُجربون.

لم يسمح الله أن يجرب مؤمنو كورنثوس بتجارب لا تحتملها الطبيعة البشرية كالتجارب التي لا يستطيع احتمالها سوى الطبيعة الملكية. ويمكنهم مما أصابهم من التجارب الماضية أن يعرفوا نوع ما يتعرضون له من التجارب المستقبلة.

ٱللّٰهَ أَمِينٌ فينجز وعده بحفظ شعبه من السقوط الأبدي فهو علة ثبوتهم لا قوة عزمهم.

لاَ يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ فإن أمانته في وعده تستلزم ذلك. ويلزم من هذا ثلاث قضايا:

  • الأولى: إن الله يهب الإنسان بعض القوة على مقاومة الخطيئة.
  • الثانية: إنه تعالى يعلم التجربة التي نستطيع احتمالها بالنسبة إلى قدرتنا.
  • الثالثة: إن أمانته في وعده تؤكد أنه لا يسمح بوقوع المؤمن في تجارب أعظم مما يستطيع احتمالها. ونتيجة ما ذُكر أنه لا حجة للخاطئ لأن الله أعطاه قوة كافية ينتصر بها على التجربة لو استعملها. فلم يخطأ أحد على رغمه إنما خطئ بإهماله الوسائط التي وهبها الله له وقاية من الخطيئة. نعم إن المؤمنين «محروسون بقوة الله للخلاص» (١بطرس ١: ٥). لكن هذا لا يغنيهم عن وجوب أن «يسهروا ويصلوا لئلا يدخلوا في تجربة». وأن «يقاوموا إبليس». وأن «يجتهدوا في الدخول من الباب الضيق» والله يعطيهم نعمة لكي يسهروا ويصلوا ويقاوموا ويجتهدوا.

سَيَجْعَلُ مَعَ ٱلتَّجْرِبَةِ أَيْضاً ٱلْمَنْفَذ أي أن طرق القداسة لم تُسد على أحد ولم يُغلق بابها دونه حتى يُجير على الإثم لكن كثيراً ما يضطر إلى المرور في نيران الاضطهاد واحتمال العار وخسارة المال والحياة لكي يهرب من الخطيئة قال يعقوب الرسول «الله لا يجرب أحداً» (يعقوب ١: ١٣) فالذي يجرب الإنسان شهواته وعمل الله هو أن يجعل منفذاً للمجرب إما بإزالة التجربة أو بإعطائه نعمة كافية للانتصار عليها. وهذا على وفق قول المسيح لبطرس «هُوَذَا ٱلشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَٱلْحِنْطَةِ! وَلٰكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ» (لوقا ٢٢: ٣١ و٣٢).

لا ريب أن الله يمتحن الناس اليوم كما امتحن إبراهيم قديماً كما يُمتحن الذهب ليظهر خلوصه. وإذا امتحنهم كذلك لم يمتحنهم فوق ما يستطيعون احتماله كما قال الرسول.

لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحْتَمِلُوا هذه غاية الله من إعداد ذلك المنفذ.

البرهان على أن حضور الولائم في الهياكل الوثنية عبادة أوثان ع ١٤ إلى ٢٢

كان بولس قد نصح المؤمنين أن يمتنعوا من أكل لحم ما ذُبح للأوثان إذا كان عثرة للأخ الضعيف مع أن هذا الأكل ليس محرماً في الذات. فخاف أن بعضهم لتيقنهم أن الوثن ليس بشيء يجسر على حضور الولائم في الهياكل الوثنية فأبان لهم أن ذلك مضر لتقواهم ومعرض للإثم مما اعتقدوه في شأن أكل العشاء الرباني. فإن من أكل ذلك العشاء شارك المسيح وكل المؤمنين به فكذلك الذي أكل الوليمة في هياكل الأوثان يشارك الوثن وعبدته (ع ١٤ – ١٧). وما صدق على العشاء الرباني يصدق على الذبائح اليهودية فإن الاشتراك فيها عبادة لله (ع ١٨). ولم يرد أن يستنتجوا من قوله هذا أن آلهة الوثنيين كزحل والمشتري والمريخ والزهرة آلهة موجودة حقاً غير الكواكب كما أن المسيح كائن حقاً فصرح بأن الوثنيين وهم يزعمون أنهم يذبحون لآلهتهم لم يذبحوا لسوى الشياطين (ع ١٧ – ٢٠). إن حضور مائدة الرب لا مناسبة بينه وبين الأكل من مائدة الشياطين (ع ٢١) فإن أكلوا منها هيجوا عليهم غيرة الله لإفنائهم كما هيجها قديماً اليهود الذين تولوا عن عبادة الله إلى الأوثان (ع ٢٢).

١٤ «لِذٰلِكَ يَا أَحِبَّائِي ٱهْرُبُوا مِنْ عِبَادَةِ ٱلأَوْثَانِ».

ع ٧ و٢كورنثوس ٦: ١٧ و١يوحنا ٥: ٢١

لِذٰلِكَ لأن نوازل ثقيلة وقعت على الإسرائيليين الذين أغاظوا الله ولأنكم عرضة للسقوط في الخطيئة التي سقط أولئك فيها ولأن البركات االتي امتزتم بها لم تقِكم من السقوط أكثر مما وقتهم البركات التي امتازوا بها.

يَا أَحِبَّائِي خاطبهم بهذا لكي يتحققوا أن نصيحته لهم لم تصدر إلا عن قلب مملوء محبة واهتماماً بصلاحهم.

ٱهْرُبُوا مِنْ عِبَادَةِ ٱلأَوْثَانِ هرب الحامل البارود من النار. لأن أدنى اقتراب من المسيحي إلى الوثن خطر عظيم. فكأنه قال ابتعدوا من رؤية الوثن ومن دخول هيكله ومن أكل ولائمه ومن كل اشتراك في عبادته لأن أقل قرب منه يهيّج شهوات الإنسان ويعرّضه للسقوط في الخطيئة المحرمة لما هو مقترن بتلك العبادة من الزنى فلا أمن له إلا بالابتعاد عن محل التجربة.

١٥ «أَقُولُ كَمَا لِلْحُكَمَاءِ: ٱحْكُمُوا أَنْتُمْ فِي مَا أَقُولُ».

ص ٨: ١

كَمَا لِلْحُكَمَاءِ اعتبرهم حكماء قادرين أن يروا ما قاله مطابق لحكم العقل السليم وأنه لائق في الذات. فلم يستحسن أن ينهاهم عن الأكل في هيكل الأوثان بمجرد سلطانه الرسولي فبسط لهم الأسباب التي تبرهن أن ذلك الأكل عبادة وثنية لكي يحكموا من أنفسهم فيمتنعوا عنه.

١٦ «كَأْسُ ٱلْبَرَكَةِ ٱلَّتِي نُبَارِكُهَا، أَلَيْسَتْ هِيَ شَرِكَةَ دَمِ ٱلْمَسِيحِ؟ ٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي نَكْسِرُهُ، أَلَيْسَ هُوَ شَرِكَةَ جَسَدِ ٱلْمَسِيحِ؟».

متّى ٢٦: ٢٦ – ٢٨ أعمال ٢: ٤٢ و٤٦ وص ١١: ٢٣ و٢٤

هذا تصريح بأن تناول الخمر والخبز في العشاء الرباني اشتراك في دم المسيح وجسده وغايته إثبات أن تناول ما يُقدم للشياطين مشاركة لهم (ع ٢٠).

إن اشتراكنا في جسد المسيح ودمه إنما هو بالإيمان لا بالأكل لأن الخبز الذي نأكله والخمر الذي نشربه في العشاء الرباني رمزان إلى ما نتناوله بالإيمان وهما من وسائل تقوية إيماننا بالمرموز إليه.

كَأْسُ ٱلْبَرَكَةِ ٱلَّتِي نُبَارِكُهَا لا نعلم علة تقديم بولس الكأس على الخبز خلافاً لما في بشارتَي متّى ومرقس (متّى ٢٦: ٢٦ ومرقس ١٤: ٢٢). وسميت «كأس البركة» لأننا نباركها به بناء على الفداء بالمسيح الذي الكأس رمز إليه أو لأننا نبارك الله (أي نشكره) عليها (ص ١١: ٢٤ ولوقا ٢٢: ١٩). أو لأنها تقدس أي تخصص للاستعمال في هذا السر بواسطة الشكر والصلاة على وفق ما قيل في الأطعمة (١تيموثاوس ٤: ٤ و٥). ووفق ما أتاه المسيح (لوقا ٩: ١٦). وبهذا المعنى قيل «بارك الله اليوم السابع» لأنه خصصه لعبادته (تكوين ٢: ٣ وخروج ٢٠: ١١).

سمى اليهود كأس الخمر الأخيرة التي كانوا يشربونها في عيد الفصح «كأس البركة» ونُقل في العهد الجديد هذا الاسم منها إلى كأس العشاء الرباني.

شَرِكَةَ دَمِ ٱلْمَسِيحِ أي الاشتراك في نتائج سفك ذلك الدم. ومنها إيفاء ما علينا من الدَين للشريعة والنجاة من لعنتها ومغفرة خطايانا والتطهير من أدناسها ونيل راحة الضمير والسرور بالمصالحة مع الله.

وكانت الشركة في الكأس شركة في دم المسيح لكونها علامة الاشتراك في دمه وختم اتحادنا علناً بأننا متحدون به. والاستفهام في الآية إنكاري الغرض منه التوكيد فكأنه قال لا ريب في أن شرب المؤمن الحقيقي تلك الكأس شركة له في دم المسيح. ولا يلزم مما قيل هنا ان الخمر استحالت إلى دم المسيح حقيقة إذ المقصود أن الشركة في دم المسيح شركة روحية في الإيمان كقول بولس «أَمِينٌ هُوَ ٱللّٰهُ ٱلَّذِي بِهِ دُعِيتُمْ إِلَى شَرِكَةِ ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا» (ص ١: ٩). وقول يوحنا «إِنْ سَلَكْنَا فِي ٱلنُّورِ كَمَا هُوَ فِي ٱلنُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (١يوحنا ١: ٧). فلا يمكن أن يكون المعنى أن المؤمنين يشترك كل منهم في مادة جسد الآخر. والدم الذي طهر ويطهر من كل خطيئة إلى الآن ليس الدم الحقيقي الجاري في عروق المسيح بل الكفارة التي أنشأها المسيح بموته على الصليب وعبر عنها «بدم العهد الجديد» المرموز إليه بالخمر (عبرانيين ١٠: ٢٩ و١٣: ٢٠).

ٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي نَكْسِرُهُ الخ ما حمله على الكأس في الجملة الأولى حمله على الخبز هنا. إن الخبز رمز إلى جسد المسيح فنشترك في الخبز جسدياً وفي جسد المسيح روحياً. فالأول إشارة إلى الثاني ووسيلة إليه. وإذا اشتركنا في جسد المسيح بالإيمان نشترك في كل فوائده باعتبار أنه ذُبح فداء عنا. وذكر الرسول كون الاشتراك في العشاء الرباني اشتراك في المسيح يبين أن أكل ما ذُبح للوثن في هيكله اشترك فيه فلا يجوز للمسيحي أن يأتي ذلك.

وقال «نشكره» اقتداء بالمسيح حين سن هذا السر كما جاء في (ص ١١: ٢٤). وأطلق كسر الخبز على كل العشاء الرباني وتناوله (أعمال ٢: ٤٢ و٢٠: ٧).

١٧ « فَإِنَّنَا نَحْنُ ٱلْكَثِيرِينَ خُبْزٌ وَاحِدٌ، جَسَدٌ وَاحِدٌ، لأَنَّنَا جَمِيعَنَا نَشْتَرِكُ فِي ٱلْخُبْزِ ٱلْوَاحِدِ».

رومية ١٢: ٥ وص ١٢: ٢٧

في هذه الآية بيان الغاية من كسر الخبز وهي الإشارة إلى أن كل الذين يشتركون جسدياً في الخبز الواحد الذي يُكسر ويشتركون روحياً في جسد المسيح يصير كل منهم شريكاً للآخر كأنهم أعضاء جسد واحد.

نَحْنُ ٱلْكَثِيرِينَ خُبْزٌ وَاحِدٌ أي كالرغيف الواحد فإنه وإن تجزأ يبقى واحداً فالمؤمنون وإن كانوا كثيرين هم واحد في المسيح.

جَسَدٌ وَاحِدٌ أي كجسد واحد فإنه وإن كان أعضاء كثيرة يبقى واحداً. فالمؤمنون وإن كانوا كثيرين جسد واحد في المسيح. فاشتراكهم في خبز واحد يجعلهم جسداً واحداً ولذلك كثيراً ما يسمى العشاء الرباني «اشتراكاً».

١٨ «ٱنْظُرُوا إِسْرَائِيلَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ. أَلَيْسَ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلذَّبَائِحَ هُمْ شُرَكَاءَ ٱلْمَذْبَحِ؟».

رومية ٤: ١ و١٢ و٩: ٣ و٥ و٢كورنثوس ١١: ١٨ وغلاطية ٦: ١٦ لاويين ٣: ٣ و٧: ١٥.

برهن بما في العبادة اليهودية في الهيكل ما برهنه بالعشاء الرباني وهو أن الاشتراك في الذبيحة مشاركة لمقدمها في عبادته لمعبوده فنتج من ذلك أنه لا يجوز للمؤمنين أن يشتركوا في ولائم الهياكل الوثنية.

ٱنْظُرُوا إِسْرَائِيلَ أي تأملوا في عبادة اليهود.

حَسَبَ ٱلْجَسَدِ أي باعتبار تسلسلهم من إسرائيل أي يعقوب تسلسلاً طبيعياً وقيّده بكونه «حسب الجسد» تمييزاً لليهود عن «إسرائيل الروحي» وهو المؤمنون بالمسيح رومية ٢: ٢٨ وغلاطية ٤: ٢٩ و٦: ١٦).

ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلذَّبَائِحَ كان اليهود كالوثنيين في أنهم كانوا يحرقون بعض الذبيحة على المذبح ويقسمون باقيها على الكاهن ومقدمها فيأكلانه (لاويين ٧: ١٥ و٨: ٣١ وتثنية ١٢: ١٨ و١٦: ١١).

هُمْ شُرَكَاءَ ٱلْمَذْبَحِ وإلهه. كان إحراق الإسرائيلي جزءاً من ذبيحته على مذبح الله عبادة لله وكذلك أكل جزء منها في دار الهيكل. فما كان يمكن أحداً أن يدخل هيكل أورشليم ويشارك الحاضرين في أكل ما ذُبح هناك إن لم يعترف بأنه يهودي متحد باليهود عابد معهم الإله الواحد. فكل من دخل هيكلاً وثنياً وأكل مما ذبح فيه مع عبدة الوثن فقد شارك الوثن وعبدته وصار عابداً وثناً.

١٩ «فَمَاذَا أَقُولُ؟ أَإِنَّ ٱلْوَثَنَ شَيْءٌ، أَوْ إِنَّ مَا ذُبِحَ لِلْوَثَنِ شَيْءٌ؟».

ص ٨: ٤

قال هذا دفعاً لوهم من يتوهم من مقابلته عبادة الوثنيين للأوثان بعبادة المسيحيين واليهود لله أنه اعتبر الأوثان كائنات حقيقية وأنه تغيّرت طبيعة ما ذُبح لها وأنه نقض ما قاله في (ص ٨: ٤). ولهذا كرر قوله سابقاً «إن الوثن ليس بشيء» وإن أصنام الحجارة والخشب التي عبدها الوثنيون ليست بآلهة كما تصورها وأنه لا تتغير طبيعة الأطعمة بتقديمها للأوثان مع أنه صرح بأن الاشتراك في ولائم الهياكل الوثنية ليس إلا عبادة وثنية تهيج غضب الله وتهلك النفوس.

٢٠ «بَلْ إِنَّ مَا يَذْبَحُهُ ٱلأُمَمُ فَإِنَّمَا يَذْبَحُونَهُ لِلشَّيَاطِينِ، لاَ لِلّٰهِ. فَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ شُرَكَاءَ ٱلشَّيَاطِينِ».

لاويين ١٧: ٧ وتثنية ٣٢: ١٧ ومزمور ١٠٦: ٣٧ ورؤيا ٩: ٢٠

إِنَّمَا يَذْبَحُونَهُ لِلشَّيَاطِين أي ان كل عبدة الأوثان هم بالحقيقة عبدة الشياطين. نعم إنهم لم يقصدوا عبادة الشياطين بل عبادة الآلهة التي توهموا وجودها لكن المعبود في كل هياكلهم لم يكن سوى إبليس وجنوده. لأنه هو إله هذا العالم وعبادة الأوثان سارة له ومن متممات مقاصده وهو الذي يقود الناس إلى تلك العبادة. فالبشر إما عبدة لله وإما عبدة للشيطان فالذين أبوا عبادة الإله الحق واكرموا غيره الإكرام الذي يختص به فهم عبدة إبليس وملائكته. إن الأوثان ليست بذات وجود ولكن الشياطين كائنات حقيقية وهم «رُؤَسَاءِ هذا العالم ووُلاَةِ ٱلْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ ٱلشَّرِّ ٱلرُّوحِيَّةِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ» (أفسس ٢: ٢ و٦: ١٢). فالعبادة المقدمة للأوثان يتخذونها عبادة لهم والله يحسبها كذلك بدليل ما قيل هنا وفي (رؤيا ٩: ٢٠).

فَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ شُرَكَاءَ ٱلشَّيَاطِينِ ولذلك قلت لكم «اهربوا من عبادة الأوثان» (ع ١٤) إنكم أولادي في الإيمان جاهدت في سبيل تقديسكم وخلاصكم فلا أريد أن تتدنسوا وتهلكوا بواسطة الاشتراك في الولائم الوثنية وما ينتج منها فيجب علينا نحن المؤمنين أن تكون شركتنا مع الله وابنه يسوع المسيح وسائر المسيحيين وأن نطلب الغاية التي يطلبونها ونحب ما يحبونها ونتحد معهم نية وفعلاً. فلا يليق أن تكون شركتنا مع الشياطين وإن لم نقصد الاشتراك معهم بحضورنا في الولائم الوثنية.

وإنه كما أن الوثنيين عبدوا الشياطين إذ قصدوا عبادة الأوثان كذلك مؤمنو كورنثوس عبدوا الأوثان إذ حضروا ولائم الهياكل الوثنية إرضاء لأصحابهم ورغبة في لذة الأطعمة وسائر سارّات تلك الولائم وبذلك شاركوا الشياطين وإن لم يقصدوا مشاركتهم وتلك المشاركة لا تكون بدون تدنيس نفوسهم وانفصالهم عن الله.

٢١ «لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْرَبُوا كَأْسَ ٱلرَّبِّ وَكَأْسَ شَيَاطِينَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْتَرِكُوا فِي مَائِدَةِ ٱلرَّبِّ وَفِي مَائِدَةِ شَيَاطِينَ».

تثنية ٣٢: ٣٨ و٢كورنثوس ٦: ١٥ و١٦

لاَ تَقْدِرُونَ إذا سلكتم في سنن الحق وقصدتم خير نفوسكم.

كَأْسَ ٱلرَّبِّ أي كأس عشاء الرب التي نشترك في الرب بشربها بالإيمان.

كَأْسَ شَيَاطِينَ أي الكأس التي تُستعمل في الولائم الوثنية وكان بعض خمرها يُصب سكيباً لوثن الوليمة وبعضه يُشرب باسمه وكانت توقف له كما يوقف الخبز والخمر في العشاء الرباني لله. أبان الرسول في الآية السابقة أن العبادة للوثن ظاهراً عبادة للشياطين حقيقة وكذا الكأس الموقوفة له موقوفة للشياطين.

لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْتَرِكُوا فِي مَائِدَةِ ٱلرَّبِّ الخ أي لا يمكنكم تناول العشاء الرباني بطريق تسر الله وتنفع نفوسكم وأنتم تذهبون عن مائدته إلى هيكل الصنم وتشتركون في ولائمه.

نسب الرسول الموائد الوثنية إلى الشياطين لأنها كانت لهم بالحقيقة (ع ٢٠). فضيوف تلك الولائم ضيوف الشياطين. وأعلن الرسول أنه يستحيل اشتراك المسيحي وهو في سنن الحق في المائدتين معاً استحالة اتحاد النور بالظلمة. نعم يمكنه أن يحضر كلتيهما بجسده ويشترك فيهما بفمه لكن الرب لا يحسبه من ضيوف مائدته والمشتركين معه بل يغضب عليه ويرفضه. وهذا يوافق قول المسيح «لا يقدر أحد أن يخدم سيدين» (متّى ٦: ٢٤).

٢٢ «أَمْ نُغِيرُ ٱلرَّبَّ؟ أَلَعَلَّنَا أَقْوَى مِنْهُ؟».

تثنية ٣٢: ٢١ حزقيال ٢٢: ١٤

أَمْ نُغِيرُ ٱلرَّبَّ الغيرة أنفة الرجل من ترك امرأته إياه ومحبتها لغيره والتصاقها به. ولله الحق بمحبة شعبه الذي اختاره لنفسه فلما مال عنه إلى عبادة الأصنام عد ذلك الميل بالزنى ومثل هذا كثير في أسفار العهد القديم وعبر عن غيظه من ذلك بالغيرة ومن ذلك ما في (تثنية ٣٢: ٢١ ومزمور ٧٨: ٥٨). والاستفهام للتعجب من حماقة المخاطبين بتهيجهم غيرة الرب عليهم أي بحضورهم الولائم الوثنية. ونتيجة ذلك وجوب أن يمتنعوا عنها.

أَلَعَلَّنَا أَقْوَى مِنْهُ الاستفهام هنا إنكاري. والمعنى أنه من أشد الخطر أن نهيج غيرة الله علينا إلا على فرض أننا أقوى منه لكيلا نخاف منه وهذا من أول ضروب المحال. فإذاً لا يجوز للمسيحيين الذين هم عروس المسيح (أفسس ٥: ٢٥ – ٣١) إن يتركوا مائدة الرب ويهيجون غيرته باشتراكهم في مائدة الشياطين.

متى يجوز أكل ما ذُبح للأوثان ع ٢٢ إلى ٣٣

أبان في الفصل السابق أن أكل الولائم في هياكل الأوثان عبادة لها فيجب على المؤمنين أن يعتزلوها كل الاعتزال وأبان في هذا الفصل أنه متى يجوز لهم أن يأكلوا ما ذُبح للأوثان وكرر ما قاله في (ص ٦: ١٢) من تحريم استعمالهم حريتهم في تناول الأطعمة إذا أدى إلى ضرر إخوتهم أو ضررهم هم (ع ٢٣ و٢٤). وأجاز لهم أن يأكلوا كل ما يُباع في الأسواق أو يعدّ لهم في البيوت من الأطعمة (ع ٢٥ – ٢٧) ما لم يكن معهم على المائدة أخ ضعيف الإيمان يخبره بأن بعض الاطعمة مما ذُبح للأوثان وظهر عليه بذلك أنه يتوهم أكله حراماً فيجب عند ذلك الامتناع لخير هذا الأخ (ع ٢٨). ومنع من طلب الحقوق واستعمال الحرية إذا أديا إلى الشر (ع ٢٩). وصرّح بالقانون العام وهو وجوب أن نطلب مجد الله في كل شيء (ع ٣١). وأن نعتزل المعاثر (ع ٣٢). وأن نقتدي به (ع ٣٣).

٢٣ «كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، لٰكِنْ لَيْسَ كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ تُوافِقُ. كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، وَلٰكِنْ لَيْسَ كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ تَبْنِي».

ص ٦: ١٢

كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي أي كل الأطعمة التي قدمت للأوثان. وهذا مكرر ما قاله في (ص ٦: ١٢) فارجع إلى تفسيره. وكرره لبيان أنه مطابق للعقل ولبناء بعض النصائح عليه.

لٰكِنْ لَيْسَ كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ تُوافِقُ لأنه ربما كان استعمالها عثرة لغيرهم وهم مكلفون بأن يسعوا في خيره.

لَيْسَ كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ تَبْنِي أي لا تؤول إلى النفع الروحي لنفس الآكل لأنه كثيراً ما تكون إطاعة الشهوات الجائزة مانعة من تقدم الإنسان في الأمور الروحية كالإفراط في الأكل والشرب وما أشبههما.

٢٤ «لاَ يَطْلُبْ أَحَدٌ مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مَا هُوَ لِلآخَرِ».

رومية ١٥: ١ و٢ وع ٣٣ وص ١٣: ٥ وفيلبي ٢: ٤ و٢١

معنى هذه الآية أنه يجب على الإنسان في الجائزات العرضية أن يؤثر نفع غيره الأدبي على لذّته الشخصية. وهذا على وفق قوله «يَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ ٱلأَقْوِيَاءَ أَنْ نَحْتَمِلَ أَضْعَافَ ٱلضُّعَفَاءِ، وَلاَ نُرْضِيَ أَنْفُسَنَا. فَلْيُرْضِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا قَرِيبَهُ لِلْخَيْرِ، لأَجْلِ ٱلْبُنْيَانِ» (رومية ١٥: ١ و٢). والأمر الخصوصي المشار إليه هنا هو أكل ما ذُبح للأوثان فلا يجوز لنا في هذا الأمر كل ما نريده بلا نظر إلى تأثيره في غيرنا فإن أضر نفوسهم وجب الامتناع عنه.

٢٥ «كُلُّ مَا يُبَاعُ فِي ٱلْمَلْحَمَةِ كُلُوهُ غَيْرَ فَاحِصِينَ عَنْ شَيْءٍ، مِنْ أَجْلِ ٱلضَّمِيرِ».

١تيموثاوس ٤: ٤

أبان في ما سبق أن أكل الولائم الوثنية في هياكل الأوثان حرام على المسيحيين وهنا أبان متى يجوز أكل ما ذُبح للأوثان.

كُلُّ مَا يُبَاعُ فِي ٱلْمَلْحَمَةِ كُلُوهُ أي الجزء الذي بقي مما ذُبح في هيكل الوثن وعُرض للبيع يجب أن يُعتبر كسائر اللحوم لأن الوثن ليس شيئاً وتقديم اللحم أولاً للوثن لم يغيّر طبيعته فشراؤه والأكل منه لا شيء فيهما من الإكرام للوثن أو العبادة له.

غَيْرَ فَاحِصِينَ عَنْ شَيْءٍ، مِنْ أَجْلِ ٱلضَّمِيرِ أي لهم أن يأخذوا ما يحتاجون إليه دون أن يسألوا عن أنه هل قُدم للأوثان أو لا وأن لا يخافوا بذلك أنهم يخطأون لضمائرهم أو لشريعة الله. وقد ذكرنا الأسباب في تفسير الجزء الأول من هذه الآية.

٢٦ «لأَنَّ لِلرَّبِّ ٱلأَرْضَ وَمِلأَهَا».

خروج ١٩: ٥ وتثنية ١٠: ١٤ ومزمور ٢٤: ١ و٥٠: ١٢ وع ٢٨

هذه الآية مقتبسة من (مزمور ٢٤: ١) وكان اليهود قد اعتادوا أن يذكروها في تناولهم الطعام اعترافاً بأن الله رب كل الأشياء وواهبها للناس. والمراد بملء الأرض كل أثمارها وبهائمها. فكلها لله لأنه هو خلقها وجعلها طعاماً للإنسان فإذاً لا يتدنس أحد بتناولها. ومن جملة ذلك ما ذُبح للأوثان فإنه لم تتغير طبيعته بذلك بل بقي كما خلقه الله طاهراً ونافعاً للإنسان فأكله لم يغظ الله واهبه فلا داعي للشكوك والمحاروة في أكله. وهذا على وفق قوله «كُلَّ خَلِيقَةِ ٱللّٰهِ جَيِّدَةٌ، وَلاَ يُرْفَضُ شَيْءٌ إِذَا أُخِذَ مَعَ ٱلشُّكْرِ» (١تيموثاوس ٤: ٤).

٢٧ «وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يَدْعُوكُمْ، وَتُرِيدُونَ أَنْ تَذْهَبُوا، فَكُلُّ مَا يُقَدَّمُ لَكُمْ كُلُوا مِنْهُ غَيْرَ فَاحِصِينَ، مِنْ أَجْلِ ٱلضَّمِيرِ».

لوقا ١٠: ٧

غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أي الوثنيين لأن اليهود لا يولمون مما ذُبح في هيكل الوثن.

يَدْعُوكُمْ إلى الأكل في بيته لا في الهيكل.

غَيْرَ فَاحِصِينَ إن الدين المسيحي لا يمنع أهله من مصادقة الأمم وزيارتهم في بيوتهم والأكل معهم. فأجاز الرسول للمؤمنين أن يأكلوا مما أمامهم غير مكلفين بالسؤال عنه مع احتمال أن بعضه مما ذُبح في هيكل وثني إذ لا علاقة بين ذلك الطعام والعبادة للوثن.

مِنْ أَجْلِ ٱلضَّمِيرِ أي ضمير الضيف المؤمن فهو غير مكلف أن يفحص عن أمور الطعام لإراحة ضميره.

٢٨ «وَلٰكِنْ إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: «هٰذَا مَذْبُوحٌ لِوَثَنٍ» فَلاَ تَأْكُلُوا مِنْ أَجْلِ ذَاكَ ٱلَّذِي أَعْلَمَكُمْ، وَٱلضَّمِيرِ. لأَنَّ لِلرَّبِّ ٱلأَرْضَ وَمِلأَهَا»

ص ٨: ١٠ و١٢ ع ٢٦

في هذه الآية استثناء من القانون في التي قبلها.

إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ من المدعوين معكم من الإخوة الضعفاء الإيمان كما يُستدل من كلامه.

هٰذَا مَذْبُوحٌ لِوَثَنٍ لم يقل ذلك إلا لتوهمه أن ما ذُبح للأوثان محرم مطلقاً فلو أكل أو رأى غيره من المسيحيين يأكل منه لا نجرح ضميره.

فَلاَ تَأْكُلُوا مِنْ أَجْلِ ذَاكَ… وَٱلضَّمِيرِ أي لا تأكلوا مراعين ضميره الضعيف فإن ذلك الطعام وإن جاز لك ولم يوبخك ضميرك على أكله يجب عليك أن تمنع عنه لكي لا تحرج ضمير أخيك الضعيف الذي أخبرك وتعثره.

لأَنَّ لِلرَّبِّ ٱلأَرْضَ وَمِلأَهَا لعل ذكر هذا هنا لبيان أن لا علة للامتناع عن ذلك الطعام إلا العثرة للأخ إذ للمؤمن حق أن يأكل من كل ما أعدّه الله له من الأطعمة إذ لا شيء في الطعام يدنسه وتقديمه للوثن لم يغير شيئاً منه. أو لعل معنى أنه غير مجبر على الأكل لأن كل ما في الأرض لله وقد رخص لك أن تأخذ ما شئت من وافر بركاته.

٢٩ «أَقُولُ ٱلضَّمِيرُ لَيْسَ ضَمِيرَكَ أَنْتَ، بَلْ ضَمِيرُ ٱلآخَرِ. لأَنَّهُ لِمَاذَا يُحْكَمُ فِي حُرِّيَّتِي مِنْ ضَمِيرِ آخَرَ؟».

رومية ١٤: ١٦

خاطب بولس هنا الأخ القوي الإيمان وبيّن أنه أراد «بالضمير» في (ع ٢٦ و٢٧) ضمير هذا القوي وأنه أراد في (ع ٢٨) ضمير الأخ الضعيف.

أَقُولُ ٱلضَّمِيرُ هذا إشارة إلى ما قاله في (ع ٢٨).

لَيْسَ ضَمِيرَكَ أَنْتَ ضميرك لا يوبخك ولا يدينك إذا أكلت مما ذُبح للوثن فإذاً أنت غير مجبر بحكم ضميرك أن تمتنع عن الأكل منه.

بَلْ ضَمِيرُ ٱلآخَرِ الذي توهم أن الأكل منه حرام فحذّرك منه.

لِمَاذَا يُحْكَمُ فِي حُرِّيَّتِي مِنْ ضَمِيرِ آخَرَ تتعلق هذه العبارة والآية التي تليها بالآية الثامنة والعشرين. ومعناه لماذا أعرّض نفسي للوم أخي كأني مذنب بتصرفي بمقتضى حريتي بلا التفات إلى ما يظنه من عملي. فتكلم بولس هنا نيابة عن الأخ القوي الذي قال له أخوه الضعيف «هذا مذبوح لوثن» وأبان على امتناعه عن الأكل وهي أنه لو أكل بمقتضى علمه وحريته المسيحية عرّض نفسه للوم أخيه الضعيف الذي يحكم بحكم ضميره القليل الاستنارة.

٣٠ «فَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَتَنَاوَلُ بِشُكْرٍ، فَلِمَاذَا يُفْتَرَى عَلَيَّ لأَجْلِ مَا أَشْكُرُ عَلَيْهِ؟».

رومية ١٤: ٦ و١تيموثاوس ٤: ٣ و٤

معنى هذه الآية كمعنى التي قبلها أي أن الله أنعم عليّ بحق التناول من هذا الطعام فيحق لي أن آكل وأشكره تعالى عليه ولكن هذا ليس بعلة كافية لأن أترك سبيلاً إلى ملامة أخي إياي على أكلي ما توهم أن أكله حرام.

٣١ «فَإِذَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَوْ تَشْرَبُونَ أَوْ تَفْعَلُونَ شَيْئاً، فَٱفْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ».

كولوسي ٣: ١٧ و١بطرس ٤: ١١

هذا تصريح بالقانون الذي يجب على المؤمن مراعاته في كل أقواله وأفعاله فعليه أن يقصد مجد الله في كل منها. فهذا القانون يمنعه من التصرف بمقتضى إرادته. وهو موافق لقول بطرس «إِنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فَكَأَقْوَالِ ٱللّٰهِ، وَإِنْ كَانَ يَخْدِمُ أَحَدٌ فَكَأَنَّهُ مِنْ قُوَّةٍ يَمْنَحُهَا ٱللّٰهُ، لِكَيْ يَتَمَجَّدَ ٱللّٰهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» (١بطرس ٤: ١١). وقول بولس «كُلُّ مَا عَمِلْتُمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَٱعْمَلُوا ٱلْكُلَّ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، شَاكِرِينَ ٱللّٰهَ وَٱلآبَ بِهِ.» (كولوسي ٣: ١٧). ولسائر تعاليم الكتاب المقدس الذي صرّح بأن غاية الإنسان العظمى أن يمجد الله. وخص الرسول الأكل والشرب بالذكر من تلك الأعمال التي تُعمل لمجد الله لأنهما موضوع هذا الأصحاح. فالقانون يعم ّكل أعمالنا صغيرة وكبيرة عالمية ودينية علنية وسرية. فالعمل الممدوح في نفسه يُذم إن عُمل لمجد عامله لا لمجد الله والعمل الحقير يعظم إذا عُمل لمجد الله وإطاعة لأمره.

٣٢ «كُونُوا بِلاَ عَثْرَةٍ لِلْيَهُودِ وَلِلْيُونَانِيِّينَ وَلِكَنِيسَةِ ٱللّٰهِ».

رومية ١٤: ١٣ وص ٨: ١٣ و٢كورنثوس ٦: ٣ أعمال ٢٠: ٢٨ وص ١١: ٢٢ و١تيموثاوس ٣: ٥

كُونُوا بِلاَ عَثْرَةٍ كما سبق في (ص ٨: ٩ ورومية ١٤: ١٣ و٢١) فانظر التفسير هناك.

لِلْيَهُودِ أي لا تعثروا اليهود بشيء من معاملتكم للأوثان لأنهم يكرهون كل ما يتعلق بالعبادة الوثنية فلا تتركوا لهم سبيل إلى الظن أنكم ترون عبادة الأوثان أمراً زهيداً فيزيد بغضهم للدين المسيحي.

وَلِلْيُونَانِيِّينَ فلا تعثروهم بإتيانكم شيئاً يمكنهم في العبادة الوثنية إذ يجب عليكم أن تأتوا بكل ما يحملهم على ترك تلك العبادة والتمسك بعبادة الله الواحد الحق.

وَلِكَنِيسَةِ ٱللّٰهِ أي جماعة المؤمنين فبعض هؤلاء ضعفاء الإيمان ناقصو العلم فتمتع أقوياء الإيمان بالجائزات قد يكون علة وقوع أولئك الضعفاء في الإثم فحذرهم الرسول منه. وخلاصة هذه الآية أنه يجب أن نعمل كل أعمالنا حباً لله وللقريب.

٣٣ «كَمَا أَنَا أَيْضاً أُرْضِي ٱلْجَمِيعَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، غَيْرَ طَالِبٍ مَا يُوافِقُ نَفْسِي، بَلِ ٱلْكَثِيرِينَ، لِكَيْ يَخْلُصُوا».

رومية ١٥: ٢ وص ٩: ١٩ و٢٢ ع ٢٤

كَمَا أَنَا أَيْضاً لم يحثهم الرسول على أن يأتوا أكثر مما أتاه هو من إنكار الذات والسعي في نفع الغير ولم يخش أن يقدم سلوكه بينهم مثالاً لما يجب عليهم. وكانت غايته من كل ما فعل التبشير بالإنجيل وإرشاد الناس أن يقبلوه للخلاص وتجنب كل ما يهيج غيظهم وبغضهم وتعصبهم على وفق قوله «صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَالٍ قَوْماً» (ص ٩: ٢٢ انظر أيضاً ع ١٩ – ٢٣ منه).

أُرْضِي ٱلْجَمِيعَ فِي كُلِّ شَيْءٍ من الجائزات لأنه يأت بشيء مخالف لشريعة الله من سلوكه أو تعليمه.

ص ١١ ع ١ «كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي كَمَا أَنَا أَيْضاً بِٱلْمَسِيحِ».

ص ٤: ١٦ وأفسس ٥: ١ وفيلبي ٣: ١٧ و١تسالونيكي ١: ٦ و٢تسالونيكي ٣: ٩

هذه الآية تتعلق بما في ص ١٠ وهي نتيجة ما قاله الرسول فيه ولا علاقة بينها وبين ما في سائر ص ١١.

كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي في إنكار النفس وتجنب أسباب البغض والمعاثر وفي طلب خلاص الناس بكل واسطة جائزة.

كَمَا أَنَا أَيْضاً بِٱلْمَسِيحِ تمثّل بولس بالمسيح في سلوكه وتعليمه فكان بذلك مرشداً أميناً لغيره. وغايته من طلبه إلى أهل كورنثوس أن يتمثلوا به أن يقودهم إلى المسيح وأن يتخذوه مثالاً كما اتخذه هو كذلك.

فوائد

  1. ثقة الإنسان بأنه وُلد ثانية وأنه ينجو من جهنم ويدخل السماء بمجرد كونه معدوداً من شعب الله وكونه أفضل من غيره بمعرفة الحق واشتراكه في أسرار الكنيسة هي من أول علل فتور المحبة لله وأول علل الكسل في الأمور الروحية وأول علل محبة العالم والاشتباه بأباطيله. كذلك ثقة اليهود الباطلة بأنهم شعب الله المختار كان من أول علل ابتعادهم عن الله وسقوطهم في عبادة الأوثان وعقابهم (ع ١ – ١١).
  2. إن المسيح أعلن الله للناس في كل عصر حتى الأزمنة التي قبل تجسده فرأى إبراهيم يومه (يوحنا ٨: ٥٨). واحتمل موسى عاره (عبرانيين ١١: ٢٦). ورأى إشعياء مجده (يوحنا ١٢: ٤١) وكان ملاك العهد الذي أعلن قداسة الله ورحمته للناس. وهو الذي نجى إسرائيل من العبودية وأعطاه الشريعة في حوريب وقاده في البرية وأطعمه من السماء وسقاه ماء الصخرة كما نجى بعد تجسده إسرائيل الروحي وقاده وأعطاه خبز الحياة وماءها (ع ٤ و٩).
  3. إن أول هبوط الإنسان في دركات الخطيئة والموت خضوعه للشهوات الجسدية (ع ٦).
  4. إن عدم رضى الإنسان بما قسم الله له وتذمره عليه وعلى آلائه تعالى تجربة للمسيح وإنكار لحكمته ومحبته فليحذر المتذمر من أن تتحول عصا عنايته به إلى عصا انتقامه منه أي عصا الحديد التي بها يسحق أعداءه كآنية الخزف (ع ٩ و١٠).
  5. إن كثيرين يتخذون خطايا الآباء الأولين حجة لخطاياهم لكنهم يغفلون عن العقاب الذي نزل بأولئك على تلك الخطايا فلا يخافون من الخطايا التي أنشأت ذلك العقاب (ع ٨ – ١٠).
  6. إن الإسرائيليين القدماء امتازوا بخمس آيات لرضى الله عنهم (ع ١ – ٤) فأصابتهم خمس تجارب سقطوا بها. وأما المسيحيون فامتازوا ببركات كثيرة مثلهم وهم عرضة للتجارب كذلك فلنحذر من أن تكون لنا هبات الله بالمسيح علة للتكبر والاتكال على النفس حتى نكف عن طلب مساعدة الروح القدس لتقينا هجمات التجارب (ع ١ – ١١).
  7. إنه لا بد من افتقادنا بالرزايا تأديباً على خطايانا وامتحاناً لإيماننا فيجب أن لا نسمح لتلك الرزايا أن تقودنا إلى اليأس لأن مؤدبنا يعلم الذي نحتاج إليه من التأديب وما الذي نقدر أن نحتمله من البلاء وهو يرفع الضربة في الوقت المناسب أو يهب نعمة وافية باحتمالها فيفرح المؤدب بشدائده بالنظر إلى نتائجها الحسنة. وكلما زادت التجارب زاد الله المنافذ للنجاة. ومهما ثقل الصليب علينا عظمت القوة العلوية المساعدة على حمله (ع ١٣).
  8. إن عظمة التجربة ليست بحجة لارتكاب الخطيئة لأن الله أعد وسائط التقوية ووعد بالمساعدة لمن يسأله. فالله لا ينقذ من لا يستعمل القوة التي وهبها الله له ولا يسهر ويصلي لكي لا يدخل في التجربة (ع ١٣).
  9. إن التجارب التي تصيبنا من داخل من قلوبنا الفاسدة ومن الخارج من الشيطان والعالم هي كزوابع تنذرنا بالهلاك. فالذي يتمسك بمواعيد الله الأمين ويستغيثه يجد أن الله له كصخرة متينة في وسط الأمواج العنيفة (ع ١٣).
  10. إن أفضل طرق الوقاية من السقوط في الخطيئة هو الهرب من التجربة كلما أمكن ومن أجبرته واجباته على الدخول في التجربة فليتيقن أن الله يقويه ويحميه لأنه هو الذي فرض تلك الواجبات عليه ولكن الذي يعرّض نفسه للتجربة بلا داع لا يحق له أن ينتظر وقاية الله وهو في غاية الخطر من السقوط (ع ١٤).
  11. إن المسيح أكرم المسيحيين إكراماً عظيماً وأنعم عليهم بالبركات الوافرة بنظمه إياهم كنيسة هي جسده وهو رأسها وسن لهم العشاء الرباني الذي به اشتركوا في طعام واحد روحي واتخدوا به واتحد بعضهم ببعض اتحاداً به النشاط والعزاء (ع ١٦ و١٧).
  12. إنه من لا يحترس من مخالطة الأشرار يعرّض نفسه لأن يُحسب منهم ويُعاقب عقابهم فإن بعض مؤمني كورنثوس لم يظنوا أنهم يُعدون من عبدة الأوثان بحضورهم ولائم الهياكل الوثنية لأنهم لم يقصدوا العبادة لكن الرسول أثبتها عليهم. فربما احترق الإنسان وهو لم يتوقع ذلك وهو يقرب من النار. وربما تدنست نفس الإنسان بدخوله في جماعة الأشرار وهو لم يتوقع ذلك التدنس. فالذين يخالطون محبي العالم والسكارى وعبدة الأصنام لمجرد مصادقتهم وربحهم منهم يعرضون أنفسهم لأن يحسبهم الله منهم ويعاقبهم عقابهم (ع ٢٠).
  13. إن المؤمنين بالمسيح أغنياء لأنهم أولاد الله الغني وورثته فهو خالق الأرض ومالكها فيحق لهم أن يسروا بمناظرها الجميلة وأن يتمتعوا بأثمارها اللذيذة وأن يتخذوا كل أعمال الله أدلة على محبته لهم وعنايته بهم وأن يشكروه ويحبوه (ع ٢٦).
  14. إن بعض المسيحيين يحترسون من الابتعاد عن طريق القداسة وهم في بيوتهم وبين أقربائهم وأعضاء كنيستهم ولكنهم متى بعدوا عن هؤلاء ودخلوا بين الغرباء لا يلتفتون إلى سلوكهم فيتعدّون شريعة الله بحجة أنه لا أحد يعرفهم ولا يكترث بما يفعلون فعلى مثل هؤلاء أن يذكروا أن الله يراقبهم دائماً وأنه لا بد من أن سيرتهم تؤثر في الذين يشاهدونهم للنفع أو للضرر أصحاباً كانوا أم غرباء عبدة لله مثلهم أم لا متمثلين ببولس الذي حذر من أن يكون عثرة لليونانيين أو اليهود أو المسيحيين (ع ٣٢).
  15. إن تعليم المبشر لا يؤثر في السامعين إذا حثهم على القداسة وإنكار الذات بغية نفع الغير ما لم تكن سيرته على وفق تعليمه. والمبشر الأمين الذي لا ريب في نجاحه من كان كبولس يبشر بأقواله وأعماله (ع ٣٣).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى