كورنثوس الأولى

الرسالة الأولى إلى كورنثوس | 04 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الرابع

في بيان واجبات خدم الدين

مضمون هذا الأصحاح أنه يجب على الكنيسة أن تحسب مرشديها خدماً للمسيح يوزعون الحقائق المعلنة (ع ١). وأن أول واجباتهم الأمانة (ع ٢). وأن المسيح هو الديّان وأن حكم الناس في أمرهم لا شيء (ع ٣ – ٦). وما قاله بولس هنا على نفسه وعلى أبلوس يصدق على كل المبشرين وهو أنه لا يجوز أن تعتبرهم الكنيسة فوق ما يجب وأن تجعلهم رؤساء أحزاب (ع ٦ – ٨). وأن المعلمين الكذبة في كورنثوس ومن تبعهم حُسبوا أنهم ناجحون ومالوا إلى الترفه والإعجاب بالذات خلافاً للرسل فإنهم كانوا متضايقين ومهانين ومضطهدين (ع ٩ – ١٣) وغاية الرسول من ذلك لا أن يخجلهم بل أن ينصحهم كأب روحي (ع ١٤ و١٥). فكان عليهم أن يتمثلوا به ولهذا أرسل إليهم تيموثاوس ليذكرهم تعليمه وسيرته (ع ١٦ و١٧). وأبان لهم أنه سيزورهم وسألهم أذامّاً يريدون أن يأتيهم أم مادحاً (ع ١٨ – ٢١).

١ «هٰكَذَا فَلْيَحْسِبْنَا ٱلإِنْسَانُ كَخُدَّامِ ٱلْمَسِيحِ وَوُكَلاَءِ سَرَائِرِ ٱللّٰهِ».

متّى ٢٤: ٤٥ وص ٣: ٥ و٩: ١٧ و٢كورنثوس ٦: ٤ وكولوسي ١: ١٥ لوقا ١٢: ٤٢ وتيطس ١: ٧ و١بطرس ٤: ١٠

هٰكَذَا كما سبق في ص ٣.

فَلْيَحْسِبْنَا ٱلإِنْسَانُ أي ليعتبرنا أنا وأبلوس وسائر المبشرين كل منكم.

كَخُدَّامِ ٱلْمَسِيحِ لا رؤساء أحزاب تفتخرون بهم. وكونهم خداماً ينفي أن لهم سلطة ذاتية لأنهم مرسلون للقيام بالخدمة المعيّنة لهم.

وَوُكَلاَءِ سَرَائِرِ ٱللّٰهِ لتوزيع الحقائق التي أعلنها الله في إنجيله مما لا يستطيع أن يتوصل إليها العقل البشري من تلقاء نفسه (انظر تفسير ص ٢: ٧) وهي غنى نعمة الله (رومية ١٦: ٢٤). ولم يرد بالسرائر العشاء الرباني والمعمودية لمنافاة القرينة لذلك ولمنافاته لقول بولس «إن المسيح لم يرسلني لأعمد» (ص ١: ١٧).

مما يجب على الوكيل أن يعطي أهل البيت ما يحتاجون إليه (لوقا ١٢: ٤٢) كذلك يجب على الخدم الروحيين أن يعطوا الناس التعاليم والنصائح والإرشادات التي تحتاج إليها نفوسهم لإتمام واجباتهم على الأرض واستعدادهم للسماء. وعلى مثل هؤلاء مسؤولية عظيمة. ونستفيد من هذه الآية أمرين:

الأول: إنه ليس لقسوس الكنيسة سلطان ذاتي أو موروث على أن يأمروا الكنيسة بما شاءوا لأن سلطانهم كله من المسيح محدود مقصور على خدمة المسيح وكنيسته.

الثاني: إن الحقائق التي يجب عليهم أن يوزعوها هي ما أعلن الله بكلامه لا شيء مما اخترعوه أو أخذوه عن الناس.

٢ «ثُمَّ يُسْأَلُ فِي ٱلْوُكَلاَءِ لِكَيْ يُوجَدَ ٱلإِنْسَانُ أَمِيناً».

الصفة الخاصة التي تُطلب من الوكيل الأرضي هي الأمانة بالنظر إلى ما عليه من المسؤولية وإلى كون مال سيده في يده فيهون عليه أن ينفقه على نفسه خفية. وحصوله على كل الصفات الحسنة دونها لا يغني عنها. كذلك يطلب الله الأمانة من وكلائه الروحيين لئلا يؤخروا شيئاً من كل مشورة الله التي يجب أن يوزعوها على الكنيسة ولا يجوز أن يخلطوها بالآراء البشرية أو أن يقيموا حكمة الإنسان مقامها لأنها قوت الكنيسة الروحي. ويجب عليهم الأمانة لأن الذي عيّنهم هو المسيح وهو يحاسبهم في يوم الدين ولأن شرف المسيح اتساع ملكوته متوقفان على أمانتهم وكذلك خلاص النفوس الأبدي.

٣ «وَأَمَّا أَنَا فَأَقَلُّ شَيْءٍ عِنْدِي أَنْ يُحْكَمَ فِيَّ مِنْكُمْ أَوْ مِنْ يَوْمِ بَشَرٍ. بَلْ لَسْتُ أَحْكُمُ فِي نَفْسِي أَيْضاً».

ص ٣: ١٣

الذي يشعر بوجوب أن يكون أميناً يشعر بأن عليه مسؤولية لغيره. فمن يحكم بأمانة المبشرين أو خيانتهم. قال بولس أنه لا يعتبر الكورنثيين ولا العالم كله ولا نفسه أهلاً للحكم بأمانته أو خيانته بل المسيح كما صرّح في الآية الآتية.

فَأَقَلُّ شَيْءٍ عِنْدِي أَنْ يُحْكَمَ فِيَّ مِنْكُمْ قابله الكورنثيون بأبلوس وصفا وبعضهم فضلهما عليه. وقال بولس لا يهتم بآراء الكورنثيين في أمانته أو خيانته لأنهم لم يرسلوه ولم يأمروه بالتعاليم التي يعلمها فهو ليس بوكيلهم بل وكيل الله. وليس معناه أنه معصوم من الغلط ولا أنه لا يبالي بمحبة الناس أو بغضهم بل أنه اعتبر في تعليمه مدح الله ولومه إلى حد ظهر عنده مدح الناس ولومهم كلا شيء.

أَوْ مِنْ يَوْمِ بَشَرٍ أي من البشر يوم يحكمون فإن «يوم الرب» يوم دينونته «ويوم البشر» يوم دينونتهم. ولم يرَ بولس نفسه واقفاً في محكمة أعلى منها وهي محكمة الله على أنه لم يستخف بأحكامهم في غير هذا لعلمه أن الناس يحكمون في الدينيات بما يقتضيه تعصبهم وجهلهم حقائق الأمور وآراء الناس ولهذا كثر خطأ الناس في العقائد الدينية.

لَسْتُ أَحْكُمُ فِي نَفْسِي زاد هذا على ما قال دفعاً لأن يظن أحد أنه ادعى أنه قادر على الحكم في أمر نفسه وأنه يكتفي بمدح ضميره. ومثل هذا لا يسوغ للإنسان لأن كثيرين ظنوا أنهم أمناء وهم ليسوا كذلك. إن الضمير كثيراً ما يخطئ في الحكم إذا حكم في أعمال صاحبه ومقاصده فالذي يبصر عيوب غيره يعمى عن عيوب نفسه. فلم يركن بولس إلى حكمه في نفسه لمعرفته أنه غير كامل وأنه عرضة للخطإ والمحاباة ولذلك سلم القضاء في شأن نفسه إلى قاض معصوم وهو الله.

٤ «فَإِنِّي لَسْتُ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ فِي ذَاتِي. لٰكِنَّنِي لَسْتُ بِذَلِكَ مُبَرَّراً. وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي يَحْكُمُ فِيَّ هُوَ ٱلرَّبُّ».

أيوب ٩: ٢ ومزمور ١٣٠: ٣ و١٤٣: ٢ وأمثال ٢١: ٢ ورومية ٣: ٢٠ و٤: ٢

لَسْتُ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ فِي ذَاتِي أي ضميري لا يشكوني بالخيانة في القيام بواجباتي الرسولية ولا يخطئني. وهذا مثل قوله على نفسه لشيوخ أفسس في (أعمال ٢٠: ١٨ و١٩ و٢٦ و٢٧). وما يجب على كل مبشر استطاعه أن يقوله. ولم يعن الرسول أنه لا يخطأ بدليل قوله أنه «أول الخطأة» ولكن كلامه محصور في القيام بواجباته الرسولية.

لَسْتُ بِذَلِكَ مُبَرَّراً أي عدم شعوري بالخيانة ليس بدليل على أمانتي. قال هذا لأنه كان يشعر بأنه عرضة للخطإ في الحكم فيمكن الله أن يرى ما لا يراه من النقص في خدمته. وليس المراد هنا بالتبرير التبرير بالإيمان بل التبرئة من الخيانة في وكالته.

ٱلَّذِي يَحْكُمُ فِيَّ هُوَ ٱلرَّبُّ أي يسوع المسيح. إن حكم الرب حق وفصل لأنه يفحص القلب ويعرف الدواعي الموجبة للأعمال ولذلك اعتبر حكمه فوق حكم ضميره وسلم بكل تواضع بما يقتضي عليه به وبذلك نسب إلى المسيح الصفات المختصة بالله فأثبت أنه إله معبود.

٥ «إِذاً لاَ تَحْكُمُوا فِي شَيْءٍ قَبْلَ ٱلْوَقْتِ، حَتَّى يَأْتِيَ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي سَيُنِيرُ خَفَايَا ٱلظَّلاَمِ وَيُظْهِرُ آرَاءَ ٱلْقُلُوبِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ ٱلْمَدْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ ٱللّٰهِ».

متّى ٧: ١ ورومية ٢: ١ و١٦ و١٤: ٤ و١٠: ١٣ ورؤيا ٢٠: ١٢ ص ٣: ١٣ رومية ٢: ٢٩ و٢كورنثوس ٥: ١٠

إِذاً أي بناء على كون الله هو الديّان الوحيد وعلى كون الإنسان عرضة للخطإ في الحكم.

لاَ تَحْكُمُوا فِي شَيْءٍ قَبْلَ ٱلْوَقْتِ قفوا عن الحكم فيّ وفي أبلوس من جهة كوننا أهلاً للمدح أو للذم واتركونا إلى يوم الدين ولا تأخذوا لأنفسكم ما يختص بالله. وهذا على وفق قول الرب «لا تدينوا لئلا تدانوا» (متى ٧: ١).

حَتَّى يَأْتِيَ ٱلرَّبُّ ثانية فإنه في ذلك اليوم يقوم الموتى ويحضر للدينونة (متّى ٢٤: ٣٠ و٤٦ و٢بطرس ٣: ٤ و١٢).

ٱلَّذِي سَيُنِيرُ خَفَايَا ٱلظَّلاَمِ هذا بيان أن يوم مجيء الرب يوم مناسب للدينونة فالله حينئذ يعلن الأمور المكتوبة اليوم كأنها في الظلام وتبقى كذلك إلى أن يعلنها (انظروا رومية ٢: ١٦). وهذا الإعلان لا يستطيعه مخلوق لأن بعض تلك الخفايا لا يعرفها سوى أربابها وأكثرها نوايا القلوب. وغلب أن يراد في الكتاب المقدس «بخفايا الظلام» الأعمال الشريرة التي يرتكبها الناس ليلاً خيفة من أن يراها أحد وهي تنتج عن ظلام القلوب الأدبي كما جاء في (رومية ١٣: ١٢ وأفسس ٥: ١١). لكن لم يرد بها هنا سوى أنها مخفية عن الأنظار كما تدل القرينة.

آرَاءَ ٱلْقُلُوبِ أي غايات أربابها والدواعي الموجبة لها. وقال الرسول هذا تفسيراً «لخفايا الظلام».

إن أعمال المبشر الصالحة في الظاهر لا تثبت أمانته فالذي يثبتها هو النوايا التي نتجت عنها لأن أعمال الناس وكل آراء قلوبهم أمام الله والملائكة والبشر من أهول الأمر لكثيرين من الناس فيجب على الكل أن يكونوا مستعدين لذلك إذ لا بد منه.

إن فحص القلوب من الأعمال المختصة بالله وحده (مزمور ٢٦: ٢ وإرميا ١١: ٢٠ و٢٠: ١٢ ورؤيا ٢: ٢٣) ونُسب هنا إلى المسيح فتبين أنه الله.

حِينَئِذٍ أي في يوم الرب لا قبله لأنه لا يعلن كل الأمور التي يُبنى عليها الحكم إلا فيه فإن الكورنثيين حكموا في بولس قبل أن يمكنهم الوقوف على صحة أمانته أو خيانته.

ٱلْمَدْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ أي كل خادم أمين ينال المدح الذي يستحقه وأعظمه قوله «نعماً أيها العبد الصالح الأمين».

مِنَ ٱللّٰه كون ذلك المدح منه تعالى يستلزم السعادة الأبدية لممدوحيه فكل مظلوم يُنصف أمام الخالق ولا اعتبار لآراء الناس في حكم الديان الأزلي. ولا شيء مما قيل هنا ينافي ما قيل في غير موضع أن يسوع هو الديان لأن الله عيّنه كذلك ويحكم به (أعمال ١٠: ٤٢ و١٧: ٣١ ورومية ٢: ١٦). ولا منافاة بين ما هنا وما في مواضع أخرى من وجوب أن تفحص الكنيسة عن سيرة أعضائها وتعليمهم وتحكم بقبولهم أو رفضهم لأنه قال أن الكنيسة لا تحكم في آراء القلوب وأسرارها لتعرف أمخلصون هم أم مراؤون. ولكن إن طلب أحد أن يكون عضواً في الكنيسة وادعى أنه مؤمن مع أن ينكر بعض حقائق الدين المسيحيي الجوهرية فالكنيسة قادرة أن تحكم من كلامه بعدم أهليته لذلك (تيطس ٣: ١٠) وإن كانت أعماله لا تنطبق على القواعد الأدبية فعلى الكنيسة أن ترفضه كما أبان في (ص ٥: ١ – ٥).

٦ «فَهٰذَا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ حَوَّلْتُهُ تَشْبِيهاً إِلَى نَفْسِي وَإِلَى أَبُلُّوسَ مِنْ أَجْلِكُمْ، لِكَيْ تَتَعَلَّمُوا فِينَا أَنْ لاَ تَفْتَكِرُوا فَوْقَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ، كَيْ لاَ يَنْتَفِخَ أَحَدٌ لأَجْلِ ٱلْوَاحِدِ عَلَى ٱلآخَر».

ص ١: ١٢ و٣: ٤ رومية ١٢: ٣ وص ١: ١٩ و٣١ و٣: ١٩ ص ١: ١٢ و٣: ٤ و٢١ و٥: ٢ و٦

فَهٰذَا أي ما كتبته في شأن المبشرين من أنهم خدم وأنهم غير أهل لأن يكونوا رؤوساً.

حَوَّلْتُهُ تَشْبِيهاً إِلَى نَفْسِي أي أشرت لفظاً إلى نفسي وإلى أبلوس (ص ٤: ٥ و٦ و٢٢). واستعمل الرسول هنا التعريض تلطفاً ودفعاً لغيظ المخاطبين. وكثيراً ما يأتي الناس هذا الأسلوب فينسبون أمراً إلى زيد وعمر وقصدهم نسبته إلى الجمهور كما نسب بولس ما ذُكر إلى نفسه وإلى أبلوس ومراده نسبته إلى كل المبشرين.

مِنْ أَجْلِكُمْ لأفيدكم دون أن تتألموا.

لِكَيْ تَتَعَلَّمُوا فِينَا أي لتستفيدوا كلكم بما نسبته إلىّ وإلى أبلوس من كوننا خادمين وآلتين في يد الله ولسنا بشيء بالنسبة إلى الله وما شاكل ذلك.

أَنْ لاَ تَفْتَكِرُوا فَوْقَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ أي لكي تحكموا بالصواب في أمر خدم الدين (رومية ١٢: ٣). لم يقتبس الرسول آية واحدة من الكتاب المقدس ليبيّن للكورنثيين كيف يجب أن يعتبروا أولئك الخدم بل أشار إلى كل تعليم العهد القديم المتعلق بمقامهم وبما يجب على الناس في شأنهم وبإعطاء المجد لله لا لهم. وخلاصة ذلك التعليم في (إرميا ٩: ٢٣ و٢٤). واقتبس بولس بعض ذلك في (ص ١: ٣١) وجاء بمثله في (ص ٣: ٥ – ٩) والآية الأولى من هذا الأصحاح.

كَيْ لاَ يَنْتَفِخَ أَحَدٌ الخ أي لئلا يفتخر أتباع أبلوس على أتباع بولس ولا أتباع بولس على أتباع صفا وينشأ من ذلك الحسد والخصومة والتحزب. أنذرهم بولس من مثل ذلك ونصح لهم أن يعتبروا غيرهم من المسيحيين إخوة وأن يتضعوا.

٧ «لأَنَّهُ مَنْ يُمَيِّزُكَ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ، فَلِمَاذَا تَفْتَخِرُ كَأَنَّكَ لَمْ تَأْخُذْ؟».

يوحنا ٣: ٢٧ ويعقوب ١: ١٧ و١بطرس ٤: ١٠

أبان في هذه الآية علة نهيه المعلم والمتعلم عن الانتفاخ والإعجاب بالنفس فإن كل ما حصل عليه الإنسان من العلم أو الفضيلة هو هبة من الله فلم يبق له سبيل إلى الافتخار.

مَنْ يُمَيِّزُكَ أي من جعل أحدكم يمتاز على الآخر. وفي هذا السؤال إشارة إلى أن بعض الكورنثيين ادعوا الأفضلية على غيرهم بالمواهب والتقوى والمعرفة وافتخروا بذلك وأبان أن كلا من ادعائهم وافتخارهم باطل لأن المميز (مع التسليم بالتمييز المدعى) هو الله.

وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ أي لا شيء لك لم تأخذه لأن كل قوى الإنسان وفضائله ومكتسباته الجسدية والعقيلة والروحية من الله لا منه. وهي توجب عليه الشكر له لا الإعجاب بالنفس. ويصدق ذلك على ما أحرزه الإنسان بالدرس والاجتهاد لأن الله هو الذي وهب له الوسائط وأنجحه بها. إن بولس لم يتوان في تمرين قواه لكنه مع ذلك قال «بنعمة الله أنا ما أنا» (١كورنثوس ١٥: ١٠).

٨ «إِنَّكُمْ قَدْ شَبِعْتُمْ! قَدِ ٱسْتَغْنَيْتُمْ! مَلَكْتُمْ بِدُونِنَا! وَلَيْتَكُمْ مَلَكْتُمْ لِنَمْلِكَ نَحْنُ أَيْضاً مَعَكُمْ!».

رؤيا ٣: ١٧

في هذه الآية تهكم بيّن حمل الرسول عليه كبرياء المعلمين المفسدين وأتباعهم وقد أتى مثل ذلك غيره من بعض كتبة الكتاب بياناً لجهل عبدة الأوثان. ومثال ذلك قول إيليا النبي لكهنة بعل (١ملوك ١٨: ٢٧). وغايته من ذلك إقناعهم ببطلان دعواهم وردهم عنها بمقابلتها بأتعاب الرسل ومشقاتهم.

إِنَّكُمْ قَدْ شَبِعْتُمْ أي اكتفيتم بما حصلتم عليه من البركات الروحية كمعرفة الله وطريق الخلاص فلا حاجة لكم بعد إلى أن تجوعوا وتعطشوا إلى البر.

قَدِ ٱسْتَغْنَيْتُمْ! أي أنكم فضلاً عن أنكم شبعتم رأيتهم وفرة كنوز الحكمة والنعمة عندكم حتى لا تحتاجوا إلى ذلك في المستقبل.

مَلَكْتُمْ فوق شبعكم واستقنائكم فظننتم أن مكلوت المسيح قد أتى بمجده وأنكم استوليتم على أفراحه وبلغتم أعلى درجات النعمة الروحية وصرتم كاملين مستغنين عن كل معلم ومساعد.

بِدُونِنَا أي بلغتم كل ما ذُكر من الشبع والاستغناء والملك من تلقاء أنفسكم بدون مساعدة الرسل وتعليمهم وإرشادهم فلم تفتقروا إلى نصحنا ولم تعتبروا سلطاننا.

لَيْتَكُمْ مَلَكْتُمْ أي أتمنى لو كان وهمكم حقيقة وإن ملكوت المسيح أتى بالمجد والسعادة وأنكم حصلتم على كمال القداسة وأحرزتم كل البركات الروحية حتى صرتم ملوكاً في عدم حاجتكم إلى شيء وهذه طلبة قلبية لا تهكميّة كالذي قبلها ولكن فيها إشارة على بطلان وهمهم.

لِنَمْلِكَ نَحْنُ أَيْضاً مَعَكُمْ أي لنشارككم في المجد والبركات المتعلقة بمجيء المسيح ثانية لأن للرسل أن ينتظروا هذه المشاركة.

٩ «فَإِنِّي أَرَى أَنَّ ٱللّٰهَ أَبْرَزَنَا نَحْنُ ٱلرُّسُلَ آخِرِينَ، كَأَنَّنَا مَحْكُومٌ عَلَيْنَا بِٱلْمَوْتِ. لأَنَّنَا صِرْنَا مَنْظَراً لِلْعَالَمِ، لِلْمَلاَئِكَةِ وَٱلنَّاسِ».

مزمور ٤٤: ٢٢ ورومية ٨: ٣٦ وص ١٥: ٣٠ و٣١ و٢كورنثوس ٤: ١١ و٦: ٩ عبرانيين ١٠: ٣٣

أبان في هذه الآية علة تمنيه مجيء المسيح والملك معه لما كان عليه هو وسائر الرسل من سوء الحال المباينة لأحوال الملوك كل المباينة.

ٱللّٰهَ أَبْرَزَنَا نَحْنُ ٱلرُّسُلَ آخِرِينَ أي جعلنا منظراً للعالم كأننا أدنى الناس وأشقاهم.

كَأَنَّنَا مَحْكُومٌ عَلَيْنَا بِٱلْمَوْتِ أي كمجرمين حُكم عليهم بالإعدام وحرموا من كل تسلية وعزاء.

صِرْنَا مَنْظَراً لِلْعَالَمِ، لِلْمَلاَئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أي عجب الناظرون من شدة بلايانا. فإن بعض الناس في تلك الأيام عُرضوا للموت في مشهد عظيم على أقبح أسلوب إذ اضطروا أن يقاتل بعضهم بعضاً أو أن يقاتلوا الوحوش إلى أن يفنوا. ومثل هذا قال بولس إن أرزاء الرسل صارت منظراً لكل خلايق الله لكي يندهشوا بعظمتها وغرابتها.

١٠ «نَحْنُ جُهَّالٌ مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسِيحِ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحُكَمَاءُ فِي ٱلْمَسِيحِ! نَحْنُ ضُعَفَاءُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَقْوِيَاءُ! أَنْتُمْ مُكَرَّمُونَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَبِلاَ كَرَامَةٍ!».

أعمال ١٧: ١٨ و٢٦: ٢٤ وص ١: ١٨ الخ و٢: ٣ و١٤ و٣: ١٨ ٢كورنثوس ١٣: ٩

في هذه الآية والآيات التي بعدها شرح الرسول سوء حال الرسل وقابلها بحال من توهم من الكورنثيين أنهم صاروا إلى حال السعادة ولا سيما ما توهمه من فيهم من كذبة المعلمين. وفي هذه تهكم محض كأنه قال ما أعظم الفرق بيننا وبينكم أنكم على الدرجة الأولى من السعادة ونحن في الدركة السفلى من الشقاء.

نَحْنُ جُهَّالٌ مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسِيحِ أنتم تعتبروننا وكذا يعتبرنا العالم غير مستحقين أن يوثق بنا وأن يُتعلم منا ونحن الرسل الذين أسسوا كنيستكم. وهذا كل ما نتج لنا إلى الآن من اتحادنا بالمسيح وغيرتنا في خدمته.

وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحُكَمَاءُ فِي ٱلْمَسِيحِ ترون أن اتحادكم بالمسيح جعلكم حكماء مستغنين عن كل تعليم وكذا رأى أتباعكم فيكم. فأنتم ربحتم الحكمة ونحن ربحنا الجهل.

نَحْنُ ضُعَفَاءُ يتهمنا البعض بالضعف ونحن نشعر بذلك وشعورنا بالضعف يلجئنا إلى العياذ بقوة الله.

أَمَّا أَنْتُمْ فَأَقْوِيَاءُ حسب رأيكم ورأي أتباعكم.

أَنْتُمْ مُكَرَّمُونَ، وَأَمَّا نَحْنُ الخ تحسبون أنكم تستحقون الكرامة وإننا نستحق الهوان وأنتم وأتباعكم جارون على هذا السبيل.

١١ «إِلَى هٰذِهِ ٱلسَّاعَةِ نَجُوعُ وَنَعْطَشُ وَنَعْرَى وَنُلْكَمُ وَلَيْسَ لَنَا إِقَامَةٌ».

٢كورنثوس ٤: ٨ و١١: ٢٣ – ٢٧ وفيلبي ٤: ١٢ أيوب ٢٢: ٦ ورومية ٨: ٣٥ أعمال ٢٣: ٢

إِلَى هٰذِهِ ٱلسَّاعَةِ أبان هنا أن ضيقات الرسل لم تنحصر في الأيام الماضية وأنها لم تزل إلى حين كتب هذه الرسالة وأنها تبقى ما دام الكورنثيون في مسرّة وانتصار.

نَجُوعُ… وَنُلْكَمُ احتمل الرسل الجوع والعطش وغيرها من النوازل لكي يبشروا بالمسيح مصلوباً ولذلك حسبهم الناس لا شيء. أما المعلمين الكذبة فلم يعرضوا أنفسهم إلى مثل تلك الضيقات بل شبعوا واستغنوا وملكوا (ع ٨).

لَيْسَ لَنَا إِقَامَةٌ حُرموا بجولانهم من مكان إلى مكان للمناداة بالإنجيل وهربهم من الاضطهاد اللذات البيتية والمسرات الوطنية فكانوا غرباء ونزلاء.

١٢، ١٣ «١٢ وَنَتْعَبُ عَامِلِينَ بِأَيْدِينَا. نُشْتَمُ فَنُبَارِكُ. نُضْطَهَدُ فَنَحْتَمِلُ. ١٣ يُفْتَرَى عَلَيْنَا فَنَعِظُ. صِرْنَا كَأَقْذَارِ ٱلْعَالَمِ وَوَسَخِ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ٱلآنَ».

أعمال ١٨: ٣ و٢٠: ٣٤ و١تسالونيكي ٢: ٩ و٢تسالونيكي ٣: ٨ و١تيموثاوس ٤: ١٠ متّى ٥: ٤٤ ولوقا ٦: ٢٨ و٢٣: ٢٤ وأعمال ٧: ٦٠ ورومية ١٢: ١٤ و٢٠ و١بطرس ٢: ٣٢ و٣: ٩ مراثي إرميا ٣: ٤٥

نَتْعَبُ عَامِلِينَ بِأَيْدِينَا كان بولس يعمل في صناعة الخيام يقوت بذلك نفسه ومن معه (ص ٩: ٦ وأعمال ١٨: ٣ و٢٠: ١٧ – ٣٨ و٢كورنثوس ١١: ٧ و١تسالونيكي ٢: ٨ و٢تسالونيكي ٣: ٨).

صرّح الرسول بأن على الكنيسة أن تعوله (ص ٩: ١٥) لكنه لم يطلب منهم ذلك.

نُشْتَمُ فَنُبَارِكُ كما أمر المسيح في (متى ٥: ٣٩ و٤٤) فكانوا يجزون عن الشر خيراً وعن اللعنة بركة.

نُضْطَهَدُ فَنَحْتَمِلُ فإن أعداءهم زادوا على الشتائم الأضرار فاحتملوا ذلك بلا شكوى ولا مقاومة.

يُفْتَرَى عَلَيْنَا فَنَعِظُ ينسبون إلينا غايات رديئة من كل أعمالنا فنجيبهم بكلمات لطيفة مفيدة مقتدين بالذي «إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضاً وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ» (١بطرس ٢: ٢٣).

صِرْنَا كَأَقْذَارِ ٱلْعَالَمِ أي صرنا إلى غاية الهوان والدناءة في سبيل خدمة المسيح والكنيسة.

إِلَى ٱلآنَ هذا كقوله إلى هذه الساعة في (ع ١١). وكان استمرار هذا البلاء واتصاله مما زاد شقاءهم وألمهم.

١٤ «لَيْسَ لِكَيْ أُخَجِّلَكُمْ أَكْتُبُ بِهٰذَا، بَلْ كَأَوْلاَدِي ٱلأَحِبَّاءِ أُنْذِرُكُمْ».

١تسالونيكي ٢: ١١

هذه الآية وما بعدها إلى الآية الحادية والعشرين بيان غاية الرسول من توبيخه الكورنثيين وفي إرساله تيموثاوس إليهم.

لَيْسَ لِكَيْ أُخَجِّلَكُمْ أي لا أقصد تخجيلكم بمقابلتي أحوالكم بأحوالنا وإظهاري أنكم مستريحون وإنا متألمون.

أَكْتُبُ بِهٰذَا أي الأسلوب الذي جرى عليه من (ع ٨ – ١٣).

كَأَوْلاَدِي ٱلأَحِبَّاءِ أُنْذِرُكُمْ أي أقصد تنبيه ضمائركم وتعليمكم وتحذيركم لتتوبوا إلى الله وتحسنوا أعمالكم كما يقصد الوالد منفعة أولاده بتوبيخه إياهم.

١٥ «لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَكُمْ رَبَوَاتٌ مِنَ ٱلْمُرْشِدِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ، لٰكِنْ لَيْسَ آبَاءٌ كَثِيرُونَ. لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ بِٱلإِنْجِيلِ».

أعمال ١٨: ١١ ورومية ١٥: ٢٠ وص ٣: ٦ وغلاطية ٤: ١٩ وفليمون ١٠ ويعقوب ١: ١٨

أبان هنا حقه أن يخاطب الكورنثيين مخاطبة الآب لأولاده لأنه كان أباهم الروحي.

رَبَوَاتٌ مِنَ ٱلْمُرْشِدِينَ أي كثيرون لا يحصون.

فِي ٱلْمَسِيحِ هذا في الأصل اليوناني متعلق بحال من الضمير في «لكم» أي حال كونكم في المسيح أو مسيحيين.

لٰكِنْ لَيْسَ آبَاءٌ كَثِيرُونَ روحيون. مراده بذلك أنه ليس لهم من الآباء الروحيين سواه. وهو لم يدع لنفسه شيئاً من حقوق الأبوة الإلهية بذلك كما يتضح من القرينة.

لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ أشار بهذا إلى أن الفرق بينه وبين سائر المرشدين أنه هو الذي كان واسطة إيمانهم بالمسيح وتجديد قلوبهم ولم يمجد نفسه بذلك شيئاً لأنه لم يحسب أنه سوى آلة في يد المسيح.

بِٱلإِنْجِيلِ أي بمناداتي به لكم لأن «الإنجيل قوة للخلاص» (رومية ١: ١٦ انظر أيضاً يعقوب ١: ١٨ و١بطرس ١: ٢٣).

إن وسائط تنور القلوب وتجددها ثلاث:

  • الأولى: المسيح وهو العلة الفعالة ويفعل بروحه القدوس.
  • الثانية: المبشرون الذين ينادون بالإنجيل.
  • الثالثة: كلام الله الذي هو الآلة. وقصد الله أن تقترن هذه الثلاث على الدوام لكن الضروري منها الأولى والثانية والثالثة لا يجوز الاجتهاد في الاستغناء عنها لأنه يندر أن يصير الحصاد الروحي حيث لم يزرع بولس ويسق أبلوس. ولا ننكر بذلك قدرة الله على تخليص الناس بواسطة كلمته وروحه وأنه يفعل كذلك أوقاتاً.

١٦ «فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي».

ص ١١: ١ وفيلبي ٣: ١٧ و١تسالونيكي ١: ٦ و٢تسالونيكي ٣: ٩

فَأَطْلُبُ لأني أبوكم الروحي وأنتم واثقون بإخلاص حبي لكم ورغبتي في نفعكم.

مُتَمَثِّلِينَ بِي سائرين سيرتي وناهجين منهجي في التعليم.

لم يرد أن يحملهم على التحزّب له دون أبلوس وصفا بل على التمثل به في التواضع وإنكار الذات والاجتهاد بغية نفع الغير وهذا كقوله «كونوا متمثلين بي كما أنا أيضاً بالمسيح» (ص ١١: ١ انظر ١تسالونيكي ١: ٦ و٢: ١٤ وأفسس ٥: ١).

١٧ «لِذٰلِكَ أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ تِيمُوثَاوُسَ، ٱلَّذِي هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ وَٱلأَمِينُ فِي ٱلرَّبِّ، ٱلَّذِي يُذَكِّرُكُمْ بِطُرُقِي فِي ٱلْمَسِيحِ كَمَا أُعَلِّمُ فِي كُلِّ مَكَانٍ فِي كُلِّ كَنِيسَةٍ».

أعمال ١٩: ٢٢ وص ١٦: ١٠ وفيلبي ٢: ١٩ و١تسالونيكي ٣: ٢

لِذٰلِكَ أي لتقدروا على التمثل بي وتتذكروا سيرتي وتعليمي لأني لا أستطيع زيارتكم الآن.

أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ تِيمُوثَاوُسَ هذا موافق لقوله في (ص ١٦: ١٠) وقول لوقا أنه أرسل أرسطوس وتيموثاوس في طريق مكدونية (أعمال ١٩: ٢١) وأنه هو ذهب إلى كورنثوس مرتين في تلك الطريق.

ٱلَّذِي هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ انظر تفسير (أعمال ١٤: ٦). وكان تيموثاوس ابنه بمعنى كون الكورنثيين أولاده لأنه ولده في المسيح (ع ١٥ و١تيموثاوس ١: ٢ و١٨ و٢تيموثاوس ١: ١ و٢). وكان رفيقاً لبولس في أسفاره ومساعداً له وأهلاً للنيابة عنه.

وَٱلأَمِينُ في خدمة المسيح وإنجيله وهذا علة ثانية لكي يثقوا به.

فِي ٱلرَّبِّ هذا متعلق بحال من «ابني» وهو بيان لروحية النسبة بينهما.

ٱلَّذِي يُذَكِّرُكُمْ الظاهر أنهم نسوا ما كان يجب أن يذكروه.

بِطُرُقِي فِي ٱلْمَسِيحِ أي أسلوب خدمتى الإنجيلية باعتبار كوني رسولاً ومعلماً. وهو أنه كان متواضعاً بينهم أميناً لله منكراً لنفسه. وكان تيموثاوس قادراً على ذلك بشهادة الرسول له بقوله «أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ تَبِعْتَ تَعْلِيمِي، وَسِيرَتِي، وَقَصْدِي، وَإِيمَانِي، وَأَنَاتِي، وَمَحَبَّتِي، وَصَبْرِي، وَٱضْطِهَادَاتِي، وَآلاَمِي» (٢تيموثاوس ٣: ١٠ و١١).

كَمَا أُعَلِّمُ فِي كُلِّ مَكَانٍ الخ كان سلوك بولس وتعليمه واحداً في كل مكان بشر فيه فلم يعلّم في كورنثوس تعليماً جديداً أو يسلك بينهم سلوكاً معيناً بل فعل هنا كما فعل في أفسس وأنطاكبة وغيرها من الأماكن. وقدر تيموثاوس أن يشهد بذلك لأنه رافقه في سفره واستطاع أن يبرره مما اتهمه به أعداؤه.

١٨ «فَٱنْتَفَخَ قَوْمٌ كَأَنِّي لَسْتُ آتِياً إِلَيْكُمْ».

ص ٥: ٢

الذين انتفخوا هم المعلمون المفسدون المتكبرون المعجبون بأنفسهم. وهم اجتهدوا بطرق كثيرة أن يبطلوا سلطان بولس الرسولي وشككوا الناس في رسوليته (ص ٩: ١ – ٣ و٢كورنثوس ١٢: ١٢). وشكوه بالخفة والتقلب في الرأي (٢كورنثوس ١: ١٧) وقالوا أنه ضعيف الجسد حقير الكلام (٢كورنثوس ١٠: ١٠). والظاهر أنهم قالوا أن بولس لا يتجاسر أن يأتي إلى كورنثوس فأرسل تيموثاوس.

١٩ «وَلٰكِنِّي سَآتِي إِلَيْكُمْ سَرِيعاً إِنْ شَاءَ ٱلرَّبُّ، فَسَأَعْرِفُ لَيْسَ كَلاَمَ ٱلَّذِينَ ٱنْتَفَخُوا بَلْ قُوَّتَهُمْ».

أعمال ١٩: ٢١ وص ١٦: ٥ و٢كورنثوس ١: ١٥ و٢٣ أعمال ١٨: ٢١ ورومية ١٥: ٣٢ وعبرانيين ٦: ٣ ويعقوب ٤: ١٥

سَآتِي إِلَيْكُمْ (قابل هذا بما في ص ١٦: ٥ – ٧) ذكر أنه أتى إليهم في (أعمال ٢٠: ٢).

إِنْ شَاءَ ٱلرَّبُّ اتخذ المسيح ربه الذي في يده كل أعمال العناية وسر بالخضوع له.

سَأَعْرِفُ لَيْسَ كَلاَمَ ٱلَّذِينَ ٱنْتَفَخُوا بَلْ قُوَّتَهُمْ أي فاعلم أتوافق أعمالهم أقوالهم. وعد المسيح رسله بنيل قوة من السماء على أثر صعوده وذكر بولس حصوله على مثل هذه القوة بقوله «أَنَّ إِنْجِيلَنَا لَمْ يَصِرْ لَكُمْ بِٱلْكَلاَمِ فَقَطْ، بَلْ بِٱلْقُوَّةِ أَيْضاً، وَبِالرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَبِيَقِينٍ شَدِيدٍ» (١تسالونيكي ١: ٥). وكتب إلى أهل رومية «لأَنِّي لاَ أَجْسُرُ أَنْ أَتَكَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ ٱلْمَسِيحُ بِوَاسِطَتِي لأَجْلِ إِطَاعَةِ ٱلأُمَمِ، بِٱلْقَوْلِ وَٱلْفِعْلِ، بِقُوَّةِ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ، بِقُوَّةِ رُوحِ ٱللّٰهِ» (رومية ١٥: ١٨ و١٩). فالمسيح أعطى تلك القوة الرسل وبعض المبشرين الأولين لإخضاع العالم له ولهدم حصون الشيطان وهي نتيجة سكن الروح القدس فيهم بطريق غير معتادة وظهرت مراراً بالمعجزات والتكلم بألسنة غريبة وتأثير كلامهم في قلوب السامعين وباقتدراهم على تعليم الكنيسة وسياستها. فخلوّ أولئك المعلمين من تلك القوة دليل على خلوهم من ذلك الروح وأن الله لم يعينهم للخدمة الدينية وبهذا يعلم أن أعمالهم ليست موافقة لأقوالهم.

٢٠ «لأَنَّ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ لَيْسَ بِكَلاَمٍ، بَلْ بِقُوَّةٍ».

متّى ٣: ٢ و٤: ١٧ ومرقس ١: ١٤ ورومية ١٤: ١٧ ص ٢: ٤ و١تسالونيكي ١: ٥

مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ المراد بهذا الملكوت هنا سلطان الله الروحي في نفس الإنسان في قول المسيح «ملكوت الله داخلكم» (لوقا ١٧: ٢١). وقول بولس «لَيْسَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ أَكْلاً وَشُرْباً، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (رومية ١٤: ١٧).

لَيْسَ بِكَلاَمٍ، بَلْ بِقُوَّةٍ أي أن دين المسيح الحق لا يقوم بمجرد الادعاء والاعتراف باللسان بل بتغيير القلب وإصلاح السيرة فأولئك المنتفخون لا يستطيعون احتمال الامتحان فيظهر بطل دعواهم.

٢١ «مَاذَا تُرِيدُونَ؟ أَبِعَصاً آتِي إِلَيْكُمْ أَمْ بِٱلْمَحَبَّةِ وَرُوحِ ٱلْوَدَاعَةِ؟».

٢كورنثوس ١٠: ٢ و١٣: ١٠

كان بولس يتأهب للذهاب إلى كورنثوس بسلطان رسول أب روحي فلم يخش زيارتهم كما افترى أعداؤه وكان له حق في تأديبهم وقدرة عليه كما يتبين من قوله «مُسْتَعِدِّينَ لأَنْ نَنْتَقِمَ عَلَى كُلِّ عِصْيَانٍ، مَتَى كَمَلَتْ طَاعَتُكُمْ» وقوله «أَكْتُبُ لِلَّذِينَ أَخْطَأُوا مِنْ قَبْلُ، وَلِجَمِيعِ ٱلْبَاقِينَ: أَنِّي إِذَا جِئْتُ أَيْضاً لاَ أُشْفِقُ» (٢كورنثوس ١٠: ٦ و١٣: ٢).

مَاذَا تُرِيدُونَ؟ ترك لهم أن يختاروا أن يأتيهم موبخاً أو معزياً أو والداً حنوناً. والذي عُلم أنه فضل أن يأتيهم بالمحبة لا بالعنف.

أَبِعَصاً العصا هنا علامة السيادة والسلطان على التأديب ولعله قصد بالعصا شدة التوبيخ باسم المسيح.

أَمْ بِٱلْمَحَبَّةِ وَرُوحِ ٱلْوَدَاعَةِ يمكن أنه أراد بروح الوداعة الروح القدس لأنه الوديع المنشئ الوداعة في المؤمنين كما أُريد بروح الحكمة وروح الحق والتبني والمحبة والخوف (يوحنا ١٤: ١٧ و١٥: ٢٦ و١٦: ١٣ ورومية ١: ٤ و٨: ١٥ و٢كورنثوس ٤: ١٣ وأفسس ١: ١٧) وعلى هذا يكون معنى السؤال أتريدون أن آتي مقوداً بالروح القدس لا قطع بعضكم من الكنيسة تأديباً لكم على المقاومة والكبرياء والعصيان أو ملهماً بذلك الروح أن أتكلم بكلام المغفرة والسلام لأنكم عدلتم عن الخصومات وأجريتم التأديب الكنسي الموجب على المجرم. ويتضح من هذا ومواضع أخر في الإنجيل أن الرسل مارسوا التأديب الديني في الكنائس بقبولهم من استحسنوه في الكنيسة وقطعهم من استهجنوه منها بناء على سلطان أخذوه من المسيح لتأسيس كنيسته وبنائها (متى ١٨: ١٨ انظر ص ٥: ٥ و١١: ٣٠) راجع نبأ حنانيا وسفيرة (أعمال ص ٥) ونبأ عليم الساحر (أعمال ١٣: ١٠ و١١).

والمحتمل أن بولس أراد بروح الوداعة وداعة نفسه التي يعلنها بلطف كلامه.

فوائد

  1. وجوب إكرام الكنيسة قسوسها الإكرام اللائق بهم لأنهم سفراء المسيح على قدر تمثلهم بالمسيح وأمانتهم في القيام بما يجب عليهم فمن يكرم الخادم الأمين يكرم سيده ومن أهانه أهان السيد (متّى ١٠: ٤٠ – ٤٢ ع ١).
  2. وجوب أن يكون القسوس أمناء لأنهم وكلاء المسيح وهو عيّنهم وسيحاسبهم ووكالتهم أعظم من وكالة حافظي كنوز الملوك لأنهم استُودعوا سرائر ملكوت الله المتعلقة بعمل الفداء التي كانت منذ الأزل محجوبة بحجب القضاء الإلهي وأُعلنت بيسوع المسيح ولأنهم أؤتمنوا على النفوس الخالدة فهي تخلص إن كانوا أمناء وتهلك إن لم يكونوا كذلك. ومما يعزيهم أن الله لم يطلب منهم سوى الأمانة ولم يوجب عليهم النجاح والعقاب على عدمه.
  3. وجوب قلة الالتفات إلى قول العالم فينا. نعم «اَلصِّيتُ أَفْضَلُ مِنَ ٱلْغِنَى ٱلْعَظِيمِ» (أمثال ٢٢: ١) ولكن رضى الله أفضل من كليهما لأن العالم كثيراً ما يغلط في حكمه فالرغبة في مدح العالم تجربة وفخ (يوحنا ٥: ٤٤) ولا ينفع ولا يضر شيئاً في يوم الحساب فيحتاج الإنسان لكي لا يهتم بمدح العالم ولا يعدل عن استقامته بمدح الناس أو ذمهم إلى أن يصلي لله دائماً ويسأله النصر على العالم (ع ٢).
  4. إنه يُحظر علينا أن نؤثر رضى أصدقائنا على استصواب ضمائرنا ورضى الله لأن الأصدقاء عرضة للخطإ والضلال واستحسانهم أعمالنا لا ينفعنا شيئاً يوم الدين (ع ٢).
  5. لا يحل لنا أن نثق بأنفسنا لأننا نُخدع بمقاصدنا وأعمالنا مراراً. وكوننا عرضة للخطإ يوجب علينا التواضع وأن لا ندين غيرنا بشدة إذا أخطأ (ع ٣ و٤).
  6. إن ما قيل هنا مما يبين كيف يدين الله الناس في اليوم الأخير وذلك يشتمل على ثلاثة أمور:
    • الأول: أنه يُعلن في ذلك اليوم كل خفايا الناس والجرائم التي لم يعرفها سوى الذين ارتكبوها والتي لم تنظر فيها المحاكم ولم يشهد بها شاهد.
    • الثاني: أنه تُعلن فيه سريات الأفكار والمقاصد والغايات والشهوات الحادثة في كل مدة الحياة التي يستحي الإنسان أن يظهرها لأقرب الأقرباء وأحب الأصدقاء.
    • الثالث: أن القضاء يكون بالعدل فيجازي كل إنسان بما استحق بلا محاباة. وفي هذا تعزية لعبيد الله الأمناء الذين يحتملون على الأرض إهانة الناس ولومهم وعلى خوف للمرائين والذين عاشوا للتمتع بالشهوات (ع ٥).
  7. إنه ليس للإنسان أن يفتخر لأن كل ما له من الجمال والقوة والصحة والحكمة والتقوى هبة من الله فهو لا يستحق سوى العقاب على آثامه فيجب عليه الشكر لله على نعمته والتواضع أمامه وإظهار ذلك الشكر بالطاعة له. فليس للمسيحيين أن يتوقعوا في هذا العالم ما وعد الله أن يمنحه في السماء فعليهم أن يحملوا صليبهم كل يوم من أيام هذه الحياة ويتوقعوا المجد في الحياة الآتية ولا ينتظروا على هذه الأرض إلا الخصومات والمشقات والبلايا وأن ينتظروا الراحة والسعادة في العالم الأبدي (ع ١١ و١٢).
  8. إننا نرى مما قيل هنا عظمة الشدائد والخسائر والأتعاب التي احتملها أتباع المسيح الأولون. إن أساس الكنيسة وُضع على دم الشهداء فما نتمتع به من الحقوق الدينية اشتراه أفاضل الناس لنا بتنهدهم ودموعهم وسجنهم ونفيهم واحتمالهم الاضطهاد الشديد الطويل. فعلينا أن نعرف قيمة البركات التي ورثناها منهم ونتمسك بها ونوصلها سالمة إلى الذين بعدنا وأن نستعد لاحتمال أمثالها إظهاراً لإيماننا إذا دعانا الله إلى ذلك (ع ٩ – ١٣).
  9. إن لنا دليلاً قاطعاً على صحة الدين المسيحي وهو ما قاساه الرسل لإثباته. قالوا إنهم شاهدوا عياناً ما شهدوا به وصدقوا لأنهم لو كذبوا ما نفعهم الكذب شيئاً. إنهم خسروا أموالهم وأصدقاءهم وراحتهم وحياتهم ليشهدوا بصدق الإنجيل ويستحيل أن يرضوا ذلك ما لم يكونوا قد اقتنعوا بصحة ما نادوا به ببراهين قاطعة (ع ٩ – ١٣).
  10. إن ما قيل هنا من كثرة الذين يراقبون المسيحيين والشدائد تحيط بهم والتجارب تحاربهم يجب أن يتشجعوا به ليثبتوا إلى النهاية لكي يفرح ملائكة الله والقديسون بانتصارهم ويخجل الأبالسة وأشرار الناس الذين كانوا يتوقعون سقوطهم (ع ٩).
  11. إنا نعرف مما قيل هنا كيف يجب أن نحتمل هزء الأعداء وإهانتهم واضطهادهم وأنه علينا أن نتمثل بالرسل كما تمثلوا بالمسيح لأنه «احتمل الصليب مستهيناً بالخزي» (عبرانيين ١٢: ٢) وكذا فعل الرسل فعلينا أن «نتسلح أيضاً بهذه النية» (١بطرس ٤: ١). فلا بأس من أن نكون أقذار العالم إذا كنا نُكرم عند الله (ع ١٢ و١٣).
  12. إن الذي يضطر إلى توبيخ غيره على الذنوب يجب عليه أن يأتي بالمحبة ويبين له أن غايته الوحيدة من ذلك نفعه لا تخجيله (ع ١٤).
  13. إن سيرة الأتقياء من أعظم وسائط تعليم الكنيسة فإنها «رسالة غير مكتوبة بالحبر بل بروح الله الحي» وهي أفضل الرسائل فلا برهان على جودة التقوى كسيرة التقي فإننا نتعلم مما بلغه من الفضائل ما نستطيع أن نبلغه منها وأن الكسلان الدنيوي يخجل عندما يقابل نفسه به. فيجب على كل مسيحي أن يسير سيرة مقدسة حتى يقدر أن يدعو كبولس إلى التمثل به (ع ١٦).
  14. إن اقتران ملكوت الله بالروح القدس يستلزم أن الكنيسة إذا خلت من القوة الروحية دل ذلك على أن إيمانها الذي هو بمنزلة اليد المتمسكة بتلك القوة ضعيف (ع ٢٠).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى