الرسالة إلى أفسس | 02 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة إلى أفسس
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي
مقابلة حال الأفسسيين قبل اهتدائهم بالنعمة بحالهم بعده (أعمال ١ – ١٠) ومقابلتها وهم غرباء عن شعب الله بها وهم رعية مع القديسين وأهل بيت الله (ع ١١ – ٢٢).
مقابلة حال الأفسسيين قبل الإيمان بحالهم بعده ع ١ إلى ١٠
في هذا الفصل ثلاثة مواضيع الأول حالهم الروحية قبل تنصرهم والثاني ما حدث فيهم من التغيّر والثالث الغاية التي قصدها الله من تغيّرهم. ووصف حالهم قبل الاهتداء بثلاث صفات الأولى أنها حال الخطيئة والهلاك والثاني أنها حال الخضوع للشيطان والشهوات الجسدية والثالث أنها حال الدينونة (ع ١ – ٣).
ووصف التغيّر الذي نشأ فيهم بعد الإيمان بأنه قيامة روحية ووصف تلك القيامة بأربع صفات الأولى أن الله منشئها والثانية أنها عمل محبته ونعمته والثالثة أنه كانت بواسطة اتحادهم بالمسيح والرابعة أنها تستلزم رفع من أُقيم إلى مقام عظيم ليس دون مقام المشاركة للمسيح في مجده (ع ٤ – ٦).
وقصد الله من تغيرهم إظهار نعمته في الأجيال الآتية. وذلك التغير ووسائله تُظهر نعمة الله بثلاثة أسباب الأول أن الخلاص الذي نشأ عن التغيّر كله من النعمة والثاني أن الأفسسيين بالنعمة آمنوا بالخلاص وقبلوه والثالث أن الأعمال الصالحة التي فعلوها بعد أن تغيّروا هي من أثمار النعمة لا من الإنسان الطبيعي (ع ٧ – ١٠).
١ «وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا».
ع ٥ وص ٤: ١٨ وكولوسي ٢: ١٣
وَأَنْتُمْ مبتدأ خبره محذوف لدلالة ما بعده عليه وتقديره أحياكم بعد أن كنتم أمواتاً بالذنوب على ما يُفهم من الآية الخامسة.
إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بموت روحي وأنتم أحياء في الجسد لأن الموت الروحي لا ينفي الحياة الجسدية (وإن كان علة إزالتها في ما بعد) إذ ينشأ عنه العجز والفساد والشقاء. ويحق أن تسمى حال النفس قبل الإيمان والتجدد بالموت لانفصالها عن روح الله مصدر الحياة ولعجزها عن أن تفكر فكراً حسناً أو تعمل علماً صالحاً.
بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا وهي علة الموت الروحي وعلاماته. ويعسر التمييز بين الذنوب والخطايا وهما يعمان التعدي وعدم الامتثال والآثام الباطنة والظاهرة وآثام العمد وآثام السهو والأعمال الشريرة والمبادئ الفاسدة التي قادت إلى تلك الأعمال.
٢ «ٱلَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلاً حَسَبَ دَهْرِ هٰذَا ٱلْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ ٱلْهَوَاءِ، ٱلرُّوحِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ ٱلآنَ فِي أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ».
١كورنثوس ٦: ١١ وص ٤: ٢٢ وكولوسي ١: ٢١ و٣: ٧ و١يوحنا ٥: ١٩ ص ٦: ١٢ ص ٥: ٦ وكولوسي ٣: ٦
في هذه الآية والتي تليها إيضاح نسبته الموت إليهم.
ٱلَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا أي بمقتضى سلوك أهل هذا العالم. فالدهر هنا العادة أو الدأب بالنظر إلى سلوك أهل العالم وتأثير مبادئ العالم فيهم ليقودهم إلى ارتكاب الخطيئة. ومراد الرسول «بهذا العالم» العالم الحاضر بالنظر إلى كونه منفصلاً عن الله وعاصياً له بخلاف العالم الآتي الخاضع له.
حَسَبَ دَهْرِ هٰذَا ٱلْعَالَمِ أي بمقتضى سلوك أهل هذا العام. فالدهر هنا العادة أو الدأب بالنظر إلى سلوك أهل العالم وتأثير مبادئ العالم فيهم ليقودهم إلى ارتكاب الخطيئة. ومراد الرسول «بهذا العالم» العالم الحاضر بالنظر إلى كونه منفصلاً عن الله وعاصياً له بخلاف العالم الآتي الخاضع له.
حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ ٱلْهَوَاءِ أي علة وفق ما أراده الشيطان. ويتضح أن الشيطان هو المقصود برئيس سلطان الهواء من تسميته «إله هذا الدهر» (٢كورنثوس ٤: ٤) و «رئيس هذا العالم» (يوحنا ١٢: ٣١ و١٤: ٣٠) و «رئيس الشياطين» (متّى ٩: ٣٤). وقد نسب إليه الإنجيل ملكوتاً هو ملكوت الظلمة الذي جنوده الخاضعون أشرار والأرواح النجسة. وكان مؤمنو أفسس قبل إيمانهم من أولئك الجنود. ومعنى كونه «رئيس سلطان الهواء» إنه رئيس كل من لهم سلطان على ارتكاب الشر من سكان الهواء وهم الأرواح النجسة. ولا نعلم علة نسبته إليه سكنى الهواء ولكن ظن بعضهم أن بولس جرى على اعتقاد روماني عصره بلا تعرض لإثباته أو إبطاله فإنهم اعتقدوا أن الهواء مسكن الأرواح. وظن آخرون أنه نسبها إليهم إشارة إلى طبيعتهم لأنه ليس لهم أجساد من لحم ودم كالبشر حتى تصح نسبتهم إلى السماء فلا نقدر أن نفرض لهم مسكناً إلا الهواء. ولما أراد المسيح بيان نزعهم الحق من قلب الإنسان في مثل الزارع استعار لهم «الطيور» (متّى ١٣: ٤) وقد رأينا ذلك في محله. والذي نعرفه من الشياطين بمقتضى الكتاب والاختبار أنهم لم يقيدوا بعد في جهنم وإنهم يأتون إلى العالم ويجولون فيه ليضروا الناس جسداً ونفساً. وزعم بعضهم أن الكلمة اليونانية المترجمة «بالهواء» هنا يصح أن تترجم بالظلمة ولكن ليس له ما يكفي من الأدلة على ذلك.
ٱلرُّوحِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ ٱلآنَ فِي أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ هذا بيان لقوله «رئيس سلطان الهواء» وفيه إشارة إلى تأثيره في الناس. ومعنى قوله «يعمل فيهم» إنه يقودهم إلى الخطيئة ويغريهم بعصيان الله ويظهر قوته بأعمال الناس الأشرار. والمراد «بأبناء المعصية» الذين يستمرون على أن يعصوا الله طوعاً واختياراً. وهذه العبارة من جملة العبارات الكتابية التي تبين أن الشيطان وجنوده المماثلة له يحملون البشر على أن يفتكروا افتكارهم ويروا رأيهم ويعملوا ما يريدون (متّى ١٣: ٣٨ ويوحنا ١٢: ٣١ و٨: ٤٤ وأعمال ٢٦: ١٨ و٢كورنثوس ٤: ٤). وهؤلاء الأعداء أرهب من الأعداء المنظورين الذين يمكنهم أن يضروا أجسادنا ولكن ليس لهم سلطان من الله على نزع حريتا أكثر مما للأعداء المنظورين فطوبى للذين يصلي المسيح من أجلهم كما صلى من أجل بطرس عندما اجتهد الشيطان في أن ينتصر عليه (لوقا ٢٢: ٣١).
٣ «ٱلَّذِينَ نَحْنُ أَيْضاً جَمِيعاً تَصَرَّفْنَا قَبْلاً بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ ٱلْجَسَدِ وَٱلأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِٱلطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ ٱلْغَضَبِ كَٱلْبَاقِينَ أَيْضاً».
تيطس ٣: ٣ و١بطرس ٤: ٣ غلاطية ٥: ١٦ مزمور ٥١: ٥ ورومية ٥: ١٢ و١٤
ٱلَّذِينَ هذا نعت لأبناء المعصية.
نَحْنُ أَيْضاً جَمِيعاً أي كل المؤمنين يومئذ من اليهود والأمم وحسب نفسه منهم بالنظر إلى حاله السابقة مع أنه كان من جهة البر الذي في الناموس بلا لوم (فيلبي ٣: ٦) فاعتبر أن كل من لا يؤمنون بالمسيح ولا يولدون ثانية من الروح القدس خطأة أمام الله على حد سواء يهوداً كانوا أو أمماً لأنه «بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ» (عبرانيين ١١: ٦).
تَصَرَّفْنَا أي سلكنا (ع ٢).
بَيْنَهُمْ أي بين أبناء المعصية.
عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ ٱلْجَسَدِ أي ما يطلبه الجسد والأهواء الشريرة كأنها سيّدات وهم عبيد طائعون فكأن مبادئ حياتهم مبنية على الشهوات الجسدية.
وَٱلأَفْكَارِ المبنية على شهوات الجسد كالحسد والخداع والانتقام والبخل وكل الانفعالات الشريرة في نفس غير المتجدد.
بِٱلطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ ٱلْغَضَبِ أي عرضة لغضب الله للخطيئة. والمراد «بالطبيعة» ولادتنا في تلك الحال لا مصيرنا بعد الولادة إليها. ولنا من هذا أن الطبيعة البشرية فاسدة من أصلها ولذلك كانت عرضة لغضب الله بمقتضى العدل. وهذا يوافق تعليم الكتاب كله إن البشر نسل ساقط مولودون في حال الخطيئة والدينونة مفتقرون إلى الفداء بالمسيح منذ ولادتهم. وما قيل هنا في حال الإنسان غير المتجدد هو كقول المرنم «هَئَنَذَا بِٱلإِثْمِ صُوِّرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي» (مزمور ٥١: ٥) ومثله ما جاء في رسالة رومية (رومية ٣: ٩ و٥: ١٢ – ٢١).
كَٱلْبَاقِينَ أَيْضاً أي كسائر الجنس البشري في الطبيعة كما كانوا هم أيضاً قبل الإيمان. وذكر الرسول عموم خطيئتهم وموتهم الروحي وتعرضهم لغضب الله بياناً لعظمة النعمة التي أنقذت المؤمنين من حاله الهائلة.
٤ «اَللّٰهُ ٱلَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي ٱلرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ ٱلَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا».
رومية ١٠: ١٢ وص ١: ٧ وع ٧
بعد ما أبان بولس حال الأفسسيين الطبيعية أخذ يبين الطريق التي بها نجا الذين كتب إليهم من حال الخطيئة والشقاء وتلك الطريق هي إقامتهم الروحية التي أنشأها الله وأقامهم لا لصلاح فيهم بل لمجرد محبته الفائقة.
اَللّٰهُ ٱلَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي ٱلرَّحْمَةِ لم يكتف الرسول بوصف الله بالرحمة فزاد على ذلك أن وصفه بغناه فيها وكذلك وصفه «بغنى النعمة» (ص ١: ٧) و «غنى المجد» (ص ١: ١٨). ومما يثبت غنى رحمته أنه أظهرها للذين هم أموات بالذنوب والخطايا وكونه غنياً في الرحمة حمله أن يشفق عليهم في شقائهم وأن يرغب في إنقاذهم منها.
مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ الخ المحبة جوهر صفات الله (١يوحنا ٤: ١٦) وهي التي حملته على أن يعمل ما عمله بغية خلاصهم وهو أنه أحياهم مع المسيح وأجلسهم معه في السماويات.
٥ «وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِٱلْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ ٱلْمَسِيحِ بِٱلنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ».
رومية ٥: ٦ و٨ و١٠ وع ١ يوحنا ٥: ٢٤ ورومية ٦: ٤ و٥ وكولوسي ٢: ١٢ و١٣ و٣: ١ و٣ أعمال ١٥: ١١ وع ٨ وتيطس ٣: ٥
وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِٱلْخَطَايَا أي مع كونهم أبناء المعصية في حال الهلاك والعجز عن القيام منه. إن عظمة المحبة التي ذكرها بقوله «من أجل محبته الكثيرة» وهي التي أحبهم بها أفراداً حملته على أن يقيمهم من موتهم بالخطيئة وهذا كقوله «وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رومية ٥: ٨). فالناس يحبون أصدقاءهم المحسنين إليهم والله يحب أعداءه المسيئين إليه ويحسن إليهم.
أَحْيَانَا مَعَ ٱلْمَسِيحِ هذا يوافق ما جاء في (ص ١: ١٩ و٢٠) وليس المقصود مجرد أن قيامتنا الروحية تشبه قيامة المسيح من الموت بل هو مع ذلك أنه باتحادنا بالمسيح الذي هو القيامة والحياة كان موته موتنا وحياته حياتنا وارتفاعه ارتفاعنا. وهذا على وفق قول المسيح «إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ» (يوحنا ١٤: ١٩) وقوله «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى ٱلأََبَدِ» (يوحنا ١١: ٢٥ و٢٦ قابل به ما في يوحنا ٥: ٢٤ و١٧: ٢ ورومية ٦: ٥) وسمي المسيح «حياتنا» (كولوسي ٣: ٤) ويوافقه ما في (٢كورنثوس ٤: ١٠ و١١ انظر ايضاً رومية ٦: ٦ و٨ وغلاطية ٢: ١٩ و٢٠ و١كورنثوس ١٥: ٢٢ و٢٣ و٢كورنثوس ٥: ١٤). وجاءت الأفعال المنسوبة إلى الله وهي «أحيانا» و «أقامنا» و «أجلسنا» بصيغة الماضي إشارة إلى أنها قد حدثت لا إلى مجرد أنها تحدث في المستقبل. فحين قام يسوع من الموت وجلس عن يمين الله كان كأنه وقتئذ أقام كل شعب الله معه وما نالوه حينئذ يؤكد قيامة أجسادهم بعد. فحياة الجسد كلها بالرأس فحين قام الرأس قام الجسد معه أيضاً ولكن كل واحد في رتبته المسيح أولاً ثم الذين للمسيح في مجيئه.
بِٱلنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ أي «ٱنْتَقَلتم مِنَ ٱلْمَوْتِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ» (يوحنا ٥: ٢٤). وقال الرسول ذلك لئلا ييأس أحد من نيل تلك البركات نظراً لعظمتها ولعدم استحقاقه وليبين أن نجاتهم من الموت وحصولهم على الحياة من نعمة الله المجانية التي لا يستحقها بشر. وأتي بالعبارة معترضة بياناً لرفعة شأنها وحذرنا من أن ينسى المؤمن لفرحه بها أن يشكر الواهب المنعم عليها.
٦ «وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».
ص ١: ٢٠
هذه الآية إيضاح لما قيل في الآية الخامسة بشأن كوننا شركاء حياة المسيح.
أَقَامَنَا مَعَهُ إننا بقيامة المسيح من الموت قمنا من موت الخطيئة وانتقلنا من حال الدينونة والدنس والشقاء إلى الحياة وهي تتضمن المغفرة والتبرير والتجديد والتقديس والسعادة بدليل قوله التالي.
وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ كثيراً ما يراد بالسماويات السماء عينها حيث يُعلن الله مجده ويكون جسد المسيح ممجداً وهي مسكن الملائكة والقديسين وقد جاءت هنا بمعنى الحال الذي يصير إليها المؤمنون عند تجديدهم وهم في هذا العالم وهي حال يتمتعون بها برضى الله والتبرير والانتقال «مِنْ سُلْطَانِ ٱلظُّلْمَةِ إِلَى مَلَكُوتِ ٱبْنِ مَحَبَّتِهِ» (كولوسي ١: ١٣ وفيلبي ٣: ٢٠). وهم جالسون في السماء مع كونهم على الأرض لأنهم سالكون بمقتضى شرائع السماء ولهم ما لأهل السماء من البركات والنعم في النوع لا في المقدار وذلك عربون كمال السعادة السماوية. وأميالهم وأشواقهم كأميال سكان السماء وأشواقهم وقد أُنقذوا من دينونة الناموس ومن سلطة الشيطان ومن دنس الموت الروحي وقد تصالحوا مع الله وصاروا مساكن للروح القدس.
فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي بناء على اتحاد المؤمنين بالمسيح وهذا الاتحاد أساس كل ما يتمتعون به في البركات وإكمالها حين يأتي المسيح ثانية فيكونون معه ومثله.
٧ «لِيُظْهِرَ فِي ٱلدُّهُورِ ٱلآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ ٱلْفَائِقَ بِٱللُّطْفِ عَلَيْنَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».
تيطس ٣: ٤
في هذه الآية بيان علة كل ما فعله المسيح مما ذُكر في اختيار شعبه ليكونوا قديسين أمامه في المحبة وفي إقامته إياهم من موت الذنوب والخطايا وإحيائه إياهم وإجلاسهم معه في السماويات.
لِيُظْهِرَ فِي ٱلدُّهُورِ ٱلآتِيَةِ أي في المستقبل إلى غير النهاية.
غِنَى نِعْمَتِهِ ٱلْفَائِقَ إن غاية الله من عمل الفداء وسائر متعلقاته إظهار محبته المجانية غير المحدودة لمن لا يستحقونها. والطرق الكثيرة المتنوعة التي أظهر الله نعمته بها في عمل الخلاص من أوله إلى آخره فُرص لإظهار غنى نعمته الفائق. فخلاص كل خاطئ آية جديدة على نعمة الله (ككل معجزة صنعها المسيح للشفاء وهو على الأرض) كما أوضح بولس بقوله في نفسه «لِهٰذَا رُحِمْتُ: لِيُظْهِرَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ فِيَّ أَنَا أَوَّلاً كُلَّ أَنَاةٍ، مِثَالاً لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ لِلْحَيَاةِ ٱلأََبَدِيَّةِ» (١تيموثاوس ١: ١٦). فالربوات التي لا تحصى من المفديين في السماء الذين نجوا من موت الخطيئة ودنسها وخُطفوا من يد الشيطان وطُهروا وقُدسوا ومُجدوا شهود بنعمة الله العجيبة وإعلام تذكار لها إلى الأبد.
بِٱللُّطْفِ عَلَيْنَا ولطف المسيح علينا ظاهر من كوننا لا نستحق تلك النعمة ومن رغبته في قبوله إيانا ونحن راجعون إليه بالتوبة ومن أنه «مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ ٱلشَّاكِرِينَ وَٱلأََشْرَارِ» (لوقا ٦: ٣٥). واللطف هو جودة مقترنة بالإمهال وطول الأناة (رومية ٢: ٤).
فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي بواسطته والإكرام له. فلا ننال شيئاً باستحقاقنا إنما نحصل على كل شيء باستحقاقه.
إن الرسول أنزل المسيح في كل هذه الرسالة منزلة الشمس بالنسبة إلى عالمنا فكل ما نحصل عليه من النور والفرح والبركة ليست إلا أشعة من ذلك المصدر الذي لا يفرغ.
٨ «لأَنَّكُمْ بِٱلنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِٱلإِيمَانِ، وَذٰلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ ٱللّٰهِ».
رومية ٣: ٢٤ وع ٥ و٢تيموثاوس ١: ٩ رومية ٤: ٢٦ متّى ١٦: ١٧ ويوحنا ٦: ٤٤ و٦٥ ورومية ١٠: ١٤ و١٥ و١٧ وص ١: ١٩ وفيلبي ١: ٢٩
لأَنَّكُمْ بِٱلنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ ما أتى به معترضاً في الآية الخامسة ذكره هنا أيضاً للإثبات والإيضاح وغرضه من ذلك بيان أن غاية عمل الفداء إظهار نعمة الله. وقوله «إنهم مخلصون» يدل على أنهم نالوا الخلاص وأنه استمر لهم. وهذا كقول المسيح في زكا وهو في بيته «ٱلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ» (لوقا ١٩: ٩).
بِٱلإِيمَانِ أتى الرسول في هذه الآية ببرهانين على أن الخلاص مجاني الأول كونه بالنعمة والثاني كونه بالإيمان وهو الشعور بقيمة البركة الموهوبة لنا وقبولنا إيّاها.
وَذٰلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ الخ الإشارة بذلك يصح أن تكون إلى الإيمان وأن تكون إلى الخلاص فإن كانت إلى الإيمان كان الرسول قد أتى بهذه العبارة دفعاً لتوهم أنهم استحقوا الخلاص بإيمانهم فصرّح أن الإيمان ليس عملهم ولا من إرادتهم بل هبة إلهية وهذا يمنع من أنهم استحقوا الخلاص به. وإن كانت إلى الخلاص كما ظن الأكثرون كان غرضه أن يقرر على وجه السلب ما ذكره على وجه الإيجاب وهو أنهم بالنعمة مخلصون لا باستحقاقهم فليس هو سوى عطية من الله يقبلها المؤمن كما يقبل الإنسان الهبة بمد يده إليها ولا فرق كبير بين الرأيين لأن قوله «هو عطية الله» يصدق على الخلاص والإيمان الذي به يُقبل الخلاص.
٩ «لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ».
رومية ٣: ٢٠ و٢٧ و٢٨ و٤: ٢ و٩: ١١ و١١: ٦ و١كورنثوس ١: ٢٩ إلى ٣١ و٢تيموثاوس ١: ٩ وتيطس ٣: ٥
لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ لو كان الخلاص من الأعمال كان أجرة يجب على الله أن يؤديها وللخاطئ حق أن يطلبها وقد دفع الرسول ذلك بما أتى به من الاحتجاج المفصل في الرسالة إلى أهل رومية مبتدئاً فيه بقوله «أَيْنَ ٱلافْتِخَارُ؟ قَدِ ٱنْتَفَى! بِأَيِّ نَامُوسٍ؟ أَبِنَامُوسِ ٱلأََعْمَالِ؟ كَلاَّ! بَلْ بِنَامُوسِ ٱلإِيمَانِ» (رومية ٣: ٢٧) وما قيل في هذه الآية ينفي تأثير الأعمال في أمر الخلاص مطلقاً رمزية كانت أو أدبية قبل الإيمان أو بعده ويثبت أن الخلاص بالإيمان وحده وهذا كقوله «إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ ٱلإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا» (غلاطية ٢: ١٦).
كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ لأن الله يستحيل أن يرضى أن يقف الخاطئ أمامه معجباً بنفسه ناسباً خلاصه إلى استحقاقه. ويستحيل أن يفتخر الخاطئ أمامه تعالى حيت يتأمل في قداسة الله الذي «السموات غير طاهرة بعينيه» وفي عدم إمكان الإنسان الساقط يستحق السماء بما يأتيه من قليل أعمال البر. ويتحقق حينئذ أن الخلاص المجاني الذي يستلزم كون كل المجد لله هو الخلاص الوحيد الذي يناسب البشر الساقطين.
ذكر الرسول هنا أن علة جعل الله الخلاص مجاناً منعه الإنسان من الافتخار ولكن هذا لا يستلزم أن ذلك المنع هو العلة الوحيدة ولا إنه اعظم العلل لجعل الخلاص كذلك.
١٠ «لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا».
تثنية ٣٢: ٦ ومزمور ١٠٠: ٣ وإشعياء ١٩: ٢٥ و٢٩: ٢٣ و٤٤: ٢١ ويوحنا ٣: ٣ و٥ و١كورنثوس ٣: ٩ و٢كورنثوس ٥: ٥ و١٧ وص ٤: ٢٤ وتيطس ٢: ١٤ ص ١: ٤
ما في هذه الآية إثبات لقوله في التي قبلها أن لا محل للافتخار البشري واستدل على ذلك بأمرين:
الأول: كوننا عمل الله أي أننا لم نجعل أنفسنا عل ما صارت إليه بل الله الذي جددها وقدسها وانفرد بكل المجد.
الثاني: كوننا مخلوقين لأعمال صالحة لا مخلوقين ومختارين للخلاص بسبب تلك الأعمال.
نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي نحن المؤمنين خليقته الجديدة الروحية وإيماننا ليس منا بل من الله بيسوع المسيح بدليل قوله «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ» (٢كورنثوس ٥: ١٧). فباتحادنا بالمسيح حصلنا على حياة جديدة هي حياة القداسة. وهذا كقوله «ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَيُطَهِّرَ لِنَفْسِهِ شَعْباً خَاصّاً غَيُوراً فِي أَعْمَالٍ حَسَنَةٍ» (تيطس ٢: ١٤). فالمصرون على الخطيئة لا شركة لهم في الخلاص.
قَدْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا أي قصد الله قبل أن خلقنا أن نسلك في الأعمال الصالحة التي أعدها لكي تكون مرافقة لنا أبداً كأنها محيطة بنا ما دمنا. ونحن سائرون في وسطها كذلك كأن لا سبيل إلى مفارقتنا إياها ونحن قد تجددنا.
يصح أن يقال على الشجرة أنها مخلوقة لتحمل الأثمار التي الله أعدها لها بتعيينه لونها وهيئتها وطعمها ووقت حملها وكذلك يصح أن يقال أن الله أعد الأعمال الصالحة التي قصد أن يعملها كل مؤمن. فكل إنسان متجدد يعلم بالاختبار أن الله بعنايته قدم له فرصاً كثيرة لكي يظهر محبته لله بأعماله الصالحة. والذي جعلها صالحة أمره بها تعالى في كتابه. فلا منافاة بين الإيمان والأعمال الصالحة إنما المنافاة بينه وبين الأعمال التي يفتخر الإنسان بها ويتكل عليها بغية خلاصه. قال الناموس في الأعمال «اعملوها فتحيوا» وقال الإنجيل «أحيوا واعملوا تلك الأعمال».
وما قيل هنا يستلزم أن الأعمال الصالحة نتيجة الاختيار والتبرير لا علتهما ويستأصل من المؤمن كل افتخار بها. ولا يستلزم أن المختار للخلاص معفى من الأعمال الصالحة بل يقتضي أن يكون الذي يخلص غيوراً أمام الله مجتهداً في السلوك في طريق القداسة كما جاء في قوله «أنا أَفْعَلُ شَيْئاً وَاحِداً: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ. أَسْعَى نَحْوَ ٱلْغَرَضِ لأَجْلِ جِعَالَةِ دَعْوَةِ ٱللّٰهِ ٱلْعُلْيَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي ٣: ١٣ و١٤).
وعلينا أن نلاحظ أن الله أعد الأعمال الصالحة لكي نسلك فيها لا لكي نخلص بها والفرق بين الأمرين عظيم جداً.
رحمة الله الخاصة لمؤمني أمم أفسس إذ قبلهم في كنيسته ع ١١ إلى ٢٢
في هذا الفصل ثلاثة مواضيع:
الأول: حالهم الأولى بالنظر إلى كنيسة المسيح أي كونهم غرباء عنها وبالنظر إلى الله أي كونهم لا يعرفونه معرفة تؤدي إلى الخلاص (ع ١١ و١٢).
الثاني: الواسطة التي بها قربوا إلى الله وكنيسته وتلك الواسطة هي دم المسيح فبه تصالحوا مع الله لأنه أوفى كل ما عليهم للناموس وأنه أبطل الرسوم الموسوية ورفع الحاجز بين اليهود والأمم وصاروا به جسداً واحداً مصالحاً لله (ع ١٣ – ١٨).
الثالث: وصف اتحاد الأفسسيين بالله وبشعبه وترتب على ذلك ثلاثة أمور:
الأول: إنهم صاروا رعية مملكة واحدة مع القديسين.
الثاني: إنهم صاروا من أهل بيت الله.
الثالث: إنهم صاروا أجزاء من الهيكل الذي يسكن الله فيه بروحه (ع ١٩ – ٢٢).
١١ «لِذٰلِكَ ٱذْكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ ٱلأُمَمُ قَبْلاً فِي ٱلْجَسَدِ، ٱلْمَدْعُوِّينَ غُرْلَةً مِنَ ٱلْمَدْعُوِّ خِتَاناً مَصْنُوعاً بِٱلْيَدِ فِي ٱلْجَسَدِ».
١كورنثوس ١٢: ٢ وص ٥: ٨ وكولوسي ١: ٢١ و٢: ١٣ ورومية ٢: ٢٨ و٢٩ وكولوسي ٢: ١١
لِذٰلِكَ أي لحصولكم على البركات العظيمة المذكورة آنفاً بانضمامكم إلى شعب الله.
ٱذْكُرُوا الذي قصد أنهم يذكرونه هو حالهم قبل التجديد وأمرهم بذكرها لكي يكونوا متواضعين وشاكرين.
أَنَّكُمْ أَنْتُمُ ٱلأُمَمُ قَبْلاً فِي ٱلْجَسَدِ أي أنكم كنتم وثنين غير مختونين. كان الختان رسماً عيّنه الله ختماً لعهده مع شعبه فكونهم غلفاً كان آية أنهم خارجون عن عهد الله وأهله.
ٱلْمَدْعُوِّينَ غُرْلَةً مِنَ ٱلْمَدْعُوِّ خِتَاناً دعا اليهود الأمم غرلة إيماء إلى أنهم ليسوا مرتبطين بعهد مع الله وأنهم نجسون. وحسبوا ان الختان جعلهم أطهر منهم وأنهم نالوا بمجرد ذلك الرسم الخارجي القداسة ورضى الله. وفي العبارة إشارة إلى أن الرسول اعتبر احتقار اليهود للأمم في غير محله وأنه لم يشاركهم في ذلك.
مَصْنُوعاً بِٱلْيَدِ فِي ٱلْجَسَدِ أشار بذلك إلى أن ختان اليهود لم يكن سوى رسم خارجي لا ختان القلب بالروح الذي هو الختان الحق بدليل قوله «لأَنَّ ٱلْيَهُودِيَّ فِي ٱلظَّاهِرِ لَيْسَ هُوَ يَهُودِيّاً، وَلاَ ٱلْخِتَانُ ٱلَّذِي فِي ٱلظَّاهِرِ فِي ٱللَّحْمِ خِتَاناً، بَلِ ٱلْيَهُودِيُّ فِي ٱلْخَفَاءِ هُوَ ٱلْيَهُودِيُّ، وَخِتَانُ ٱلْقَلْبِ بِٱلرُّوحِ لاَ بِٱلْكِتَابِ هُوَ ٱلْخِتَانُ» (رومية ٢: ٢٨ و٢٩). وقوله «وَبِهِ أَيْضاً خُتِنْتُمْ خِتَاناً غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا ٱلْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ ٱلْمَسِيحِ» (كولوسي ٢: ١١).
إن اتكال اليهود على الختان وغيره من الرسوم الخارجية ليكونوا مرضين لله قادهم إلى الكبرياء والبر الذاتي والاستخفاف بغيرهم وترك قداسة القلب والسيرة الطاهرة ولذلك عندما أراد بولس أن يرى الأفسسيين منفعة الاتحاد بالله وشعبه الذي كان الختان علامته وختمه احترص على أن يبيّن أن ليس الختان باليد هو الذي يؤكد نيل البركات التي تكلم عليها.
١٢ « أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ ٱلْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ وَبِلاَ إِلٰهٍ فِي ٱلْعَالَمِ».
ص ٤: ١٨ وكولوسي ١: ٢١ حزقيال ١٣: ٩ ويوحنا ١٠: ١٦ أعمال ٢٢: ٢٨ رومية ٩: ٤ و٥ و١تسالونيكي ٤: ١٣ غلاطية ٤: ٨ و١تسالونيكي ٤: ٥
هذه الآية بيان لأحوال الأفسسيين المظلمة الرهيبة وهم وثنيون.
أَنَّكُمْ أي اذكروا أنكم.
بِدُونِ مَسِيحٍ الكون بلا مسيح يستلزم كل شر كما أن الاتحاد بالمسيح يستلزم كل خير. إن المسيح هو الفادي الوحيد والوسيط الفريد بين الله والناس فإذا كان الإنسان بدونه كان بدون الفداء وبدون واسطة التقرب إلى الله وفي الكلام الآتي يبيّن ما يثبت كونهم بلا مسيح.
أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ هذا بيان حالهم الخارجية. كان إسرائيل شعب الله المختار وميّزه الله بحقوق خاصة. ففي الممالك أن لرعية المملكة حقوقاً لا تشاركها فيها رعية مملكة أخرى. كذا كان شأن الرومانيين فكان للروماني حقوق ليست لغيره ما لم يؤد ثمناً وافراً (أعمال ٢٢: ٢٨). وعلى هذا حُسب اليهود أنهم أفضل من كل أمم الأرض لأن الله كان ربهم وحدهم دون غيرهم كما أبان ذلك بإنقاذه إياهم من عبودية فرعون وقيادته لهم في البرية وإظهاره لهم الآيات والمعجزات وطرده أمماً كثيرة أمامهم وتوليته إياهم أرض الميعاد. وأشار بولس إلى تلك الحقوق بقوله «هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ، وَلَـهُمُ ٱلتَّبَنِّي وَٱلْمَجْدُ وَٱلْعُهُودُ وَٱلاشْتِرَاعُ وَٱلْعِبَادَةُ وَٱلْمَوَاعِيدُ… وَمِنْهُمُ ٱلْمَسِيحُ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ» (رومية ٩: ٤ و٥).
وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ ٱلْمَوْعِدِ هذا أيضاً بيان لأحوالهم الخارجية وجمع العهد وهو واحد لتكرره للآباء. وجوهر الموعد المسيح الفادي كما يتبين من قوله «وَنَحْنُ نُبَشِّرُكُمْ بِٱلْمَوْعِدِ ٱلَّذِي صَارَ لِآبَائِنَا إِنَّ ٱللّٰهَ قَدْ أَكْمَلَ هٰذَا لَنَا نَحْنُ أَوْلاَدَهُمْ، إِذْ أَقَامَ يَسُوعَ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ الخ» (أعمال ١٣: ٣٢ و٣٣ انظر أيضاً رومية ٤: ١٤ – ١٦ وغلاطية ٣: ١٦).
لاَ رَجَاءَ لَكُمْ هذا بيان حالتهم الباطنة فإنهم كانوا «بدون مسيح» وبلا رجاء الفداء الذي هو أعظم البركات. وذلك لأنه لم يكن لهم عهد ولا شركة في عهود شعب الله. وليس لهم ما يبنون عليه رجاء بخلاف شعبه تعالى فإنهم كان لهم رجاء مبني على موعد كُرر في عهود كثيرة. وكونهم بلا مسيح استلزم كونهم بلا رجاء الحياة والخلود الذي أتى به المسيح فإنه أعلن الله للناس فلزم من كونهم بدون المسيح أنهم بدون إله.
بِلاَ إِلٰهٍ أي بلا معرفة له (غلاطية ٤: ٨) أو بلا علاقة به لتركه إياهم على تركهم إياه وعدم اكتراثهم به وهو الأرجح فهم فصلوا أنفسهم عنه فانفصل عنهم. فكانوا في ما حذر الله شعبه إسرائيل منه بقوله «وَيْلٌ لَهُمْ أَيْضاً مَتَى ٱنْصَرَفْتُ عَنْهُمْ» (هوشع ٩: ١٢). وقوله «ٱدْعُ ٱسْمَهُ لُوعَمِّي، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ شَعْبِي وَأَنَا لاَ أَكُونُ لَكُمْ» (هوشع ١: ٩).
فِي ٱلْعَالَمِ أي تُركوا في العالم لأنفسهم منفصلين عن الشعب الذي عرف الله وعبده وحصل على موعده وسكن الله في وسطه وكونهم خارج كنيسته استلزم أن يكونوا أجنبيين عنه وعن عهده فكانوا يتامى وبلا وطن وذلك شر الأحوال كما يعلم من حال ممن لا قريب ولا صديق له على الأرض على أن حالهم كانت شراً من حال هذا لأن من لا صديق له على الأرض استغنى بصداقة الله ومن ليس الله بصديق له لا تغنيه صداقة الناس شيئاً.
وما قيل هنا على حال الأفسسيين وهم وثنيون يصدق اليوم على كل أهل العالم في الحال الطبيعية فإنهم لا يعرفون الله حق المعرفة ولا يسبحونه ولا يحبونه ولا يطيعونه ولا يتكلون عليه فقد تركهم الله ليأكلوا أثمار خطيتهم ومعصيتهم.
١٣ «وَلٰكِنِ ٱلآنَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ ٱلْمَسِيحِ».
أعمال ٢: ٣٩ وغلاطية ٣: ٢٨ وع ١٧
وَلٰكِنِ ٱلآنَ أي وأنتم مؤمنون. وهذا مقابل قوله «قبلاً» في الآية الحادية عشرة وقوله «ذلك الوقت» في الآية الثانية عشرة.
فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي باتحادكم به وهذا مقابل قوله «بدون مسيح» في الآية السابقة. إن الرسول متى تكلم على الفادي باعتبار إنباء الأنبياء به عبّر عنه «بالمسيح» ومتى أشار إليه باعتبار أنه ظهر بالجسد عبّر عنه «بالمسيح يسوع» كما عرفه تلاميذه بشخصه.
أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ أظهر الله في أيام النظام الموسوي حضوره في هيكله وكان شعبه إسرائيل قريباً من ذلك الهيكل فاقتربوا إليه هنالك بالعبادة والذبائح وأما الأمم فسكنوا في أماكن بعيدة عن الهيكل ولم يسمح لهم أن يقربوا من مذبحه كما سمح لشعبه اليهود. وأشار إشعياء إلى هذا بقوله بالنيابة عنه تعالى «اِسْمَعِي لِي أَيَّتُهَا ٱلْجَزَائِرُ، وَٱصْغُوا أَيُّهَا ٱلأُمَمُ مِنْ بَعِيدٍ» (إشعياء ٤٩: ١). وأشار إليه بطرس بقوله «ٱلْمَوْعِدَ هُوَ لَكُمْ وَلأَوْلاَدِكُمْ وَلِكُلِّ ٱلَّذِينَ عَلَى بُعْدٍ» (أعمال ٢: ٣٩). وأشار إليه بولس بقوله «أَنْتُمُ ٱلْبَعِيدِينَ وَٱلْقَرِيبِينَ» (ع ١٧). والبعد عن الله انفصال عنه وعن كنيسته والقرب إليه يستلزم المصالحة له والاتحاد بكنيسته.
صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ ٱلْمَسِيحِ قال في أول الآية «في المسيح يسوع» وفسر معنى هذا بالواسطة الخاصة لقرب البعيدين إليه لأنه لا مغفرة ولا مصالحة بلا سفك دم «لأَنَّ مُوسَى بَعْدَمَا كَلَّمَ جَمِيعَ ٱلشَّعْبِ بِكُلِّ وَصِيَّةٍ بِحَسَبِ ٱلنَّامُوسِ، أَخَذَ دَمَ ٱلْعُجُولِ وَٱلتُّيُوسِ، مَعَ مَاءٍ وَصُوفاً قِرْمِزِيّاً وَزُوفَا، وَرَشَّ ٱلْكِتَابَ نَفْسَهُ وَجَمِيعَ ٱلشَّعْبِ قَائِلاً: «هٰذَا هُوَ دَمُ ٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي أَوْصَاكُمُ ٱللّٰهُ بِهِ»… وَكُلُّ شَيْءٍ تَقْرِيباً يَتَطَهَّرُ حَسَبَ ٱلنَّامُوسِ بِٱلدَّمِ، وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (عبرانيين ٩: ١٩ – ٢٢). فالذي حصّله دم العجول والتيوس من الكفارة والمصالحة وقتياً حصّله دم المسيح «الذي دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبدياً لنا». وقد ختم بموته عهد الله الأبدي مع كل شعبه المؤمنين من اليهود والأمم.
١٤، ١٥ «١٤ لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلاثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ ٱلسِّيَاجِ ٱلْمُتَوَسِّطَ ١٥ أَيِ ٱلْعَدَاوَةَ. مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ ٱلْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ ٱلاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَاناً وَاحِداً جَدِيداً، صَانِعاً سَلاَماً».
ميخا ٥: ٥ ويوحنا ١٦: ٣٣ وأعمال ١٠: ٣٦ ورومية ٥: ١ وكولوسي ١: ٢٢ و٢: ١٤ و٢٠ و٢كورنثوس ٥: ١٧ وغلاطية ٦: ١٥ وص ٤: ٢٤
في هاتين الآيتين إثبات ما سبق في الآية الثالثة عشرة وإيضاح معناه قال هناك «أنتم الذين كنتم بعيدين صرتم قريبين» وأبان أن علة ذلك كونه سلامنا وموجد السلام برفعه الحاجز بين اليهود والأمم وبين الله والناس.
لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا الكلمة ذات الشأن في هذه العبارة «هو» أعني الذي سفك دمه لا غيره. وصنع لنا السلام منذ نحو ألف وتسع مئة سنة أي منذ عُلق على الصليب من أجلنا. والنبوءات المشيرة إلى كون المسيح سلامنا في العهد القديم كثيرة جداً منها (إشعياء ٩: ٥ و٦ و٥٢: ٧ و٥٣: ٥ و٥٧: ١٩ وميخا ٥: ٥ وحجّي ٢: ٩ وزكريا ٩: ١٠). وأعلن أنه علة «سلامنا» في العهد الجديد (لوقا ٢: ١٤ ويوحنا ١٤: ٢٧ و٢٠: ١٩ و٢١ و٢٦).
جَعَلَ ٱلاثْنَيْنِ وَاحِداً أي على اتفاق تام. وفي هذه الكلمات إشارة إلى مصالحتين الأولى مصالحة اليهود للأمم والثانية مصالحة الفريقين لله.
وَنَقَضَ حَائِطَ ٱلسِّيَاجِ ٱلْمُتَوَسِّطَ هذا بيان الطريق التي بها جعل الأثنين واحداً أي أنه صالح اليهود مع الأمم وصالح الفريقين مع الله. والحائط الذي نقضه هو الناموس كما أبان في الآية الآتية ونتيجة هذا النقض تبيين حقيقة ذلك الناموس فلو كانت النتيجة مجرد مصالحة اليهود للأمم لاستنتجنا أن المقصود بالناموس الرسوم الموسوية. ولا ريب في أن هذا حق ولكنه ليس إلا بعض الحق وكان العلامة الظاهرة للاختلاف بين اليهود والأمم الحاجز المعلوم الذي كان في هيكل أورشليم بين دار الأمم ودار النساء الذي أُبيح لليهود أن يتجاوزوه وحظر ذلك على الأمم. وأعداء بولس اتهموه أنه نجس الهيكل بإدخاله إليه تروفيمس الأفسسي فعزموا. على أن يقتلوه لذلك (أعمال ٢١: ٢٨) فارجع إلى التفسير هناك. وهذا الحاجز أبطله المسيح بموته ولكن هذا ليس إلا جزءاً صغيراً مما فعله على الصليب كما يتبين من (ع ١٥ و١٦) إذ يتضح أنه عمل المصالحة بين الله والناس وكانت علامة ذلك الظاهرة الحجاب بين القدس وقدس الأقداس في الهيكل وكان انشقاق ذلك الحجاب عند موت المسيح إشارة إلى رفع الحاجز أبداً (أنظر تفسير متّى ٢٧: ٥١ وهو آية على أن الكنيسة المسيحية من حرية القرب من الله ما ليس للكنيسة اليهودية). وأن الطريق إلى الله فٌتحت بموته لليهود والأمم معاً. فإذاً الحائط الذي نُقض ليس سوى الناموس الرمزي والأدبي بالنظر إلى كونه واسطة التبرير والمصالحة بين الله والناس. إن الناموس عهد الأعمال وهو يطلب الطاعة الكاملة ممن ابتغوا مصالحة الله به فالمسيح نقضه بكونه «مولوداً تحت الناموس» (غلاطية ٤: ٤) وبقيامه بكل مطاليب الشريعة بالنيابة عنهم حتى لا يحتاجوا إلى إتمامه لكي يتبرروا (رومية ٦: ١٤ و٧: ٤ و٦ وغلاطية ٥: ١٨ وكولوسي ٢: ١١). والناموس أيضاً نظام إشارت ورموز فصل بين اليهود والأمم والمسيح نقضه بأن أكمل بنفسه كل ما أشار إليه حتى لم يبق شعب الله مكلفاً بحفظه.
إن المسيح سلامنا لأنه أكمل الشريعة الأدبية عنا حتى لم نبق مكلفين بأن نكملها باعتبار كونها شرط التبرير والمصالحة لله. وهو سلامنا أيضاً لأنه أكمل الشريعة الموسوية حتى لم يبق لها أن تفصل بين اليهود والأمم فإنهم كانوا مختلفين في طرق العبادة والعقائد الدينية والعواطف فاعتبر اليهود الأمم نجسين وأبغضوهم وهزئ الأمم باليهود وكرهوهم ولكنهم لما آمنوا بالمسيح اتخذوا طريقاً واحداً للكفارة وآمنوا إيماناً واحداً وعبدوا عبادة واحدة وصاروا جميعاً من أهل بيت المفديين.
وغني عن البيان أن ما جاء هنا من أن المسيح نقض الناموس الأدبي لا يستلزم البتة أنه نقضه باعتبار كونه قانون سيرتنا وطاعتنا ولهذا قال الرسول «أَفَنُبْطِلُ ٱلنَّامُوسَ بِٱلإِيمَانِ؟ حَاشَا! بَلْ نُثَبِّتُ ٱلنَّامُوسَ» (رومية ٣: ٣١).
ٱلْعَدَاوَةَ (ع ١٥) إن المسيح حين نقض حائط السياج نقض العداوة بإزالة أسبابها فأزالها من بين اليهود والأمم ومن بين الله والناس. والعداوة من جهة الله هي غضبه على الخطأة لكونه قدوساً وحاكماً أدبياً ومن جهة الناس هي نتيجة أمره تعالى لهم بما هو مخالف لأميالهم وإنذاره إياهم بالعقاب على عصيانهم. ومن المعلوم أن كل النظام اليهودي سياسة وديناً فصل اليهود عن سائر الأمم وجعلهم متكبرين معجبين بأنفسهم عادّين أنفسهم من أحباء الله الخاصة فكان من ذلك كل من اليهود والأممم مبغَضين ومبغِضين. والدليل على تلك العداوة قول أحد الأمم للمك أحشويرش «إِنَّهُ مَوْجُودٌ شَعْبٌ مَّا مُتَشَتِّتٌ وَمُتَفَرِّقٌ بَيْنَ ٱلشُّعُوبِ فِي كُلِّ بِلاَدِ مَمْلَكَتِكَ، وَسُنَنُهُمْ مُغَايِرَةٌ لِجَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ، وَهُمْ لاَ يَعْمَلُونَ سُنَنَ ٱلْمَلِكِ فَلاَ يَلِيقُ بِٱلْمَلِكِ تَرْكُهُمْ. فَإِذَا حَسُنَ عِنْدَ ٱلْمَلِكِ فَلْيُكْتَبْ أَنْ يُبَادُوا» (أستير ٣: ٨ و٩). وقول أحد اليهود لكرنيليوس «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ كَيْفَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى رَجُلٍ يَهُودِيٍّ أَنْ يَلْتَصِقَ بِأَحَدٍ أَجْنَبِيٍّ أَوْ يَأْتِيَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَرَانِي ٱللّٰهُ أَنْ لاَ أَقُولَ عَنْ إِنْسَانٍ مَا إِنَّهُ دَنِسٌ أَوْ نَجِسٌ» (أعمال ١٠: ٨). فنقض الناموس الموسوي نقض العداوة المبنية عليه. والعداوة بين الله والناس هي المشار إليها بقوله «قاتلاً العداوة بالصليب» (ع ١٦). ووجود تلك العداوة ظاهر من قول الرسول «لأن اهتمام الجسد هو عداوة الله» (رومية ٨: ٧) فالناموس أبان علة هذه العداوة وأثبت على الإنسان الدينونة لأنه لم يحفظه تماماً بل هيّج فيه العصيان بدليل قوله «فَوُجِدَتِ ٱلْوَصِيَّةُ ٱلَّتِي لِلْحَيَاةِ هِيَ نَفْسُهَا لِي لِلْمَوْتِ» (رومية ٧: ١٠). وما في باقي الآية يبيّن كيف أبطل المسيح تلك العداوة بموته.
مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ ٱلْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ هذا هو المبدأ العظيم الذي اجتهد بولس في بيانه في كل مواعظه ورسائله وهو أن المسيح بموته حررنا من الناموس باعتبار كونه شرطاً للخلاص وإنا لسنا تحت الناموس بعد بل تحت النعمة (رومية ٦: ١٤). وهو حررنا منه بتكميله إيّاه عنا إذ خضع له (غلاطية ٤: ٥) واحتمل لعنته (غلاطية ٣: ١٣) وقيل أنه «فعل ذلك بجسده» (رومية ٧: ٤) و «بجسم بشريته» (كولوسي ١: ٢٢) و «بصليبه» (كولوسي ٢: ١٤).
إن الكلمات «دم المسيح» (ع ١٣) و «جسده» (ع ١٥) و «صليبه» (ع ١٦) تفيد شيئاً واحداً أي انه قدم جسده أو نفسه ذبيحة كفارية أوفى بها كل مطاليب الناموس وصالحنا مع الله. ونقض المسيح للناموس بإكماله إياه تماماً عظم الناموس وكرمه وأنشأ طريقاً به بكون الله باراً ويبرر الخاطئ. ووصف الناموس بكونه «ناموس الوصايا في فرائض» ليبين أنه يشمل كل أنواع الشرائع من الأوامر والنواهي مما كتب على قلوبنا وعلى لوحي الحجارة ومما أوجب على الوثنيين الذين لا وحي لهم لكونه أُعلن في ضمائرهم ومما أوجب على اليهود أهل الوحي الذين أعلن الله إرادته لهم بواسطة أنبيائه ورسله. فلا يمكن أن يكون فداء المسيح لنا من الناموس مجرد التحرير من حفظ شريعة موسى لأن ذلك الفداء يؤكد المصالحة مع الله والتبرير والتقديس فهو التحرير من كل ناموس باعتبار كون حفظه شرطاً ضرورياً للخلاص. وخلاصة التعليم في هذه الآية أمران:
الأول: إنه قد نُقض حائط السياج الفاصل بين اليهود والأمم الذي كان سبب العداوة بينهما وذلك بأن نقض الناموس مع كل سننه باعتبار كونه واسطة التبرير وفُتح بالمسيح طريق جديد إلى الله لليهود والأمم معاً بدليل قول المسيح «لِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ» (يوحنا ١٠: ١٦). وقول الرسول «حَيْثُ لَيْسَ يُونَانِيٌّ وَيَهُودِيٌّ، خِتَانٌ وَغُرْلَةٌ، بَرْبَرِيٌّ سِكِّيثِيٌّ، عَبْدٌ حُرٌّ، بَلِ ٱلْمَسِيحُ ٱلْكُلُّ وَفِي ٱلْكُلِّ» (كولوسي ٣: ١١).
الثاني: المصالحة بذلك الطريق عينه بين الناس (يهوداً وأمماً) والله «لأَنَّ غَايَةَ ٱلنَّامُوسِ هِيَ: ٱلْمَسِيحُ لِلْبِرِّ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ» (رومية ١٠: ٤) و «إِنَّ إِنْسَانَنَا ٱلْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضاً لِلْخَطِيَّةِ. لأَنَّ ٱلَّذِي مَاتَ قَدْ تَبَرَّأَ مِنَ ٱلْخَطِيَّةِ» (رومية ٦: ٦ و٧).
لِكَيْ يَخْلُقَ ٱلاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَاناً وَاحِداً جَدِيداً هذا بيان قصد المسيح من نقض الناموس وتفسير قوله «جعل الاثنين واحداً» في الآية الرابعة عشرة. والمراد «بالأثنين» اليهود والأمم فإنهم مع كونهم كثيرين اتحدوا في محبة قلبية وكنيسة واحدة مسيحية حتى صاروا كإنسان واحد وتصالحوا مع الله معاً كأنهم خُلقوا جديداً وصاروا جسداً واحداً رأسه المسيح. واقتضى أن يُخلقوا جديداً لأن الإنسان العتيق الذي كلاهما له (وهو عدو لله) قد قُتل بجسد المسيح على الصليب. وقال «في نفسه» لأن الاتحاد بالمسيح هو الشرط الضروري لاتحاد بعضهم ببعض واتحاد جميعهم بالله ولتقديسهم الذي هو المقصود من الإنسان الجديد بدليل قوله «تَلْبَسُوا ٱلإِنْسَانَ ٱلْجَدِيدَ ٱلْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ ٱللّٰهِ فِي ٱلْبِرِّ وَقَدَاسَةِ ٱلْحَقِّ» (ص ٤: ٢٤ انظر أيضاً ٢كورنثوس ٥: ١٧ وغلاطية ٦: ١٥ وكولوسي ٣: ١٠). وقال «إنساناً واحداً جديداً» لأن الله يحسب كل المفديين واحداً في يسوع المسيح كما أنه حسب كل البشر واحداً في آدم.
صَانِعاً سَلاَماً بين اليهود والأمم على وفق قوله «لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (غلاطية ٣: ٢٨) وبين الله والناس كما بين في الآية الآتية.
١٦ «وَيُصَالِحَ ٱلاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ ٱللّٰهِ بِٱلصَّلِيبِ، قَاتِلاً ٱلْعَدَاوَةَ بِهِ».
كولوسي ١: ٢٠ إلى ٢٢ رومية ٦: ٦ و٨: ٣ وكولوسي ٢: ١٤
هذا بيان أن غاية المسيح تشتمل على مصالحة اليهود والأمم معاً لله كإنسان واحد.
وَيُصَالِحَ ٱلاثْنَيْنِ مؤمني اليهود والأمم الذين انفصلوا عن الله بالخطيئة لكنهم بعد أن آمنوا بالمسيح اتحدوا به في جسد واحد هو كنيسة المسيح. وقد سبق الكلام على المصالحة بين الله والناس في تفسير رسالة كورنثوس الثانية (٢كورنثوس ٥: ١٨ – ٢١).
فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ ٱللّٰهِ أي كنيسته التي هي رأسها (ص ٤: ٤ وكولوسي ٣: ١٥). لم يقصد المسيح أن يفدي اليهود دون الأمم بل أن يأتي بكليهما لله ويصنع من كليهما جسداً واحداً حياً مغسولاً بدمه ساكناً فيه روحه.
بِٱلصَّلِيبِ أي بموته على الصليب ذبيحة كفارية.
قَاتِلاً ٱلْعَدَاوَةَ بِهِ تدل القرينة على أن معنى هذه العبارة كمعنى قوله «يصالح الاثنين… مع الله». إن المسيح بموته رفع الخطيئة التي هي علة غضب الله على الخاطئ وعلى عداوة الإنسان لله حتى لم يبق مانع من المصالحة التي طلبها الله. وهذا كقوله «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلاَدُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ ذَاكَ ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ» (عبرانيين ٢: ١٤). وقوله «أَنْ يُصَالِحَ بِهِ ٱلْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً ٱلصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ… فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ بِٱلْمَوْتِ، لِيُحْضِرَكُمْ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ» (كولوسي ١: ٢٠ – ٢٢). وقوله «إِذْ مَحَا ٱلصَّكَّ ٱلَّذِي عَلَيْنَا فِي ٱلْفَرَائِضِ، ٱلَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ ٱلْوَسَطِ مُسَمِّراً إِيَّاهُ بِٱلصَّلِيبِ» (كولوسي ٢: ١٤ انظر أيضاً غلاطية ٣: ١٣).
١٧ «فَجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بِسَلاَمٍ، أَنْتُمُ ٱلْبَعِيدِينَ وَٱلْقَرِيبِينَ».
إشعياء ٥٧: ١٩ وزكريا ٩: ١٠ وأعمال ٢: ٣٩ و١٠: ٣٦ ورومية ٥: ١ وع ١٣ و ١٤ مزمور ١٤٨: ١٤ وأعمال ٢: ٣٩.
فَجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بعدما صنع سلاماً بموته بشر بذلك السلام وهذا هو خلاصة الإنجيل كما في قول الملائكة «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام» وقول الرسول «إِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِٱلإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ ٱللّٰهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (رومية ٥: ١). وهذا لا يشير إلى مجيء المسيح إلى العالم حين تجسد بل حين ظهر للرسل بعد قيامته وبحضوره دائماً بواسطة روحه إتماماً لوعده في قوله «لاَ أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ» (يوحنا ١٤: ١٨) وقوله «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متّى ٢٨: ٢٠) إن أول الكلمات التي فاه بها لتلاميذه بعد قيامته هو «سلام لكم» (يوحنا ٢٠: ١٩ و٢١). وبشر بالسلام بواسطة تلاميذه حين أمرهم بقوله «ٱذْهَبُوا إِلَى ٱلْعَالَمِ أَجْمَعَ وَٱكْرِزُوا بِٱلإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مرقس ١٦: ١٥) وبواسطة رسله يوم الخمسين في أورشليم ولم يزل إلى اليوم حاضراً مع الكنيسة مبشراً بواسطتها وواسطة كلمته وروحه.
بِسَلاَمٍ بين الله والناس اللذين كانت العداوة بينهما.
أَنْتُمُ ٱلْبَعِيدِينَ وَٱلْقَرِيبِينَ اي الأمم واليهود (ع ١٣).
١٨ «لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى ٱلآبِ».
يوحنا ١٠: ٩ و١٤: ٦ ورومية ٥: ٢ وص ٣: ١٢ وعبرانيين ٤: ١٦ و١٠: ١٩ و٢٠ و١بطرس ٣: ١٨ و١كورنثوس ١٢: ١٣ وص ٤: ٤
في هذه الآية دليل على أن المسيح صنع سلاماً لليهود والأمم لأن لكل منهما اقتراباً إلى الله بلا مانع. فلو لم يرفع المسيح «العداوة» ويصنع السلام لم يكن لأحد قدوم إلى الله.
بِهِ أي قربنا من الله «بدمه» و «جسده» و «صليبه» كما سبق وذلك إشارة إلى موته من أجلنا بدليل قول بطرس الرسول «إِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ ٱلْخَطَايَا، ٱلْبَارُّ مِنْ أَجْلِ ٱلأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى ٱللّٰهِ» (١بطرس ٣: ١٨).
كِلَيْنَا مؤمني اليهود والأمم بلا امتياز.
قُدُوماً في الأصل اليوناني الكلمة المترجمة هنا «بقدوم» تعني أكثر من مجرد التقرب إلى الله فنشير فوق ذلك إلى نيل رضاه. فقد علمنا الإنجيل أن المسيح حصل لنا المصالحة مع الله والسلام وإننا صرنا بواسطته من أهل بيت الله.
فِي رُوحٍ وَاحِدٍ أي الروح القدس وهذا الروح يثبت علينا أننا خطأة ويقودنا إلى المسيح لكي نتمسك به بالإيمان وبواسطته يحضر المسيح اليوم في الكنيسة (ع ١٧) وقد سبق الكلام في قدومنا إلى الآب بهذا الروح في تفسير الجزء الأول من هذه الآية. وبسط الرسول الكلام على فعل الروح في الكنيسة في الرسالة الأولى إلى كورنثوس (١كورنثوس ١٢: ١ – ١٣) وختم كلامه بقوله «لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضاً ٱعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ، يَهُوداً كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ، عَبِيداً أَمْ أَحْرَاراً. وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحاً وَاحِداً» وقال «روحاً واحداً» لأن اليهود والأمم مع كونهما اثنين أصلاً يقتربان بذلك الروح الواحد وهو يسكن فيهما ويرشدهما معاً.
إِلَى ٱلآبِ الذي ابتعدوا عنه بطبيعتهم الفاسدة وبعصيانهم إياه فأذن لهم الله في أن يقتربوا منه مثل أب مصالح محب. وأصل الفداء نُسب في الإنجيل إلى الآب فإنه اختار بابنه شعباً خاصاً وأرسل ابنه ليفديهم وروحه القدوس لكي يحملهم على قبول الفداء. وجاء في أول هذه الرسالة «إن الله أبا ربنا يسوع المسيح باركنا بكل بركة روحية في المسيح وأنه اختارنا قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم أمامه» (ص ١: ٣ و٤) و «قصد أن يصالح بالمسيح الكل لنفسه» (كولوسي ١: ٢٠) وجاء في ذلك ما نصه «لَنَا إِلٰهٌ وَاحِدٌ: ٱلآبُ ٱلَّذِي مِنْهُ جَمِيعُ ٱلأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ لَهُ» (١كورنثوس ٨: ٦) فإياه نصالح ونحن الكثيرين صرنا أهل بيته وورثة مجده.
ومما يستحق الالتفات إليه في هذا الفصل بيان تعليم التثليث فيه بكل إيضاح إذ اتضح أن مصالحتنا للآب بالابن في الروح.
١٩ «فَلَسْتُمْ إِذاً بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ ٱلْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ ٱللّٰهِ».
تكوين ٢٣: ٤ فيلبي ٣: ٢٠ وعبرانيين ١٢: ٢٢ و٢٣ غلاطية ٦: ١٠ وص ٣: ١٥
لنا من هذه الآية أن الأمم الذين كانوا غرباء صاروا رعية مع القديسين وأهل بيت الله وجزءاً من ذلك الهيكل الذي يبنيه الله بروحه.
لَسْتُمْ إِذاً بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً الغرباء هم الذين لا علاقة لهم بالرعية والنزل هم الذين يسكنون وقتاً مع الرعية ولكن ليس لهم ما للرعية من الحقوق. ولم يكن للأفسسيين قبلاً من نسبة إلى شعب إسرائيل إلا كنسبة أهل مملكة إلى أهل مملكة أخرى ولم يكن لهم شركة في بركات شعب إسرائيل ومواعيدهم وآمالهم ومقتنياتهم.
رَعِيَّةٌ مَعَ ٱلْقِدِّيسِينَ لم يقصد بالقديسين مجرد الأرواح المقدسة من الملائكة والمفديين في السماء ولا مجرد المؤمنين الأحياء لا اليهود ولا الآباء بل جماعة الله المختارة من كل أمة التي هي جسده وهي جماعة الذين اقتربوا إليه تعالى بالإيمان بالمسيح قبل إتيانه إلى العالم وبعده وهم شعبه الخاص كما كان الإسرائيليين قديماً وهم ملكوته الروحي وهذا الملكوت دخله الأمم بالشرط الذي دخله غيرهم على ما قال بولس وصار لهم الحقوق التي كانت لغيرهم وصار الله ملكهم كما كان ملك غيرهم وهم أعضاء ذلك الجسد الذي المسيح رأسه.
أَهْلِ بَيْتِ ٱللّٰهِ إن النسبة بين أهل بيت واحد أقرب وأشد من النسبة بين أفراد رعية مملكة واحدة والنسبة بين الأب وأهل بيته أقرب وأشد من النسبة بين الملك ورعية مملكته فالمؤمنون باعتبار كونهم أولاد الله أقرب إليه مما هم باعتبار كونهم رعيته وحقوقهم أعظم ومحبته إيّاهم أوفر. ولعل الرسول سماهم رعية مع القديسين إشارة إلى قرب بعضهم من بعض وسماهم «أهل بيت الله» إشارة إلى قربهم إليه تعالى.
٢٠ «مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ ٱلرُّسُلِ وَٱلأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ ٱلزَّاوِيَةِ».
١كورنثوس ٣: ٩ و١٠ وص ٤: ١٢ و١بطرس ٢: ٤ و٥ متّى ١٦: ١٨ وغلاطية ٢: ٩ ورؤيا ٢١: ١٤ و١كورنثوس ١٢: ٢٨ وص ٤: ١١ مزمور ١١٨: ٢٢ وإشعياء ٢٨: ١٦ ومتّى ٢١: ٤٢
غيّر الرسول في هذه الآية التشبيه والمعنى واحد وهو أن للأمم المؤمنين بالمسيح نفس الحقوق التي لمؤمني اليهود في المسيح ولهم نفس البركات التي لليهود في الحاضر ونفس الميراث الذي لهم في المستقبل لأنهم صاروا قسماً من إسرائيل الحقيقي كاليهود. ولعل سبب انتقاله من تشبيه المؤمنين بأهل البيت إلى تبشيههم بالبيت نفسه لأن البيت يطلق على المعنيين.
ورد في أماكن أخرى في الإنجيل تشبيه أفراد المسيح بهياكل يسكن فيها الروح القدس ومن ذلك قوله «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلَّذِي فِيكُمُ» (١كورنثوس ٦: ١٩). ولكنه أبان هنا أن كل جماعة المؤمنين بناء واحد إشارة إلى اتحاد بعضهم ببعض ومشاركة كل للآخر مع كثرة عددهم. وحجارة هذا البناء ليست كسائر الحجارة من الرخام أو غيره بل هي أناس متبررون ومتقدسون بعضهم قد أُكملوا ومُجدوا في السماء وبعضهم سوف يؤمن ويتمجد ولكل مؤمن محل في ذلك الهيكل عيّنه الله. فهو مبني من كل المؤمنين الماضين والحاضرين والآتين إلى نهاية الزمان.
إن المسيح ابن الله أخذ طبيعتنا ليكون أساس هذا الهيكل فوجوده وثبوته وجماله وجلاله متوقفة عليه وملاط حجارته دم المسيح الكريم وكل حجر حي منها هو على صورة المسيح وركب في موضعه بالنسبة إليه باعتبار كونه رأس الزاوية. والروح القدس يعد كل حجر حي ويحعله مناسباً لموضعه ويزينه بزينة مقدسة ويضعه في المحل الذي عيّنه الله ويثبته فيه. وحجارة ذلك الهيكل أفراداً وإجمالاً ركزت على المسيح للقوة والاتحاد والكمال والدوام.
مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ ٱلرُّسُلِ وَٱلأَنْبِيَاءِ المراد بالأنبياء هنا أنبياء العهد الجديد الذين أشار إليهم بولس في وصفه مواهب الروح القدس بقوله «وَضَعَ ٱللّٰهُ أُنَاساً فِي ٱلْكَنِيسَةِ: أَوَّلاً رُسُلاً، ثَانِياً أَنْبِيَاءَ» (١كورنثوس ١٢: ٢٨) ولو كانوا أنبياء العهد القديم لذكرهم قبل الرسل. والقرينة تدل على أن كلامه هنا في الكنيسة المسيحية وهي قوله «فجاء وبشركم بالسلام» (ع ١٧) وما قيل هنا من أن الرسل والأنبياء أساس الكنيسة يحتمل ثلاثة معان:
الأول: إن الكنيسة بُنيت عليهم. ويعسر علينا أن نقبل هذا التفسير لأمرين الأول منافاته لما تعلمنا في مواضع أُخر من أن المسيح هو الأساس والثاني استلزامه أن نتخذ الناس الضعفاء المعرضين للخطإ أساساً للكنيسة فإنهم حجارة البناء لا الأساس.
الثاني: إن أساس الكنيسة هو الذي وضعه الرسل والأنبياء وبَنوا عليه وبُنوا واجتهدوا في أن يجعلوا غيرهم بانين عليه ومبنين. ويناسب ذلك قول بولس «كَبَنَّاءٍ حَكِيمٍ قَدْ وَضَعْتُ أَسَاساً… فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَضَعَ أَسَاساً آخَرَ غَيْرَ ٱلَّذِي وُضِعَ، ٱلَّذِي هُوَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ» (١كورنثوس ٣: ١٠ و١١).
الثالث: إن ذلك الأساس مناداة الرسل والأنبياء وشهادتهم للمسيح بأنه ابن الله وأنه تجسد وأنه مخلص العالم وعلى هذا التعليم بنوا رجاءهم واجتهدوا في أن يبنوا رجاء غيرهم عليه. ويرجح هذا المعنى قول المسيح لبطرس «أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هٰذِهِ ٱلصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي» (متّى ١٦: ١٨). أي على اعتراف بطرس بأن يسوع هو المسيح ابن الله الحي. ومن الواضح أن كل سافٍ أو مدماك من الحجارة أساس لما فوقه ومبني على ما تحته فلا مانع من أن يكون المسيح الأساس الأعظم الأصلي ومَن بنوا عليه أولاً من الرسل والأنبياء أُسساً ثانوية. وهذا يوافق قول يوحنا الرسول «وَسُورُ ٱلْمَدِينَةِ كَانَ لَهُ ٱثْنَا عَشَرَ أَسَاساً، وَعَلَيْهَا أَسْمَاءُ رُسُلِ ٱلْحَمَلِ ٱلاثْنَيْ عَشَرَ» (رؤيا ٢١: ١٤). ولا نرى فرقاً بين الثاني والثالث لكي نفضل أحدهما على الآخر وكلاهما حق وموافق لقول بطرس «ٱلَّذِي إِذْ تَأْتُونَ إِلَيْهِ، حَجَراً حَيّاً مَرْفُوضاً مِنَ ٱلنَّاسِ، وَلٰكِنْ مُخْتَارٌ مِنَ ٱللّٰهِ كَرِيمٌ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيِّينَ كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ، بَيْتاً رُوحِيّاً، كَهَنُوتاً مُقَدَّساً، لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ ٱللّٰهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (١بطرس ٢: ٤ و٥).
يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ ٱلزَّاوِيَةِ وهذا الحجر ذو شأن في كل بناء لأنه يربط الجدارين معاً ويقوي البناء ويقاس منه في الرسم كله. والمعنى أن الكنيسة تُسند على المسيح وتقوم به باعتبار أنه موضوع إيمانها وواسطة حياتها ويستحيل بدونه أن تثبت شيئاً لكنه بحضوره فيها «أبواب الجحيم لن تقوى عليها» وهذا موافق لقول الله بلسان إشعياء النبي «هَئَنَذَا أُؤَسِّسُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرَ ٱمْتِحَانٍ، حَجَرَ زَاوِيَةٍ كَرِيماً، أَسَاساً مُؤَسَّساً» (إشعياء ٢٨: ١٦). وقول المرنم «ٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ» (مزمور ١١٨: ٢٢ انظر أيضاً متّى ٢٢: ٤١ وأعمال ٤: ١١ وارجع إلى تفسير رومية ٩: ٣٣).
إن كون المسيح حجر الزاوية لا يمنع من كونه أساساً أيضاً كما أن كونه ذريّة داود لم يمنع من أن يكون أصله (رؤيا ٢٢: ٦).
٢١ «ٱلَّذِي فِيهِ كُلُّ ٱلْبِنَاءِ مُرَكَّباً مَعاً يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّساً فِي ٱلرَّبِّ».
ص ٤: ١٥ و١٦ و١كورنثوس ٣: ١٧ و٦: ١٩ و٢كورنثوس ٦: ١٦
ٱلَّذِي فِيهِ أي في المسيح باعتبار كونه رأس الزاوية فإنه هو الذي يجعل البناء راسخاً نامياً في القوة والجمال وهو الذي يقدم وسائط النمو فالاتحاد به هو الشرط الضروري لكي نكون حجارة حية لذلك الهيكل الروحي الذي هو حجر زاويته.
كُلُّ ٱلْبِنَاءِ أي كل الكنيسة المركبة من مؤمني اليهود والأمم لتكون هيكلاً واحداً يسكن فيه روحه.
مُرَكَّباً مَعاً أي أن المسيحيين الحقيقيين مع كونهم مختلفي الأجناس والعصور هم أجزاء بيت واحد مختلفة الأنواع ولكونهم متحدين بالمسيح بالإيمان وبمحبة بعضهم لبعض ينمون معاً حتى يصيروا بناءً واحداً. وهذا الاتحاد روحي لا يستلزم نظاماً ظاهراً لعيون الناس كملكوت أرضي ذي رأس منظور.
فِي ٱلرَّبِّ يسوع المسيح أي ينمو فيه. فذلك الهيكل لا ينمو إلا به وهو ينمو به نمواً باطناً حياً ويتخذ منه الوسائط اللازمة لنموه.
٢٢ «ٱلَّذِي فِيهِ أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيُّونَ مَعاً، مَسْكَناً لِلّٰهِ فِي ٱلرُّوحِ».
١بطرس ٢: ٥
ٱلَّذِي فِيهِ أي في المسيح لأن حضوره في البناء يجعله هيكلاً.
أَنْتُمْ أَيْضاً أراد بهذا أن ما قيل سابقاً على كل المؤمنين معاً يصدق على مؤمني أفسس أي أنهم حجارة حية في ذلك الهيكل العظيم.
مَبْنِيُّونَ مَعاً أي أنتم مع سائر المؤمنين لكم محل معين في ذلك البناء الروحي. فإن الحجارة الحيّة مع أنها أفراد كثيرة هي مبنية حتى صارت بناء واحداً. وهذا يعلمنا قيمة الاتحاد وضروريته فيه يكون المؤمنون والمسيح واحداً وبه يكون كل المسيحيين مع كونهم مختلفي الأصول والعصور واللغات والطوائف والفرق التي عُرفت بأسماء كثيرة رعية واحدة يربطها الإيمان بالمسيح مصلوباً ووسيطاً وحيداً لخلاصهم.
مَسْكَناً لِلّٰهِ هذا غاية وجود ذلك الهيكل الروحي الذي بُني فيه الأفسسيون مع غيرهم من المؤمنين وهي أن يكونوا مسكناً له تعالى كما كان هيكل سليمان المادي فكأنه قال إن كنيسة المسيح التي هي جسده هيكل الله الذي يُسر به ويُكرم ويُمجد فيه. ويلزم من كونها مسكناً له أنه يحفظها ويسوسها ويعتني بكل أمورها صغيرة كانت أو كبيرة.
فِي ٱلرُّوحِ أي الروح القدس وهذا متعلق بقوله «مبنيون» فكما أن الكنيسة تنمو باتحادها بالمسيح تُبنى بفعل الروح الذي هو حاضر في الكنيسة كلها في وقت جهادها ووقت مجدها. إنها اليوم لم تبلغ الكمال ولكن فعل الروح فيها يؤكد نموها في الطهارة إلى أن تبلغه وتكون مسكناً أبدياً لله.
وقد أوضح الرسول في هذه الآية أن الكنيسة هي الهيكل الذي أُعد لسكنى الآب والذي بناه الابن وأن الله يسكنه بروحه القدوس. فما أعظم المجد الذي نُسب هنا إلى كنيسة المسيح وأي مجد أعظم من أن تكون هيكلاً ومسكناً للعلي وأن يكون المسيح أساسها للرسوخ والدوام. وكونه «رأس زوايتها» يحقق نظامها واتحادها وجمالها وأن الروح القدس يؤكد طهارتها الباطنة ويعمل فيها ما يؤول إلى كمالها. ومن العجب أن الأجزاء التي تركبت منها الكنيسة «حجارة حيّة» مجموعة من أقطار بعيدة مختلفة في عصور مختلفة وممن كانوا يهوداً وأمماً من صنوف ورتب وألسنة مختلفة. فما أوسعها فإنها تتضمن كل مختاري الله في كل أزمنة البشر وكل من غُسل بدم المسيح من الأطفال الذين أخذوا إكليل الحياة من يد المسيح بدون أن يجاهدوا الجهاد الحسن على الأرض إلى الشيوخ الذين جاهدوا وماتوا شهداء والذي يحقق هيبتها ووقارها وقداستها أنها وقف للرب وان كل أجزائها من أساسها إلى آخر ما بني عليه محيً من الروح القدس.
السابق |
التالي |