كورنثوس الأولى

الرسالة الأولى إلى كورنثوس | 06 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح السادس

موضوع هذا الأصحاح أمران:

الأول: توبيخ الرسول للكنيسة على محاكمة الأخ أخيه في محكمة وثنية (ع ١ – ١١).

الثاني: إصلاح خطإهم في الحرية المسيحية وتحديده إياها (ع ١٤ – ١٠).

التوبيخ على المحاكمة عند الوثنيين ع ١ إلى ١١

١ «أَيَتَجَاسَرُ مِنْكُمْ أَحَدٌ لَهُ دَعْوَى عَلَى آخَرَ أَنْ يُحَاكَمَ عِنْدَ ٱلظَّالِمِينَ، وَلَيْسَ عِنْدَ ٱلْقِدِّيسِينَ؟».

غلاطية ٢: ١٥

إن مؤمني كورنثوس غير مضطرين إلى المحاكمة عند الوثنيين لأن الرومانيين أذنوا لليهود أن يسوسوا أنفسهم في الأمور المالية وما أشبهها (أعمال ١٨: ١٤ و١٥) ولا ريب في أنه كان للمسيحيين ما كان لليهود من الحقوق لأن الرومانيين لم يفرقوا بين اليهود والمسيحيين الأولين. ومنع ربانيو اليهود أن يحاكم يهودي أخاه في محكمة للأمم.

أَيَتَجَاسَرُ مِنْكُمْ أَحَدٌ هذا الاستفهام للتعجب من أن يرتكب أحد المسيحيين ما يخالف الدين والآداب ويعرض نفسه للتجربة وإغاظة الله وللتوبيخ على ذلك.

لَهُ دَعْوَى عَلَى آخَرَ أي شكوى على أخيه. يمكن أن يختلف مسيحيان في تقسيم نقود أو عقار أو ميراث وأن يطلبا المحاكمة على سبيل الحق والسلام ورضى الله وهما لا يذنبان بذلك.

أَنْ يُحَاكَمَ عِنْدَ ٱلظَّالِمِينَ أراد «بالظالمين» الوثنيين وسماهم أيضاً «خطأة» (غلاطية ٢: ١٥) للتمييز بينهم وبين أهل الله الذين سماهم «قديسين» ولبيان جهل من يطلب المحاكمة بالحق عندهم. إن الكتاب المقدس حكم على الوثنيين بأنهم خالفوا شريعة البر والعدل بعبادتهم الأوثان وإنكارهم الإله الحق وإنهم استحقوا أن يُسموا ظالمين بالنظر إلى الدين. فهو لم يوبخ المؤمنين على محاكمة أحدهم للآخر عند الرومانيين لأنهم يحكموا بالعدل بل لأنه عار على المسيحيين أن يعجزوا عن فض دعاوي الإخوة بالإنصاف بدون أن يعرّضوا أنفسهم ودينهم لإهانة الوثنيين برفع دعاويهم إلى قضاتهم. وربما كان عليهم بموجب سنن المحكمة الوثنية أن يحلفوا بالأوثان وإلا خسروا الدعوى. إن رفع الدعوة إلى محكمة وثنية ليست بخطيئة بالذات لأن بولس رفع دعواه إلى قيصر لعجزه أن يجد العدل في محكمة اليهود ولم يكن لمسيحيي كورنثوس مثل ما كان لبولس لأنهم كان لهم أن يفضوا الدعاوي بين أنفسهم. إن الذين تنصروا من الأمم اعتادوا طلب حقوقهم في المحاكم الوثنية قبل أن آمنوا بالمسيح وبقوا على هذه الحال بعدما آمنوا وأجبروا إخوتهم على ذلك غير منتبهين لما فيه من المخالفة لمبادئ الديانة المسيحية التي توجب على أعضاء الكنيسة أن يكونوا إخوة ولا لصيت الكنيسة أمام الخارجين.

ولعل انقسام الكنيسة إلى أحزاب كان علة لكثرة الدعاوي عندهم وعدم إرادتهم أن يصرفوها في ما بينهم.

وَلَيْسَ عِنْدَ ٱلْقِدِّيسِينَ؟ أي المسيحيين. كان يجب عليهم أن يحكموا بكل دعاويهم بدون أن تُرفع إلى الوثنيين. وهذا لا يلزم منه أنه كان للمسيحيين محاكم بل كانوا يعينون أناساً للنظر في الدعاوي والحكم فيها.

٢ «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ ٱلْقِدِّيسِينَ سَيَدِينُونَ ٱلْعَالَمَ؟ فَإِنْ كَانَ ٱلْعَالَمُ يُدَانُ بِكُمْ، أَفَأَنْتُمْ غَيْرُ مُسْتَأْهِلِينَ لِلْمَحَاكِمِ ٱلصُّغْرَى؟».

مزمور ٤٩: ١٤ ودانيال ٧: ٢٢ ومتّى ١٩: ٢٨ ولوقا ٢٢: ٣٠ ورؤيا ٢: ٢٦ و٣: ٢١ و٢٠: ٤

أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ كرر هذا السؤال عشر مرات في هذه الرسالة ويتضمن أن الأمر المسؤول عنه في غاية الوضوح مسلم به في الكنيسة فعدم الجري بموجبه غريب يوجب اللوم فكأنه قال لا ريب في أنكم عرفتم الواجب وغفلتم عنه.

ٱلْقِدِّيسِينَ أي شعب الله أعضاء كنيسة المسيح ولقبوا «بالقديسين» لأنهم فُرزوا من العالم ووقفوا أنفسهم للمسيح. ويطلق هذا اللقب على موتى المؤمنين وأحيائهم.

سَيَدِينُونَ ٱلْعَالَمَ ليس المعنى أنهم سيكونون حكاماً سياسيين. وهذه الدينونة غير منحصرة فيهم بمعنى أن سيرتهم بالنسبة إلى سيرة العالم تكون على دينونة العالم كما نُسبت إلى ملكة سبإ ورحال نينوى (متّى ١٢: ٤١ و٤٢ ولوقا ١١: ٣٢). ولكن المعنى كما في قول النبي «جَاءَ ٱلْقَدِيمُ ٱلأَيَّامِ، وَأُعْطِيَ ٱلدِّينُ لِقِدِّيسِيِ ٱلْعَلِيِّ» (دانيال ٧: ٢٢). وكما في قول المسيح لرسله «مَتَى جَلَسَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً عَلَى ٱثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيّاً تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ» (متّى ١٩: ٢٨). وكما في قول أخنوخ «هُوَذَا قَدْ جَاءَ ٱلرَّبُّ فِي رَبَوَاتِ قِدِّيسِيهِ ١٥ لِيَصْنَعَ دَيْنُونَةً عَلَى ٱلْجَمِيعِ» (يهوذا ١٤ و١٥). وفيه إشارة إلى ما يحدث يوم الدينونة. ويتم بأن المسيح يدين العالم في اليوم الأخير ولكونه رئيس شعبه ونائبهم صح أن تُنسب أعماله إليهم وأن يكون ارتفاعه ارتفاعهم وملكه ملكهم. وقد أبان الكتاب أن الأنباء بأن «كل شيء يوضع تحت قدمي الإنسان» يتم بخضوع كل شيء للمسيح (أفسس ٢: ٦ وعبرانيين ٢: ٤ – ٩) وصحّ لأن شعب المسيح مشارك له في الميراث (رومية ٨: ١٧) «وسيملكون معه» (٢تيموثاوس ٢: ١٢) ويكون لهم سلطان على الأمم (رؤيا ٢: ٢٦).

لم يُعلن لنا كيف يشارك المؤمنون المسيح في الدينونة إنما نعلم أن «لا شيء عليهم من الدينونة» في ذلك اليوم (رومية ٨: ١). وإنهم يُرفعون إلى يمين المسيح عندما يدين أشرار الناس والملائكة وإنهم يقفون على عدل أحكامه ويصدقونها ويشهدون ببره (رؤيا ١٩: ١ و٢). وجلوسهم مع المسيح للدينونة برهان على أنه اعتبرهم أهلاً للقضاء.

أَفَأَنْتُمْ غَيْرُ مُسْتَأْهِلِينَ لِلْمَحَاكِمِ ٱلصُّغْرَى مفاد هذا السؤال أنه إذا كان المؤمنون أهلاً للقضاء في يوم الدين بأمور الإنسان الأبدية فهم بالأولى أهل لأن يحكموا بالأمور الدنيوية الزهيدة بين الأخ وأخيه. وسمى المحاكم «صغرى» لأنها تختص بالأموال وما يتعلق بها مما هو صغير جداً بالنسبة إلى أمور يوم الدين.

٣ «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّنَا سَنَدِينُ مَلاَئِكَةً؟ فَبِٱلأَوْلَى أُمُورَ هٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ!».

٢بطرس ٢: ٤ ويهوذا ٦

أَنَّنَا سَنَدِينُ مَلاَئِكَةً هم الملائكة «ٱلَّذِينَ لَمْ يَحْفَظُوا رِيَاسَتَهُمْ، بَلْ تَرَكُوا مَسْكَنَهُمْ حَفِظَهُمْ إِلَى دَيْنُونَةِ ٱلْيَوْمِ ٱلْعَظِيمِ» (يهوذا ٦) فهؤلاء يدانون مع الناس في ذلك اليوم الرهيب (٢بطرس ٢: ٤). وما قيل في تفسير الآية السابقة من جهة أن القديسين يدينون العالم يصح من جهة أنهم يدينون الملائكة.

فَبِٱلأَوْلَى كونهم أهلاً لأن يدينوا الملائكة بالأمور الأبدية يستلزم أولوية أن يدينوا الناس بالأمور الزمنية.

٤ «فَإِنْ كَانَ لَكُمْ مَحَاكِمُ فِي أُمُورِ هٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ، فَأَجْلِسُوا ٱلْمُحْتَقَرِينَ فِي ٱلْكَنِيسَةِ قُضَاةً!»

ص ٥: ١٢

ٱلْمُحْتَقَرِينَ فِي ٱلْكَنِيسَةِ رأى بعض المفسرين أنهم هم بعض الإخوة الذين هم أقل اعتباراً في المحكمة والمقام وأنه أمر بإجلاس هؤلاء للحكم لأن مواضيعه أمور زهيدة لا تحتاج إلى أرباب الحكمة والبصيرة.

ورأى غيره أن «ٱلْمُحْتَقَرِينَ فِي ٱلْكَنِيسَةِ» هم القضاة الوثنيون وأن الكنيسة احتقرتهم خاصة لعبادتهم الأوثان ولعدم اكتراثهم بالعدل والحق ولقبولهم الرشوة وإن كلام الرسول هنا استفهام للتعجب والتوبيخ كما جاء في بعض النسخ وهذا هو الأرجح لأن الكلام لو كان أمراً لتُوقع أن يقول الرسول انتخبوا للمحاكمة الشيوخ الذين هم أكثر حكمة واختباراً بينكم لا المحتقرين. كما فعل موسى امتثالاً لنصيحة حميه يثرون (خروج ١٨: ٢١ و٢٥). وهذا التفسير موافق لقول الرسول «أَهٰكَذَا لَيْسَ بَيْنَكُمْ حَكِيمٌ، وَلاَ وَاحِدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ إِخْوَتِهِ» (ع ٥).

٥ «لِتَخْجِيلِكُمْ أَقُولُ. أَهٰكَذَا لَيْسَ بَيْنَكُمْ حَكِيمٌ، وَلاَ وَاحِدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ إِخْوَتِهِ؟».

لِتَخْجِيلِكُمْ أَقُولُ غايته أن يستحسنوا من تصرفهم تصرفاً غير لائق بشرفهم باعتبار كونهم مسيحيون.

أَهٰكَذَا لَيْسَ بَيْنَكُمْ حَكِيمٌ التسليم بأنهم مضطرون إلى المحاكمة عند الوثنيين لعدم وجود إنسان بينهم أهل للقضاء عار عظيم ومضاد لما ادعوه من أنهم أفاضل الحكماء (ص ٣: ١٨ و٤: ١٠).

بَيْنَ إِخْوَتِهِ لأن كلا من المدعي والمدعى عليه من أهل الكنيسة.

٦ «لٰكِنَّ ٱلأَخَ يُحَاكِمُ ٱلأَخَ، وَذٰلِكَ عِنْدَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ».

وبخهم الرسول في هذه الآية على أمرين الأول أن الأخ يشارع أخاه مع أن الواجب أن يرضيه بلا مشارعة. والثاني أنهم رفعوا دعاويهم إلى قضاء وثنيين مع أن الرومانيين أذنوا لهم أن يختاروا لأنفسهم قضاة (انظر تفسير ع ١).

٧ «فَٱلآنَ فِيكُمْ عَيْبٌ مُطْلَقاً، لأَنَّ عِنْدَكُمْ مُحَاكَمَاتٍ بَعْضِكُمْ مَعَ بَعْضٍ. لِمَاذَا لاَ تُظْلَمُونَ بِٱلْحَرِيِّ؟ لِمَاذَا لاَ تُسْلَبُونَ بِٱلْحَرِيِّ؟».

أمثال ٢٠: ٢٢ ومتّى ٥: ٣٩ و٤٠ ولوقا ٦: ٢٩ ورومية ١٢: ١٧ و١تسالونيكي ٥: ١٥

عَيْبٌ مُطْلَقاً الكلام هنا محصور في المحاكمة عند القضاة الوثنيين فإن طلب المسيحيين مثل تلك المحاكمة إهانة لدين المسيح. لكن هذا لا يصح على كل الدعاوي في كل زمان لأن الله عيّن في العهد القديم قضاة للمحاكمة بين اليهود (قضاة ١٦: ١٨). وبولس رفع دعواه إلى قيصر لينقذ نفسه من ظلم اليهود.

لِمَاذَا لاَ تُظْلَمُونَ بِٱلْحَرِيِّ أي لماذا لا تفضلوا احتمال الظلم بالسكوت على المحكمة عند القضاة الوثنيين لأن خسارة المقتنيات الدنيوية ليست شيئاً بالنسبة إلى خسارة راحة الكنيسة والمحبة الأخوية وهدوء البال وما ينشأ عن تلك المحاكمة من العثرات. فنصح الرسول هنا موافق لما أتاه المسيح من «تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِهِ… ٱلَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضاً وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ» (١بطرس ٢: ٢١ و٢٣).

غاية الرسول هنا أن يجعل مسيحيي كورنثوس يجتنبون أسباب الخصام ويربون في قلوبهم المحبة والميل إلى السلام والمصالحة واحتمال بعضهم لبعض. ولم تكن غايته أن يجعل الكنيسة محكمة لكثرة الدعاوي الدنيوية لأن المسيح أبى أن يكون قاضياً في مثل هذه الأمور إذ قال «مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِياً أَوْ مُقَسِّماً» (لوقا ١٢: ١٤). وهو يريد أن تكون كنيسة مثله وأن يسلك بمقتضى القاعدة الذهبية وهي قوله «تحب قريبك كنفسك» فلو سلك كل الناس بموجب هذا القانون لندرت أسباب المحاكمة.

وما قيل هنا في وجوب تجنب المحاكمات عند القضاة الوثنيين يعملنا أنه يجب على المسيحيين أن يعتزلوا كل المحاكمات إذا أمكن وذلك لثلاثة أسباب:

  • الأول: إن الدين المسيحي يكلف أهله أن يحتملوا الظلم بالصبر (متّى ٥: ٣٩ و٤ و٤٤ ورومية ١٢: ١٧ و١٩ و١تسالونيكي ٥: ١٥ و١بطرس ٢: ١٩ و٢٠).
  • الثاني: الضرر الذي يلم بالكنيسة من جراء مخاصمة بعض المسيحيين لبعض في المحاكم السياسية. فيجب على المسيحيين أن يحبوا سيدهم وملكوته أكثر مما يحبون أنفسهم ونفعهم الشخصي.
  • الثالث: إنه يغلب أن الإنسان إذا ربح الدعوى تكلفه تلك المحاكمة مالاً ووقتاً واهتماماً وتعباً أكثر من أن يخسرها بالسكوت.

    فإن قيل متى يجوز أن يحاكم المسيحي في المحاكم المعتادة قلنا أولاً إذا جهل المسيحيان الشريعة في ما يتحاكمان فيه فذهبا للمحاكمة متفقين لكي يعرفا الشريعة ويجريا بحسبها.

ثانياً: إذا كان خصم المسيحي غير مسيحي ولم يقبل حكم الكنيسة وأشتكي عليه إلى المحاكمة.

ثالثاً: إذا تعدى عليه الأشرار واضطر إلى أن يطلب من أرباب الحكومة وقاية حياته أو ماله أو أهله أو منع امتداد الضرر إلى الغير. وعلى كل حال يجب على المسيحي أن لا يحاكم بالغضب أو للانتقام من الخصم لكن بالصبر والاحتمال والرغبة في أن يستفيد الخصم ويُصلح ويثبت الحق.

٨ «لٰكِنْ أَنْتُمْ تَظْلِمُونَ وَتَسْلُبُونَ، وَذٰلِكَ لِلإِخْوَةِ».

١تسالونيكي ٤: ٦

في هذه الآية علة أخرى للتوبيخ وهي كونهم ظالمين ومتعدين يحملون الناس على الشكاية عليهم في المحاكم. وهذا يدل على فتور عظيم في حياتهم الروحية ونقص في الفضايل المسيحية خلافاً لادعائهم الكمال.

وَذٰلِكَ لِلإِخْوَةِ هذا يزيد إثمهم فظاعة لأنهم مكلفون باللطف بالإخوة والمحبة لهم باعتبار أنهم أهل بيت واحد.

٩، ١٠ «٩ أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ ٱلظَّالِمِينَ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ؟ لاَ تَضِلُّوا! لاَ زُنَاةٌ وَلاَ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ وَلاَ فَاسِقُونَ وَلاَ مَأْبُونُونَ وَلاَ مُضَاجِعُو ذُكُورٍ، ١٠وَلاَ سَارِقُونَ وَلاَ طَمَّاعُونَ وَلاَ سِكِّيرُونَ وَلاَ شَتَّامُونَ وَلاَ خَاطِفُونَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ».

ص ١٥: ٥٠ وغلاطية ٥: ٢١ وأفسس ٥: ٥ و١تيموثاوس ١: ٩ وعبرانيين ١٢: ١٤ و١٣: ٤ ورؤيا ٢٢: ١٥

أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أي لا شك في أنكم علمتم لكنكم فعلتم كأنكم لا تعلمون.

أَنَّ ٱلظَّالِمِينَ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ يميل الإنسان دائماً إلى فصل الآداب عن الدين لزعمهم أنهم يخلصون بمجرد اعتقادهم الحق وممارسة الرسوم الدينية الظاهرة بدون التفات إلى الأعمال الصالحة التي هي ثمار الإيمان. لكن الإنجيل يصرح بأن الواجبات الأدبية هي واجبات دينية أيضاً وأن الطاعة أفضل من الذبيحة. ويظهر مما قيل في هذه الرسالة أن بعض كنيسة كورنثوس لم يروا الدين المسيحي إلا دستور الإيمان دون الأعمال فحذرهم الرسول من هذا الضلال وأكد لهم أن الأثيم لا يرث السماء وأن الظالمين منهم كالظالمين من الأمم (ع ١). وكثيراً ما ذُكر في العهد الجديد أن ملكوت الله إرثٌ كما ذُكر هنا (متّى ١٩: ٢٩ و٢٥: ٣٤ ومرقس ١٠: ١٧ ولوقا ١٠: ٢٥ و١٢: ٣٢ و١٨: ١٨ و١كورنثوس ١٥: ٥٠ وأفسس ١: ١١ و١٤ و٥: ٥).

لاَ تَضِلُّوا! كانوا عرضة للضلالة في أن يحسبوا رذائل الآتي ذكرهم غير مانعة من الميراث السماوي لأن أكثر الذين حولهم كانوا من أهلها فضمائرهم لم توبخهم ولم يحسبوا أنفهسم مذنبين أمام الله بها ولأنه يهون على الإنسان أن يقنع نفسه بتحليل ما يريد فعله ولعل المعلمين الكاذبين أضلوهم بتعليمهم.

لاَ زُنَاةٌ الخ (انظر تفسير ص ٥: ١٠ و١١). أكثر ما ذكره الرسول هنا هي الرذائل التي يرتكبها الإنسان على غيره من الناس والتصريح بأن مرتكبيها لا يمكنهم أن يرثوا السماء لأنها هي التي كان مسيحيو كورنثوس عرضة لارتكابها لسكناهم بين الوثنيين (رومية ١١: ١٣ وغلاطية ٥: ١٩ و٢٠ و١تيموثاوس ١: ٩ و١٠ وتيطس ١: ١٢)، وعلة ذكره عبادة الأوثان مع هذه الرذائل غلبة اقتران تلك العبادة بالزنى.

١١ «وَهٰكَذَا كَانَ أُنَاسٌ مِنْكُمْ. لٰكِنِ ٱغْتَسَلْتُمْ، بَلْ تَقَدَّسْتُمْ، بَلْ تَبَرَّرْتُمْ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ وَبِرُوحِ إِلٰهِنَا».

ص ١٢: ٢ وأفسس ٢: ٢ و٤: ٢٢ و٥: ٨ وكولوسي ٣: ٧ وتيطس ٣: ٣ ص ١: ٣٠ وعبرانيين ١٠: ٢٢

وَهٰكَذَا كَانَ أُنَاسٌ مِنْكُمْ قبل أن آمنوا وتجددوا. نعم كانوا خطأة لكن لم يرتكب كلهم الخطايا المذكورة. ونيل من كانوا من مرتكبيها الرحمة دليل على أن الله لا يرفض توبة الإنسان على كثرة خطاياه وأن الله قادر على أن يجعل أول الخطأة أول القديسين.

وذكر أن بعضهم كان كذلك بياناً أن تلك الخطايا من خواص الحال الأولى التي انفصلوا عنها كل الانفصال. وفي هذا تحذير من الرجوع إليها لئلا يكون إثمهم مضاعفاً لأنهم يكونون قد سلموا أنفسهم للتجربة وتدنسوا بعدما تطهروا بالمسيح.

لٰكِنِ ٱغْتَسَلْتُمْ كلام مجازي يراد به التطهير الروحي. قال داود «ٱغْسِلْنِي كَثِيراً مِنْ إِثْمِي وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي» وقال «ٱغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ ٱلثَّلْجِ» (مزمور ٥١: ٢ و٧ انظر أيضاً إرميا ٤: ١٤ وعبرانيين ١٠: ٢٢). ولا إشارة بذلك إلى المعمودية بل إلى تجديد القلب بالروح القدس الذي تشير المعمودية إليه وإلى تطهيره بدم المسيح (رؤيا ١: ٥ و١يوحنا ١: ٧).

تَقَدَّسْتُمْ أي انفصلتم عن العالم ووقفتم أنفسكم لخدمة الله. فأشار بقوله «اغتسلتم» إلى تجديد القلب عند الإيمان وبقوله «تقدستم» إلى العمل الباطن الذي يُجريه الروح القدس تدريجياً إلى أن يصل المؤمن إلى السماء. وليس معنى الرسول أنهم بلغوا درجة الكمال من القداسة بل أنهم متقدمون إليها.

بَلْ تَبَرَّرْتُمْ حسبهم الله أبراراً لما فعله المسيح من أجلهم ولإيمانهم به (رومية ١: ١٧ و٣: ٢٥ و٢٦ و٤: ٣). فيتبرر المؤمنون حين يؤمنون ويأخذون يتقدسون. ذكر الرسول التغيرات التي طرأت عليهم بدون التفات إلى الترتيب. واختبارهم التغيرات التي تتضمنها تلك الكلمات الثلاث يوجب عليهم أن لا يدنسوا أنفسهم أيضاً فيقعوا تحت أعظم دينونة (يعقوب ١: ٢٧).

بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أي بسلطانه وقوته بناء على عمله واستحقاقه.

وَبِرُوحِ إِلٰهِنَا أي الروح القدس الذي أرسله الآب إتماماً لوعده لابنه (غلاطية ٣: ١٣ و١٤).

البركات الثلاث المذكورة في هذه الآية أي الاغتسال والتقدّس والتبرّر لا بد منها كلها للخلاص لأننا لا نقدر أن نتبرر بدون أن نغتسل من دنس الخطايا الماضية وبدون أن نتجدد فنصير إلى صورة المسيح. فهي تشتمل على كل ما يحتاج إليه الخاطئ للنجاة من الخطيئة وللاستعداد للسماء وننالها كلها باستحقاق المسيح وبفعل الروح القدس في قلوبنا وما لنيلها من واسطة أخرى. فالذين نالوها لا داعية إلى خوفهم من الدينونة على خطاياهم السالفة لكن يجب عليهم أن يتجنبوا كل خطيئة ويعيشوا عيشة مقدسة متحققين أن التلسيم بخطيئة واحدة يمنع مرتكبها من دخول ملكوت الله.

إصلاح الخطإ في الحرية الدينية ع ١٢ إلى ٢٠

في هذا الفصل بيان أن القاعدة التي هي «كل الأشياء تحل للمؤمن» لا يصح أن تكون قاعدة عامة في الأمور المحظورة ولا الأمور الجائزة التي لا تناسب أو التي تضرنا وتضر غيرنا (ع ١٢) وإن صحت تلك القاعدة في الطعام لكونه أمراً عرضياً لا تصح في الزنى لأن الله لم يخلق الجسد لذلك بل ليوقف لخدمته (ع ١٣ و١٤). إن الزنى إثم عظيم لأنه يمنع اتحاد المسيحي بالمسيح (ع ١٥ – ١٧). ولأنه مضر للجسد (ع ١٨). ولان الله قصد أن يكون الجسد هيكلاً للروح القدس والزنى تدنيس لذلك الهيكل (ع ١٩). وإنه على المؤمنين أن يذكروا أن أجسادهم مشتراة بالمسيح فيجب أن تُوقف لمجد الله (ع ٢٠).

١٢ «كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، لٰكِنْ لَيْسَ كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ تُوافِقُ. كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، لٰكِنْ لاَ يَتَسَلَّطُ عَلَيَّ شَيْءٌ».

ص ١٠: ٢٣

سبق في الآية التاسعة أن الزناة لا يرثون ملكوت الله وهنا بيّن فساد القاعدة التي بها أجاز بعضهم الزنى وهي أن الحرية المسيحية تجيزه.

كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي علّم الرسول هذه القاعدة في أمر الرسوم والعوائد اليهودية وأن المتنصرين من الأمم غير مكلفين بحفظها ولا سيما في التمييز بين الأطعمة. وقصد «بكل الأشياء» الأمور العرضية دون غيرها. إن اليونانيين والرومانيين اعتبروا الزنى كما اعتبر بولس الرسوم اليهودية أي أنهم اعتبروه أمر عرضي غير محظور ولا عجب من أن الذين تربوا بينهم وتبعوا آراءهم يبقون على شيء من فسادهم بعدما آمنوا. وحجتهم أن اشتهاء الإنسان الأطعمة الموافقة لمعدته برهان على جواز تناولها كذلك كل شهوة طبيعية برهان على جواز التمتع بمشتهاها. فأبان الرسول أن الحرية المسيحية مقيدة لا مطلقة وأن ما صدق على الأطعمة لا يصدق على الزنى وأن تناول طعام دون غيره أمر عرضي وأما الزنى فخطيئة. وقال الرسول «كل الأشياء تحل لي» باعتبار أنه مسيحي. وقصد أن هذه الحرية تكون للمسيحيين. وكثيراً ما نسب إلى نفسه ما قصد أن ينسبه أيضاً إلى جميع المؤمنين (ع ١٥ وص ٧: ٧ و٨: ١٣ و١٠: ٢٩ و٣٠ و١٤: ١١).

لٰكِنْ لَيْسَ كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ تُوافِقُ وإن كانت جائزة في الذات. وهذا موافق لقوله «كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، وَلٰكِنْ لَيْسَ كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ تَبْنِي» (ص ١٠: ٢٣). فعدم الموافقة يقيد الحرية المسيحية. فالذي ليس بمحرم يُحرم إذا كان يضر أنفسنا أو غيرنا. وأوضح الرسول هذا المبدإ في (رومية ١٤: ١٥ – ٢٥). وخلاصة كل ذلك قوله «كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ طَاهِرَةٌ، لٰكِنَّهُ شَرٌّ لِلإِنْسَانِ ٱلَّذِي يَأْكُلُ بِعَثْرَةٍ» (رومية ١٤: ٢٠). وبين ذلك أيضاً بقوله في هذه الرسالة عينها «ٱلطَّعَامَ لاَ يُقَدِّمُنَا إِلَى ٱللّٰهِ، لأَنَّنَا إِنْ أَكَلْنَا لاَ نَزِيدُ وَإِنْ لَمْ نَأْكُلْ لاَ نَنْقُصُ. وَلٰكِنِ ٱنْظُرُوا لِئَلاَّ يَصِيرَ سُلْطَانُكُمْ هٰذَا مَعْثَرَةً لِلضُّعَفَاءِ» (ص ٨: ٨ و٩ انظر أيضاً ص ١٠: ٢٣ – ٣٣).

لٰكِنْ لاَ يَتَسَلَّطُ عَلَيَّ شَيْءٌ هذا قيد ثان للحرية المسيحية فلا يجوز أن يطيع الإنسان شهواته الجائزة حتى يكون عبداً لها. إن الله قصد أن طبيعة الإنسان الروحية تتسلط على طبيعته الجسدية حتى لا تتجاوز حدودها ولكن إذا أطاع الإنسان شهوته الجسدية في الجائزات حتى يأتي كل ما يشتهيه مما ليس بحرام تسلطت الطبعية الجسدية على الإنسان كله فضعفت الطبيعة العقلية والروحية وصغرت ولذلك لا يجوز للمسيحي ان يكون عبداً لشهوة أو لعادة جسدية.

١٣ «ٱلأَطْعِمَةُ لِلْجَوْفِ وَٱلْجَوْفُ لِلأَطْعِمَةِ، وَٱللّٰهُ سَيُبِيدُ هٰذَا وَتِلْكَ. وَلٰكِنَّ ٱلْجَسَدَ لَيْسَ لِلزِّنَا بَلْ لِلرَّبِّ، وَٱلرَّبُّ لِلْجَسَدِ».

متّى ١٥: ١٧ ورومية ١٤: ١٧ وكولوسي ٢: ٢٢ و٢٣ ع ١٥ و١٩ و٢٠ و١تسالونيكي ٤: ٣ و٧ رومية ٨: ١١ وأفسس ٥: ٢٣

ٱلأَطْعِمَةُ لِلْجَوْفِ وَٱلْجَوْفُ لِلأَطْعِمَةِ هذا ضابط بيّن لا ينكره أحد فإن الله جعل كلاً من الأمرين مناسباً للآخر فإذاً يجوز للإنسان أن يأكل كل ما يجده ملائماً له.

وَٱللّٰهُ سَيُبِيدُ هٰذَا وَتِلْكَ أي الجوف والأطعمة والمراد بذلك أن هذا الترتيب وقتيٌ يختص بالحياة وينتهي بالموت وبعد ذلك يكون الناس كالأرواح غير مفتقرين إلى الأطعمة. وكون اقتياتنا بالأطعمة عرضيٌ فيجوز لنا أن نأكل ما نشاء بشرط أن لا نضر أنفسنا ولا غيرنا به وأنه لا يستحق أن يكون موضوع اهتمام وتعب حتى نغفل به عن أمورنا الروحية. ويجب أن يكون غرضنا من تناول الطعام نيل القوة على القيام بما يجب علينا لله وللناس لا مجرد اللذة البدنية.

ٱلْجَسَدَ لَيْسَ لِلزِّنَا صح أن الأطعمة للجوف والجوف للأطعمة ولكن لم يصح أن الجسد للزنى والزنى للجسد لأن الله لم يخلق جسد الإنسان ليزني بمن شاء فمن زنى خالف قصد الله من إبداعه وخسر سعادة الآخرة. قال المسيح «لَيْسَ مَا يَدْخُلُ ٱلْفَمَ يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ» (متى ١٥: ١١). ولكنه قال «إن الزنى والفسق ينجس الإنسان» (مرقس ٧: ٢١ و٢٣). فالإنسان لا يفنى كالأطعمة لأنه خالد (ص ١٥: ٥١ و٥٢). كل تأثيرات الأطعمة في الإنسان تنتهي عند الموت ولكن تأثير الزنى في نفس الإنسان يبقى إلى الأبد.

بَلْ لِلرَّبِّ، وَٱلرَّبُّ لِلْجَسَدِ قصد الله أن يتحد المسيحي بالمسيح حتى يكون جسده مسكناً لروحه القدوس. الكنيسة كلها جسد المسيح وكل مؤمن عضو من أعضاء هذا الجسد (١كورنثوس ١٢: ٢٧). فإذاً كل ما يؤثر في جسد المسيح كله أو في بعضه مما يهتم به المسيح كل الاهتمام لأنه «بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (تيطس ٢: ١٤). وقوله «الرب للجسد» كقوله «وهو مخلص الجسد» (أفسس ٥: ٢٣) ومعناه أنه تعالى يعتني بالجسد ويحفظه ويقدسه الآن ليكون مسكن روحه وأنه سوف يعتني بإقامته في يوم القيامة وبخلقه إياه حينئذ جديداً على صورته. وخلاصة ذلك بيان أنه لا يجوز للإنسان أن يدنس جسده بالزنى.

١٤ «وَٱللّٰهُ قَدْ أَقَامَ ٱلرَّبَّ وَسَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضاً بِقُوَّتِهِ».

رومية ٦: ٥ و٨ و٨: ١١ و٢كورنثوس ٤: ١٤ أفسس ١: ١٩ و٢٠

هذا الآية لإثبات أن الجسد غير بائد كالأطعمة بل إن الله قصد أنه يشارك المسيح في قيامته. وهذا مثل ما في (رومية ٨: ١١). قال الرسول في ع ١٣ إن العلاقة بين الجسد والأطعمة التي تقيته وقتية وقال هنا أن العلاقة بين المسيح والجسد دائمة فالأولى عرضية والثانية جوهرية لأن من نتائج اتحاد المؤمنين بالمسيح إقامة أجسادهم على صورة جسده الطاهر المجيد وهو يوجب على كل مسيحي حفظ جسده من كل دنس.

وقد أبان الكتاب قصد الله في مستقبل أجساد المؤمنين في (ص ١٥: ١٥ و٢٠ و٣٥ – ٥٦ وفيلبي ٣: ٢١ ورومية ٨: ١١ و٢كورنثوس ٤: ١٤ و١تسالونيكي ٤: ١٤).

١٥ «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ أَجْسَادَكُمْ هِيَ أَعْضَاءُ ٱلْمَسِيحِ؟ أَفَآخُذُ أَعْضَاءَ ٱلْمَسِيحِ وَأَجْعَلُهَا أَعْضَاءَ زَانِيَةٍ؟ حَاشَا!».

رومية ١٢: ٥ وص ١٢: ٢٧ وأفسس ٤: ١٢ و١٥ و١٦ و٥: ٣٠

غاية هذه الآية إثبات أمرين الأول أن اتحاد أجساد المؤمنين بالمسيح كما ذُكر في (ع ١٣) اتحاد حيوي حقيقي. والثاني أن الزنى ينافي هذا الاتحاد.

أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أي لا ريب في أنكم تعلمون ما يأتي لأنه مما يسلّم به كل مسيحي.

أَنَّ أَجْسَادَكُمْ هِيَ أَعْضَاءُ ٱلْمَسِيحِ هذا كقوله «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ ٱلْمَسِيحِ، وَأَعْضَاؤُهُ أَفْرَاداً» (ص ١٢: ٢٧). وقوله «لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ» (أفسس ٥: ٣٠).

والمبدأ المذكور هنا يثبت كل ما قال سابقاً. وأجساد المؤمنين أعضاء المسيح لأنها تشترك في كل فوائد الفداء بدمه فإذاً هي له وهي أعضاؤه لأنهم اتحدوا به حتى حيوا بحياته كما قال المسيح لتلاميذه «إني أنا حي فأنتم ستحيون» (يوحنا ١٤: ١٩). وهذه الحياة تعم أجسادهم وأنفهسم كما يظهر من (رومية ٨: ٦ – ١١ وأفسس ٢: ٦ و٧ و٥: ٣٠).

ذكر بولس مسيحيي كورنثوس اتحادهم الشديد بالمسيح تحذيراً لهم من الزنى الذي من شأنه إنشاء الاتحاد بين الزاني والزانية كأنهما شريكا حياة واحدة كما يظهر من كلام الكتاب على الزيحة وهو قوله «يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً» (تكوين ٢: ٢٤). ومن الواضح أن اتحاد الزاني بالزانية مناف لاتحاد المؤمن بالمسيح. وأبرز الخطاب هنا في صورة التكلم كأنه أقام نفسه مقام كل المؤمنين.

أَفَآخُذُ أَعْضَاءَ ٱلْمَسِيحِ وَأَجْعَلُهَا أَعْضَاءَ زَانِيَةٍ هذا استفهام إنكاري كأنه قال من المحال ان يتحد الإنسان بالمسيح والزانية في وقت واحد. وهذا كقوله «أي اتفاق للمسيح مع بليعال» (٢كورنثوس ٦: ١٥).

حَاشَا وكرهه إياه واعتقاده أن أجساد المؤمنين لكونها هذا يدل على إنكار الرسول ذلك الفرض وكرهه إياه واعتقاده أن أجساد المؤمنين لكونها متحدة بالمسيح القدوس يجب أن تكون طاهرة كما هو طاهر. وكل الذين يذكرون أن يد المسيح خلقتهم وأن موته فداهم وأن دمه غسلهم وأنه يسكن فيهم بروحه وأنهم يقدمون له أخيراً مثل عروس يحذرون من كل نجاسة في الفكر والقول والفعل.

١٦ «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَنِ ٱلْتَصَقَ بِزَانِيَةٍ هُوَ جَسَدٌ وَاحِدٌ، لأَنَّهُ يَقُولُ: يَكُونُ ٱلٱثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً».

تكوين ٢: ٢٤ ومتّى ١٩: ٥ وأفسس ٥: ٣١

أثبت ما قاله في الزنى بما قاله الله في الزيجة (تكوين ٢: ١٤) وقاله المسيح في (متّى ١٩: ٥١). فاقتران الإنسان بامرأته يجعلهما شريكي حياة واحدة مكرّهة ولكن اقتران الزاني بالزانية يجعلهما شريكي حياة واحدة مدنسة مكروهة محرمة. فالمؤمن الذي يزني يتعدى حقوق المسيح ويقطع علاقته به.

١٧ «وَأَمَّا مَنِ ٱلْتَصَقَ بِٱلرَّبِّ فَهُوَ رُوحٌ وَاحِدٌ».

يوحنا ١٥: ١ – ٧ و١٧: ٢١ الخ وأفسس ٤: ٤ و٥: ٣٠

فَهُوَ رُوحٌ وَاحِدٌ باعتبار التصاقه بالرب والالتصاق المشار إليه هنا روحي والروح القدس الذي يسكن في المسيح يسكن أيضاً في المؤمن الملتصق به وينشئ فيه حياة مشتركة هي حياة روحية أبدية. وواسطة هذا الالتصاق هي الإيمان. وهذا موافق لقول المسيح أن نسبة الكنيسة إليه كنسبة الغصن إلى الكرمة (يوحنا ١٥: ١٥ انظر أيضاً رومية ٨: ٩ و١٠ و١كورنثوس ١٢: ١٣ ويوحنا ١٧: ٢١ و٢٢ وأفسس ٤: ٤ و٥: ٣٠) وينتج من ذلك كله أنه يجب على المسيحي أن يمتنع عن كل شيء ينافي ذلك الاتحاد المجيد.

١٨ «اُهْرُبُوا مِنَ ٱلزِّنَا. كُلُّ خَطِيَّةٍ يَفْعَلُهَا ٱلإِنْسَانُ هِيَ خَارِجَةٌ عَنِ ٱلْجَسَدِ، لٰكِنَّ ٱلَّذِي يَزْنِي يُخْطِئُ إِلَى جَسَدِهِ».

رومية ٦: ١٢ و١٣ وعبرانيين ١٣: ٤ رومية ١: ٦٤ و١تسالونيكي ٤: ٤

اُهْرُبُوا مِنَ ٱلزِّنَا للأسباب المذكورة آنفاً. وتمتاز هذه الخطيئة عن غيرها بأنها تنجس النفس والجسد كليهما وتخالف الشريعة الإلهية والشريعة الطبيعية.

كُلُّ خَطِيَّةٍ… هِيَ خَارِجَةٌ عَنِ ٱلْجَسَدِ هذا يصدق على كل الخطايا القلبية كالبغض والحسد وما شاكلهما وبعض الخطايا الظاهرة كالشتم والهجر وبعض الخطايا التي تضر القريب كالسرقة والكذب والقتل فإنها لا تنجس جسد المرتكب ضرورة وأما الزنى فخطيئة على الجسد فضلاً عن أنه خطيئة على الروح. فإن الزاني يستعمل جسده على خلاف قصد الله من خلقه وخلاف الشريعة التي أوحى بها وهو يفسد قوى الإنسان الجسدية والعقلية والأدبية وكثيراً ما يكون على أمراض أشد كرهاً وخطراً من البرص. وبعض ما يصدق على الزنى يصدق على السكر وكثيراً ما يكون الثاني ممهداً الطريق إلى الأول.

١٩ «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلَّذِي فِيكُمُ، ٱلَّذِي لَكُمْ مِنَ ٱللّٰهِ، وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ؟».

ص ٣: ١٦ و١كورنثوس ٦: ١٦ رومية ١٤: ٧ و٨

جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلَّذِي فِيكُمُ (انظر شرح ص ٣: ١٦ و١٧). لا ريب في أن روح الإنسان يناسب أن يكون مسكناً للروح القدس ولكن ذلك لا يمنع مناسبة أن يكون الجسد كذلك لأنه مسكن روح الإنسان. يمتاز الهيكل عن سائر المساكن بأمرين الأول أنه لله لا لإنسان والثاني أنه مسكنه تعالى فتدنيسه خطاء وخطر. ويصدق الأمران على جسد المؤمن. فإنه لله خاصة فله الحق أن يعيّن للإنسان طريق استعماله دون غيره وهو نهي عن استعماله في الشهوات المحرمة وأنه هيكل الروح القدس فتدنيسه يوجب على من دنسه الإثم والدينونة.

ٱلَّذِي لَكُمْ مِنَ ٱللّٰهِ أي الروح القدس الذي يهبه الله لكم كما أوضح المسيح بقوله «ٱلْمُعَزِّي ٱلَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ ٱلآبِ، رُوحُ ٱلْحَقِّ، ٱلَّذِي مِنْ عِنْدِ ٱلآبِ يَنْبَثِقُ» (يوحنا ١٥: ٢٦).

٢٠ «لأَنَّكُمْ قَدِ ٱشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا ٱللّٰهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ ٱلَّتِي هِيَ لِلّٰهِ».

متّى ٢٠: ٢٨ وأعمال ٢٠: ٢٨ وص ٧: ٢٣ وغلاطية ٣: ١٣ وكولوسي ١: ١٤ وعبرانيين ٩: ١٢ و١بطرس ١: ١٨ و١٩ و٢بطرس ٢: ١ ورؤيا ٥: ٩ يوحنا ١٣: ٣٢

ٱشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ أي اقتديتم بدم المسيح وقداء المؤمنين يثبت أنهم لله فضلاً عن أنه خلقهم واعتنى بهم. وهو فداهم من سلطة الخطيئة ومن رق الشيطان ولعنة الناموس (ص ٧: ٢٣ ورومية ٦: ١٧ وغلاطية ٣: ١٣ وأفسس ٣: ١٣ وكولوسي ١: ١٣ وأعمال ٢٠: ٢٨ و٢٦: ١٨). والمسيح فدانا بأنه أوفى كل ما علينا للعدل بموته على الصليب فاشترانا ودمه هو الثمن (متّى ٢٠: ٢٨ ورومية ٣: ٢٤ وأفسس ١: ٧ و١بطرس ١: ١٨ و١٩) وهو يحررنا من عبودية الإثم بروحه القدوس المؤثر في قلوبنا (رومية ٧: ٢٤ و٢٥ و٨: ٢).

إن الله خلق الإنسان بكلمة وفداه بموت ابنه وهذا الثمن العظيم الذي رضي أن يفدي الإنسان به برهان على عظمة قيمة النفس في عينيه تعالى.

فَمَجِّدُوا ٱللّٰهَ لافتدائكم وعظمة الثمن الذي اشتريتم به.

فِي أَجْسَادِكُمْ أي بوقفها لله هياكل وبحفظها طاهرة وباستعمال كل قواها في خدمته.

وَفِي أَرْوَاحِكُمُ أي بمحبتها لله وطاعتها له لأنها هي أيضاً مفتداة.

فوائد

  1. إن الدين المسيحي يطلب من أهله أن يسعوا في أثر السلام واعتزال الخصومات والمشاجرات والمحاكمات فيندر أن يحاكم الإنسان غيره ولا يهيج غضبه وانتقامه ويقسي قلبه ويمنع صلواته ونمو تقواه وقدرته على أن ينفعه نفعاً روحياً (ع ١ – ٨).
  2. إن في قول الرسول أن القديسين سيدينون العالم والملائكة لمحة للمجد المعد لنا في السماء بواسطة اتحادنا بالمسيح وعزاء لنا في احتمال هزء العالم وبلايا الحياة الدنيا وحثاًً لنا على أن نتمثل به في الغيرة للعدل والحق والبر وتجنب كل ظلم ومحاباة لكي نكون أهلاً لمشاركته في العمل على الأرض والمجد في السماء (ع ٢ و٣).
  3. إنه يجب على المسيحي أن يؤثر نجاح ملكوت المسيح على نجاحه الخاص وأن يخسر ماله على أن يُشان مجد المسيح وكنيسته (ع ٧ و٨).
  4. إنه يجب على المسيحي أن يكون مستقيماً في كل معاملاته وأن يحذر كل شبه شر. فمن يغبن قريبه ويأخذ ماله ويعد ذلك نباهة ومهارة ينكث عهده لله ويعلن عداوته للمسيح وللحق (ع ٨).
  5. إن صحة الاعتقاد لا تغني عن قداسة الحياة واعتراف اللسان لا ينفع شيئاً ما لم يقترن بعمل الصلاح والمواظبة على خطيئة واحدة تمنع من دخول السماء. فالديانة مقدسة والسماء مقدسة ولا يرى الله إلا أنقياء القلب والسيرة (ع ٩ و١٠).
  6. إنه بمقتضى نص الآية التاسعة والآية العاشرة أن السالكين في الطريق الواسع المؤدي إلى الهلاك كثيرون جداً لأن كثيرين منهم سكيرون طماعون خاطفون شاتمون لله وللناس وهو يوجب علينا الحذر من أول خطة في السبيل المؤدية إلى العواقب الضارة والمواظبة على هذه الطلبة «لا تدخلنا في تجربة» (ع ٩ و١٠).
  7. إنه من أوضح الأمور افتقار الإنسان إلى تجدد قلبه بالروح القدس لأنه متدنس بطبعه واختياره وأعماله لكي يقف أمام الله القدوس ويسكن السماء المقدسة (ع ١٠).
  8. إنه خير للمسيحيين أن يقابلوا الحال الروحية التي بلغوها بنعمة الله بحالهم قبل أن تجددوا لكي يعظموا رحمة الله ويسبحوه على أنه لم يتركهم يهبطون إلى جهنم بخطاياهم ولكي يحذروا أن لا يقعوا أيضاً بفخ الشيطان بعدما أفلتوا منه (ع ١١).
  9. إن الفرق بين المخلصين والهالكين غير قائم بطبيعتهم الأصلية ولا بأعمالهم لأن الكل خطأة فاسدو الطبيعة والأعمال إنما يقوم بعضهم رضي أن يبقى في حال السقوط والهلاك والآخر تمسك بالنعمة ونجا بها (ع ١١).
  10. إنه لا تبرير غير مقترن بغسل الخاطئ من خطاياه السالفة وتقديسه يوماً فيوماً وكل ذلك يُنال باسم المسيح وبقوة الروح القدس (ع ١١).
  11. إن الحرية التي ينالها المسيحي بواسطة المسيح مقيدة بأنه لا يجوز له أن يتعدى حقوق الله ولا حقوق الناس وشريعة المحبة أقوى من الحرية وليس لأحد حرية إلا في طريق القداسة والطاعة لله فليس لإنسان أن يسلك في سبل الشهوات المحرمة (ع ١٢).
  12. إنه يجب على من يتوقع تغير جسده تغيراً مجيداً أن يحذر من تدنيسه الآن بالشهوات المحرمة لئلا يخيب ويفوته ما يرجوه (ع ١٤).
  13. إن بعضهم رأى الجسد مركز الخطيئة فأوجب إذلاله وإضعافه بالصوم والسهر والجلد وإماتته ونُسب هذا الرأي إلى ماني الفارسي. ورأى الأبيكوريون وهم أتباع أبيكورس اليوناني أنه لا شيء للإنسان أفضل من أن يتمتع بكل ما شاء واشتهى لأن حياته قصيرة. والديانة المسيحية تنافي الرأيين وتعلم أن الجسد مفدي بالمسيح ومقدس بكونه مسكن الروح القدس وإله البر ومعد لمشاركة النفس في الحياة الأبدية (ع ١٩).
  14. إنه يجب على المسيحيين أن يذكروا على الدوام أنهم ليسوا لأنفسهم وأنهم افتدوا بثمن عظيم من سلطة إبليس والخطيئة وعقاب الناموس الذي تعدوه وأنهم لله. فعليهم أن يذكروا ما احتمله المسيح من أجلهم على الصليب لكي يهربوا من التجربة للخطيئة ولكي يكونوا أمناء في القيام بواجباتهم (ع ٢٠).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى