كورنثوس الأولى

الرسالة الأولى إلى كورنثوس | 02 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الثاني

بيان بولس أسلوب تعليمه في كورنثوس ع ١ إلى ١٦

وهو أن وعظه كان بمقتضى المبادئ المذكورة في الأصحاح الأول ع ١ إلى ٥ وأن الإنجيل هو الحكمة الحقيقية ع ٦ إلى ٩ وأن الله يظهره للناس بواسطة روحه القدوس.

١ «وَأَنَا لَمَّا أَتَيْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، أَتَيْتُ لَيْسَ بِسُمُوِّ ٱلْكَلاَمِ أَوِ ٱلْحِكْمَةِ مُنَادِياً لَكُمْ بِشَهَادَةِ ٱللّٰهِ».

ص ١: ١٧ وع ٤ و١٣ و٢كورنثوس ١٠: ١٠ و١١: ٦ ص ١: ٦

وَأَنَا لَمَّا أَتَيْتُ إِلَيْكُمْ أي إلى مدينتكم كورنثوس رسولاً وبشيراً (أعمال ١٨: ١).

لَيْسَ بِسُمُوِّ ٱلْكَلاَمِ أَوِ ٱلْحِكْمَةِ أي غير معتمد فصاحة الخطاب أو فلسفة التعليم بغية النجاح بينكم. أشار الرسول «بالكلام» إلى صورة تعليمه «بالحكمة» إلى موضوعه. وصرح بأنه قصد أن تكون كرازته على وفق الأسلوب الذي اختاره الله وهو أن يرفض حكمة العالم وينادي بالمسيح مصلوباً لخلاص البشر.

مُنَادِياً لَكُمْ بِشَهَادَةِ ٱللّٰهِ أي شاهداً بما أعلنه الله في إنجيل يسوع المسيح.

٢ «لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئاً بَيْنَكُمْ إِلاَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً».

غلاطية ٦: ١٤ وفيلبي ٣: ٨

عمل الرسول بمقتضى ما اعتمده قبل وصوله مع أنه عرف رغبة أهل كورنثوس في المباحث العلمية وأساليب الفصاحة كما عودهم فلاسفة اليونان وخطباؤهم. وأراد بقوله أنه لم يعزم أن يعرف شيئاً بينهم إلا ما ذكره أن عمله الوحيد تبشيره إياهم به وأنه يكون موضوع أفكاره وحديثه ومواعظه وأن معرفته والإيمان به والعمل بمقتضاه كل ما يحتاج أهل كورنثوس إليه ليقدروا على القيام بما يجب عليهم لله وللناس في هذه الحياة والحياة الآتية.

يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ابن الله وابن الإنسان غاية رموز العهد القديم ونبوآته وموضوع الإنجيل والحكمة الحقيقية.

وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً كفارة لخطايا العالم. كان الموت صلباً شر الميتات وكان مختصاً بأدنى المذنبين كمذنبي العبيد وأمثالهم. فبولس لم يكتف بأن يبشر بالمسيح باعتبار كونه مثالاً للناس وأفضل البشر وصانع معجزات ويخفي خبر اتضاعه للموت الذي يكرهه اليهود المتكبرون واليونان المفتخرون لكنه نادى به وافتخر (ص ١: ١٧ و٢٣ وغلاطية ٦: ١٤ وفيلبي ٢: ٨).

ولم يقل بولس أنه ينادي بدين المسيح بل بالمسيح نفسه الذي سمع يوحنا الرسول في بطمس صوته قائلاً «أَنَا هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ، وَٱلْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتاً وَهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ. آمِينَ. وَلِي مَفَاتِيحُ ٱلْهَاوِيَةِ وَٱلْمَوْتِ» (رؤيا يوحنا ١: ١٧ و١٨).

الذي جعله بولس موضوع كلامه في كورنثوس لم يحصره في دائرة صغيرة من الأفكار والتعليم ولم يضطر به إلى تكرير اللفظ الواحد لأن كون المسيح مصلوباً مركز معارف الدين الحق كلها. فإنه من صليب المسيح ينتشر نور يرى به أسباب عناية الله في العالم منذ سقوط آدم إلى النهاية فبذلك الصليب تتعلق كل حوادث الماضي والحال والمستقبل.

إن المناداة بيسوع المسيح مصلوباً كانت على إيمان ألفي نفس في يوم الخمسين وانتشر بتلك المناداة دين المسيح في كل أقطار المملكة الرومانية التي كانت يومئذ ما عرف من المسكونة بعد ثلاثين سنة من موت المسيح وبعد ثلاث مئة سنة من ذلك صار دين المسيح دين تلك المملكة وكُسرت أصنام الرومانيين واليونانيين وهُدمت هياكلها أو صارت كنائس مسيحية. وما فتئت تلك المناداة من ذلك الوقت إلى الآن تنير القلب وتُصلح الحياة وتقدس الخطأة وتجعل عبيد الشيطان والخطيئة والموت ورثة لله والأمجاد السماوية.

٣ «وَأَنَا كُنْتُ عِنْدَكُمْ فِي ضَعْفٍ وَخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ كَثِيرَةٍ».

أعمال ١٨: ١ و٦ و١٢ و٢كورنثوس ٤: ٧ و١٠: ١ و١٠ و١١: ٣ و١٢: ٥ و٩ وغلاطية ٤: ١٣

علل هذه العوارض عظمة ما كان عليه من العمل في كورنثوس والمقاومة التي كان يتوقعها هناك وشعوره بعجزه عن تمام القيام بما يقتضيه ذلك العمل. ولعل ما ذكره هنا علة ظهور الرب له ليلاً وقوله له «لاَ تَخَفْ، بَلْ تَكَلَّمْ وَلاَ تَسْكُتْ، لأَنِّي أَنَا مَعَكَ، وَلاَ يَقَعُ بِكَ أَحَدٌ لِيُؤْذِيَكَ، لأَنَّ لِي شَعْباً كَثِيراً فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ» (أعمال ١٨: ٩ و١٠) وشعوره بضعفه حمله على طلب المعونة من الله وكان علة نجاحه لا مانعاً منه.

يجب على كل إنسان أن يشعر من نفسه بمثل ما شعر بولس من نفسه على وفق قوله «تمموا خلاصكم بخوف ورعدة» (فيلبي ٢: ١٢).

٤ «وَكَلاَمِي وَكِرَازَتِي لَمْ يَكُونَا بِكَلاَمِ ٱلْحِكْمَةِ ٱلإِنْسَانِيَّةِ ٱلْمُقْنِعِ، بَلْ بِبُرْهَانِ ٱلرُّوحِ وَٱلْقُوَّةِ».

ص ١: ١٧ وع ١ و١بطرس ١: ٦ أعمال ١٩: ١١ ورومية ١٥: ١٩ و٢كورنثوس ١٢: ١٢ و١تسالونيكي ١: ٥

كَلاَمِي أي حديثي مع الأفراد.

كِرَازَتِي مخاطبتي للجمهور.

لَمْ يَكُونَا بِكَلاَمِ ٱلْحِكْمَةِ ٱلإِنْسَانِيَّةِ ٱلْمُقْنِعِ كما يلذ لليونانيين مما غايته تميلق الناس وإرضاؤهم وحملهم على مدح المتكلم لأنه موافق لذوقهم الطبيعي. لم يجتهد بولس أن يأتي بالناس إلى معرفة الحق والإيمان به بوسائط أنشأتها الحكمة البشرية كفصاحة الكلام وبلاغة الاحتجاج.

بَلْ بِبُرْهَانِ ٱلرُّوحِ اكتفى بولس أن يشهد بالحق وترك إثباته للروح القدس. وبرهان الروح إما تأثيره رأساً في قلوب الناس فيلينها ويميل بها إلى قبول الحق أو إقناعه إياهم بقوته أو شهادة المعجزات الظاهرة.

ٱلْقُوَّةِ أي قوة الله (ع ٥) وهذه القوة هي «برهان الروح» وسمي بها لشدة قوته.

٥ «لِكَيْ لاَ يَكُونَ إِيمَانُكُمْ بِحِكْمَةِ ٱلنَّاسِ بَلْ بِقُوَّةِ ٱللّٰهِ».

٢كورنثوس ٤: ٧ و٦: ٧

لِكَيْ لاَ يَكُونَ إِيمَانُكُمْ بِحِكْمَةِ ٱلنَّاسِ لو أقنعهم الرسول بالأدلة العقلية إن عبادة الأوثان جهالة وإن دينهم باطل وأن دين المسيح هو الحق لحصل على شيء من الفائدة كزيادته معرفتهم وإصلاح أغلاطهم كما يفعل معلم الفلسفة الطبيعية أو الفلك لكنه لم يفد شيئاً من خلاص نفوسهم لأن الإيمان المبني على الحجج البشرية والسلطة الكنسية والتأثير في الحواس كمشاهدة الصور والتماثيل وسمع ألحان الآلات الموسيقية والاقتداء بالغير ليس هو إلا عقيما وقتياً.

بَلْ بِقُوَّةِ ٱللّٰهِ هذا هو برهان الروح في (ع ٤) وهو الأساس الوحيد للإيمان الحقيقي. فالإيمان المبني عليه ثابت أبداً يطهر القلب ويقدس السيرة.

ولنا مما مر في هذا الفصل أربع فوائد:

  1. وجوب أن يكون موضوع وعظ المبشر المسيح وعمله.
  2. إنه يجب على المبشر الشعور بضعفه وافتقاره إلى المعونة من العلى.
  3. إنه عليه أن لا يتوقع النجاح بقوة حججه بل بقوة شهادة الروح القدس.
  4. إن منشئ الإيمان المخلّص تأثير الروح القدس في القلب عند إظهار الحق لا الاقتناع العقلي به.

٦ «لٰكِنَّنَا نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةٍ بَيْنَ ٱلْكَامِلِينَ، وَلٰكِنْ بِحِكْمَةٍ لَيْسَتْ مِنْ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، وَلاَ مِنْ عُظَمَاءِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، ٱلَّذِينَ يُبْطَلُونَ».

ص ١٤: ٢٠ وأفسس ٤: ١٣ وفيلبي ٣: ١٥ وعبرانيين ٥: ١٤ ص ١: ٢ وع ١ و١٣ وص ٣: ١٩ و٢كورنثوس ١: ١٢ ويعقوب ٣: ١٥ ص ١: ٢٨

هذه الآية بداءة كلام الرسول على موضوعه الثاني في هذا الأصحاح وهو بيان أن الإنجيل هو الحكمة الحقيقية.

لٰكِنَّنَا هذا استدراك دفع به توهم أنه يكره الحكمة بالكلية بناء على قوله ببطلان الحكمة البشرية في (ص ١: ١٧ – ٣١ و٢: ١ – ٥). إنما استخف بها في الأمور الدينية لكونها عاجزة عن أن تعلم الناس صفات الله وطريق الخلاص.

نَتَكَلَّمُ نحن الرسل الذين لم نعتمد الحكمة البشرية.

بِحِكْمَةٍ حقيقية أسمى من كل حكمة وهي حكمة أوحى بها روح الله لا يستطيع الجسديون إدراكها وأما الروحيون فيدركونها. ومن الواضح أن المراد بالحكمة هنا الإنجيل أي المناداة بيسوع المسيح مصلوباً.

بَيْنَ ٱلْكَامِلِينَ أي المؤمنين الروحيين المستنيرين بالروح القدس وهم كاملون بالنسبة إلى الكافرين الجسديين الذين لم يستنيروا بذلك الروح. فالحكمة الحقيقية لأولئك جهالة لهؤلاء. فالمؤمنون ليسوا كاملين أمام الله ولا يحسبون أنهم كذلك لكنهم مدعوون ليكونوا كاملين (متّى ٥: ٤٨) ولا ينفكون ساعين في أثر الكمال (فيلبي ٣: ١٢ – ١٥).

لَيْسَتْ مِنْ هٰذَا ٱلدَّهْرِ أي ليست من مبتكرات أهل هذا الدهر وهم لا يفهمونها ولا يعتبرونها.

عُظَمَاءِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ الذين يحسبهم الناس رؤساءهم في النسب والعلم والسلطة.

ٱلَّذِينَ يُبْطَلُونَ أي الذين قصد الله خزيهم (ص ١: ٢٨) فهؤلاء صلبوا المسيح «وأُبطلوا» حين قام من الأموات. وبذلوا جهدهم في منع الإنجيل من الانتشار وأُبطلوا حين بلغ الإنجيل أقاصي الأرض على رغمهم.

٧ «بَلْ نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ فِي سِرٍّ: ٱلْحِكْمَةِ ٱلْمَكْتُومَةِ، ٱلَّتِي سَبَقَ ٱللّٰهُ فَعَيَّنَهَا قَبْلَ ٱلدُّهُورِ لِمَجْدِنَا».

رومية ١٦: ٢٥ و٢٦ وأفسس ٣: ٥ و٩ وكولوسي ١: ٢٦ و٢تيموثاوس ١: ٩

ما قاله الرسول في ع ٦ بوجه السلب قاله هنا بطريق الإيجاب. قال في ع ٦ أن الحكمة التي نادى بها ليست من هذا الدهر ووصفها هنا بثلاث صفات وهي كونها من الله وكونها سراً في الأصل وأن الله قصد منذ الأزل إعلانها.

بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ أي الحكمة التي أنشأها وأعلنها وبهذا امتازت عن كل ما يُعرف بالحكمة عند الناس.

فِي سِرٍّ: ٱلْحِكْمَةِ ٱلْمَكْتُومَةِ التي لم يستطع استنباطها عقل بشري وكانت مخفية عنه لأن الله قضى بها منذ الأزل ولم يعلنها إلا في هذا العصر وهذا على وفق ما في (متّى ١٣: ١٧ ورومية ١٦: ٢٥ و٢٦ وأفسس ٣: ٥ و١تيموثاوس ٣: ١٦).

ٱلَّتِي سَبَقَ ٱللّٰهُ فَعَيَّنَهَا… لِمَجْدِنَا أي أعدها الله منذ الأزل لخيرنا الأعظم لأن مجد المؤمنين يطلق على كل فوائد الخلاص التي يهبها يسوع المسيح ولا سيما ما ينالونها في السماء من السعادة والقداسة (انظر تفسير رومية ٥: ٢). وما قيل هنا موافق لقوله « لِي أَنَا… أُعْطِيَتْ هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ ٱلأُمَمِ بِغِنَى ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى، وَأُنِيرَ ٱلْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ ٱلسِّرِّ ٱلْمَكْتُومِ مُنْذُ ٱلدُّهُورِ فِي ٱللّٰهِ خَالِقِ ٱلْجَمِيعِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس ٣: ٨ و٩).

٨ «ٱلَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ ٱلْمَجْدِ».

متّى ١١: ٢٥ ويوحنا ٧: ٤٨ وأعمال ١٣: ٢٧ و٢كورنثوس ٣: ١٤ لوقا ٢٣: ٣٤ ويوحنا ١٦: ٣ وأعمال ٣: ١٧

ٱلَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ المراد بهؤلاء العظماء رؤساء اليهود وبيلاطس الوالي الروماني الذين صلبوا المسيح وأمثالهم في كل عصر ممن لم يروا جمالاً في المسيح ورفضوه والبركات التي أتى بها.

لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ ٱلْمَجْدِ قتل أعظم الكائنات شر القتلات لا يُرتكب إلا من شدة العماية والجهل والخطيئة فارتكابهم ذلك دليل على خلوهم من تلك الحكمة الإلهية. وهذا مثل قول بطرس الرسول «ٱلآنَ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ، كَمَا رُؤَسَاؤُكُمْ أَيْضاً» (أعمال ٣: ١٧ انظر أيضاً لوقا ١٩: ٤٢ و٢٣: ٣٤ وأعمال ١٣: ٢٧). ولا شيء في عبارة الرسول يبرئهم من ذنب قتلهم إياه فإنهم وإن لم يعرفوا أنه ابن الله ورب المجد كان يمكنهم أن يعرفوا ذلك لو نظروا في أدلة دعواه. فخطيئتهم أنهم قتلوه مع علمهم أنه بريء من الذنب الذي اتهموه به.

تسمية يسوع المسيح برب المجد تصريح بأنه إله تام في كل صفاته. ونسبة الصلب إلى رب المجد موافقة لما قيل في أماكن أخر من أنه ابن الله مولود من امرأة وأنه الذي وهو معادل لله أخضع نفسه للموت. وجاز ذلك لأن يسوع المسيح ذو طبيعتين فيصح أن يُنسب إليه ما يختص بكل منهما ويصح أن يُقال أنه مات وأنه أقام الأموات وأن يُسمى بأسماء تناسب كلا من الطبيعتين كابن الإنسان وابن الله وأن يُنسب إلى إحدى الطبيعتين ما يختص بالأخرى كنسبة الصلب إلى رب المجد هنا ونسبة الدم إلى الله في قوله «كنيسة الله التي اقتناها بدمه» (أعمال ٢٠: ٢٨).

٩ «بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ ٱللّٰهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ».

إشعياء ٦٤: ٤

معنى هذه الآية واضح وهي موافقة لقول الرسول آنفاً في حكمة الله المكتومة التي لم يعرفها رؤساء هذا الدهر. وخلاصتها أنه نادى بحقيقة لم يستطع الإنسان إدراكها بمجرد قوى عقله الظاهرة والباطنة. وهذه الآية مع وضوح معناها فيها مشكلان.

الأول: متعلق قوله «ما لم ترى عين» الخ فإنه غير معروف وقد استحسن البعض تعليقه بقوله «نتكلم» أي نتكلم في ما لم تر عين الخ واستحسن آخر تعليقه بقوله «أعلنه الله» في (ع ١٠) وأكثر المفسرين على الأول.

الثاني: اقتباسها فإن من عادة كتبة الإنجيل أنهم لا يأتون بقولهم «كما هو مكتوب» إلا مع كلام مأخوذ من العهد القديم. وهذه الآية ليست في العهد القديم بتمام لفظها ومعناها. وما هو أقرب إليها قول إشعياء «مُنْذُ ٱلأَزَلِ لَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُصْغُوا. لَمْ تَرَ عَيْنٌ إِلٰهاً غَيْرَكَ يَصْنَعُ لِمَنْ يَنْتَظِرُهُ» (إشعياء ٦٤: ٤) ومعناه أن بني إسرائيل ما عرفوا إلهاً يصنع ما صنعه الله لهم وما أنذرهم به. وقوله «ولا يخطر على بال» (إشعياء ٦٥: ١٧). ولكن من عادة كتبة العهد الجديد أيضاً أن يقتبسوا آية من العهد القديم لموافقة ألفاظها للمراد بقطع النظر عن المعنى الأصلي والأرجح أن الرسول فعل كذلك هنا. وظن بعضهم أن الرسول لم يرد آية بعينها بقوله «كما هو مكتوب» بل أراد المعنى الموحى به في مواضع متفرقة من الكتاب. ولا ريب في أن من تعاليم العهد القديم أن عقل الإنسان لا يستطيع معرفة مقاصد الله بدون الوحي وقد أثبت الرسول تعليمه بقوله «كما هو مكتوب» من كل العهد القديم.

لَمْ تَرَ عَيْنٌ أي لم ير أحد من البشر جمال الحقائق الروحية التي أعلنها الله في إنجيله وسموها فهي عظيمة وثمينة جداً لائقة بمنشئها ومعلنها.

لَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ فإذاً تلك الحقائق من المعلنات الجديدة التي تفوق كل ما عرفوه أو شعروا به مما بلغهم من ألسنة الناس أو كتبهم.

لَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ هذا دليل على أنه كما أن تلك الحقائق فاقت كل ما اختبروه في الماضي بهجة تفوق كذلك كل ما يمكن العقل أن يتصوره من خيرات المستقبل.

مَا أَعَدَّهُ ٱللّٰهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ أي الذين هيأه لشعبه في إنجيله. أشار بذلك إلى معلنات حكمته من تمهيد الطريق إلى مغفرة الخطايا ومصالحة الله للخاطئ والتبرير والتقديس والسلام والفرح وراحة الضمير ورجاء الحياة الأبدية. وكون هذه الأمور معدة دليل قاطع على أنها ثابتة. محققة رأي كثيرون أن هذه الآية تشير إلى حال المفديين في السماء لكن القرينة تدل على أنها مختصة بحال المؤمنين في هذا العالم ولا سيما قوله «فَأَعْلَنَهُ ٱللّٰهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ» (ع ١٠). على أنه يحسن أن نستنتج من إعداد الله بركات كهذه لشعبه على الأرض أنه يعد له مثلها وأعظم منها في السماء.

١٠ «فَأَعْلَنَهُ ٱللّٰهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ. لأَنَّ ٱلرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ ٱللّٰهِ».

متّى ١٣: ١١ و١٦: ١٧ ويوحنا ١٤: ٢٦ و١٦: ١٣ و١يوحنا ٢: ٢٧

هذه الآية بداءة كلام الرسول على موضوعه الثالث في هذا الأصحاح وهو بيان أنه كيف نال المؤمنون الحكمة الحقيقية.

فَأَعْلَنَهُ ٱللّٰهُ أي أعلن الحقائق الروحية لتي لا يستطيع العقل البشري اكتشافها.

لَنَا نَحْنُ الأنبياء والرسل أولاً ثم للكنيسة وللعالم بكلامهم وكتبهم وللمؤمنين أيضاً بإنارة عقولهم لقبول تعليم الله (أفسس ٣: ٥ ويوحنا ١٦: ١٢ – ١٤).

بِرُوحِهِ أي الروح القدس الذي هو الأقنوم الثالث في اللاهوت. ويتبين مما يأتي قدرة هذا الروح على ذلك الإعلان.

لأَنَّ ٱلرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ أي يعرفه كل المعرفة ففي الكلام كناية أو مجاز على ما يفعله المخلوق توصلاً إلى أن يعرف ما يجهله المعرفة التامة لأن الروح وحده هو القادر أن يعلنها لمن يشاء أكمل إعلان. وفي الكتاب «أن الله يفحص قلوب البشر» بمعنى أنه يعرف كل ما في قلوبهم (رومية ٨: ٢٦ و٢٧ ورؤيا ٢: ٢٣). ومعنى الآية أن الروح القدس يعرف كل ما في الله.

حَتَّى أَعْمَاقَ ٱللّٰهِ أي صفاته وأفكاره ومقاصده الأزلية وقضاءه. وأكثر ما يراد هنا قضاءه بخلاص البشر بواسطة المسيح.

ذهب القدماء إلى أن البحر لا قرار له ولذلك لما أرادوا التعبير عما لا نهاية له استعاروا له عمق البحر وعلى ذلك استعار بولس الأعماق لما ذُكر من أموره تعالى.

وفي هذه الآية تصريح بأقنومية الروح القدس ولاهوته لأن الذي يعلم كل ما يعلمه الله يلزم أن يكون إلهاً (١أيام ٢٨: ٩ ومزمور ١٣٩: ١ وإرميا ١٧: ١٠).

١١ «لأَنْ مَنْ مِنَ ٱلنَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ ٱلإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي فِيهِ؟ هٰكَذَا أَيْضاً أُمُورُ ٱللّٰهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ ٱللّٰهِ».

أمثال ٢٠: ٢٧ و٢٧: ١٩ وإرميا ١٧: ٩ رومية ١١: ٣٣ و٣٤

مَنْ مِنَ ٱلنَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ ٱلإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ ٱلإِنْسَانِ الاستفهام إنكاري وفي هذا أمران الأول أنه لا يعرف أحد من الناس أفكار الإنسان ونوايا قلبه إلا هو فغيره يجهلها. والثاني أنه هو يعرفها ويستطيع أن يعبر عنها. وتقييد «مَن» بقوله «من الناس» ضروري لأن ما يصدق هنا على الناس لا يصدق على الله لأنه هو يعرف قلوب الجميع ويعلم من أمرها ما لا يعلمون.

هٰكَذَا أَيْضاً أُمُورُ ٱللّٰهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ ٱللّٰهِ لنا من مقابلة هذا بما قبله أن فيه أمرين الأول أنه لا يعرف أحد أفكار الله ومقاصده إلا هو نفسه. والثاني أن الروح يعرف تلك الأفكار والمقاصد ويستطيع أن يعلنها لمن يشاء.

وما في هذه الآية من أفضل الأدلة على كون الروح القدس إلهاً.

واعلم أن المقابلة بين روح الإنسان والإنسان والروح القدس والله مقصورة على أمر واحد وهو المعرفة التي في الآية.

ولا يلزم مما قيل في هذه الآية أن الإنسان لا يقدر أن يعرف شيئاً من أمور الله إلا ما يعلنه الروح القدس لأنه قال سابقاً «أن الإنسان قدر أن يعرف قدرة الله السرمدية ولاهوته من مصنوعاته» (رومية ١: ٢٠). فالمراد به أن معرفة الله التي تؤدي به إلى خلاص النفس أي الحكمة الحقيقية التي تعلن طريق الفداء لا يحصل عليها الإنسان إلا بإعلان الروح القدس.

١٢ «وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ ٱلْعَالَمِ، بَلِ ٱلرُّوحَ ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ، لِنَعْرِفَ ٱلأَشْيَاءَ ٱلْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ ٱللّٰهِ».

رومية ٨: ١٥

هذه الآية توكيد للآية العاشرة.

نَحْنُ الرسل أولاً كما يظهر من قوله «نتكلم» في ع ١٣ لكن هذا يصدق على كل المؤمنين.

لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ ٱلْعَالَمِ أي الصفات التي يمتاز بها أهل العالم عن أهل الله كالكبرياء والثقة بالحكمة البشرية والفلسفة الدنيوية التي اعتبرها اليونان كل الاعتبار.

بَلِ ٱلرُّوحَ ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ أي تأثير الروح القدس الذي أرسله الله ووهبه للمؤمنين وهو الذي يقدرهم على معرفة الروحيات. فالذي ألهم كتبة الكتاب المقدس ينير عقول شعب الله لكي يستفيدوا من ذلك الكتاب فإنه يأخذ مما للمسيح ويخبرهم وبدونه لا يرون احتياجهم إلى المسيح ولا قيمة البركات التي أتى بها.

لِنَعْرِفَ ٱلأَشْيَاءَ الخ أي لنتيقن الحقائق الروحية التي أعلنها الله في كتابه وسماها أيضاً «كنوز الحكمة» (كولوسي ٢: ٣) وهي المغفرة والتقديس ومحبة الله والحياة الأبدية لا أن نرجوها ونتوقعها فقط. وتسمية تلك الحقائق «بالأشياء الموهوبة» تدل على كونها من مجرد النعمة لا لشيء من الاستحقاق.

١٣ «ٱلَّتِي نَتَكَلَّمُ بِهَا أَيْضاً، لاَ بِأَقْوَالٍ تُعَلِّمُهَا حِكْمَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، بَلْ بِمَا يُعَلِّمُهُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ، قَارِنِينَ ٱلرُّوحِيَّاتِ بِٱلرُّوحِيَّاتِ».

ص ١: ١٧ وع ٤ و٢بطرس ١: ١٦

ٱلَّتِي نعت للأشياء في ع ١٢.

نَتَكَلَّمُ بِهَا نحن الرسل لأننا لا نكتفي بمعرفتنا إياها بل نعلّمها غيرنا.

لاَ بِأَقْوَالٍ تُعَلِّمُهَا حِكْمَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ أي لا نتكلم بالأسلوب الذي وضعه المناطقة ولا بالأسلوب الذي تستحسنه عقولنا أو الأسلوب الذي استحسنه بعض أعضاء الكنيسة ولامنا على عدولنا عنه. وقد وصف الرسول هنا أسلوب تعليمه سلباً ثم وصفه بما يأتي إيجاباً.

بَلْ بِمَا يُعَلِّمُهُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ أي بأقوال علمنا الروح القدس إن نتكلم بها. وهذا لا يمنع الإنسان الموحى إليه من أن يعبر عن معاني الروح. بالألفاظ التي اعتادها لكنه يعصمه من الخطإ في المعنى أو في أسلوب التعبير عنه.

قَارِنِينَ ٱلرُّوحِيَّاتِ بِٱلرُّوحِيَّاتِ أي معاني الروح القدس بأقواله فإذاً الكلمات موافقة للمعاني كل الموافقة.

ذهب بعضهم إلى أن المعنى مقابلين الحقائق المعلنة في العهد القديم بالحقائق المعلنة في الإنجيل. فهذا مما يجب على كل معلم ديني لكن لا دليل على أن الرسول قصده هنا. وبعضهم إلى أنه مقدمين الأمور الروحية للناس الروحيين وهذا موضوع الرسول في باقي الأصحاح ولكنه لم يصل إليه هنا. والقرينة تدل على أن المراد هو المعنى الأول أي رابطين روحيات المعاني بروحيات الكلمات.

١٤ «وَلٰكِنَّ ٱلإِنْسَانَ ٱلطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ ٱللّٰهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً».

متّى ١٦: ٢٣ ص ١: ١٨ و٢٣ رومية ٨: ٥ – ٧ ويهوذا ١٩

وَلٰكِنَّ ٱلإِنْسَانَ ٱلطَّبِيعِيَّ أي كل إنسان لم يستنر ويتعلم ويتجدد بالروح القدس.

لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ ٱللّٰهِ أي لا يعرف قيمة الحقائق التي أعلنها الروح القدس في كتاب الوحي ولا يصدقها ولا يطيعها بل يستخف بها كأمر لا طائل تحته. فلو كانت الحقائق عقلية لاستطاع الإنسان الطبيعي أن يحكم فيها كالإنسان المتجدد لكن لكونها روحية لزم أن يكون ضمير الإنسان مستنيراً لكي يرى وجوبها وعواطف قلبه متجددة لكي يرغب فيها ويلذ بها.

لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ أي لا طلاوة ولا رونق له ولا نفع فيه ولا حاجة إليه. ولا عجب أن يظهر له كذلك لأنه لا يفهمه ولا يشتهيه.

وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ أي يعرف قيمته. إن عقول الطبيعيين تقدر أن تدرك معنى الكلمات التي يعبر بها عن الحقائق الروحية ولكن قلوبهم عاجزة عن أن ترى صدقها وجمالها وسموها حتى يروا احتياجهم إليها ويرغبوا فيها. إن الذين يحبون الظلمة لا يقدرون أن يحبوا النور والذين يحبون الحكمة العالمية ويسعون في أثرها لا يقدرون أن يروا قيمة الحكمة التي من فوق ويرغبوا فيها.

لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً أي لا أحد غير المستنير بالروح القدس يستطيع أن يحكم بأنه جيد لأن الخطيئة تعمي القلب عن جمال تلك الحقائق وسموها فيعتبرها الخاطئ جهالة لا لذة لها ولا طعم. فمن الضروري أن يغير الروح القدس قلبه حتى يلذ بما كان يكرهه ويهتم بما كان يستخف به. إنه لا يستطيع أن يعاين الله إلا الطاهر القلب قال الرسول «إن إنجيلنا مكتوم في الهالكين» (٢كورنثوس ٤: ٣). فالناس في حاجة إلى أن يجلو عيون بصائرهم لكي يروا قيمة الروحيات كما احتاج العميان في زمن المسيح إلى أن يفتح عيون أبصارهم ليروا الماديات.

١٥ «وَأَمَّا ٱلرُّوحِيُّ فَيَحْكُمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ لاَ يُحْكَمُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ».

أمثال ٢٨: ٥ و١تسالونيكي ٥: ٢١ و١يوحنا ٤: ١

ٱلرُّوحِيُّ الذي استنار وتجدد بالروح القدس.

فَيَحْكُمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ أي الجسديات والروحيات ويقيس كلا منها بمقياس الحق ويقدر أن يميز بين الحق والباطل والثمين وما لا يستحق ثمناً وأن يعرف فضل الروحي على الجسدي. والقدرة على هذا الحكم نُسبت إلى كل مسيحي متعلم من الروح القدس ولم تُنسب إلى رؤساء الكنيسة المسيحية وحدهم ولا إلى الكنيسة بجملتها كذلك. وهذا نص صريح بأن لكل مسيحي أن يحكم بما يجب عليه من العقائد والأعمال الدينية بناء على سكنى الروح القدس فيه وإرشاده إياه.

وَهُوَ لاَ يُحْكَمُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ ليس متعلم من الروح القدس. وهذا القيد مما اقتضته القرينة ومعنى ذلك أن الطبيعي لا يقدر أن يحكم على الروحي بجهل أو علم في الطريق التي يختارها أو في وجوب ما يعمله أو عدم وجوبه. وهذا لا يستلزم أن المؤمن لا يعتبر آراء إخوته في الكنيسة ولا يخضع لحكمهم لأنه أبان وجوب ذلك في (ص ٥: ٩ – ١٢ و١٢: ٣ وغلاطية ١: ٨). وإنما قصد هنا أن يبيّن عجز الإنسان الطبيعي عن الحكم بالصواب في الإنسان الروحي في الأمور الروحية.

١٦ «لأَنَّهُ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ ٱلرَّبِّ فَيُعَلِّمَهُ؟ وَأَمَّا نَحْنُ فَلَنَا فِكْرُ ٱلْمَسِيحِ».

أيوب ١٥: ٢٨ و٢١: ٢٢ و٣٦: ٢٢ و٢٣ وإشعياء ٤٠: ١٣ وإرميا ٢٣: ١٨ ورومية ١١: ٣٤ يوحنا ١٥: ١٥ و١٧: ٢٦

هذه الآية برهان ما قيل في (ع ١٥) من أن الروحاني لا يحكم فيه من أحد ومعناه أن الإنسان الروحي تعلم من المسيح وعرف فكره فالذي يحكم فيه يجب ان يعرف فكر المسيح ويقدر أن يعلّم المسيح أيضاً لأن حكم المتعلم يلزم منه حكم المعلم فمن المحال أن الإنسان الطبيعي يقدر أن يعلّم المسيح فإذاً لا يقدر أن يحكم في المتعلم من المسيح بواسطة الروح. ولفظ هذه العبارة كلفظ الآية ١٥ من ص ٤٠ من إشعياء عل ما في ترجمة السبعين. فما نسبه إشعياء إلى يهوه نسبه بولس إلى المسيح فإذاً يهوه العهد القديم هو المسيح في العهد الجديد فالاسمان مختلفان والمسمى واحد.

وَأَمَّا نَحْنُ أي الروحيون وهم بولس وسائر الرسل وأمثالهم من المؤمنين.

لَنَا فِكْرُ ٱلْمَسِيحِ وهب لنا الروح القدس قوة على أن نرى كل الحقائق في النور الذي يراها فيه المسيح وأن نقيسها بالقياس الذي يقيس المسيح به. وغاية المسيح غايتنا ومقاصده مقاصدنا فما اعتبره اعتبرناه وما استخف به استخففنا به. وإذا كان لنا فكر المسيح كان لنا فكر الروح فنقدر أن نحكم في كل شيء.

ومعنى هذه الآية بالتفصيل أنه لا يستطيع أحد أن يعلّم الرب. ونحن لنا فكر الرب فإذاً لا يستطيع أحد لم يتعلم من الرب أن يعلمنا أو يحكم فينا. وأن فلاسفة اليونان وعلماء اليهود حكموا على وعظ بولس بأنه جهالة. قال بولس أنهم ليسوا أهلاً للحكم لأنهم ليسوا متعلمين بالروح ففي حكمهم عليه حكموا على الرب الذي علمه.

فوائد

  1. إنه لا يحسن بالمبشرين أن يرغبوا في الشهرة بالفصاحة وأن يأتوا بغريب اللغة افتخاراً بسعة معرفتهم بها بل يحسن أن يتكلموا في الحقائق الإنجيلية بالألفاظ المعروفة والعبارات الواضحة والتراكيب السهلة. ولو حسن الاغراب في الوعظ في مكان ما لحسن بالأولى في مدينة كورنثوس لكثرة فلاسفتها وبلاغة خطبائها فعدم استحسان بولس ذلك فيها يستلزم أنه لا يحسن بالواعظين إفراغ المجهود في تزيين الكلام وتنميق العبارات والإتيان بما لا يفهمه المخاطبون من الألفاظ ليرضوا الناس ويكسبوا مدحهم بدلاً من بذل الوسع في طلب خلاص نفوسهم (ع ١).
  2. إنه يجب أن تكون غاية كل واعظ كغاية بولس وهي أن يكرز بيسوع المسيح مصلوباً (ع ٢).
  3. إنه يجب على كل واعظ أن يكون متواضعاً خائفاً من أن يقصر في ما يجب عليه شاعراً بضعفه وبافتقاره إلى المعونة من فوق متمثلاً ببولس الرسول يوم كان بين مؤمني كورنثوس في أنه كان «في خوف ورعدة كثيرة» نظراً لشعوره بضعفه وعظمة المسؤولية عليه (ع ٣).
  4. إن إيمان المسيحيين ليس بحكمة الناس فلا يحتاجون إلى شهادة الفلاسفة بصحة إيمانهم. فما يختبرونه من تغير قلوبهم وصفاتهم وأعمالهم وانفعالاتهم وأميالهم ومن حبهم للصلاة وتلاوة كتاب الله ومحبة الإخوة وشدة محبتهم للمسيح شهادة عادلة وحجة قاطعة على أن ذلك فعل قوة الله (ع ٥).
  5. إن حكمة هذا الدهر تبطل. فماذا تنفع الحكمة السياسية حين تنتهي كل ممالك العالم وماذا تفيد آراء الفلاسفة الطبيعيين والفلكيين في أصل العالمين وتكوينها عدما تشرق شمس النهار الأبدي ويعرف أجهل الناس يومئذ أكثر مما عرف أعظم العلماء هنا فالافتخار بالحكمة الدنيوية باطل (ع ٦).
  6. إن كل أعمال الفداء كانت بموجب قضاء أزلي فلم تطرأ بعد سقوط آدم لتصلح ما فسد بسقوطه. فإن الله عينها قبل تأسيس العالم وهذا ما يوجب زيادة قيمتها عندنا وزيادة شكرنا عليها (ع ٧).
  7. إن علة استمرار الناس على الخطيئة عمايتهم وغفلتهم عن فظاعتها وعن جمال القداسة ولولا ذلك ما صلبوا رب المجد. فمن يجدف اليوم على الله فهو غافل عن عظمته. وازدراء بعضهم بالدين المسيحي نتيجة جهله قيمته وتعدي شريعة الله نتيجة عدم الشعور بأهميتها وفضلها فمن يغفلوا عن ذلك «لا يعرفوا ماذا يفعلون» لكنهم مذنبون لأنهم جهلوا ما أمكنهم أن يعرفوه. فعلينا أن نصلي من أجل الخاطئ حين نشعر بأنا نكره أعماله (ع ٨).
  8. إن الناس قد يرتكبون أعظم الخطايا وهم لا يشعرون فإن قتلة ابن الله لم يشعروا بخطيئتهم وكذلك الناس اليوم يخطأون ولا يشعرون بفظاعة خطاياهم ولا بشر عواقبها فما يحسبونه من المعاصي في هذه الدار هزلاً يجدونه في يوم الدين علة هلاكهم الأبدي (ع ٨).
  9. إن المسيحي يرى في الأمور الروحية لذة وجمالاً وعزاء لا يراها غيره فيها فيرى في المسيح جمالاً يفوق كل جمال تتصوره العقول وحكمة في عمل الفداء لا تعادلها حكمة. فله سرور لا يعرفه العالم. هذا فضلاً عما يكون له في السماء (ع ٩).
  10. إن الروح القدس يمتاز عن الآب بأقنوميته لا بكونه صفة من الصفات الإلهية لأن الصفة لا تفحص والروح يفحص وهو مساوٍ للآب لأنه يعرف كل ما يعرفه الله ومن المستحيل أن يكون المخلوق كذلك (ع ١٠ و١١).
  11. إن غاية المسيحيين غير غايات أهل العالم فإن غايتهم مجد الله وغايات أولئك مجد أنفسهم والتلذذ بالشهوات وجمع المال وما شاكل ذلك (ع ١٢).

إننا نفتقر إلى الروح القدس غاية الافتقار فلولاه بقي الخاطئ في الظلمة يكره القداسة والإنجيل الذي يوجبها فهو يكشف للناس افتقارهم إلى المسيح وجماله وجودة الخلاص به وبه نستنير ونتقدس ونتعزى. ومن أهم الأمور أن لا نغيظه لئلا يفارقنا (ع ١٤ و١٥).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى