كورنثوس الأولى

الرسالة الأولى إلى كورنثوس | 01 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح الرسالة الثانية إلى كورنثوس

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الأول

مقدمة الرسالة وهي تشتمل على تحية الرسول لمؤمني كورنثوس وشكره لله من أجلهم وبيان ثقته بهم ع ١ إلى ٩

١ «بُولُسُ، ٱلْمَدْعُوُّ رَسُولاً لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ ٱللّٰهِ، وَسُوسْتَانِيسُ ٱلأَخُ».

رومية ١: ١ و٢كورنثوس ١: ١ وأفسس ١: ١ وكولوسي ١: ١ أعمال ١٨: ١٧

بُولُسُ سُمي بهذا الاسم عندما شرع يُبشر الأمم وكان اسمه العبراني شاول. وكثيراً ما كان يُسمى اليهودي اسمين أحدهما في وطنه والثاني في البلاد الأجنبية.

ٱلْمَدْعُوُّ رَسُولاً أي المعيّن من المسيح نفسه ليعلّم دينه ويؤسس كنيسته. (انظر تفسير رومية ١: ١).

بِمَشِيئَةِ ٱللّٰهِ هذا كقوله «بُولُسُ، رَسُولٌ لاَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ بِإِنْسَانٍ، بَلْ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَٱللّٰهِ» (غلاطية ١: ١). اضطر الرسول إلى التصريح بأن الله دعاه رسولاً لأن بعضهم أنكر سلطانه الرسولي (٢كورنثوس ١٠: ٨ – ١٠). وبيّنات دعوته رسولاً في (أعمال ٩: ٢٢ – ٢٦ و٢٦: ١٦ – ١٨ وغلاطية ١: ١٥).

سُوسْتَانِيسُ ٱلأَخُ أي المؤمن. ذُكر في (أعمال ١٨: ١٧) رجل يٍسمى بهذا الاسم كان رئيس المجمع في كورنثوس ومن جملة الذين شكوا بولس إلى الوالي غاليون. ولا نعلم هل تنصر بعد ذلك ورافق بولس إلى أفسس أو لا. والأرجح أنه كاتب الرسول وأن بولس أملى عليه هذه الرسالة وهو كاتبها كما كان ترتيوس كاتب الرسالة إلى رومية (رومية ١٦: ٢٢) وكما كان تيموثاوس في أكثر ما بقي من الرسائل. ومشاركة هذا الأخ المشهور للرسول في هذه الرسالة مما زادها استعطافاً لأعضاء كنيسة كورنثوس وتأثيراً في قلوبهم.

٢ «إِلَى كَنِيسَةِ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي فِي كُورِنْثُوسَ، ٱلْمُقَدَّسِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلْمَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ مَعَ جَمِيعِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ بِٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، لَهُمْ وَلَنَا».

يوحنا ١٧: ١٩ وأعمال ١٥: ٩ ويهوذا ١ رومية ١: ٧ و٢تيموثاوس ١: ٩ أعمال ٩: ١٤ و٢١ و٢٢: ١٦ و٢تيموثاوس ٢: ٢٢ ص ٨: ٦ رومية ٣: ٢٢ و١٠: ١٢

إِلَى كَنِيسَةِ ٱللّٰهِ نسبها إلى الله لأنها له أي أنه هو أسسها واختار أعضاءها ودعاهم واشتراها بدمه (أعمال ٢٠: ٢٨).

فِي كُورِنْثُوسَ انظر الفصل الأول من مقدمة هذه الرسالة وتفسير (أعمال ١٨: ١).

ٱلْمُقَدَّسِينَ هذا بيان لكنيسة الله لأنها جماعة مؤلفة من الموقوفين لخدمته والمفروزين من سائر العالم والمطهرين بالروح القدس والكلمة الإلهية.

فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي بواسطة (يوحنا ١٧: ١٩). إن اتحاد المؤمنين بالمسيح علة حياتهم وبرّهم وقداستهم. إنهم فيه كالغصن في الكرمة.

ٱلْمَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ أي الذين دعاهم الله الدعوة الفعالة بواسطة روحه القدوس. فهذا كقوله «ٱلَّذِي خَلَّصَنَا وَدَعَانَا دَعْوَةً مُقَدَّسَةً، لاَ بِمُقْتَضَى أَعْمَالِنَا، بَلْ بِمُقْتَضَى ٱلْقَصْدِ وَٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ قَبْلَ ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَزَلِيَّةِ» (٢تيموثاوس ١: ٩) ولفظة قديسين في الإنجيل تفيد معنيين أحدهما مطهرون باطناً والآخر موقوفون لله ظاهراً. وهذا لا يستلزم أن كل أعضاء كنيسة كورنثوس كانوا مؤمنين حقيقيين فإن الرسول خاطبهم بمقتضى اعترافهم علناً. والأرجح أن أكثرهم كان كما وصفهم. ولنا من هذا أن الكنيسة يمكنها أن تكون مع نقصان نظامها وسوء سلوك بعض أعضائها حقيقية مختصة بالمسيح.

مَعَ جَمِيعِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ بِٱسْمِ رَبِّنَا هذه العبارة لا تستلزم أن الرسول قصد بهذه الرسالة كنائس أُخر مع كنيسة كورنثوس لأن مضمونها يدل على أنها خاصة لا عامة. فالظرف وهو «مع» متعلق بالمدعوين من قوله «المدعوين قديسين» ويحتمل أنه أراد «بجميع الذين يدعون» جميع المؤمنين في جوار كورنثوس من اخائية لا في كل العالم كما جاء في (٢كورنثوس ١: ١) فهو سلم على كل هؤلاء وسأل الله أن يباركهم ومثل ذلك ما أتاه في رسالته إلى كنيسة كولوسي (كولوسي ٤: ١٦).

والمراد «بالدعوة باسم الرب» عبادته ومخاطبته بالصلاة وهذا برهان على أن المسيحيين الأولين اعتبروا المسيح إلهاً (يوحنا ٣: ١٨ وأعمال ٢: ٣٦ و٤: ١٢ و١٠: ٣٦).

لَهُمْ وَلَنَا هذا إن كان متعلقاً بحال «من ربنا» أو بنعت له كان المعنى أنه رب لجميع الناس سواء أمامه وفي هذا تذكير لمؤمني كورنثوس أنهم جميعاً إخوة ليس لأحد منهم أن يدّعي أنه للمسيح أكثر من غيره. وإن كان متعلقاً بنعت «مكان» وهو الأرجح كان المعنى أن المؤمنين في جوار كورنثوس هم مختصون بكنيسة كورنثوس باعتبار كونها أم كنائس أخائية وببولس ورفقائه أيضاً باعتبار أنهم هم الذين أرشدوهم إلى المسيح. فأمكنة الكنائس لأهل كورنثوس باعتبار أنهم سكنوها ولبولس ورفقائه باعتبار أنهم بشروا فيها.

٣ «نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ ٱللّٰهِ أَبِينَا وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

رومية ١: ٧ و٢كورنثوس ١: ٢ وأفسس ١: ٢ و١بطرس ١: ٢

انظر تفسير (رومية ١: ٧٩) طلب الرسول مثل هذه الطلبة لكنائس أُخر (غلاطية ١: ٣ وأفسس ١: ٢). فإن قيل لماذا طلب الرسول زيادة النعمة لمن قال أنهم «ليسوا ناقصين في موهبة ما» (ع ٧) قلنا أن قبول النعمة يزيد بزيادة نيلها وأنها ليست كمال في صندوق بل كزيت في سراج مضيء يحتاج إلى الإمداد دائماً.

٤ «أَشْكُرُ إِلٰهِي فِي كُلِّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ عَلَى نِعْمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمُعْطَاةِ لَكُمْ فِي يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

رومية ١: ٨ وفيلبي ١: ٣

أخذ الرسول يمدح كنيسة كورنثوس عل معرفتها الحق وثبوتها فيه على قدر ما أمكن تسهيلاً لما قصده من توبيخها على التشويش وغيره.

أَشْكُرُ إِلٰهِي شكر الله باعتبار كونه تعالى مصدر كل خير وإضافة إلى نفسه بياناً لبذل جهده في كل حين أن يكرمه ويطيعه ويرضيه (رومية ١: ٨ وفيلبي ١: ٣).

فِي كُلِّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ أبان بهذا أنه يفكر فيهم دائماً ويفرح بنجاحهم أبداً وأنه رأى من تقدمهم ما حمله على الشكر لله ينبوع كل بركة.

نِعْمَةِ ٱللّٰهِ أي رحمته والبركات الناتجة منها وقصد الرسول بها هنا المعرفة الروحية كما يظهر من (ع ٥).

فِي يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لكونهم مؤمنين ومتحدين به كأعضاء جسده.

٥ «أَنَّكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ ٱسْتَغْنَيْتُمْ فِيهِ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ وَكُلِّ عِلْمٍ».

ص ١٢: ٨ و٢كورنثوس ٨: ٧

أنبأ الرسول في هذه الآية بكيفية ظهور النعمة لهم.

أَنَّكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ ٱسْتَغْنَيْتُمْ فِيهِ أي أن الله أكثر لكم به البركات الروحية التي ينعم بها على أولاده.

فِي كُلِّ كَلِمَةٍ وَكُلِّ عِلْمٍ بيّن بهذا أن غناهم معرفتهم حقائق الإنجيل. وعبّر عن هذه المعرفة «بالكلمة» لأنه أعلنها الأنبياء والمعلمون والمبشرون بالتكلم. وعبّر عنها «بالعلم» لأنهم حصلوا عليها وأدركوها بعقولهم. فالحق باعتبار بيانه لفظاً يُسمى بالكلمة وباعتبار إدراكه عقلاً يُسمى علماً.

٦ «كَمَا ثُبِّتَتْ فِيكُمْ شَهَادَةُ ٱلْمَسِيح».

ص ٢: ١ و٢تيموثاوس ١: ٨ ورؤيا ١: ٢

المراد بشهادة المسيح الإنجيل باعتبار كونه إعلان أمور المسيح بلسان المسيح نفسه لأنه هو «الشاهد الأمين» (يوحنا ٣: ١١ و٣٢ و٣٣ و٨: ١٣ و١٤) وبألسنة رسله الذين أقامهم شهوداً له (أعمال ١: ٨). وثُبتت هذه الشهادة في أهل كورنثوس بمعرفتهم الوافرة بها وبالمعجزات التي صنعها بولس بينهم تصديقاً لها وبوفرة تأثير تلك الشهادة فيهم (٢كورنثوس ٣: ١ – ٣).

٧ «حَتَّى إِنَّكُمْ لَسْتُمْ نَاقِصِينَ فِي مَوْهِبَةٍ مَا، وَأَنْتُمْ مُتَوَقِّعُونَ ٱسْتِعْلاَنَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ»

فيلبي ٣: ٢٠ وكولوسي ٣: ٤ وتيطس ٢: ١٣ و٢بطرس ٣: ١٢

حَتَّى إِنَّكُمْ لَسْتُمْ نَاقِصِينَ فِي مَوْهِبَةٍ مَا هذا متعلق بقوله استغنيتم (ع ٥) وبيان أن الله جعلهم أغنياء بالبركات الروحية كالسلام والرجاء والإيمان والصبر وأعطاهم أيضاً مواهب خارقة العادة تكلم عليها بالتفصيل في (ص ١٢: ٤).

مُتَوَقِّعُونَ ٱسْتِعْلاَنَ الخ هذا الاستعلان هو مجيء المسيح ثانية الذي أنبأ به تلاميذه قبل موته (يوحنا ١٤: ٢) وتجدد الوعد به بعد صعوده (أعمال ١: ١١) وهو رجاء كل المسيحيين وبغيتهم (تيطس ٢: ١٣ وعبرانيين ٩: ٢٨ و١بطرس ٣: ٢٠ و٢بطرس ٣: ١٢) وتوقع كنيسة كورنثوس إياه أبان أنهم «ليسوا ناقصين في موهبة ما» لأنه أبان إيمانهم بوعد المسيح ورجاءهم القوي المبني عليه ومحبتهم له حتى اشتاقوا مجيئه. إن الأشرار يخافون من مجيء المسيح كأعظم الأرزاء وأما المؤمنون فمن أول عهدهم إلى الآن يرجونه ويشتاقونه كأعظم الآلاء.

٨ «ٱلَّذِي سَيُثْبِتُكُمْ أَيْضاً إِلَى ٱلنِّهَايَةِ بِلاَ لَوْمٍ فِي يَوْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

١تسالونيكي ٣: ١٣ كولوسي ١: ٢٢ و١تسالونيكي ٥: ٢٣

ٱلَّذِي سَيُثْبِتُكُمْ أي إلهي (ع ٤) الذي أغناكم بمواهب الروح فهو لا يسمح لكم أنكم تسقطون من إيمانكم ورجائكم وطاعتكم للحق وإن كانت تجاريبكم كثيرة من داخل ومن خارج وهذا موافق لقوله «وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي يُثَبِّتُنَا مَعَكُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ، وَقَدْ مَسَحَنَا، هُوَ ٱللّٰهُ» (٢كورنثوس ١: ٢١). ولا قوة غير قوة الله يمكنها أن تحفظهم «كاملين بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح».

إِلَى ٱلنِّهَايَةِ أي نهاية حياة المؤمنين أفراداً أو نهاية العالم حين يأتي المسيح وهو المراد على مقتضى القرينة فنتج أنه يثبتهم إلى الأبد.

بِلاَ لَوْمٍ أمام الديان العظيم لأن الرسول يتكلم هنا على ما يحدث حين مجيء المسيح. والمعنى أنه ليس من علة لدينونة المؤمنين لأمرين الأول تبررهم بالإيمان بالرب يسوع المسيح والثاني كونهم خليقة جديدة بالمسيح مقدسون بفعل الروح القدس (رومية ٨: ١ و٢كورنثوس ٥: ١٧ وافسس ٥: ٢٧ و١تسالونيكي ٥: ٢٣).

عرف مسيحيو كورنثوس عجزهم عن الثبوت في القداسة التي توجبها ضمائرهم عليهم فأكد لهم الرسول أنهم يُثبتون حتى يكونوا بلا لوم أمام عيني ذلك الذي «السماوات ليست بطاهرة أمامه».

فِي يَوْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الخ أي يوم الدين العظيم (رومية ٢: ١٦ و٢كورنثوس ٥: ١٠) فما قاله الرسول في مسيحي كورنثوس يصدق على كل المسيحيين لإمكان أن يكونوا «وَاثِقاً بِهٰذَا عَيْنِهِ أَنَّ ٱلَّذِي ٱبْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (فيلبي ١: ٦).

٩ «أَمِينٌ هُوَ ٱللّٰهُ ٱلَّذِي بِهِ دُعِيتُمْ إِلَى شَرِكَةِ ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا».

إشعياء ٤٩: ٧ وص ١٠: ١٣ و١تسالونيكي ٥: ٢٤ و٢تسالونيكي ٣: ٣ وعبرانيين ١٠: ٢٣ يوحنا ١٥: ٤ و١٧: ٢١ و١يوحنا ١: ٣ و٤: ١٣

ذكر في هذه الآية علة الرجاء الذي ذكره في الآية الثامنة فهو كما في قوله «وَاثِقاً بِهٰذَا عَيْنِهِ أَنَّ ٱلَّذِي ٱبْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (فيلبي ١: ٦ انظر أيضاً ١تسالونيكي ٥: ٢٤).

أَمِينٌ هُوَ ٱللّٰهُ ثبوت المؤمن متوقف على أمانة الله لا على قوة عزمه ولا على كثرة نذوره وذلك لثلاث علل الأولى قصده وقضاؤه والثانية وعده المسيح في عهد الفداء (إشعياء ٥٣: ١٠ و١١). والثالثة وعده المؤمنين.

دُعِيتُمْ إِلَى شَرِكَةِ ٱبْنِهِ الخ سميت هذه الشركة «بحرية مجد أولاد الله» (رومية ٨: ٢١) و «بالإرث مع المسيح» (رومية ٨: ١٧). و «باقتناء مجد ربنا يسوع المسيح» (٢تسالونيكي ٢: ١٤). إن الله دعا المؤمنين إلى مشاركة ابنه يسوع في صلبه ودفنه وقيامته وملكه ومجده. وهذه الدعوة فعالة بواسطة فعل الروح القدس في القلب (رومية ٨: ٣٠ و١١: ٢٩). وشركة كل المؤمنين في الواحد يسوع المسيح يلزم منها اتحاد بعضهم ببعض لكونهم أعضاء جسده.

الانشقاق في الكنيسة ع ١٠ إلى ١٦

١٠ «وَلٰكِنَّنِي أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، بِٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَنْ تَقُولُوا جَمِيعُكُمْ قَوْلاً وَاحِداً، وَلاَ يَكُونَ بَيْنَكُمُ ٱنْشِقَاقَاتٌ، بَلْ كُونُوا كَامِلِينَ فِي فِكْرٍ وَاحِدٍ وَرَأْيٍ وَاحِدٍ».

رومية ١٢: ١٦ و١٥: ٥ و٢كورنثوس ١٣: ١١ وفيلبي ٢: ٢ و٣: ١٦ و١بطرس ٣: ٨

شرع الرسول هنا يوبخ الكنيسة على تحزبها وشغل أكثر كلامه بهذا إلى نهاية الأصحاح الرابع.

وَلٰكِنَّنِي أي مع أني وجدت فيكم ما حملني على الشكر لله من أجلكم وجدت ما حملني على لومكم.

أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ كان حقه أن يأمرهم لأنه رسول لكنه فضّل أن يلتمس منهم كصاحب في مقام واحد معهم فكان هذا الرسول كلما رغب في خطاب الناس خاطبهم كإخوة (ص ٧: ٢٩ و١٠: ١ و١٤: ٢٠).

بِٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ بنى كلامه في وجوب اتحاد بعض المؤمنين ببعض على سلطان المسيح رأس الكنيسة وعلى أنهم مدعوون إلى مشاركته (ع ٩) وعلى أنه أمر تلاميذه بالاتحاد (يوحنا ١٣: ٣٤ و١٥: ١٧) وعلى أن اسمه مكرّم عندهم ومحبوب فوق كل اسم.

أَنْ تَقُولُوا جَمِيعُكُمْ قَوْلاً وَاحِداً أي أن تظهروا بكلامكم الاتفاق الذي بينكم على الخضوع لرب واحد والتمسك بجوهريات الدين معتزلين الجدال في العرضيات (فيلبي ٢: ٢).

وَلاَ يَكُونَ بَيْنَكُمُ ٱنْشِقَاقَاتٌ أي أن لا تكونوا أحزاباً يُسمى كل منهم بالنسبة إلى المعلمين الروحيين. وتلك الأحزاب لم يتميّز بعضها عن بعض بالعقائد الدينية بل أن كل فرقة حسبت بعض العقائد التي اتُفق عليها أهم مما سواه وتمسكت به كل التمسك أو أن كل فرقة استحسنت التعبير عن العقائد بالألفاظ لم يستحسنها سواها وميّزت نفسها عن غيرها بانتسابها إلى أحد المعلمين المذكورين في (ع ١٢).

والانشقاقات هنا في الأصل اليوناني شقوق الثوب أو خروقه وكثيراً ما شبه الكتبة المسيحيون الكنيسة بثوب المسيح لكونه قطعة واحدة بلا خياطة وبهذا التحزّب في الكنيسة بشق ذلك الثوب فإن الانشقاقات مزيلة لخير الكنيسة وسعادتها وعارٌ عليها وعلى سيّدها.

كُونُوا كَامِلِينَ وفي الأصل اليوناني «ارتقوا الخرق» وفي بعض البشائر بمعنى «إصلاح الشباك» (متّى ٤: ٢١ ومرقس ١: ١٩) والمطلوب هنا بالكمال أو الرتق أو الإصلاح الاتحاد بتوجيه أفكارهم إلى المواضيع التي اتفقوا عليها كالمحبة لله والإيمان بالمسيح وابتغاء امتداد ملكوته في العالم وانتظار السعادة الأبدية في السماء.

فِي فِكْرٍ وَاحِدٍ وَرَأْيٍ وَاحِدٍ لم يتضح تمام الإيضاح الفرق بين الفكر والرأي هنا ولعل المراد بالأول ما يجب اعتقاده وبالثاني ما يجب عمله وبهما معاً الاتفاق التام.

١١ «لأَنِّي أُخْبِرْتُ عَنْكُمْ يَا إِخْوَتِي مِنْ أَهْلِ خُلُوِي أَنَّ بَيْنَكُمْ خُصُومَاتٍ».

أَهْلِ خُلُوِي الظاهر أن خلوي امرأة معروفة في كورنثوس أو هي عضو من الكنيسة أم لا وهل أهل بيتها أبناء أو عبيد لا نعلم إنما نعرف أنهم أتوا إلى أفسس من كورنثوس وأخبروا بولس بأمور الكنيسة في تلك المدينة. ظن بعضهم أنهم استفانوس وفرتونيتوس وأخائيكوس الذين ذكر مجيئهم في (ص ١٦: ١٧) وأنهم أتوا بالرقيم المشار إليه في (ص ٧: ١).

خُصُومَاتٍ من جهة معلمي الدين كما يأتي في (ع ١٢). والقرينة تدل أن تلك الخصومات لم تؤد إلى خروج أحد الأحزاب من الكنيسة.

١٢ «فَأَنَا أَعْنِي هٰذَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يَقُولُ: «أَنَا لِبُولُسَ، وَأَنَا لأَبُلُّوسَ، وَأَنَا لِصَفَا، وَأَنَا لِلْمَسِيحِ».

ص ٣: ٤ أعمال ١٨: ٢٤ و١٩: ١ وص ١٦: ١٢

فَأَنَا أَعْنِي أي أفسر مرادي بالخصومات.

أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لعله أراد أن هذه حال أكثر أعضاء الكنيسة.

يَقُولُ الخ يدل هذا الكلام على أنه كان في الكنيسة أربعة أحزاب امتاز بعضهم عن بعض بنسبته إلى الشخص الذي تبعه ولا نستطيع هنا بيان الفرق أن الكنيسة كانت مؤلفة من متنصري اليهود والأمم (أعمال ص ١٨) وأن علة الخصومات بين الفريقين المعلمون الكذبة (٢كورنثوس ١١: ١٣) وأن هؤلاء المعلمين كانوا عبرانيين (٢كورنثوس ١١: ٢٢) رغبوا في إبطال كون بولس رسولاً ومعلماً في الدين المسيحي. وأنه لم يكن في عقائد أحد الأحزاب ما يوجب قطعه من الكنيسة لأن بولس سألهم أن يتصالحوا لا أن يقطع بعضهم بعضاً من الكنيسة.

أَنَا لِبُولُسَ المرجّح أن الذين تحزبوا لبولس كانوا ممن تنصروا بتبشيره وتمثلوا به في السيرة والكلام وأنهم من متنصري الأمم فتمسكوا ببولس لأنه «رسول الأمم» وأخطأوا بأنهم أكرموا بولس بانتسابهم إليه وذلك إكرام لا يليق بغير المسيح ولعل هؤلاء اعتبروا الحرية المسيحية التي حامى عنها بولس اعتباراً مجاوزاً للحد وازدروا بالذين خالفوهم من الإخوة كما فعل بعض المسيحيين في رومية (رومية ١٤: ١٠) فنصح بولس لهم بأن يتمسكوا بالمسيح رأس الكنيسة الوحيد الحقيقي (ع ١٣).

أَبُلُّوسَ هذا مختصر أبولونيوس وهو يهودي من اسكندرية من تلامذة يوحنا المعمدان علّمه الديانة المسيحية أكيلا وبريسكلا في أفسس فذهب إلى كورنثوس بعد ما تركها بولس وأخذ يبشر فيها وكان فصيحاً مقتدراً في الكتب (أعمال ١٨: ٢٤). والأرجح أنه كان محكماً الفلسفة اليونانية التي اشتهرت مدارس الاسكندرية بتعليمها ولعل الذين انتسبوا إليه كانوا ممن تنصروا على يده وأعجبوا بفصاحته وادعوا أنه أعلم من بولس وأحسن منه في التعليم لأنه أوضح العقائد المسيحية بالعبارات الفلسفية.

لِصَفَا أي بطرس (يوحنا ١: ٤٢) الأرجح أن الذين تحزبوا لبطرس كانوا من متنصري اليهود الذين فنّد بولس تعاليمهم في رسالته إلى أهل غلاطية. ولا دليل على أن بطرس كان في كورنثوس إنما عرفوا أنه أحد الاثني عشر وأنه «رسول الختان» (غلاطية ٢: ٧). وادعوا أنهم اتبعوا تعليمه بطلبهم من متنصري الأمم أن يختتنوا ويخضعوا لسائر رسوم الشريعة الموسوية وقالوا بأن بطرس أعظم من بولس لأنه سمع تعليم المسيح من شفتيه وأن المسيح عيّنه رسولاً بخلاف بولس.

لِلْمَسِيحِ لا نعلم بماذا امتازت هذه الفرقة من العقائد إلا أنها افتخرت بكونها استغنت عن تعليم خدم المسيح ولا سيما بولس. ولعل بعضهما كان في اليهودية أيام تبشير المسيح وشاهده وسمعه وادعت أن عقائدها وأعمالها توافق عقائد المسيح وأعماله أكثر مما توافقها بقية عقائد كنيسة كورنثوس وأعمالها. فلم يسلم بولس بصحة ما ادعته إذ قال «إِنْ وَثِقَ أَحَدٌ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ لِلْمَسِيحِ، فَلْيَحْسِبْ هٰذَا أَيْضاً مِنْ نَفْسِهِ: أَنَّهُ كَمَا هُوَ لِلْمَسِيحِ، كَذٰلِكَ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمَسِيحِ» (٢كورنثوس ١٠: ٧).

١٣ «هَلِ ٱنْقَسَمَ ٱلْمَسِيحُ؟ أَلَعَلَّ بُولُسَ صُلِبَ لأَجْلِكُمْ، أَمْ بِٱسْمِ بُولُسَ ٱعْتَمَدْتُمْ؟».

٢كورنثوس ١١: ٤ وأفسس ٤: ٥

غاية الرسول من هذه الأسئلة بيان أن هذه الخصومات منافية لما بينهم وبين المسيح ولما بينهم وبين إخوتهم المسيحيين من العلاقة لأن كل المسيحيين يعتقدون أن المسيح ابن الله وأنهم مفديون بدمه وأنهم موقوفون له في المعمودية فأوجب عليهم ذلك أن يتحدوا ظاهراً وباطناً وإلا وجب أن ينقسم المسيح على قدر أقسامهم ولتنوّع معموديتهم وبكثر من صُلب عنهم.

هَلِ ٱنْقَسَمَ ٱلْمَسِيحُ هذا استفهام إنكاري ومعنى العبارة أنه من المستحيل أن رأس الكنيسة ينقسم ولذلك لا يجوز أن تكون الكنيسة التي هي جسده أحزاباً فوحدة الرأس تقتضي اتحاد الأعضاء.

أَلَعَلَّ بُولُسَ صُلِبَ لأَجْلِكُمْ أي هل فداكم بدمه وإلا فبأي حق تدعون أنكم أتباعه وتتسمون باسمه. فما لا يجوز أن ينسبوه إلى بولس منشئ كنيسة كورنثوس بالأولى لا يجوز أن ينسب إلى أبلوس أو صفا فإن أفضل الرسل والمعلمين لا يستحقون هذا التعظيم وهو أن ينسب المؤمنون أنفسهم إليه إذ ذلك مما يختص بالمسيح.

أَمْ بِٱسْمِ بُولُسَ ٱعْتَمَدْتُمْ حتى يكون هو موضوع إيمانكم واعترافكم. والواقع ليس كذلك فإن معموديتهم باسم المسيح تستلزم أن ينتسبوا إليه ويُعرفوا به. فكأن الرسول قال بتلك الاستفهامات عظموا المسيح بأنه هو وحده رئيس إيمانكم ورأس كنيستكم فبذلك يقترب بعضكم من بعض وتنسون انشقاقاتكم.

١٤، ١٥ «١٤ أَشْكُرُ ٱللّٰهَ أَنِّي لَمْ أُعَمِّدْ أَحَداً مِنْكُمْ إِلاَّ كِرِيسْبُسَ وَغَايُسَ، ١٥ حَتَّى لاَ يَقُولَ أَحَدٌ إِنِّي عَمَّدْتُ بِٱسْمِي».

أعمال ١٨: ٨ رومية ١٦: ٢٣

سرّ بولس بأنه لم يعمّدهم لكي لا يترك لهم حجة على أن ينسبوا أنفسهم إليه بتعميده إياهم ولكي لا يشكوه غيرهم بأنه عمّد كثيرين بغية أن يكثر حزبه. ورأى أن ذلك كان بعناية الله وموضوع شكر له.

كان لبولس حق أن يعمّد بأمر المسيح (متّى ٢٨: ١٩) لكنه وكَل ذلك إلى غير اقتداء بالمسيح (يوحنا ٤: ٢) كما فعل بطرس في قيصرية (أعمال ١٠: ٤٨).

كِرِيسْبُسَ رئيس مجمع كورنثوس (أعمال ١٨: ٨)؟

غَايُسَ الذي كان بولس ضيفه في كورنثوس حين كان يكتب الرسالة إلى الرومانيين (رومية ١٦: ١٣).

١٦ «وَعَمَّدْتُ أَيْضاً بَيْتَ ٱسْتِفَانُوسَ. عَدَا ذٰلِكَ لَسْتُ أَعْلَمُ هَلْ عَمَّدْتُ أَحَداً آخَرَ».

ص ١٦: ١٥ و١٧

بَيْتَ ٱسْتِفَانُوسَ باكورة أخائية (ص ١٦: ١٥). والأرجح أن علة تعميد بولس هؤلاء كونهم أول المؤمنين بالمسيح هنالك ولم يكن بولس يومئذ من يساعده على الخدمة الدينية.

جرت العادة في الكنيسة اليهودية أن رئيس البيت كان حين يختتن ويدخل عهد الله يُدخل أهل بيته معه ويأتون علامة العهد أي الختان. وكذلك كان في عصر الإنجيل فإن رئيس البيت حين كان يدخل الكنيسة المسيحية بالمعمودية يعتمد سائر أهل بيته أيضاً ويحسبون من أعضاء الكنيسة.

عَدَا ذٰلِكَ لَسْتُ أَعْلَمُ الخ ينتج من ذلك أن إلهام الرسول الذي عصمه من الغلط في التعليم الديني لم يقدره على معرفة غيره من الأمور.

محاماة بولس عن بساطة تعليمه وتبيينه الفرق بين الحكمة العالمية والحكمة الإلهية ع ١٧ إلى ٣١

١٧ «لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ لَمْ يُرْسِلْنِي لأُعَمِّدَ بَلْ لأُبَشِّرَ لاَ بِحِكْمَةِ كَلاَمٍ لِئَلاَّ يَتَعَطَّلَ صَلِيبُ ٱلْمَسِيحِ».

ص ٢: ١ و٤ و١٣ و٢بطرس ١: ١٦

سكت الرسول عن إتمام الكلام في خصومات الكنيسة إلى أن أسباب تعليمه بغاية البساطة وعدم اتكاله على الحكمة البشرية وذكر في بقية هذا الأصحاح أربعة من تلك الأسباب:

  • الأول: حكم الله بأن الحكمة البشرية جهل (ع ١٩ و٢٠).
  • الثاني: تبيين الاختبار عجز الحكمة البشرية عن أن تقود الناس إلى معرفة الله الحقيقية (ع ٢١).
  • الثالث: تعيين الله التبشير واسطة من وسائط الخلاص في العالم (ع ٢٢ – ٢٥).
  • الرابع: شهادة اختبار مسيحيي كورنثوس أنهم لم يخلصوا بواسطة الفلسفات بل بأن الله اختارهم ودعاهم (ع ٢٦ – ٣٠) ونتيجة ذلك كله أنه «من افتخر فليفتخر بالرب».

ٱلْمَسِيحَ لَمْ يُرْسِلْنِي لأُعَمِّدَ أي لم يجعل المعمودية من أهم أعمال مرسليتي. نعم إن المسيح قال لتلاميذه «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم» الخ (متّى ٢٨: ١٩) لكن التلمذة هي التبشير بالإنجيل وهي مقدمة على التعميد دلالة على أن التبشير أهم أعمال الرسل وأن المعمودية مع كونها من الواجبات هي ثانية للتبشير (قابل ما في مرقس ١٦: ١٥ ولوقا ٢٤: ٤٧ وأعمال ٩: ١٥ و٢٢: ١٥ و٢٦: ١٦ – ١٨ بما في غلاطية ١: ١٦). وقال الرسول هنا هذا بياناً لعلة أنه لم يعمّد إلا قليلاً.

اعتبر بعض اليهود الختان علة للخلاص فغفلوا عن أن الختان الظاهر إشارة إلى تطهير القلب كذا اعتبر بعض المسيحيين المعمودية التي هي إشارة إلى القداسة أكثر من المشار إليه فكلام الرسول هنا تحذير من مثل ذلك الاعتبار لكن ليس فيه شيء من الاستخفاف بالمعمودية. قال الرسول «إن نفع الختان كثير على كل وجه الأرض» (رومية ٣: ٢) فالمسيحي يعرّض نفسه لدينونة الله إذا ترك المعمودية عمداً أو استخف بها.

لاَ بِحِكْمَةِ كَلاَمٍ أي لا بتعاليم استنبطت بالحكمة البشرية بدل حقائق الوحي التي هي حكمة الله. فالمسيح أرسل بولس ليشهد بالحق لا ليعلم الفلسفة ورأى الرسول أن عمله الوحيد هو ان ينادي بما أعلنه الله له ويبين للناس وجوب أن يقبلوا تعليمه لأنه من السماء لا لأنه يوافق عقل الإنسان وآراء العلماء. وهذا مثل قوله «اُنْظُرُوا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ بِٱلْفَلْسَفَةِ وَبِغُرُورٍ بَاطِلٍ، حَسَبَ تَقْلِيدِ ٱلنَّاسِ، حَسَبَ أَرْكَانِ ٱلْعَالَمِ، وَلَيْسَ حَسَبَ ٱلْمَسِيحِ» (كولوسي ٢: ٨).

لِئَلاَّ يَتَعَطَّلَ صَلِيبُ ٱلْمَسِيحِ أي التبشير بيسوع المسيح مصلوباً (غلاطية ٥: ١١ و٦: ١٢ و١٤ وفيلبي ٣: ١٨). وكان هذا الموضوع أهم تعاليم بولس لما فيه من البيّنات الجلية على خطيئة الإنسان ومحبة الله. فلو بشر الرسول بالحكمة البشرية التي تجهل مغفرة الخطايا بدم المسيح بدل تبشيره بالمسيح مصلوباً أو خلط الفلسفة اليونانية بالتعليم الإنجيلي ترغيباً للناس فيه لكان تبشيره باطلاً. ولو اتكل على فصاحته في التعبير عن الحقائق الإنجيلية بدل اتكاله على الروح القدس لكان ذلك باطلاً أيضاً. ولا شيء في هذه الآية يمنع المبشر من استخدام كل فصاحته وغيرته في إيضاحه حقائق الإنجيل لكي يحمل الناس على الهرب من الغضب الآتي والتمسك بالحياة الأبدية. فإنا لا نستطيع أن نجد في أقوال الناس أفصح من خطاب بولس في آريوس باغوس في أثينا (أعمال ص ١٧) ومن احتجاجه أمام الملك أغريباس (أعمال ص ٢٦) ومن كلامه الوداعي إلى مشائخ كنيسة أفسس (أعمال ص ٢٠) وأبلغ مما في بعض رسائله كالأصحاح الثالث عشر والأصحاح الخامس عشر من هذه الرسالة.

١٨ «فَإِنَّ كَلِمَةَ ٱلصَّلِيبِ عِنْدَ ٱلْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ ٱلْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ ٱللّٰهِ».

٢كورنثوس ٢: ١٥ أعمال ١٧: ١٨ وص ٢: ١٤ ص ١٥: ٢ رومية ١: ١٦ وع ٢٤

بيّن الرسول في هذه الآية أن المسيح أرسله ليبشر بالصليب لا بالحكمة البشرية لأن ذلك كاف وحده للخلاص.

كَلِمَةَ ٱلصَّلِيبِ التبشير بأن الخلاص بالمسيح مصلوباً كفارة لخطايا الناس.

عِنْدَ ٱلْهَالِكِينَ أي كل الذين لم يؤمنوا بالمسيح لأنهم عرضة للهلاك بخطاياهم ولا بد من أن الهلاك يدركهم إن بقوا على كفرهم.

جَهَالَةٌ لحسبانهم يسوع إنساناً فقط وأنه مات بحكم الشريعة الإنسانية العادلة وأنه لم يزل ميتاً فيرون من المستحيل أن يستطيع مثل هذا الذي لم يقدر أن يخلص نفسه أن يخلص العالم. وفي هذا دفع لاعتراض بعض أهل كورنثوس وهو أن كلام بولس بلا تأثير. فكأنه قال نعم أن تبشيري جهالة لمن هم كالعميان يجرون في طريق الهلاك فلا يستطيعون أن يبصروا ضوء الحكمة الإنجيلية. وهذا مثل قوله «إِنْ كَانَ إِنْجِيلُنَا مَكْتُوماً، فَإِنَّمَا هُوَ مَكْتُومٌ فِي ٱلْهَالِكِينَ، ٱلَّذِينَ فِيهِمْ إِلٰهُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ ٱلْمَسِيحِ» (٢كورنثوس ٤: ٣ و٤).

ٱلْمُخَلَّصِينَ أي المؤمنين بيسوع الذين تمسكوا به لخلاص نفوسهم وقد شرع في تخليصهم فاجتازوا من الموت إلى الحياة وهم يجرون في طريق النجاة (يوحنا ٥: ٢٤ وأعمال ٢: ٤٠).

قُوَّةُ ٱللّٰهِ أي واسطة إظهارها. إن الله القدير يجدد بالمسيح مصلوباً الناس ويقدسهم ويخلصهم فإذاً كلمة الصليب قوية فعالة (انظر تفسير رومية ١: ١٦).

١٩ «لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: سَأُبِيدُ حِكْمَةَ ٱلْحُكَمَاءِ وَأَرْفُضُ فَهْمَ ٱلْفُهَمَاءِ».

أيوب ٥: ١٢ و١٣ وإشعياء ٤٩: ١٤ وإرميا ٨: ٩

هذا مقتبس من (إشعياء ٢٩: ١٤) وموافق لترجمة السبعين لفظاً وللأصل العبراني معنىً أورده بولس بياناً لعلة عدم تبشيره بالحكمة البشرية وهو أنّ الله صرّح ببطلان مثل هذه الحكمة. فما صدق على حكماء أورشليم في عهد إشعياء يصدق على أمثالهم في كل عصر وعلى مساعيهم في إصلاح العالم وإزالة شرّ البلايا منه والإتيان بالخير والسعادة للناس. ولم ينجح في هذه المساعي سوى الإنجيل وقد نجح كثيراً في رفع الناس إلى مقام السعادة والقداسة في الدارَين الدنيا والآخرة. وجاء في هذا النجاح على خلاف ما توقعه فلاسفة هذا العالم وحكماؤه وتحيروا به.

٢٠ «أَيْنَ ٱلْحَكِيمُ؟ أَيْنَ ٱلْكَاتِبُ؟ أَيْنَ مُبَاحِثُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ؟ أَلَمْ يُجَهِّلِ ٱللّٰهُ حِكْمَةَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ؟».

إشعياء ٣٣: ١٨ أيوب ١٢: ١٧ و٢٠ و٢٤ وإشعياء ٤٤: ٢٥ ورومية ١: ٢٢

هذا مثل ما في (إشعياء ٣٣: ١٨) قاله بولس لموافقته لما أراد لأن ما صدق على أعداء أورشليم في أيام إشعياء ببطلان قصدهم هدم أورشليم صدق على حكماء عصر بولس ببطلان آرائهم.

أَيْنَ ٱلْحَكِيمُ؟ أي العالم الذي يعلن للناس صفات الله الحق وطريق الخلاص. الاستفهام إنكاري فالمعنى أنه لا يوجد الحكيم فالبحث عنه عبث. والمراد «بالحكيم» هنا الجنس فيصدق على رباني اليهود وفلاسفة الأمم الذين اشتهروا بالحكمة.

أَيْنَ ٱلْكَاتِبُ؟ الأرجح أن المراد بالكاتب هنا من اعتبره اليهود أحكم من سائر علمائهم لأن الكتبة هم الذين امتازوا بالحكمة عندهم.

أَيْنَ مُبَاحِثُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ؟ المباحث هنا أحسن الحكماء عند اليونانيين. دعا الرسول بهذه الأسئلة علماء الأرض إلى بيان ما أفادوا الناس به من تقاليدهم وفلسفتهم لإصلاح العالم وإعلان طريق الخلاص.

أَلَمْ يُجَهِّلِ ٱللّٰهُ حِكْمَةَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ أي يبرهن أنها جهل بعدم التفاته إليها في تأييد الحق وتوطيد البر وإنقاذ الخطأة وبأنه أجرى ذلك كله بإنجيله فقط وأتى ذلك على رغم استخفافهم بالإنجيل وعلى رغم مقاومتهم إياه.

٢١ «لأَنَّهُ إِذْ كَانَ ٱلْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ ٱللّٰهِ لَمْ يَعْرِفِ ٱللّٰهَ بِٱلْحِكْمَةِ، ٱسْتَحْسَنَ ٱللّٰهُ أَنْ يُخَلِّصَ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ ٱلْكِرَازَةِ».

متّى ١١: ٢٥ ولوقا ١٠: ٢١ ورومية ١: ٢٠ و٢١ و٢٨

في هذه الآية برهان على أن الله جهّل حكمة العالم.

فِي حِكْمَةِ ٱللّٰهِ أي في الترتيب الذي قضى به بالحكمة الأزلية.

لَمْ يَعْرِفِ ٱللّٰهَ بِٱلْحِكْمَةِ إن الله ترك العالم أربعة آلاف سنة يتعلمون بالاختبار أن أعظم فلاسفته عاجزون بحكمتهم ومباحثهم عن الحصول على معرفة الله الحقيقية الكافية لخلاص النفوس مع أنهم محاطون بما لا يُحصى من الأدلة في أعمال الخليقة على وجوده وحكمته وقوته (أعمال ١٧: ٢٦ ورومية ١: ١٩). فذلك الزمان الطويل كان كافياً للتوصل إلى المطلوب لو استطاعوا ولكنهم لم يستطيعوا لأن بعضهم نفى الباري وبعضهم نسب إليه تعالى أفظع الصفات والأعمال. وشبهه بعضهم بالأوثان من الخشب والحجارة والبهائم حتى الدبابات ولم يعرفوا أنه إله القداسة القادر أن يغفر للخاطئ ويجعله من أهل طاعته المقدسين. وأوضح الرسول ذلك كله في الأصحاح الأول من الرسالة إلى الرومانيين.

ٱسْتَحْسَنَ ٱللّٰهُ أَنْ يُخَلِّصَ ٱلْمُؤْمِنِينَ بيسوع المسيح. (انظر كرازة الإنجيل ١٦: ١٦). فشرط الخلاص الإيمان فلا تنفع كرازة الإنجيل بدونه وهذا على وفق قوله «لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ، لأَنَّهُ قُوَّةُ ٱللّٰهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ» (رومية ١: ١٦).

بِجَهَالَةِ ٱلْكِرَازَةِ أي بالكرازة التي اعتبرها العالم جهالة وهي المناداة بيسوع المسيح مصلوباً. والله اختار هذه المناداة واسطة إلى خلاص البشر فنجاة الخاطئ من الخطية والهلاك في هذه الطريق أثبتت حكمة الله وأظهرت جهالة الحكماء الذين استخفوا بالإنجيل.

ولنا من هذه الآية أمران الأول أن تعليم الصليب أي المناداة بيسوع المسيح مصلوباً هو جوهر الإنجيل والثاني أن تلك المناداة أفضل واسطة إلى خلاص البشر كما يظهر من تأثير وعظ بولس يوم الخمسين في الجمهور العظيم (أعمال ص ٢) ومن تبشير فيلبس لوزير ملكة الحبشة (أعمال ٨: ٣٥).

٢٢، ٢٣ «٢٢ لأَنَّ ٱلْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَٱلْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً، ٢٣ وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً!».

متّى ١٢: ٢٨ و١٦: ١ ومرقس ٨: ١١ ولوقا ١١: ١٦ ويوحنا ٢: ١٨ و٤: ٤٨ و٦: ٣٠ إشعياء ٨: ١٤ ومتّى ١١: ٦ و١٣: ٥٧ ولوقا ٢: ٣٤ ويوحنا ٦: ٦٠ و٦٦ ورومية ٩: ٣٢ وغلاطية ٥: ١١ و١بطرس ٢: ٨ ع ١٨ وص ٢: ١٤

أبان الرسول في هاتين الآيتين أنه بشّر الناس بالطريق التي استحسنها الله مع أن اليهود والأمم طلبوا أن يثبت لهم تعليمه بأدلة الحكمة البشرية ورفضوا قبولهم الإيمان.

لأَنَّ ٱلْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً سألوا ذلك المسيح أولاً ثم رسله ومن ذلك قولهم «أي آية تصنع لنرى ونؤمن بك» (متى ١٢: ٣٨ و١٦: ١ ولوقا ١١: ١٦ ويوحنا ٢: ١٨ و٦: ٣٠).

وَٱلْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً أي براهين علمية مرتبة على نسق مدارسهم المنطقية مقنعة كالبراهين الهندسية يفهمها كل أحد ويرفضون الإيمان بما أعلنه الله.

لٰكِنَّنَا نَحْنُ أنا بولس ورفقائي.

نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً كما استحسنت حكمة الله على خلاف ما طلب اليهود واليونانيون. واتخذ الرسول الفريقين نائبين عن جميع علماء العالم في كل عصر لأنه لا تخلو الأرض من أناس يسألون الله بيّنات جديدة غريبة لإثبات تعاليمه كاليهود. وأناس يعظمون العقل البشري ويتخذونه القياس الوحيد لما يقبلونه أو يرفضونه كاليونانيين.

لِلْيَهُودِ عَثْرَةً لأنهم توقعوا أن يكون المسيح ملكاً عالمياً عظيماً ينقذهم من سلطة الرومانيين واستخفوا بمن أتى إلى العالم فقيراً ومات على الصليب كمذنب وكرهوه (رومية ٩: ٣٣ و١بطرس ٢: ٨) فإنهم اتكلوا على برهم الذاتي ورفضوا تعليم الحاجة إلى التبرير بأعمال غيرهم وموته.

وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً فهؤلاء لم يعتبروا المسيح سوى أنه ابن النجار لم يدرس في مدارس أثينا ولا مدارس رومية وأنه لم يتبعه سوى الصيادين والعشارين وحسبوا كل ما قيل في معجزاته وقيامته خرافات وأوهاماً وتعليم أن الخلاص بصلبه مستحيلاً وما قيل في الإنجيل على عجز الإنسان أن يدرك الحق بلا إرشاد من السماء وعلى خطيئة الناس عموماً ووجوب التوبة والتواضع وإنكار الذات من غاية الجهالة.

٢٤ «وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُوَّةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ».

رومية ١: ٤ و١٦ وع ١٨ كولوسي ٢: ٣

وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ دعوة باطنة فعالة وهم الذيم سموا «مخلصين» في (ع ١٨ انظر رومية ١: ٧ و٨: ٢٨ ويهوذا ١ ورؤيا ١٧: ١٤).

فَبِٱلْمَسِيحِ أي نكرز بالمسيح.

قُوَّةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ تلك القوة أعظم مما توقع اليهود إظهارها وتلك الحكمة أعظم مما تصورها اليونان لأن اليهود عثروا بالمسيح مصلوباً وطلبوا ملكاً أرضياً قادراً أن ينجي أمتهم من الرومانيين. وأما الله فجعل ذلك المصلوب قديراً أن ينجي أعظم التنجية كل أمم الأرض لا أمة واحدة من سلطة الشيطان والخطيئة ولأن اليونان بحثوا في مسائل كثيرة لم يدركوا حقيقتها وأما الله فأعلن بالمسيح مصلوباً أسراراً أعظم مما بحثوا عنها مثل الاتفاق بين عدل الله ورحمته ومثل المغفرة للخاطئ مع منعه عن الاستمرار في الخطيئة ومثل إيضاح ما كان مبهماً من أمور العناية الإلهية ومستقبل نفس الإنسان. أن الله فضل الإنجيل على الحكمة البشرية كما ذكر فغني عن البيان أنه لا حاجة للرسول إلى الاجتهاد في جعل الإنجيل على وفق آراء الناس المتكبرين بإخفاء شيء من حقائقه كميلاد المسيح فقيراً وموته مهاناً وبإخفاء شيء من مبادئه الثقيلة على طباع البشر.

٢٥ «لأَنَّ جَهَالَةَ ٱللّٰهِ أَحْكَمُ مِنَ ٱلنَّاسِ! وَضَعْفَ ٱللّٰهِ أَقْوَى مِنَ ٱلنَّاسِ!».

هذا إثبات لما سبق.

جَهَالَةَ ٱللّٰهِ أي طريق الخلاص بيسوع المسيح الذي عده أهل العالم جهالة وهو بالحقيقة حكمة الله السامية.

أَحْكَمُ مِنَ ٱلنَّاسِ! أي أنسب من أفضل آراء الحكمة البشرية لتحصيل المقصود وهو مجد الله وقداسة البشر وسعادتهم.

وَضَعْفَ ٱللّٰهِ تنزه الله عن الضعف كما تنزه عن الجهالة لكن الناس حسبوا خضوع المسيح للموت ضعفاً بدليل قولهم «وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا». إِنْ كَانَ هُوَ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ فَلْيَنْزِلِ ٱلآنَ عَنِ ٱلصَّلِيبِ فَنُؤْمِنَ بِهِ!» (متى ٢٧: ٤٠ – ٤٣) وحسبوا بشارة الإنجيل واهنة عاجزة عن إصابة الغاية وهي إزالة الأديان الباطلة وإثبات ديانة المسيح بواسطة أناس قليلين فقراء بلا علم ولا فصاحة ولا شهرة ولا قوة. كذا صوت البوق ظهر ضعيفاً عن هدم أسوار أريحا المتينة وحجر مقلاع داود ضعيفاً عن قتل جليات الجبار لكن قدرة الله فعلت مع كل منهما فجعلته قوياً.

٢٦ «فَٱنْظُرُوا دَعْوَتَكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، أَنْ لَيْسَ كَثِيرُونَ حُكَمَاءُ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ. لَيْسَ كَثِيرُونَ أَقْوِيَاءُ. لَيْسَ كَثِيرُونَ شُرَفَاءُ».

يوحنا ٧: ٤٨

أتى الرسول هنا ببرهان آخر على بطلان الحكمة البشرية في أمر خلاص النفس وهذا البرهان مبني على اختبار المدعوين إلى الإيمان والخلاص أنهم ليسوا من الذين يحسبهم العالم حكماء.

فَٱنْظُرُوا دَعْوَتَكُمْ الباطنة الفعالة التي هي دعوة الروح القدس إياكم لكي تكونوا مؤمنين وورثة للخلاص. ومعنى العبارة احكموا يا مؤمني كورنثوس بمقتضى اختباركم هل يدع الله الناس إلى الخلاص بسبب حكمتهم.

حُكَمَاءُ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ الحكمة التي حسب الجسد هي الحكمة الطبيعية التي مصدرها العقل البشري وسُميّت كذلك تمييزاً لها عن الحكمة التي من الله. وقليل ممن يفتخرون بالحكمة الأولى ينال الحكمة الثانية فالناس لا يستطيعون أن يحصلوا على معرفة الله الحقة وطريق السماء بواسطة الحكمة البشرية. ولم يدع الله الناس ليكونوا مسيحيين لأنهم فلاسفة ولم يدعهم ليبشروا بإنجيله لأنهم كذلك. فالذين اختارهم الله لينادوا بالخلاص هم صيادون تركوا شباكهم في بحر طبرية لينادوا بديانة جديدة تهدم مذابح أوثان اليونان والرومان وتوصد أبواب مدارسهم الفلسفية وتغيّر شرائع العالم وعوائده.

لَيْسَ كَثِيرُونَ أَقْوِيَاءُ أي أرباب سلطة على الناس وهؤلاء في الغالب متكبرون مكتفون بأنفسهم لا يرضون أن يتضعوا ويصيروا كصغار الأولاد لكي يدخلوا ملكوت السماء.

لَيْسَ كَثِيرُونَ شُرَفَاءُ نُسب الشرف إلى بعض الناس لكونهم أهل حسب ونسب أو أهل ثروة أو معرفة أو مقام أو شهرة ولكن الذي يرفع شأن الإنسان بين الناس لا يرفع شأنه أمام الله ولا تأثير له في تحصيل الخلاص بل الغالب ما هو عكس ذلك ودليله قول الفريسيين في المسيح «أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ ٱلرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟» (يوحنا ٧: ٤٨). وهذا لا يستلزم أنه لم يؤمن بالمسيح أحد من الحكماء والشرفاء بل يفيد أن المؤمنين من هؤلاء قليلون بالنسبة إلى المؤمنين من غيرهم.

٢٧ «بَلِ ٱخْتَارَ ٱللّٰهُ جُهَّالَ ٱلْعَالَمِ لِيُخْزِيَ ٱلْحُكَمَاءَ، وَٱخْتَارَ ٱللّٰهُ ضُعَفَاءَ ٱلْعَالَمِ لِيُخْزِيَ ٱلأَقْوِيَاءَ».

مزمور ٨: ٢ ومتّى ١١: ٢٥ ويعقوب ٢: ٥

ما قاله قبلاً على سبيل السلب قاله هنا على سبيل الإيجاب.

ٱخْتَارَ ٱللّٰهُ من مجرد نعمته.

جُهَّالَ ٱلْعَالَمِ أي الذين حسبهم أهل العالم جهلاء.

لِيُخْزِيَ ٱلْحُكَمَاءَ هذا نتيجة اختيار الله ليحملهم على التواضع ويريهم أنه لا يعد حكمتهم شيئاً وأنه لم يرها علة لاختياره إياهم ولا أن يتخذهم بناة لملكوته. إن الذين حسبهم العالم جهلاء تعلموا من الله الحكمة الحقة وهي أن يؤمنوا بالمسيح لخلاص نفوسهم وهذا مثل قول مريم «أَنْزَلَ ٱلأَعِزَّاءَ عَنِ ٱلْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ ٱلْمُتَّضِعِينَ» (لوقا ١: ٥٢).

لِيُخْزِيَ ٱلأَقْوِيَاءَ هم العظماء والشرفاء والعلماء عند أهل العالم وكان خزيهم كما كان خزي الحكماء. كان أعداء دين المسيح كثيرين وأغنياء وأقوياء وكان المؤمنون قليليين وفقراء وضعفاء وجهلاء ولكن تاريخ الكنيسة يشهد بانتصار الجهلاء على الحكماء والفقراء على الأغنياء والضعفاء على الأقوياء حتى أنه بعد نحو ثلاث مئة سنة من إنشاء الديانة المسيحية صار سلاطين رومية من أتباع يسوع المحتقر المصلوب.

٢٨ «وَٱخْتَارَ ٱللّٰهُ أَدْنِيَاءَ ٱلْعَالَمِ وَٱلْمُزْدَرَى وَغَيْرَ ٱلْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ ٱلْمَوْجُودَ».

رومية ٤: ١٧ ص ٢: ٦

ذكر بولس خمس صفات لا يختلف بعضها عن بعض كثيراً مما وصف أهل العالم المسيحيين به وهي «جهال العالم» و «ضعفاؤه» و «أدنياؤه» و «المزدرى» و «غير الموجود» وهم الذين اختارهم الله أولاداً له وورثة للحياة الأبدية وشركاء في الأمجاد السماوية.

أَدْنِيَاءَ ٱلْعَالَمِ عند أهل العالم لأنهم ليسوا من شرفائهم أو مشهوريهم.

وَٱلْمُزْدَرَى أي المحتقرين عند الدنيويين لانحطاط مقامهم.

وَغَيْرَ ٱلْمَوْجُودِ أي الذين يحسبهم العالم كالعدم حتى أنهم لا يستحقون احتقاره. وهذه الصفة خاتمة ترتيب تلك الصفات من الدنيء إلى الأدنى. كذا حسب العالم المسيحيين لكن الله اختارهم ملوكاً وكهنة له.

لِيُبْطِلَ ٱلْمَوْجُودَ أي ليبين عجز شرفاء العالم وأغنيائه وحكمائه وأقويائه وهم الذين يعجبون بأنفسهم ويحتقرون غيرهم. فالمعنى كما سبق «ليخزي الخ».

٢٩ «لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ».

رومية ٣: ٢٧ وأفسس ٢: ٩

أي لكي لا يفتخر أحد من الناس وهذا علة اختيار الله الجهلاء دون العلماء والأدنياء دون العظماء لأنه تعالى لا يريد أن يحسب أحد أن حكمته ورفعة نسبه ومقامه أو غير ذلك مما يرفع الإنسان على غيره في هذا العالم علة اختياره وخلاصه ولا أن يقول أن انتصارات الإنجيل كانت بواسطة حكمته أو اجتهاده أو تأثيره. وكان تصرف الله في تأسيس ملكوته وتوسيعه على الأسلوب المذكور. وهذا كقوله تعالى «لاَ يَفْتَخِرَنَّ ٱلْحَكِيمُ بِحِكْمَتِهِ، وَلاَ يَفْتَخِرِ ٱلْجَبَّارُ بِجَبَرُوتِهِ، وَلاَ يَفْتَخِرِ ٱلْغَنِيُّ بِغِنَاهُ. بَلْ بِهٰذَا لِيَفْتَخِرَنَّ ٱلْمُفْتَخِرُ الخ» (إرميا ٩: ٢٣ و٢٤ انظر أيضاً رومية ٣: ٢٧ وأفسس ٢: ٨ و٩).

٣٠ «وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ ٱللّٰهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً».

ع ٢٤ إرميا ٢٣: ٥ و٦ ورومية ٤: ٢٥ و٢كورنثوس ٥: ٢١ وفيلبي ٣: ٩ يوحنا ١٧: ١٩ أفسس ١: ٧

علينا أن نعترف لله بأن كل ما لنا منه بدل من أن نفتخر أمامه.

مِنْهُ أي من الله. أنه هو علة اتحاد المسيحيين بالمسيح وكل الفوائد المجيدة الناتجة عن ذلك الاتحاد لا حكمة الناس ولإصلاحهم ولا اجتهادهم.

قصد الله أن يرى الناس هذا ويعترفوا به. والعبارة كقوله «لأَنَّكُمْ بِٱلنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِٱلإِيمَانِ، وَذٰلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ ٱللّٰهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ» (أفسس ٢: ٨ و٩ انظر أيضاً يوحنا ٦: ٤٤ و٦٥).

أَنْتُمْ الذين حسبهم العالم ضعفاء وأدنياء الخ وكنتم كذلك بدون المسيح.

بِٱلْمَسِيحِ أي باتحادهم به بالإيمان فكان نائبهم كما كان آدم نائب الجنس البشري (رومية ٥: ١٢ – ٢١ و١كورنثوس ١٥: ٢) وحياته حياتهم فنسبتهم إليه في ذلك كنسبة الأغصان إلى الكرمة (يوحنا ١٥: ١ – ٧). وإنما اتحدوا به حين آمنوا بإرادتهم واختيارهم.

صَارَ لَنَا حِكْمَةً هذا أول ما ذُكر من نتائج اتحادنا بالمسيح. والمسيح هو الحكمة الحقيقية «لأن فيه كل ملء اللاهوت» و «وكل كنوز العلم»ليس أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له لوقا ١٠: ٢٢). فالمؤمن يصير بالاتحاد به حكيماً ويستغني عن كل حكمة عالمية في الأمور الروحية.

وَبِرّاً وَقَدَاسَةً هما واحد في الحقيقية واثنان في الاعتبار ونيلهما ثاني نتائج اتحادنا بالمسيح. إن المسيح «برنا» لأنه أوفى بطاعته وموته كل ما علينا من مطاليب الشريعة (٢كورنثوس ٥: ٢١ ورومية ٣: ٢١ و٢٢ و٥: ١٩ وفيلبي ٣: ٩) وهو «قداستنا» لأن روحه الذي هو روح القداسة يسكن فينا وبهذا الروح نتغير إلى صورة المسيح من مجد إلى مجد (أعمال ٢٦: ١٨ ورومية ٨: ٩ و١٠ وغلاطية ٥: ٢٢ وأفسس ٢: ٥ و).

وَفِدَاءً هذا ثالث نتائج اتحادنا بالمسيح ومعناه هنا تمام النجاة من العقاب على الخطيئة. ويطلق الفداء أحياناً على كل عمل المسيح من أجل الخطأة أي إنقاذهم من جرم الخطيئة ومن دينونتها ومن جهنم ومن قوة الشيطان ومن القبر ولكنه إذا اقترن بالبر والقداسة اختص بخاتمة عمل الفداء أي النجاة من الهلاك الأبدي. فإن يوم الفداء هو اليوم الذي يكمل فيه المسيح عمله لخلاص شعبه نفساً وجسداً (رومية ٨: ٢٣ وأفسس ١: ١٤ و٤: ٣٠ وعبرانيين ٩: ١٢) وهو فداؤنا لأنه أوفى عنا الدين فنجانا من سلطان الخطيئة وعقابها (رومية ٣: ٢٤ و١بطرس ١: ١٨ و١٩). وخلاصة هذه الآية أن الذين هم في المسيح حصلوا على الحكمة التي بها يستطيعون أن يعرفوا الله وطريق الخلاص الذي أعده لهم. وقد تبرروا بالمسيح حتى لم يبق عليهم شيء من الدينونة (رومية ٨: ١). وتغيروا إلى صورة المسيح حتى أمكنهم أن يقفوا أمام الله بلا عيب وصاروا شركاء الفداء بنجاتهم من كل تبعات الخطيئة وكل هذه البركات العظيمة لا تنال إلا بالمسيح. فالاتحاد به ضروري جداً وهو نعمة من الله لا من اختيارنا وحكمتنا واجتهادنا وصلاحنا وقوتنا وهذا كقوله «فَإِذاً لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى، بَلْ لِلّٰهِ ٱلَّذِي يَرْحَمُ» (رومية ٩: ١٦).

٣١ «حَتَّى كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَنِ ٱفْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِٱلرَّبِّ».

إرميا ٩: ٢٣ و٢٤ و٢كورنثوس ١٠: ١٧

هذا غاية الله من جعله المسيح لنا حكمة وبراً وقداسة وفداء وجعل ذلك متوقفاً على اتحادنا به وجعل هذا الاتحاد متوقفاً على نعمته تعالى لكي لا نفتخر بأنفسنا شيئاً بل ننسب كل المجد إليه لأنه مصدر كل بركاتنا. والافتخار هنا إظهار السرور والثقة. والأرجح أن هذه الآية مختصر ما قيل في (إرميا ٩: ٢٣ و٢٤) وهو يوافق قول داود «لَيْسَ لَنَا يَا رَبُّ لَيْسَ لَنَا، لٰكِنْ لٱسْمِكَ أَعْطِ مَجْداً» (مزمور ١١٥: ١) وهذا نهاية كلام وليس في إيضاح أن الله اختار أن يخلص الناس بالمناداة بالمسيح مصلوباً لا بحكمة البشر. وأخذ في الأصحاح الآتي يبيّن أن أسلوب تعليمه هو كالأسلوب الذي اختاره الله.

فوائد

  1. إن المؤمنين كاملون بالمسيح لأنه «فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ» (كولوسي ٢: ٩) وبه ننال كل المواهب الإلهية (ع ٥).
  2. إن مجيء المسيح ثانية لا ريب فيه ولكن وقته غير معيّن فيجب أن نتوقعه ونستعد له كل حين (ع ٧).
  3. إن الدعوة المسيحية قائمة بثلاثة أمور:
    • الأول: المشاركة للمسيح في السجايا والشدائد والمجد.
    • الثاني: الثبوت فيه أبداً ويكون ذلك بقوة الله.
    • الثالث: الاجتهاد في الخدمة (ع ٩).
  4. إن كنيسة المسيح واحدة لأنها الجسد الذي المسيح رأسه الوحيد وشريعتها واحدة وهي كتاب الله وموضوع إيمانها واحد وهو المسيح مصلوباً وغايتها واحدة وهي مجد الله وامتداد ملكوته وأعضاؤها كلهم ذاهبون إلى سماء واحدة. فهي لا تنقسم كما أن المسيح لا ينقسم. وأعظم موانع الانقسام هو التمسك بالمسيح باعتبار كونه مصدر كل حكمة ونعمة وباعتبار أن المبشرين ليسوا سوى خدمة متعلمين منه (ع ١٣ إلى ١٦).
  5. إن الخلاص بالإيمان لكن الإيمان ليس بثمن الخلاص لأن المسيح اشترى الخلاص ووهبه لنا فبالإيمان نتحد بالمسيح فنحصل على ما استحقه وبه نستنير لأننا به نحصل على حكمة المسيح وبه نتبرر لأننا به نحصل على بره وبه ننتصر على الموت والقبر لأن المسيح غلبهما (ع ٢١).
  6. إن المسيح بالنظر إلى كونه مصلوباً نور العالم فبه يشرق نور السماء على عالمنا الخاطئ فيبدد ظلامه فبه تمت واتضحت كل معلنات العهد القديم من إشارات ورسوم ومواعيد ونبوآت وبه ظهرت محبة الله ورحمته للجنس البشري أكمل ظهور (ع ٢٤).
  7. إن أفكار الله وطرقه ليست كأفكار الإنسان وطرقه فالكبير في عيون الناس صغير في عيني الله وما يحتقره الإنسان يعظمه الله. فمن شأن الإنسان أنه يعظم نفسه وكل ما يصنعه مما يدل على قوة عقله وجسده وكل ما ينتفع به ويعتبره الناس شريفاً. لكن ابن الله الذي هو مساو للآب أخلى نفسه من مجده وأخذ صورة عبد وأخضع نفسه للموت على الصليب ليخلص غيره. والله اظهر قوته وحكمته وقداسته في ما ظنه الناس ضعفاً وجهالة وخطيئة (لان المسيح حمل خطايانا) وجعل افتقار ابنه غنى لنا. وجعل شرط المغفرة والقبول طرح الاتكال على برنا وحكمتنا وقوتنا وجعل المتواضعين شركاء المسيح في المجد السماوي لكي لا يفتخر أمامه بشر.
  8. إنا لا نستطيع أن نأخذ بعض بركات المسيح ونترك سائرها فلا يمكننا أن نجعله حكمتنا وفداءنا دون أن نتخذه براً وقداسة لنا (ع ٣٠).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى