الرسالة الأولى إلى كورنثوس | 05 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح الخامس
أمر الزاني من أعضاء الكنيسة وهو الموضوع الثاني من مواضيع هذه الرسالة
توبيخ الرسول الكنيسة على تركها تأديب ذلك الزاني (ع ١ – ٧) وجوب أن تقطعه من عضويتها (ع ٨ و٩). وجوب طهارة السيرة واعتزال الأراذل (ع ١٠ – ١٣)
١ «يُسْمَعُ مُطْلَقاً أَنَّ بَيْنَكُمْ زِنىً! وَزِنىً هٰكَذَا لاَ يُسَمَّى بَيْنَ ٱلأُمَمِ، حَتَّى أَنْ تَكُونَ لِلإِنْسَانِ ٱمْرَأَةُ أَبِيهِ».
أفسس ٥: ٣ لاويين ١٨: ٧ وتثنية ٢٢: ٣٠ و٢٧: ٢٠ و٢كورنثوس ٧: ١٢
يُسْمَعُ مُطْلَقاً أَنَّ بَيْنَكُمْ زِنىً! أي اشتهر بين الملإ أن بينكم من ارتكب الفجور. ولم يُبن الرسول من أخبره بذلك والأرجح أن الذي أنبأه بالتحزب في الكنيسة هو أهل خلوي أنبأه به (ص ١: ١١). ولا ريب في أن اشتهارهم ومما يهين اسم سيدها ويُعثر سائر الناس. والزنى هنا يعم كل ما يخالف الوصية السابعة والعفاف. ولا عجب من حدوث تلك الرذيلة بين مسيحيّي كورنثوس لشيوعها بين الأمم الذين حولهم واستخفاف الأمم بها.
وكانت تلك المدينة أشهر مدن الأمم بالخلاعة والفجور لأنه كان فيها هيكل الزهرة إلاهة العشق والجمال وكانت عبادتها تقترن بأفظع الرذائل.
زِنًى هٰكَذَا لاَ يُسَمَّى بَيْنَ ٱلأُمَمِ الخ كان الزنا المشار إليه هنا اقتران الرجل برابته أي امرأة أبيه والقرينة تدل على أن تلك المرأة كانت زوجة الأب شرعاً لا سرية له وأن الابن اتخذها زوجة دائمة له وأبوه حي على ما يرجح (٢كورنثوس ٧: ١٢). فهذه الأحوال جعلت هذه الخطيئة أعظم من خطيئة رأوبين مع بلهة سرية أبيه (تكوين ٣٥: ٢٢). وهذه الخطيئة ضد الطبع وقد نهت شريعة الله عنها (لاويين ١٨: ٨). ودل قول الرسول «لا يسمى بين الأمم» على أنه نادر بينهم وأنهم يكرهونه كل الكراهة. قال شيشرون المؤرخ الروماني البليغ «كنت أحسب ذلك ضرباً من المحال حتى شاهدت واحدة من حوادثه» وطعن في مرتكبه طعناً شديداً فجعله عرضة لهزء سائر البشر. وكره الأمم لهذه الرذيلة جعل جرم الكنيسة بإبقاء مرتكبها فيها عظيماً جداًً. ويعسر علينا معرفة علة غفلتها عن ذلك وعدم تأديبها للمذنب إلا بفرض أن المرتكب كان من أرباب المراتب العالية لكثرة ماله أو لشرف آله أو لوفرة أصحابه فخافت الكنيسة أن تغضبهم بتأديبه أو لعلها رجت أن يتوب ويرجع عن إثمه من تلقاء نفسه. ومهما كانت العلة فمن الجلي أن الكنيسة لم تشعر حق الشعور بفظاعة هذا الذنب أمام الله والناس خطر سقوطها منه. وما قاله بولس في هذا يدل على أنه اعتبر شريعة الزيجة الموسوية المذكورة في (لاويين ص ١٨) واجبة على المسيحيين كما كانت واجبة على اليهود فإذا ما تجيزه تلك الشريعة جائز وما تمنعه ممنوع.
٢ «أَفَأَنْتُمْ مُنْتَفِخُونَ، وَبِٱلْحَرِيِّ لَمْ تَنُوحُوا حَتَّى يُرْفَعَ مِنْ وَسَطِكُمُ ٱلَّذِي فَعَلَ هٰذَا ٱلْفِعْلَ؟».
ص ٤: ١٨ ٢كورنثوس ٧: ٧ و١٠
أَفَأَنْتُمْ مُنْتَفِخُونَ بما تدعونه من القداسة والحكمة والمعرفة. فلم يرد الرسول أنهم افتخروا بالزنى لأن الافتخار به من أول ضروب الحماقة لكنهم افتخروا بفضائلهم الروحية كأن تلك الرذيلة لم تحدث بينهم.
وَبِٱلْحَرِيِّ لَمْ تَنُوحُوا أي لم تخجلوا حين سمعتم بوقوع تلك الفاحشة فيكم ولم توبخوا أنفسكم وتتضعوا لإغاظتكم الله بها وبما جلبت من العار على الكنيسة التي يقتضي أن تكون طاهرة كسيدها.
حَتَّى يُرْفَعَ مِنْ وَسَطِكُمُ الخ هذا الذي كان يُنتظر نشوءه من نوح الكنيسة الواجب كما ينتظر منها لو تفشى وبأ فيها فيجتهد الجميع في أزالته.
٣ – ٥ «٣ فَإِنِّي أَنَا كَأَنِّي غَائِبٌ بِٱلْجَسَدِ، وَلٰكِنْ حَاضِرٌ بِٱلرُّوحِ، قَدْ حَكَمْتُ كَأَنِّي حَاضِرٌ فِي ٱلَّذِي فَعَلَ هٰذَا، هٰكَذَا، ٤ بِٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ إِذْ أَنْتُمْ وَرُوحِي مُجْتَمِعُونَ مَعَ قُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٥ أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هٰذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ ٱلْجَسَدِ، لِكَيْ تَخْلُصَ ٱلرُّوحُ فِي يَوْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ».
كولوسي ٢: ٥ أعمال ٣: ٦ و١٦: ١٨ و٢تسالونيكي ٣: ٦ متّى ١٦: ١٩ و١٨: ١٨ ويوحنا ٢٠: ٢٣ و٢كورنثوس ٢: ١٠ و١٣: ٣ و١٠ أيوب ٢: ٦ ومزمور ١٠٩: ٦ وأعمال ٢٦: ١٨ و١تيموثاوس ١: ٢٠
في هذه الآيات الثلاث بيان ما كان يجب على الكنيسة أن تفعله في ما يتعلق بمرتكب الزنى والتصريح بما يجب عليها عند بلوغها رسالته وخلاصته «أن يُسلم مثل هذا الشيطان» وأبان بولس هنا أنه لا يشارك الكنيسة في فتورها وبطوئها في إجراء التأديب.
غَائِبٌ بِٱلْجَسَدِ، وَلٰكِنْ حَاضِرٌ بِٱلرُّوحِ كان بولس وهو يكتب هذه الرسالة في أفسس ولكن ذلك لم يمنعه من النظر والحكم في أمر المرتكب من أعضاء كنيسة كورنثوس. وقال أنه حاضر بالروح لمعرفته ما حدث فيها ولم يقصر ذلك على أنه يفكر فيهم ويهتم بنجاحهم. وكان له الحق والسلطان على أن يحكم بالتأديب المذكور ويدعو الكنيسة إلى إنقاذه مع غيابه عنهم. فقوله «حاضر بالروح» كقول أليشع «أَلَمْ يَذْهَبْ قَلْبِي حِينَ رَجَعَ ٱلرَّجُلُ مِنْ مَرْكَبَتِهِ لِلِقَائِكَ» (٢ملوك ٥: ٢٦). وقوله «فَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ غَائِباً فِي ٱلْجَسَدِ لٰكِنِّي مَعَكُمْ فِي ٱلرُّوحِ، فَرِحاً، وَنَاظِراً تَرْتِيبَكُمْ وَمَتَانَةَ إِيمَانِكُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ» (كولوسي ٢: ٥).
قَدْ حَكَمْتُ بدون أن أنتظر نبأ حكمكم وأحضر عندكم بالجسد.
هٰكَذَا أي الحكم المذكور في (ع ٥) وهو تسليم المرتكب للشيطان.
بِٱسْمِ رَبِّنَا (ع ٤) أي بالسلطان الذي أخذته منه باعتبار كوني رسوله ونائبه وحرف الجار متعلق «بحكمتُ». وفي هذا تصريح أن حكمه مبين على السلطان الذي أخذه من الرب (انظر أعمال ١٦: ١٨ و٢تسالونيكي ٣: ٦).
أَنْتُمْ وَرُوحِي مُجْتَمِعُونَ حسب أن أعضاء الكنيسة مجتمعون وأنه بينهم بالروح كأنهم أرباب مجلس نُظم للمحاكمة علناً ليرى الجميع عدل الحكم وكونه في محله ويصدقوه بحضورهم.
مَعَ قُوَّةِ… ٱلْمَسِيحِ إن قوة المسيح منحت الكنيسة والرسل سلطاناً على أن يحكموا وجعل حكمهم فعالاً وهذا على وفق قول المسيح في (متى ١٦: ١٩ و١٨: ١٨ و٢٠ و٢٨: ٢٠). وحكم بولس في المسئلة السابقة مبني على هذه الأقوال.
أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هٰذَا لِلشَّيْطَانِ (ع ٥) هذا يشير أولاً إلى قطعه من شركة الكنيسة وثانياً إلى جعله عرضة لمصاب جسدي يقع عليه إن لم يستفد من ذلك التأديب ويُقبل إلى التوبة. لأن إفرازه من ملكوت المسيح يستلزم دفعه إلى ملكوت الشيطان مع عواقبه.
ينسب الإنجيل أحياناً المصائب الجسدية إلى فعل الشيطان ومن أمثال ذلك المرأة المنحنية التي قال المسيح أنه «ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة» (لوقا ١٣: ١٦). وقال بولس أن مصيبته الجسدية هي «ملاك الشيطان ليلطمه» (٢كورنثوس ١٢: ٧). ويتضح من مقدمة سفر أيوب أن الله يأذن للشيطان في أن يكون آلة لضرب بعض الناس بالمصائب وأن ليس له قوة على غير ما سمح الله له أن يفعله إتماماً لمقاصده تعالى مع أن غاية الشيطان الوحيدة الشر أبداً. وفي العهد الجديد أن للرسل قوة خارقة الطبيعة على أن يمرضوا المتعدين أو يميتوهم قصاصاً لهم على خطاياهم ومن أمثلة ذلك إعماء عليم الساحر (أعمال ١٣: ٩) وإماتة حنانيا وصفيرة (أعمال ٥: ٥ – ١١). وقال بولس أنه أسلم هيمينايوس واسكندر للشيطان لكي يؤدبا (١تيموثاوس ١: ٢٠). وأبان أن الأمراض والوفيات كثيراً ما أصابت الذين اشتركوا في مائدة الرب بلا استحقاق (١كورنثوس ١١: ٣) وأُعطي الرسل تلك القوة تمكناً من بنيان الكنيسة ولا دليل على أنها بقيت بعد عصر الرسل في الكنيسة وهم لم يسلموا للشيطان إلا من كان يعمل أعمال الشيطان.
لِهَلاَكِ ٱلْجَسَدِ، لِكَيْ تَخْلُصَ ٱلرُّوحُ قصد الرسول من تسليم المرتكب للشيطان أن يؤول من إصابة طبيعته الجسدية بالمرض والألم منفعة طبيعته الروحية أي جذبه إلى التوبة وطهارة الحياة. وما قيل هنا بيان لغاية تأديب الكنيسة وهي أمران الأول التخلص مشاركة الخاطئ في خطيئته والثاني إصلاحه.
فِي يَوْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ حين يظهر ثانية بلا خطيئة للخلاص (عبرانيين ٩: ٢٨).
الظاهر أنه نتج من حكم الرسول ما قصده للكنيسة وللرجل والزاني لأن الكنيسة قطعته فتاب وأصلح سيرته (٢كورثنوس ٧: ٩١٢).
رأى بعض المفسرين أن حكم الرسل حقيقي وأن الرسول هو الذي أنقذه لأن الكنيسة غفلت عن واجباتها. ورأى بعضهم أنه فرض فرضاً لما يجب على الكنيسة قوة خارقة العادة لتضرب بالمصائب كالرسل.
الأمور الجوهرية في هذا الحكم ثلاثة:
- الأول: إن مصدر السلطة على قطع أحد من الكنيسة هو الرب يسوع.
- الثاني: إن الذي صرح بوجوب القطع وأمر بإجرائه هو الرسول.
- الثالث: إن الذي يجب عليه إجراء ذلك الحكم هو الكنيسة إما بجملتها وإما بنوابها.
٦ «لَيْسَ ٱفْتِخَارُكُمْ حَسَناً. أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ خَمِيرَةً صَغِيرَةً تُخَمِّرُ ٱلْعَجِينَ كُلَّهُ؟».
ص ٣: ٢١ و٤: ١٩ وع ٢ ويعقوب ٤: ١٦ ص ١٥: ٣٣ وغلاطية ٥: ٩ و٢تيموثاوس ٢: ١٧
لَيْسَ ٱفْتِخَارُكُمْ حَسَناً أي افتخارهم بحكمتهم والمواهب الروحية والمال وأشار إلى ذلك الافتخار في (ع ٢) فلم يُعن أنهم افتخروا بالزنى لأن مثل هذا الافتخار محال لكنهم افتخروا بأحوالهم الدينية أي بحكمتهم ومواهبهم الروحية وكمالهم مع أن الأحوال تدعوهم إلى الخجل والخوف من امتداد الشر من واحد إلى الجميع وأن تعثر الكنيسة كلها بعثرة واحد من أعضائها وتفسد.
أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ الخ لا ريب في أن الشر في امتداده كالخميرة فالشهوة تقود إلى الزنى والطمع إلى السرقة إذا لم يتب المرتكب عنها أماتت ضميره وفصلت بينه وبين الله وسدت طريق النعمة وفتحت الأبواب لارتكاب خطايا أخرى. وقول الرسول على امتداد الخطيئة في الأفراد لأنه إذا تعدى أحد شريعة الله ولم يوبخ ويؤدب اقتدى غيره به واستخف بالإثم فيها بلا تأديب قاد ذلك سائر أعضاء الكنيسة إلى مثل ارتكابه فضلاً عن إفساده صيت الكنيسة كلها.
٧ «إِذاً نَقُّوا مِنْكُمُ ٱلْخَمِيرَةَ ٱلْعَتِيقَةَ، لِكَيْ تَكُونُوا عَجِيناً جَدِيداً كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ. لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً ٱلْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا».
يوحنا ١٩: ١٤ إشعياء ٥٣: ٧ و يوحنا ١: ٢٩ وص ١٥: ٣ و١بطرس ١: ١٩ ورؤيا ٥: ٦ و١٢
نَقُّوا مِنْكُمُ ٱلْخَمِيرَةَ ٱلْعَتِيقَةَ لم يقصد الرسول مجرد قطع الزاني من الكنيسة فزاد عليه أن حثهم على تطهير أنفسهم من الخطيئة ولا سيما الزنى كما ذُكر في (ع ١) والشر والخبث كما جاء في (ع ٨). وشبه الخطيئة «بالخميرة» لما فيها من خاصة الامتداد وجعلها كل ما حولها مثلها. ونعتها «بالعتيقة» لملازمتها الطبيعة البشرية منذ السقوط ولأنها كانت فيهم قبل أن آمنوا. والطبيعة الفاسدة التي عبر عنها هنا «بالخميرة العتيقة» عبر عنها في رومية ٦: ٦ «بالإنسان العتيق». وأمرهم الرسول ببذل الاجتهاد في تطهير أنفسهم من فساد الخطيئة كما أمر اليهود في الشريعة الموسوية ببذل كل الجهد في تنقيته قبل عيد الفصح من خميرة الخبز (خروج ١٣: ٦ و٧).
لِكَيْ تَكُونُوا عَجِيناً جَدِيداً أي طاهرين متجددين باطناً وظاهراً.
كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ عبّر بالفطير عن القداسة كما عبّر بالخميرة عن فساد الطبيعة والمعنى أنتم المسيحيين مكلفون بأن تكونوا قديسين منقيّن من الخطيئة وكل تعلق بها ودعوة الله إياكم إلى القداسة وادعاؤكم أنكم مسيحيون يوجبان عليكم ذلك.
لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً ٱلْمَسِيحَ الخ دعا الرسول الكورنثيين إلى الطهارة اقتداء باليهود في ما كانوا يفعلون في عيد الفصح طوعاً للشريعة الموسوية فإنهم كانوا حين يذبحون خروف الفصح ينقون بيوتهم من كل خمير (خروج ١٢: ١٥). كذلك موت المسيح يوجب على المسيحيين أن ينقوا أنفسهم من كل خطيئة.
إن المسيح فصحنا لأنه نجانا من الموت الأبدي بسفك دمه على الصليب بدلاً عنا كما نجى دم خروف الفصح الإسرائيليين من الموت الذي وقع على المصريين. كان الدم الذي رشه الإسرائيليون على قوائم بيوتهم وعتباتها دم بهيمة وأما الدم الذي سُفك على الصليب فهو الدم الكريم دم يسوع «حمل الله الذي يرفع خطية العالم» وكانت النجاة بدم تلك البهيمة وقتية مختصة بالأمة اليهودية وأما النجاة بدم المسيح فأبدية عامة كل أمم الأرض. وقد ذُبح المسيح بدلاً عنا ليفدينا من كل إثم. فمن بقي يرتكب الخطيئة أثبت أن لا تعلق له بالمسيح وبفوائد موته.
٨ «إِذاً لِنُعَيِّدْ، لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ، وَلاَ بِخَمِيرَةِ ٱلشَّرِّ وَٱلْخُبْثِ، بَلْ بِفَطِيرِ ٱلإِخْلاَصِ وَٱلْحَقِّ».
خروج ١٢: ١٥ و١٣: ٦ تثنية ١٦: ٣ متّى ١٦: ٦ و١٢ ومرقس ٨: ١٥ ولوقا ١٢: ١
إِذاً أي نتيجة ما ذكر من أن يسوع فصحنا قد ذُبح من أجلنا.
لِنُعَيِّدْ هذا مجاز حقيقته طهارة السيرة والمواظبة على خدمة الله لا الأمر بحفظ الفصح اليهودي إذ ليس في الإنجيل من أمر بحفظ الأعياد اليهودية ولا شيء في موت المسيح بوجب علينا حفظ ذلك العيد ولا الأمر بممارسة العشاء الرباني إذ ليس في الآية أدنى إشارة إلى ذلك السر. فالمعنى لتكن حياتكم وقفاً لله كأنها عيد مقدس. اليهود عيّدوا الفصح سبعة أيام في كل سنة فعيدوه أنتم كل يوم أبداً. هم أوجب عليهم الامتناع عن الخمير وأنتم أوجب عليكم الامتناع عن الخطيئة.
لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ أي طبيعتكم غير المتجددة.
وَلاَ بِخَمِيرَةِ ٱلشَّرِّ وَٱلْخُبْثِ هذا من عطف المسبب على السبب لأن الإنسان في الطبيعة غير المتجددة عرضة للشر والخبث في هذا العالم عالم التجربة.
بِفَطِيرِ ٱلإِخْلاَصِ وَٱلْحَقِّ يجب أن يشتهر المسيحي يهاتين الصفتين في كل أفكاره وأقواله وأعماله كما اشتهر اليهود بأكل الفطير سبعة أيام (خروج ١٢: ١٥ و١٦). وذكر «الإخلاص والحق» في الحال الجديدة مقابلة للشر والخبث في الحال العتيقة. وكان الدليل المطلوب على كون هاتين الصفتين في كنيسة كورنثوس يومئذ قطع الإنسان الزاني منها.
٩ «كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ فِي ٱلرِّسَالَةِ أَنْ لاَ تُخَالِطُوا ٱلزُّنَاةَ».
ع ٢ و٢كورنثوس ٦: ١٤ وأفسس ٥: ١١ و٢تسالونيكي ٣: ١٤
كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ فِي ٱلرِّسَالَةِ ذهب بعض المفسرين أنه عنى بهذا كلاماً سبق من هذه الرسالة والذي يعارض هذا المذهب أنه ليس في ما سبق مثل هذا النهي. وذهب آخرون (ومذهبهم هو الأرجح) أنه أشار بذلك إلى رسالة مختصرة أرسلها قبلاً إليهم مقصورة على فائدتهم دون غيرهم من الكنائس ولذلك لم يعتن الروح القدس بأن تُحفظ. ولا عجب من أن يكون الرسول قد كتب كثيراً من الرسائل إلى ما أسسه من الكنائس الكثيرة إجابة على مسائل منها وبغية تعليمها وتعزيتها وأن تلك الرسائل أكثر من الرسائل الأربع عشرة التي بقيت لنا. ولكن لنا أن نؤكد أن للكنيسة الآن كل صحف الوحي التي قصد الله أن تبقى لتعليمها وبنيانها.
لاَ تُخَالِطُوا ٱلزُّنَاةَ الظاهر أن مؤمني كورنثوس أخطأوا فهم معنى الرسول بهذا النهي في رسالة قبل هذه الرسالة فأصلح الخطأ هنا لأنهم فهموا منه أن لا يجوز لهم أن يخالطوا فاجراً ومقصوده أن يعتزلوا الزاني وهو عضو في الكنيسة لا كل فاجر خارج الكنيسة. فلهم أن يخالطوه باعتبار أنه ابن مدينتهم وهذه غير مخالطة بعض أعضاء الكنيسة لبعض.
١٠ «وَلَيْسَ مُطْلَقاً زُنَاةَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ، أَوِ ٱلطَّمَّاعِينَ أَوِ ٱلْخَاطِفِينَ أَوْ عَبَدَةَ ٱلأَوْثَانِ، وَإِلاَّ فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا مِنَ ٱلْعَالَمِ».
ص ١٠: ٢٧ ص ١: ٢٠ يوحنا ١٧: ١٥ و١يوحنا ٥: ١٩
وَلَيْسَ مُطْلَقاً زُنَاةَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ لم يرد الرسول منعهم عن كل معاملة مع الزناة كأن لا يخاطبوهم ولا يشتروا منهم ولا يبيعوهم لأن ذلك محال لأنه اعتبر تلك المعاملة ضرورية مأمونة.
ٱلطَّمَّاعِينَ أي محبي المال الراغبين في تحصيله عدلاً أو ظلماً فهؤلاء يفضلون المال على رضى الله. وسمى الطمع «عبادة الأوثان» (أفسس ٥: ٥).
ٱلْخَاطِفِينَ الذين يظلمون الفقراء ويأخذون أكثر مما يحق لهم.
ٱلأَوْثَانِ أي الآلهة الكاذبة.
وَإِلاَّ فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا مِنَ ٱلْعَالَمِ يقول لو قصدت أن أمنعكم عن مخالطة مثل أولئك الناس كنت كأني آمركم بأن تسكنوا غير هذا العالم لأن أمثالهم في كل مكان من هذا العالم ولا يمكن أن نسكن هذه الأرض بدون مخالطتهم.
١١ «وَأَمَّا ٱلآنَ فَكَتَبْتُ إِلَيْكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ مَدْعُوٌّ أَخاً زَانِياً أَوْ طَمَّاعاً أَوْ عَابِدَ وَثَنٍ أَوْ شَتَّاماً أَوْ سِكِّيراً أَوْ خَاطِفاً، أَنْ لاَ تُخَالِطُوا وَلاَ تُؤَاكِلُوا مِثْلَ هٰذَا».
متّى ١٨: ١٧ ورومية ١٦: ١٧ و٢تسالونيكي ٣: ٦ و١٤ و٢يوحنا ١٠ غلاطية ٢: ١٢
وَأَمَّا ٱلآنَ فَكَتَبْتُ تفسيراً لما كتبته سابقاً.
إِنْ كَانَ أَحَدٌ مَدْعُوٌّ أَخاً أي هو يدّعي أنه مسيحي ودخل في شركة الكنيسة.
زَانِياً أَوْ طَمَّاعاً ادّعى مثل هذا أنه مسيحي وعلى ذلك اشترك في الكنيسة وأعلن أنه ترك الرذائل المذكورة وعمل بخلاف ما أعلن وبيّن أنه ليس أهلاً لأن يسمى مسيحياً ويكون عضواً في الكنيسة. فلا يحق أن يعامله أهل الكنيسة معاملة أخ موف لنذوره لأن معاملتهم إياه كذلك توهم أن الإنجيل لا يمنع من تلك الآثام وأنه يمكن الإنسان أن يرتكبها ويبقى معتبراً مسيحياً.
وَلاَ تُؤَاكِلُوا مِثْلَ هٰذَا لأن ذلك يوهم أنكم تعتبرونه أخاً مسيحياً ولأنكم تُعلنون بذلك أن ارتكاب الآثام لا يمنع من كون مرتكبها مسيحياً. والغاية من هذا تخجيل الخاطئ ليقبل إلى التوبة وإزالة تعيير الخوارج للكنيسة. وليس المقصود من تلك المؤاكلة المشاركة في تناول العشاء الرباني لأن منع هذا لازم عن قطعه من الكنيسة فالمراد بها المشاركة في تناول الطعام العادي. نعم إن المسيح أكل مع العشارين والخطأة لكنه لم يأت ذلك بناء على كونهم من تلاميذه بل ليأتي بهم إلى التوبة.
فإن قيل كيف يمكن «عابد وثن» ادعاء أنه أخ مسيحي قلنا أنه مع كونه مسيحياً بالإقرار تصرَّف تصرُّف الوثني بأكله في هيكل الأصنام ما ذُبح لها وبذلك استحق أن يُحسب وثنياً وقد فعل كذلك بعض أعضاء الكنيسة في كورنثوس (ص ١٠: ١٤ – ٢٢).
كانت ولائم الهياكل الوثنية في كورنثوس لا تخلو من الزنى فالذي يدخل تلك الولائم ففضلاً عن إكرامه للوثن لا يمكنه أن يعرّض نفسه لتجارب يجب على كل مسيحي الهرب منها.
١٢ «لأَنَّهُ مَاذَا لِي أَنْ أَدِينَ ٱلَّذِينَ مِنْ خَارِجٍ، أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ تَدِينُونَ ٱلَّذِينَ مِنْ دَاخِلٍ».
مرقس ٤: ١١ وكولوسي ٤: ٥ و١تسالونيكي ٤: ١٢ و١تيموثاوس ٣: ٧ ص ٦: ١ – ٤
أبان الرسول في هذه الآية علة أنه لم يوصهم شيئاً في شأن الذين هم من خارج الكنيسة وهي أن لا سلطان له على هؤلاء.
ٱلَّذِينَ مِنْ خَارِجٍ أي خارج الكنيسة (مرقس ٤: ١١ وكولوسي ٤: ٥ و١تسالونيكي ٤: ١٢).
أَنْتُمْ تَدِينُونَ ٱلَّذِينَ مِنْ دَاخِلٍ تصرف مؤمنو كورنثوس على هذا المبدإ وأدبوا المذنبين من أعضاء الكنيسة فإذاً كان يجب عليهم أن يعلموا أن قوله «لا تخالطوا الزناة» (ع ٩) مختص بمن هم من أعضاء الكنيسة.
١٣ «أَمَّا ٱلَّذِينَ مِنْ خَارِجٍ فَٱللّٰهُ يَدِينُهُمْ. فَٱعْزِلُوا ٱلْخَبِيثَ مِنْ بَيْنِكُمْ».
تثنية ١٣: ٥ و١٧: ٧ و٢١: ٢١ و٢٢: ٢١ و٢٢ و٢٤ و٢٤: ٧
فَٱللّٰهُ يَدِينُهُمْ فلله أن يدينهم لا للكنيسة فيدينهم اليوم بالحكم على أنهم ضالون ومذنبون ويدينهم في اليوم الأخير بمعاقبته إياهم فعلى الكنيسة أن تترك دينونتهم له.
فَٱعْزِلُوا ٱلْخَبِيثَ الخ الفاء تدل على أن هذا مفرع على ما سبق وهو أن لهم أن يدينوا ويؤدبوا مذنبي كنيستهم. والمطلوب أن يؤدبوا المذنب بمقتضى حكم الرسول في (ع ٣ – ٥) أي أن يقطعوه من الكنيسة. ولم يقل شيئاً من جهة تسليم جسده إلى الشيطان.
فوائد
- إنه يجب على الكنيسة أن تحافظ على صيتها وطهارتها بقطعها المذنبين من أعضائها. فإن شاع بين الناس أن أحد أعضائها يسلك على خلاف شريعة الله وعهده وجب أن تنظر في ذلك وتفحص فإن وجدته مذنباً عاقبته وهذا الفحص لا بد منه لدفع العار عن الكنيسة ولتبرير المتهم إذا كان بريئاً وللإتيان به إلى التوبة وإصلاح السيرة إذا كان مذنباً (ع ١).
- إنه كثيراً ما يفتخر الناس ولا موجب لافتخارهم. فافتخرت كنيسة كورنثوس وهي تاركة ما يجب عليها لنفسها ولله (ع ٢).
- إنه يتبيّن من هذا الأصحاح طريق إجراء الكنيسة تأديبها أي أن تؤدب بلا غضب ولا قساوة ولا انتقام ولا اضطهاد بل بالحزن على المؤدب وبطلب نفعه بالتأديب والرغبة في إزالة العار عن الكنيسة وأن تجري في كل ذلك بمقتضى كتاب الله (ع ٢).
- إن إجراء التأديب الكنسي منوط بالكنيسة أو بنوابها ويتبين هذا من توبيخ الرسول لكنيسة كورنثوس على أنها لم تؤدب ومن أمره إياها بالتأديب (ع ٣ – ٦ و١٣).
- إن الغاية من تأديب المذنب نفعه وحفظ طهارة الكنيسة ومجد الله (ع ٥).
- إنه ينتج ضرر عظيم من دخول خطيئة واحدة في الكنيسة والسكوت عنها فإنها تُفسد أخلاق الكنيسة فضلاً عن أنها تفسد صيتها (ع ٦).
- المسيح ينجي شعبه بكونه ذبيحة عنه كما نجى الإسرائيليين في مصر خروف الفصح المذبوح. نعم إننا نستفيد من تعليمه وسيرته ونتجدد بروحه القدوس ولكن فداءنا بدمه (ع ٧).
- (٨) إن الفداء بدم المسيح يستلزم تقديس المفدي وتطهير الكنيسة على وفق ما في (رومية ٦: ١١ و١بطرس ٢: ٩) وهذا يوجب على الكنيسة أن تؤدب المذنب وأن تتجنب كل أخ «يَسْلُكُ بِلاَ تَرْتِيبٍ، وَلَيْسَ حَسَبَ ٱلتَّعْلِيمِ الإنجيلي» (٢تسالونيكي ٣: ٦ ع ٨).
- إن الديانة المسيحية لا توجب علينا أن نترك العالم. ونقطع كل العلائق بيننا وبين سائر الناس إذ ليس في الإنجيل أمر بذلك. واعتزالنا أهل العالم كما ذكر لا يترك لنا سبيلاً إلى نفعهم نفساً أو جسداً وهذا التجنب يعرضنا لتجارب كثيرة. نعم يجب أن نتجنب كل مداخلة عالمية تضر بتقوانا وبنفعنا لغيرنا ونشين صيت الكنيسة (ع ١٠).
- إن الإنجيل يعد الطمّاع والشتام والسكير والخاطف مع الزناة وعبدة الأوثان وينهي المؤمنين عن مخالطتهم كأنهم من أعضاء الكنيسة إذ لم يحسبهم مسيحيين (ع ١١).
-
إن المذنبين من أهل العالم ليس للكنيسة أن تدينهم ولا أرباب الحكومة السياسية ما لم يرتكبوا ما يخالف حقوق السياسة وأمن الناس ولكنهم مع ذلك لا ينجون من دينونة الله (ع ١٢ و١٣).
السابق |
التالي |