أفسس | د. القس إبراهيم سعيد

شرح الرسالة إلى أفسس الإصحاح الأول

تَفْسِير رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ أَفَسُسَ

إبراهيم سعيد

تستهل رسائل بولس عادة بتحية، وشكر، وطلبة. وفي بعض الأوقات تُغفل التحية، أو الطلبة، وفي البعض الآخر تجتمع هذه الثلاثة العناصر معاً، كما في ديباجة هذه الرسالة، التي تتضمن ثلاثة عناصر هامة- كل عنصر منها قائم بذاته:

أولاً: كاتب الرسالة: “بولس رسول يسوع المسيح بمشيئة الله”

ثانياً: المكتوب إليهم: “إلى القديسين في أفسس والمؤمنين في المسيح يسوع”

ثالثاً: التحية : “نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح”

وكل عنصر من هذه الثلاثة العناصر قائم على ثلاثة أركان:

أولاً: كاتب الرسالة يصف نفسه وصفاً مثلثاً:

(1)                                 (2)                                                          (3)

اسمه:                              وظيفته:                                             السلطان الذي تقلد به وظيفته

“بولس”                     “رسول يسوع المسيح”                                           “بمشيئة الله”

ثانياً: الكاتب يصف المكتوب إليهم وصفاً مثلثاً:

(1)                        (2)                                   (3)

دعوتهم:                مكانهم:                                  مقامهم:

“القديسين”        “الذين في أفسس”                   “المؤمنين في المسيح يسوع”

ثالثاً: التحية في وصفها المثلث:

(1)                                    (2)                           (3)

مشتملاتها:                           مآلها:                           مصدرها:

“نعمة وسلام”                      “لكم”              “من الله أبينا الرب يسوع المسيح”،

كاتب الرسالة

1بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ اللهِ،

الكاتب يصف نفسه وصفاً مثلثاً:

(1)اسمه “بولس”- وهي كلمة يونانية الأصل، معناها”صغير”.

لأول مرة حدثنا لوقا في أعمال 13: 9 أن رسول الأمم عُرف بهذا الاسم بعد تجديده ورجوعه إلى المسيح. وقد كان قبلاً معروفاً باسم: “شاول”- ومعناه “المطلوب” أو “المرغوب فيه”. وشتان بين الاسمين. فالاسم القديم يحيطه الزهو، وتحف به الخيلاء. والاسم الجديد مشتق من معدن البساطة والوداعة.

وإذا ذكرنا أن شاول الطرسوسي عُرف باسم “بولس”، بُعَيد اهتداء الوالي سرجيوس بولس، الذي قبل الإيمان على يديه (أعمال13: 5-7)، جاز لنا أن نستنتج أن بولس الرسول، تقلد اسم أول رجل تجدد على يديه، على مثال ما يتم للفاتحين الظلفرين الذين تُخلع عليهم أسماء المواقع الحربية الحصينة التي يظفرون فيها. يضاف إلى هذا، أن بولس الرسول، بعد أن تجدد ورجع إلى المسيح، تعين عليه أن يحمل اسم المسيح أمام أمم وملوك، فصار من المحتم عليه، والحالة هذه، أن يجتاز مقاطعات وبلاداً يونانية. وبما أن اسمه الأول “شاول” عبري الأصل، فقد أضحى لزاماً عليه، أن يحمل اسماً يونانياً، يتفق والمزايا اليونانية والرومانية التي حصل عليها، فلم ترَ أنسب من اسم “بولس” الذي يذكّره باسم أول رجل اهتدى على يديه.

ويغلب على اعتقاد الأسقف موليه، أن الرسول بولس كان يحمل اسمين منذ الطفولة- أحدهما: “شاول” العبري لغة، لأن الرسول يهودي الأصل والمولد. وثانيهما: “بولس” اليوناني لغة، لأن الرسول يوناني الثقافة. فلما تجدد وأضحى رسولاً للأمم، اُبتلع اسمه اليهودي في اسمه اليوناني، فأصبح معروفاً بثانيهما وحده، فاختفى الطرسوسي شاول في بولس الرسول.

وجدير بالملاحظة أن بولس، في هذه الرسالة وفي رسالته إلى رومية لم يقرن اسماً أخر باسمه- على غير عادته في رسائله الموجهة إلى سائر الكنائس. وغالباً جداً، يرجع السبب في هذا، إلى أن هذه الرسالة عامة في موضوعها، موجهة إلى كنائس أخرى علاوة على أفسس. (ارجع إلى المقدمة العامة).

(2) وظيفته: “رسول يسوع المسيح”. كلمة “رسول” تعني إطلاقاً: الشخص المكلف بمهمة ورسالة. ويُفترض فيها أن المرسل أجلّ قدراً من الرسول. وفي هذا يقول المسيح “ليس رسول أعظم من مرسله” (يو13: 16). لكنها استعملت هنا على وجه التخصيص، لتعني واحداً من طبقة ممتازة، منتقاة، مؤلفة من اثني عشر رجلاً، اختارهم المسيح، ودعاهم، وأرسلهم ليكونوا شهود عيان لقيامته، وليحملوا اسمه ورسالة إنجيله إلى البشر وكلهم عاين المسيح بعد قيامته بالجسد. إلا يهوذا الأسخريوطي الذي سقطت راية الشرف من يده.

إن قوله: “رسول يسوع المسيح” يفيد أن بولس نرسل من المسيح، وهو تابع له، ومملوك منه، بل إن المسيح هو علة رسوليته وغايتها، وموضوعها. ولا شك في أن انتساب بولس الرسول إلى المسيح يسبغ على رسالته سلطة، ورفعة، ووداعة. فهو رسول ملك الملوك ورب الأرباب، وفي الوقت نفسه هو رسول ذاك الذي قال عن نفسه: “لأني وديع ومتواضع القلب”.

ويجمل بنا أن نقارن بين الصفة التي تقدم بها بولس إلى قارئيه في هذه الرسالة، والصفات التي تقدم بها إلى قارئيه في بعض رسائله الأخرى:

في رسالتيه الأولى والثانية إلى تسالونيكي قال: “بولس”

وفي رسالته إلى رومية قال: “بولس عبد يسوع المسيح”

وفي رسالته الأولى إلى كورنثوس قال: “بولس المدعو رسولاً ليسوع المسيح”

وفي مطلع رسالته الثانية إلى كورنثوس قال: “بولس رسول يسوع المسيح”

وفي بدء رسالته إلى غلاطية قال: “بولس رسول لا من الناس ولا بإنسان”

وفي مقدمة رسالته إلى فيليبي قال: “بولس عبد يسوع المسيح”

وفي غرة رسالته إلى تيطس قال: “بولس عبد الله ورسول يسوع المسيح”

وافتتح رسالته إلى فليمون بقوله: “بولس أسير يسوع المسيح”

من هذه المقابلات يتضح لنا، أن بولس عندما كان يبعث برسالة إلى أناس لا يشكون في سلطان رسوليته، كان يكتفي في الديباجة بذكر اسمه مجدداً عن كل لقب، أو يكتفي بأن يتسربل بثوب “العبد ليسوع المسيح”- كما في رسائله إلى تسالونيكي، وفيليبي، وفيليمون. ولكنه في مخاطبة الكنائس التي كانت فيها رسوليته موضع شك أو جدل أو منازعة كان يحرص على تعزيز سلطان رسوليته، ضناً منه بكرامو خدمته لا بكرامة شخصه- كما في رسالتيه إلى غلاطية ورومية. ولكن في رسالته التي نحن بصددها الآن، وفي رسائله إلى كورنثوس وكولوسي، اتخذ موقفاً وسطاً وليس بخافٍ أن لاختبارات بولس الشخصية شأناً يذكر في هذا الباب.

هذا هو بولس الذي قال عن نفسه “إنه كان مضطهد الكنيسة”، و”أول الخطاة” و”ليس مستحقاً أن يدعى رسول المسيح”، لكنه “رُحم لأنه فعل بجهل في عدم إيمان”.

على أنه من الجائز أن يعتبر كل مؤمن رسولاً بمعنى عام فلكل مؤمن رسالة يؤديها في حياته، ما دامت حياته مرتّبة بحكمة سامية، لقصد سام.

(3) السلطان الذي تقلد به وظيفته: “بمشيئة الله”. لم يتقلد مهام رسالته من الرسل الذين قبله، ولا من الكنيسة، ولا من بشر، ولا بحكم أي نظام بشري، ولا عن تطفل منه، أو حماس شخصي، ولا عن مجرد رغبة منه في خلاص البشر، لكنه تسلم مقاليدها من المسيح نفسه وبمحض مشيئته العلوية. ولئن كانت كنيسة أنطاكية قد أفرزته للتبشير، إلا أنه كان قد دعي قبلاً إلى هذا العمل، فقال الروح القدس: “افرزوا لي برنابا وشاول (بولس) للعمل الذي دعوتهما إليه” (أعمال13: 2). هذا واضح غاية الوضوح في رسالة أخرى كتبت مع هذه الرسالة- هي رسالة غلاطية إذ يقول “لما سر الله الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته، أن يعلن ابنه فيّ لأبشر به بين الأمم، للوقت لم أستشر لحماً ودماً، ولا صعدت إلى الرسل الذين قبلي … فإن الذي عمل في بطرس لرسالة الختان عمل فيّ أيضاً للأمم”. (غلاطية1: 15-20 و2: 6-8).

هذا هو بولس الذي اختاره المسيح، ودعاه لوظيفة الرسولية وشرفه بأن وضعه في رأس قائمة الرسل، مع أنه قد رضى تنازلاً منه، أن يضع نفسه في رأس قائمة الخطاة (1تي1: 15)، وفي ذيل قائمة القديسين (أفسس3: 8)، وفي مؤخرة صفوف الرسل (1كو15: 9).

لا مشاحة في أن بولس كان واثقاً من المشيئة السماوية التي قلدته أعباء هذه الخدمة، وكان على اتصال وثيق بهذه المشيئة، يصغي لصوتها ويستمع لدقات ساعتها، وهو شاعر على استمرار بأنه ليس شيئاً في ذاته، لأنه ليس عائشاً لذاته، وأنه متمتع بسلطان المسيح الذي افتداه، وهداه، وأرسله. فهو بذلك في حرز حريز من كل الهجمات البشرية، عزيز إذا أُريد له الذل، كريم إذا أُريد له الضيم، آمن مطمئن إذا أريد به الشر، لأنه متمم مشيئة الله. لا تلويه عن قصده تجربة وإن دقت، ولا تقف في سبيله عقبة وإن جلت، لأنه متمم مشيئة الله. وكذلك شأن كل مؤمن يجدّ في إتمام مشيئة الله في حياته.

المرسل إليهم

إِلَى الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ فِي أَفَسُسَ، وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.

الكاتب يصف المكتوب إليهم وصفاً مثلثاً:

(1): “القديسين“.                         

(2) مكانهم: “أفسس”.                     

(3) مقامهم: “المؤمنين في المسيح يسوع”.

إن كلمة: “القديسين” والعبارة التي بعدها: “المؤمنين في المسيح يسوع” لا تصفان صنفين من الناس، بل تعنيان فريقاً واحداً، فهما وصفان متكاملان لجماعة واحدة. فقوله: “قديسين”، يصف المرسل إليهم في سمو دعوتهم. وقوله: “مؤمنين في المسيح يسوع”، يصفهم في متانة مركزهم ورفعة مقامهم. الكلمة الأولى تصفهم في موقفهم بالنسبة للعالم الذي اُفرزوا منه، ووقفوا أنفسهم لله ولخدمته. والكلمة الثانية تصفهم في موقفهم بالنسبة للمسيح الذي به يثقون، وفيه يقومون، وله يخلصون ويوالون فالمسيح موضوع إيمانهم، وغاية ولائهم، ومستودع أمانتهم.

قديسين“- أُستعملت هذه الكلمة في العهد القديم لتصف حالة خارجية، ولطالما أُطلقت على الناس والجماد. ومعناها: “المفرز لقصد أو لشخص معين”. وفيها معنى من معاني “التحريم”. فالشيء متى خُصص لغرض ما، حُرم استعماله لغير ما أُفرز له. فأواني الهيكل كانت مقدسة منذ الوقت الذي اُفرزت فيه لخدمة الهيكل، فصار من المحرم استعمالها لغير الهيكل والسبت “المقدس” لأنه يوم الرب، وجبل صهيون “مقدس”، لأنه جبل قدس الرب. والأنبياء ” مقدسون” لأنهم رجال اله. لكن كلمة: “قديسين” أُستعملت في العهد الجديد بمعنى إيجابي. فإذا كانت في العهد القديم تعني اعتزال الإنسان العالم، فهي في العهد الجديد تعني وقف الإنسان نفسه لله. وفي العهد القديم تعني الانفصال عن، وفي العهد الجديد تعني الامتلاء من. في العهد القديم تفيد التطهير الخارجي الطقسي، وفي العهد الجديد تعني القداسة الداخلية الروحية، القائمة بحلول المسيح في قلب المؤمن بروحه الأقدس، وتقديس القلب من كل أدران الخطية بنار الروح المطهر. وقد أجمل بولس هذه الحقائق في قوله: “كيف رجعتم إلى الله من الأوثان لتعبدوا الله الحيّ الحقيقي” (1تس1: 9).

إن كلمة “قديسين” كما وردت في العهد الجديد، ليست منحصرة في طغمة خاصة من المؤمنين، لكنها تعني جميع المؤمنين على وجه التعميم. فهي مرادفة لكلمة مسيحيين. وفي هذا يقول يوحنا فم الذهب: بإطلاعنا على ما جاء في 5: 22، 6: 1 و2 من هذه الرسالة، يتضح لنا أن القديسين المعنيين هنا، هم مسيحيون يشاطرون سائر البشر حياتهم العملية- فمنهم الأزواج والزوجات والسادة والعبيد.

(2) مقامهم:

“المؤمنين في المسيح يسوع”. الكلمة المترجمة “مؤمنين” معناها في اللغة اليونانية القديمة (الكلاسيك): “الأمناء”، أو “الذين يركن إليهم”، وقد استعملت في لغة العهد الجديد بمعنى “الواثقين”، و” الممتلئين إيماناً”، كما في يوحنا20: 27 “ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً”، وغلاطية3: 9 “إبراهيم المؤمن”، وكولوسي1: 2 “الإخوة المؤمنين”، و1 بطرس1: 21 “أنتم الذين به تؤمنون بالله”. و(1تي4: 3) “المؤمنين وعارفي الحق”.

ويستفاد من إيراد العبارة: “في المسيح يسوع” بعد كلمة “المؤمنين”، أن المسيح هو موضوع إيمانهم. وقد ذكرت كلمة “في” للدلالة على ما بين المؤمنين والمسيح من اتحاد حيوي وثيق، في روح واحد. فهو ليس فقط موضوع إيمانهم، بل هو أيضاً حياة إيمانهم، وقوامه. فهو لهم بمثابة الكرامة للأغصان. وليسوا هم مجرد مؤمنين بالمسيح أو عن المسيح لكنهم مؤمنون فيه.

(3) مكانهم: “في أفسس”.

إن قوله: “في المسيح يسوع” يصف المؤمنين في مقامهم، وقوله “في أفسس”، يصفهم في مكانهم. ومتى ذكرنا ما كانت عليه أفسس من شر وفساد، تحققنا أن وجود مؤمنين في تلك البيئة الموبوءة، ليس سوى معجزة من معجزات النعمة المجانية. لأن وجود مؤمنين في أفسس يعد بمثابة وجود وردة بيضاء في محيط أغبر، أو جذوة من النار في قلب البحر، أو بنفسجة نابتة في قلب صخر.

إن الوصفين: “قديسين”، “ومؤمنين في المسيح يسوع” لا يصفان حالة كمال معينة في المؤمنين، بل يصفان كل مسيحي مخلص في إيمانه بالمسيح، فإن لم يكن المسيحي ذلك، وجب أن يكون كذلك.،

التحية،

2نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.،

تأتي التحية التي يوجهها بولس في العدد 2 من الرسالة:،

(1) مشتملاتها: “نعمة وسلام”،

في هذه التحية الرسولية الجامعة، التقت تحية الأمم بتحية اليهود.،

“فالنعمة” هي التحية اليونانية. و”السلام” هو التحية اليهودية.،

كلمة “نعمة” تعني الجمال وقد كان من الطبيعي أن يتخذ اليونانيون هذه،

الكلمة تحية لهم، لأنهم كانوا عائشين في أرض الجمال، ويتكلمون بلغة الجمال، ويعبدون آلهة الجمال. فالفضيلة عندهم هي الجمال.،

لكن النعمة المسيحية هي الجمال الروحي، الذي خلعه الله على البشر، إذ أحبهم وأسبغ عليهم أجمل نعمة وأجلّها في شخص المسيح الذي هو أبرع جمالاً من بني البشر، وهو “يجمّل الودعاء بالخلاص”.،

اهتم اليونان بجمال الجسد، فاستحال جمالهم قبحاً. لكن المسيحية اهتمت أولاً بجمال النفس الذي يشعّ منها على الجسد، فيكسبه بهاء وجلالاً.،

والنعمة تختلف عن المحبة، في أن المحبة قد تتخذ اتجاهاً واحداً من ثلاثة- من الأعلى إلى الأدنى، أو من الند إلى الند، أو من الأدنى إلى الأعلى. لكن النعمة لا تعرف إلا اتجاهاً واحداً- من الأعلى إلى الأدنى. والمحبة قد تكون مجرد عاطفة تذهب هباء، لكن النعمة عاطفة محملّة خيرات فهي دائماً عامرة القلب مليئة اليدين. وهي تختلف عن الأجرة، في أن الأجرة تعطى لمستحقيها. لكن النعمة توهب لغير المستحقين.،

“والسلام” هو تحية اليهود. وهم يريدون به عادة الأمن الخارجي، .والتحرير من القيود السياسية. لأن أرضهم كانت- ولم تزل- مطمع الأمم القوية، ومطمعاً للقلاقل والثورات. لكن المسيحية تريد سلاماً عميقاً، روحياً، قلبياً، اشتراه المسيح بدمه الثمين- سلاماً لا تقدر الدنيا أن تنيلنا إياه، ولا تستطيع عواصفها أن تنتزعه من عواطفنا- سلاماً هو نعم الاطمئنان القلبي الذي يملك على المؤمن مشاعره، نتيجة مصالحته مع الله، وغفران خطاياه، ونصرته على تجاربه، ويقينه برجاء الخلود، على رغم ما يحيط به من صعاب وآلام، فيظل آمناً ناعم البال ولو هبت الرياح. ويتهلل مترنماً ولو كان في أعمق السجون. ويكون حرّ القلب طليقه ولو كانت يداه ورجلاه ترسف في القيود.،

“نعمة وسلام”- اقتبست المسيحية هاتين التحيتين وقرنتهما معاً ثم مسحتهما بمسحتها المقدسة، وطهرتها من كل شائبة مادية أو زمنية.،

“نعمة وسلام”: النعمة هي رضى الله الذي يحيطنا ويغمرنا والسلام هو بركة داخلية تكون في أعماق قلوبنا كالنبع الفيّاض.،

“نعمة وسلام”: بمثل هذه التحية استهل بولس رسائله إلى كورنثوس، وغلاطية، وفيليبي، وكولوسي، وتسالونيكي، وفيليمون: لكنه في رسائله الرعوية قد أضاف كلمة “رحمة”.،

(2) مصدر التحية: “من الله أبينا والرب يسوع المسيح”. مع أن الله هو أب الجنس البشري بوجه عام، إلا أنه أب للمؤمنين بنوع خاص، باعتبار كونهم متحدين بابنه يسوع المسيح، لذلك قال الرسول: “الله أبينا”. فالضمير “نا” يعود على المؤمنين- وبولس الرسول واحد منهم.،

إن في وضع اسم الرب يسوع جنباً إلى جنب مع اسم الله أبينا، واعتبارهما معاً مصدر نعمتنا وسلامنا، أكبر دليل على لاهوت المسيح. من أجل ذلك قال الرسول: “ربنا يسوع المسيح”. ومتى ذكرنا أن كاتب هذه العبارة لم يولد في المسيحية، بل نشأ بفطرته وتربيته عدواً للمسيح والمسيحية، وكان يجد لذة خاصة في تحقير المسيح، واضطهاده تبين لنا أن شهادته من أقوى الشهادات للاهوت المسيح، لأنها من قلم عدو، والفضل ما شهدت به الأعداء. وجدير بالاعتبار أن هذه العبارة: “ربنا يسوع المسيح” لم يمهد لها الرسول بكلمة إيضاح، بل صدرت عنه عفواً، بلا جدل ولا منازعة، مثلما تنبعث الأشعة من الشمس بغير كلفة ولا مجهود. ولنا في هذا أكبر دليل على أن الاعتقاد بلاهوت المسيح، كان من المعتقدات الأساسية المسلّم بها لدى الرسل والكنيسة الأولى. ولا شك في أن الاعتقاد بلاهوت المسيح، ليس درساً يتلقنه إنسان عن إنسان، ولا هو علم يتوارثه الأحفاد عن الأجداد وإنما هو إعلان إلهي سماوي يتلقاه المؤمنون من الله رأساً. في هذا الصدد قال المسيح لبطرس “طوبى لك يا سمعان بن يونا. إن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات” (مت16: 17)، ويقول بولس الرسول: “ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس” (1كو12: 3).،

(3) مآل التحية: “لكم”- من هم المكتوب إليهم؟ ارجع إلى المقدمة العامة. فقد تجد فيها الجواب على هذا السؤال.،،

القسم التعليمي في الرسالة

(1: 3- 3: 21)،

شكر على بركات الله التي أغدقها على الكنيسة،

(1: 3- 3: 21)،

3مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ،،

لدى دخولنا رَحبات هذه الرسالة، يواجهنا مدخل فخم غاية في الجلال والرّواء، وإذ نلج بابه نسمع أنشودة الرسول التي هي أحد مزامير العهد الجديد.،

هذا فصل جليل، ارتقى فيه الرسول محلقاً في سماء المعلنات الإلهية، حتى أحاطته أشعة أنوار محبة الله ونعمته. ولما شرع يحدثنا عن جلال تلك المعلنات وجمالها لمح أنواراً فوق أنوار، تبهر الأبصار، ورأى قمماً من المجد يرتقي بعضها فوق بعض، ونظر بركات تتلوها بركات، ولحظ نعماً تعقبها نعم، فاسترسل في الكلام بغير توقف ولا تمهل، حتى بلغ نهاية هذا الشوط. وكأني به- بعد هذا الفصل الجليل- ألقى قلمه ليستريح هنيهة بعد هذه المرحلة الطويلة العلوية التي قطعها سابحاً في الأفلاك السماوية.،

ومن فرط ما أُخذ به من معلنات، أغفل كل إشارة شخصية، على خلاف عادته في معظم رسائله، كما يتبين جلياً من مراجعة كلامه في غرة الرسائل الآتية:،

رسالته الأولى إلى تسالونيكي: “نشكر الله كل حين من جهة جميعكم”،

رسالته الثانية إلى تسالونيكي: “ينبغي أن نشكر الله كل حين من جهتكم”،

رسالته إلى غلاطية: “إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعاً”،

رسالته إلى فيليبي: “أشكر إلهي عند كل ذكري إياكم”،

رسالته إلى كولوسي: “نشكر الله… كل حين مصلين لأجلكم”.،

فبعد أن تملي نظره برؤية الشمس، لم يرغب في التحدث عن ساكني الأرض إلا بعد أن استكمل الحديث عن معلنات السماء (1: 15).،

إن أسلوب الرسول في مطلع هذه الرسالة، لا يماثله سوى أسلوبه في رسالته الثانية إلى كورنثوس، التي كتبت في ظرف دقيق حرج، إذ كان الرسول آنئذ على أحر من الجمر في انتظار كلمة عن نتيجة رسالته الأولى التي بعث بها إلى تلك الكنيسة. وحالما بلغته أخبار طيبة، اهتزّ قلبه طرباً، فطفق يقول شاكراً: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح أبو الرأفة وإله كل تعزية”. فلم يوجه الخطاب إلى سكان الأرض إلا بعد أن استكمل ملهمات السماء فقال في 1: 11 من تلك الرسالة “وأنتم أيضاً مساعدون بالصلاة لأجلنا”.،

على أن موضوع الشكر الذي شغل ذهن بولس في رسالته الثانية إلى كورنثوس هو أضعف أثراً في ذهنه من الموضوع الذي ملأ قلبه في هذه الرسالة. إن شكره هناك، مقصور على فرحه بنجاته، وسوره بالاطمئنان الذي ملأ قلبه من جهتهم. لكن شكره هنا، يشمل كل البركات الروحية، الفدائية العلوية، التي أسبغها المسيح على الكنيسة. فلست أدري، أكان بولس متخذاً في هذا الفصل موقف الشاكر، أم موقف المستكشف أمام أسرار الفداء؟ يلوح لي أنه كان في شكره مكتشفاً وفي اكتشافه شاكراً.،

هذا فصل أقرب إلى أنشودة سماوية منه إلى مقالة لاهوتية. هذه قطعة خالدة كتبها الرسول بمحلول من ذوب قلبه، لا بمداد قلمه. هذه بردة مجيدة نسج بولس من شغاف فؤاده وحبَك لحمتها من أشعة أنوار المجد النوراني.،

فلا عجب إذا فشل المفسرون في تحليل هذه القطعة، وإخضاعها لقواعد التقسيم المألوفة. لأن هذا يعتبر بمثابة محاولة حبس أشعة الشمس داخل غلاف رسالة ترسل بالبريد.،

إن هذا الفصل المؤلف من إثنى عشر عدداً، شبيه بسلسلة كاملة الحلقات- والعدد12 رمز الكمال- كل حلقة منها مسبوكة بعناية ودقة، على صورة يتعذر معها فصل كل حلقة عن الأخرى- فالحلقة الأولى تتصل بقصد الله منذ الأزل، والحلقة الأخيرة تماشي المؤمنين في اختباراتهم على ممر الأجيال. الحلقة الأولى تلامس هامات السماء، والحلقة الأخيرة تمس أهداب الأرض.،

إذا ألقينا نظرة سطحية على هذا الفصل، أخذنا لأول وهلة بغنى اللغة التي عبر بها الرسول عما في فكره، ولكننا متى أمعنا النظر، ظهر لنا فقر اللغة، أمام غنى المعنى. وهذا يتضح جلياً من التجاء بولس إلى تكرار بعض العبارات، بين آونة وأخرى، لأن لغة الأرض ضاقت ذرعاً بمكنونات السماء. مثال ذلك: تكراره كلمة: “الذي” وحدها سبع مرات (3 و7 و11 و13)، وتكرار الكلمتين معاً أربع مرات (7 و11 و13) وكلمة: “في المسيح” وما يرادفها إحدى عشر مرة (3 و4 و5 و6 و7 و10 و11 و12 و13). ومتى دققنا البحث، تبين لنا أن هذا الفصل يرتكز على بعض العبارات الرئيسية، نظير قوله: “مشيئة الله”، (عدد5 و9 و11)، “مدح مجده” (عدد6 و12 و14)، “في المسيح” (عدد3 و4 و6 و7 و9 و10 و11 و12 و13).،

من هذا يتضح لنا أن الفكرة الرئيسية في هذا الفصل هي أن مشيئة الله قصدت بالمؤمنين تدبيراً مجيداً في المسيح. ولكي يوضح الرسول هذه الفكرة رجع بقارئيه إلى تدبير الفداء، مذ كان قصداً كامناً في فكر لببه، حتى أصبح عملية متدرجة، مُحكمة الحلقات، تتم كل حلقة منها في وقتها المعين، وقد وجه الرسول نظرنا إلى ثلاث مراحل في هذا البرنامج الفدائي- تنتهي كل منها بعبارة شبيهة بقرار يتردد حيناً بين الثلاثة الأدوار التي تتألف منها هذه الأنشودة- هذا القرار هو قوله: “لمدح مجده” (عدد6 و12 و14). في الدور الأول (1: 3-6) تغنى الرسول بمجد المحبة الفدائية في تدبيرها الأزلي- في قلب الماضي. وفي الدور الثاني (1: 7-12) سبّح بمجد هذه المحبة الفدائية في هباتها الحاضرة وفي الدور الثالث (1: 13 و14) عظّم الرسول جلال هذه المحبة الفدائية كرجاء وطيد يتم تحقيقه في حياة الأبد. “من الأزل- إلى الأبد” هذا هو الخيط الذهبي الذي يربط بدء هذا الفصل بختامه.،

في هذا الفصل ذكر الرسول عمل كل من أقانيم الثالوث الأقدس، في برنامج الفداء. فهنا نجد هذا الفصل خاصة بعمل الله الآب في هذا البرنامج. (عدد3). وقلبه مكرس لنصيب الله الابن. بدليل تكرار كلمة “فيه” مراراً (عدد4 و7 و10 و11)، وخاتمته متوَّجة بختم الروح القدس (عدد13) فالأقنوم الأول دبّر الفداء ووهبنا بركاته، والأقنوم الثاني نفّذ تدبير الفداء وهو أُسّ بركاته، والأقنوم الثالث هو مخصص لنا فوائد الفداء وضامن بركاته.،

مع أن هذا الفصل مكتوب بلغة يونانية، إلا أن عبرية الرسول قد نمّت عنه في أسلوبه. ما أشبه هذه التسبحة الرسولية ببعض المزامير التي كان يرتلها بولس الرسول في يهوديته قبل اعتناقه المسيحية (مزمور 42- 43 و99). فكلمة “خلاص وجهي” تقسم المزمورين الأولين إلى ثلاثة أدوار (مزمور42: 5 و11 ومز43: 5) كما أن العبارة “قدوس هو” تقسم ثالث هذه المزامير إلى ثلاثة أدوار أيضاً (مز99: 3 و5 و9) وعلى نفس هذا القياس تفصل عبارة “لمدح مجده” بين الثلاثة الأدوار الرئيسية في هذه التسبحة الرسولية.،

إن مطلع هذه التسبحة الرسولية جميل في مبناه، جامع في معناه، فيه تلتقي جميع المعاني المنبثة في ثنايا هذه التسبحة، ومنه تتفرع فهو للتسبحة بمثابة الرأس للجسد:،

3مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ،،

عدد3 “مبارك الله”! هذه هي الأنشودة التي تلتقي فيها رغبات الأرض بمقاصد السماء. عندما أُبدعت الخليقة الأولى، “ترنمت كواكب الصبح معاً وهتف جميع بني الله”. ومذ سقط الجنس البشري، وأُفسدت الخليقة الأولى، ضجت الأرض، وأنّت الخليقة كلها. ولكن حالما أعلن الله قصده الفدائي الذي دبره لخلاص البشرية الساقطة، استرد المؤمنون من بني آدم تلك الأنشودة التي أضاعتها عليهم الخطية، وعادوا يهتفون لفاديهم الذي خلقهم خليقة جديدة، ويسبحون له تسبحة جديدة، تمتاز عن التسبحة الأولى، بمقدار ما تمتاز الخليقة الجديدة عن الخليقة العتيقة. ولقد أجاد بولس الرسول إذ نظم للبشرية المفدية أنشودتها الجديدة التي مطلعها وخاتمتها: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح!”.،

يتألف هذا العدد الذي يتكون منه مطلع هذه الرسالة من مقطعين متقابلين، متوازيين- كلاهما يبدأ بالبركة ويختتم بشخص المسيح،

المقطع الأول- “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح”،

المقطع الثاني- “الذي باركنا بكل بركة.. في المسيح”،

في المقطع الأول، المؤمنون يباركون الله بالحمد والشكر. وفي المقطع الثاني الله يبارك المؤمنين بإغداقه عليهم بركات السماء. نحن نباركه بتقديمنا له ثمرات الفكر، والقلب واللسان، وهو باركنا بتقديمه لنا ابن محبته الذي هو أُس كل البركات.،

“مبارك الله”!- هذه هي النغمة التي وقعها رجال العهد القديم- من ملكي صادق إلى دانيال- سواء منهم من كان في ظفره وسعادته كداود وسليمان، أو من كان في حسرته وشقاوته، أمثال أيوب وإرميا. ولكن لم يستطع أحد أن يقول “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح”، غلا بعد أن بزغ نور “المشرق من العلاء”، وتجسد “الكلمة” في شخص المسيح الذي كشف عن أبوة الله- بالنسبة له أولاً بدرجة خاصة، ونوع ممتاز. لا يدانيه فيهما سواه-  ثم لجميع المؤمنين، على درجة أدنى من النوع، وفي الدرجة.،

وفي العهد القديم كان الله معروفاً لشعبه بهذه الألقاب: “الإله العلي”، “الإله القدير”، “إله السماء”، “إله إسرائيل”، “الراعي”، “الصخرة”، “الإله الحقيقي”، “الإله الحقيقي”، “الإله الحي”، “الملك الأبدي”- وكلها ألقاب مجيدة تبعث في النفس روعة وخشوعاً. أما ذلك اللقب الجليل: “الآب”، الذي يضيف إلى روعته في النفس حباً وثقة، فقد ظل مخفي عن عيون رجال العهد القديم، ولكنه اُعلن لرجال العهد الجديد ولرسله الأطهار- وفي طليعتهم بولس، الذي جعل من هذا اللقب الجليل أبهى غرة لجلّ رسائله.،

إن قوله: “أبو ربنا يسوع المسيح” يعتبر على مثال قول المسيح “أبي وأبيكم” (يوحنا20: 17). (انظر شرح بشارة يوحنا للمؤلف صفحة 806).،

“مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح”- وردت أيضاً هذه العبارة بنصها في2كو1: 3 و1بط1: 3. والكلمة الأصلية المترجمة “مبارك” وردت ثماني مرات في العهد الجديد، وفي كل مرة منها، لها صلة بذات الله. (انظر بنوع خاص مرقس 14: 61 حيث قال رئيس الكهنة للمسيح “أأنت المسيح ابن المبارك”؟). وقد استعمل الرسول كلمة “باركنا” بصيغة الماضي، للتوكيد، لتبيان أن هذه البركات وُهبت للمؤمنين في قصد الله قبل كون العالم.،

في هذا العدد يصف الرسول بركات الله الموهوبة لنا، في ثلاثة أوصاف:،

أ- في طبيعتها: “كل بركة روحية”،

ب- في دائرتها: “في السماويات”،

جـ- في أساسها ووسيطها: “في المسيح”.،

(1) طبيعة البركات الموهوبة لنا من الله الآب:”الذي باركنا بكل بركة روحية”، تختلف البركات التي جعلها الرسول موضوع شكره لله، عن البركات الموعودة في العهد القديم، في أن بركات العهد الجديد روحية خالدة، وتلك بركات مادية زمنية. فمن بركات العهد القديم قوله: “مباركاً تكون في المدينة. ومباركاً تكون في الحقل. ومباركة تكون ثمرة بطنك وثمرة أرضك وثمرة بهائمك نتاج بقرك وإناث غنمك” (تث28: 3-6). “أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء. ويرث نسلك باب أعدائه” (تك22: 18). “إن سمعتم وأطعتم تأكلون خير الأرض. وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلم” (إشعياء 1: 19 و20): لكن بركات العهد الجديد على طراز أعلى وأرقى: “طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات” (مت5: 3-10)،

كان بولس الرسول نفسه من أبعد الناس تمتعاً بالبركات الزمنية. فقد قضى حياته ولم يكن له زوج، ولا ولد، ولا مال، ولا عقار، ولا مأوى. فما كان أسعده وأمجده، على رغم كونه يهودي الأصل متعوداً على بركات الأرض: لأنه بعد أن صار مسيحياً وهو في حرمانه أسعد حالاً منه في تمتعه. لأن حرمانه من كل شيء أتاح له فرصة التمتع باللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن: فكان وهو فقير، مغنياً كثيرين. وكان وهو لا يملك شيئاً مالكاً كل شيء. ومن ظلمات سجنه أراق نوراً على حياة الكثيرين. فكان في خيمته ناعماً بغنى لا يزول، وكان في سجنه المظلم متمتعاً بحرية السماء. وكان وهو يتقلب على الطوى، راتعاً في أمجاد العلي، فهو على هذه الحال خير مثال للمستمتعين بكل بركة روحية.،

فالبركات “الروحية” هي تلك التي أغدقها الله على روح الإنسان، لا على جسده، لأن لها علاقة متينة بميلاده الجديد (يو3: 16)، وهي تنعش حياته الروحية وتغنيها (رومية8: 9 و10) كما أنها تتوج مصيره الروحي الخالد (رومية7: 11، 1كو15: 44).،

يعتقد بعضهم أن كلمة “روحية” تعني أنها بركات “الروح القدس”. وحجتهم في ذلك: أن الرسول أشار في هذا العدد إلى الأقنوم الأول في اللاهوت، وإلى الأقنوم الثاني، فلا بد من أن يكون قد أشار هنا إلى الروح القدس، الذي هو الأقنوم الثالث في اللاهوت. ولكننا نميل إلى الرأي القائل إنها بركات خاصة بروح الإنسان. فمن البركات ما يشترك فيها الإنسان والحيوان- مثل الحياة والصحة- هذه بركات جسدية. ومنها يتمتع به الإنسان الطبيعي- نظير المعرفة والتمييز والذوق، والعقل والمنطق- هذه بركات عقلية. ومنها ما لا يتمتع به سوى المؤمنين شركاء الطبيعة الإلهية- هذه هي البركات الروحية المقصودة هنا. وفي الوقت نفسه نقرر أنه من المحال فصل البركات الروحية عن “الروح القدس” لأن هو روح هذه البركات،

(ب) دائرة هذه البركات: “في السماويات”. بما أن هذه البركات آتية من السماويات، فهي تسمو بالمؤمنين إلى “السماويات”، على رغم كونهم يعيشون على الأرض. وهي أيضاً بركات محفوظة في “السماويات”. لا يمكن أن ترتفع إليها يد الزمان ولا تطرقات الحدثان. “لأن حيلتهم مستترة مع المسيح في الله” (كولوسي3: 3)، “لفإن سيرتنا نحن هي في السموات” (فيليبي3: 20).،

لم ترد هذه العبارة: “في السماويات” في كل الكتاب المقدس سوى خمس مرات- كلها في هذه الرسالة (1: 3 و2: 6 و3: 10 و6: 12): ويجوز أن تترجم إلى “في الدائرة السماوية”. ولدى تصفح هذه المواضع يتبين لنا، أن “السماويات” بيئة روحية غير منظورة، فيها يكثر نشاط القوات الروحية بما فيها قوات الشر التي تحاول أن تقاوم مقاصد الله في المؤمنين، وقوات الخير المؤيدة لقصده تعالى. وفوقها جميعاً يتسلط المسيح ويسود بنفوذه العجيب الذي كسبه بقيامته من الأموات: ليجمع كل شيء في المسيح- ما في السموات وما على الأرض في ذاك” (1: 10) “ويصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء أكان ما على الأرض أم ما في السموات” (كولوسي1: 20) فهي لا تعني حالة مقبلة، بل حالة راهنة. وخير ضمان لنا إزاءها، أن المسيح متسلط عليها بمجده. فإن كانت هي ساحة مصارعتنا، فإن المسيح هو ضامن ظفرنا. وإن كانت هي مستودع بركاتنا الروحية، فإن المسيح هو ضامن تمتعنا بها. لأن به وفيه كل شيء لنا “ونحن غير ناظرين إلى الأشياء التي تُرى بل إلى التي لا تُرى لأن التي ترى وقتية وأما التي لا ترى فأبدية” (2كو4: 18).،

وإذا كانت هذه العبارة تعين دائرة البركات التي نتمتع بها، فهي تعين مقامنا في المسيح: “الذي أقامه الآب وأجلسه عن يمينه في السماويات، وأقامنا نحن أيضاً معه وأجلسنا معه في السماويات” (1: 20 و2: 6). فالمسيح هو هروننا الذي انسكب دهن المسحة على رأسه أولاً، ثم نزل إلى طرف ثيابه.،

4كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ،،

(جـ) أساس هذه البركات ووسيطها: “في المسيح”. هذه العبارة من مميزات أسلوب بولس الرسول. ومع أنها وردت في كل رسالته إلى كولوسي. وقد وردت كلمة “المسيح”- في الأصل- تارة معرّفة بأداة التعريف وطوراً مجردة عنها. في الحالة الأولى، تشير إلى وظيفة المسيح، وفي الثانية تعني شخصه بالذات. وقد وردت هنا خالية من أداة التعريف، لتعني شخص المسيح الذي “فيه باركنا الآب بكل بركة روحية في السماويات”.،

منذ القديم، والأمة اليهودية تضع كل رجائها في “مسيا” الموعود، فكانت كل انتظارات اليهود موجهّة إلى شخصه. وفي ملء الزمان ولد يسوع الناصري في بيت لحم اليهودية. لكن الأمة اليهودية كمجموع جهلت حقيقته- أو تجاهلتها- إذ اصطدمت بصخرة صليبه. ولما أعلن الله “سره” لبولس رسول الأمم، طفق يعلم اليهود والأمم، أن يسوع الناصري هو هو مسيا- المسيح المنتظر- الذي تمت فيه كل نبوات العهد القديم، فينبغي أن يكون هو محط آمال اليهود والأمم سواء بسواء. فهو رأس المؤمنين وهو رئيسهم ونائبهم الأعظم، وقاطع العهد معهم، وضامن عهدهم، ورأس حياتهم، ورأسهم الروحي. فهو الكرمة وهم الأغصان- لذلك هم “فيه” مباركون، وفيه يقومون، وفيه هم مقامون، وممجدون (2تي1: 9) لأنهم متصلون به صلة حيوية، فعلية، فضلاً عن كونها شرعية.،

5إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ،،

ومن مميزات كتابات بولس الرسول أن يقرن فيها اسم “يسوع” بوظيفته: “المسيح”، إلا في المرات التي أراد أن يحدثنا فيها عن ناحية من نواحي اتضاعه (2كو4: 10).،

ومن العجيب حقاً، أن بولس اليهودي الأصل يجعل جل تفكيره وتعليمه مركزاً، لا في يسوع حسب الجسد، بل في المسيح السماوي، الإلهي الذي هو الله ظاهراً في الجسد. فرسالته “من السماويات إلى السماويات”. فلا غرابة إذ سمعناه يقول: “إذاً نحن من الآن لا نعرف أحداً حسب الجسد وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرفه بعد” (1كو5: 16). فالمدة التي قضاها المسيح على الأرض ليست كل حياته ولا هي جلها، وإنما هي فترة قصيرة المدى ظهر فيها المسيح متضعاً فهو أزلي في وجوده أبدي في كيانه. لكنه “افتقر لأجلنا وهو غني”، “وإذ كان في صورة الله… أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس”. وإذ انتهت مدة اتضاعه “رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم”. (2كو8: 9 وفيليبي2: 6-9).،

إن معرفة بولس بالمسيح سارت على درجات متتابعة. فقد عرّفه أولاً باعتبار كونه: “يسوع” المتضع، المضطهد: “أنا يسوع الذي أنت تضطهده”(أعمال9: 5)، وفيما بعد وجد فيه “مسيا” المنتظر. وبعد أن تلقن هذا الدرس لقنه للآخرين: “وأما شاول فكان يزداد قوة ويحير اليهود الساكنين في دمشق محققاً أن (يسوع) هذا هو المسيح” (أعمال9: 22).،

هذا هو المسيح المصلوب، المقام، الممجد، الجالس عن يمين تاعظمة في الأعالي المتسلط على كل القوات والسلاطين، الذي “فيه باركنا الآب بكل بركة روحية في السماويات”.،

هذه هي البركات الموهوبة لنا فيه- من حيث طبيعتها ودائرتها، وأساسها، ووسيطها. وفيما بعد فصّل الرسول ما سبق فأجمله في العدد الثالث، سيما قوله: “في المسيح”. فأبان لنا أن هذه البركات ليست مستحدثة كما لو كانت فكرة طارئة على قصد الله وتدبيره، بل هي بركات مقضي بها منذ الأزل، ولذلك فهي أكيدة محققة،

الإختيار،

يحدثنا الرسول في هذا العدد عن أساس البركات الروحية الموهوبة لنا : اختيارنا في المسيح. ويرينا هذا الاختيار في أربعة أوجه:،

-أ- حقيقة اختيارنا: “كما اختارنا”،

– ب- علة اختيارنا: “فيه”،

– جـ- وقت اختيارنا “قبل تأسيس العالم”،

– د- غاية اختيارنا: “لنكون….”،

في هذا العدد شرع بولس في تفصيل ما أجمله في عدد3، فاستهل كلامه بكلمة “كما”. إن هذه البركات الروحية موهوبة لنا “في المسيح”، لأن الله سبق فاختارنا فيه منذ الأزل. فقبل أن يعد الله هباته، اختار الموهوبين إياها. وقد باركنا في المسيح، لأنه سبق فاختارنا فيه قبل كون العالم.،

حقيقة اختيارنا: “كما اختارنا”، إن هذه العبارة ترجع بنا إلى ذلك القول الإلهي الوارد في سفر التثنية: “لأنك شعب مقدس للرب إلهك وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض” (تث24: 2)، وقول المرنم “رنموا لاسمه لأن ذاك حلو”. لأن الرب قد اختار يعقوب لذاته وإسرائيل لخاصته” (مزمور 135: 4)، وقول الله على لسان إشعياء: “وأما أنت يا إسرائيل عبدي يا يعقوب الذي اخترته… وقلت لك أنت عبدي اخترتك ولم أرفضك”… “هوذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سُرّت به نفسي”. (إشعياء41: 8 و9 و42: 1).،

6لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ،،

غير أن الاختيار كما علمنا إياه العهد القديم، يختلف عما عرفنا إياه العهد الجديد. فالأول يتناول الأمة اليهودية كمجموع، والثاني يتناول المؤمنين أفراداً. وكان من الطبيعي أن يتحدث بولس الرسول عن الاختيار، لأنه كان أحد أفراد تلك الأمة اليهودية، التي اختارها الله من قبائل الأرض. وجدير بعناية كل دارس لكلمة الله ألاّ يفعل أن جلّ العقائد التي ينادي بها العهد الجديد، إنما هي عقائد سبق فأوحى بها العهد القديم، ثم صاغها العهد الجديد في قالب جديد. هذا يؤيد قول رب العهدين: “لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل” (مت5: 17). وإنما الفرق بين شعب الله المختار في العهد القديم، وشعبه المختار في العهد الجديد، هو أن شعبه في العهد القديم كان منحصراً في أمة خاصة، تتكلم لساناً خاصاً، وتقطن أرضاً خاصة، لكن شعب الله في العهد الجديد منبثّ في كل أمة، وفي كل شعب، وينطق بكل لسان، لا تحده حدود جغرافية ولا تقيده قيود الزمن.،

إن الاختيار، كما علمنا إياه بولس الرسول، هو رسالة خاصة، بعث بها الله إلى أبنائه، ليثبتهم في الإيمان، ويحفظهم من كل ارتداد. ولم يقصد به قط أن يكون حجر صدمة يتعثر به الذين لم يؤمنوا بعد. وهو اختيار للخلاص والحياة، لا للهلاك والموت، فالمخلّصون يتمتعون بنعمة الحياة نتيجة عمل إيجابي فعّال، يجريه الله في قلوبهم ولكن الغير المؤمنين ينحدرون إلى الهلاك نتيجة حكم أصدروه هم على أنفسهم بعدم استحقاقهم الحياة الأبدية: “فجاهر بولس وبرنابا وقالا. كان يجب أن تُكلموا أنتم أولاً بكلمة الله، ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية، هوذا نتوجه إلى الأمم” (أعمال13: 46). وما يسري على الأفراد يسري على الأمم.،

أضف إلى هذا، أنه ليس اختياراً جهلياً كخبط عشواء، لكنه اختيار رشيد مبني على حكمة أزلية، كامنة في قصد الله الأزلي، فلا نستطيع أن نفهم أسرار الاختيار إلا متى أتيح لنا أن نعرف أسرار قلب الله: “فما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء”.،

ولا يفوتنا أن نشير إلى هذه الحقيقة الأساسية، وهي: “أن الاختيار ليس جواز سفر” يتسلمه المؤمن ليدخل به السماء اعتباطاً، وبغير قيد ولا شرط، فيدوس به شريعة الله الأدبية وينتهك حرمة الأخلاق، وإنما هو رادع داخلي قويّ يرفع المؤمن عن الدنايا، ودافع قوي يدفعه إلى سلوك طريق الله “اختارنا فيه لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة”.فالسماء مكان مُعدّ لأناس معدّين.،

فمع أن الاختيار عمل إلهي مبني على مسرّة مشيئة الله إلا أنه لا يلغي الإرادة البشرية، فليس البشر آلات ميكانيكية صماء يدفعون إلى أفعالهم دفعاً، وإنما هم خلائق مدركة عاقلة تسير بناموس التأثير والتأثر. ومن فرط حكمة الله وقدرته، أنه يجعل الناس أحراراً يعملون ما يشاؤون، وفي الوقت نفسه يكونون متممين مشيئته تعالى. وليس في الإمكان معرفة ما يحيط بالاختيار من أسرار إلا مت استطعنا أن نكشف ذلك الخيط السري الدقيق الذي يفصل بين إرادة الله، وإرادة البشر في حياة البشر.،

– ب- علة اختيارنا: “فيه”: “كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم” – هذا هو الفصل الأول من سفر التكوين الجديد، الذي كتبه بولس الرسول. إن سفر التكوين الأول، يتكلم عن الخليقة الطبيعية الأولى، ولكن سفر التكوين الثاني يتكلم عن الخليقة الروحية الجديدة- خليقة النعمة. يُستهل سفر التكوين الأول بالقول: “في البدء خلق الله السموات والأرض”. ويُستهل سفر التكوين الثاني بالقول: “قبل تأسيس العالم اختارنا الله في المسيح”. فالمسيح هو كلمة الله “الذي به عمل العالمين”- فهو علة الخليقة الأولى. وهو أيضاً علة الخليقة الثانية وأساس اختيارها.،

– جـ- وقت اختيارنا: “قبل تأسيس العالم”- هذا دليل على أن أعمال الله في دائرة النعمة- نظير أعماله في دائرة الخلق والعناية- ليست بنت ساعتها، ولا هي مرتجلة كأنها فكرة طارئة، لكنها مدبرة تدبيراً محكماً، لأن كل أعمال الله حلقات متماسكة في سلسلة واحدة. ولا شيء يوازي غنى حكمة الله وعلمه، نظير غزارة نعمته (رومية11: 33). في رسالة أخرى تكلم الرسول عن اختياره هو للرسولية فقال: “… سُرّ الله الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته، ان يعلن فيّ لأبشر به” (غلاطية1: 15 و16)، وهنا في غرة هذه الرسالة، يرجع بنا خطوتين إلى الماضي البعيد البعيد- الخطوة الأولى تسير بنا من بدء تكوين الفرد إلى بدء تكوين الجنس البشري، والخطوة الثانية ترجع بنا من بدء تكوين الجنس البشري إلى ما “قبل تأسيس العالم” بأسره. وفي ذلك الزمن الذي يعتبر نقطة الزوال أمام الفكر البشري. “قد اختارنا الله في المسيح”.،

إن هذا العالم الكائن قد خُلق ورُتب على نظام خاص، وإن هذا النظام المتين مبني على أساس معين، وإن وراء هذا الأساس، فكر الإله الحكيم المدبر. فالعقل البشري يستطيع أن يكتشف في العالم المنظور تلك الآثار التي طبعها عليه الفكر الإلهي الغير المنظور. فقبل تأسيس العالم وتكوينه، كان الإنسان ماثلاً أمام فكر الله، في شخص المسيح الكائن قبل كل الدهور، ففيه عرفنا الله وفيه تفكر فينا، وفيه نظر إلينا، وفيه اختارنا.،

في عرف الحقيقة والواقع، لا تفاوت في تدبيرات الله من حيث الزمن، فليس في تدبيراته ما يحسب سابقاً ولا لاحقاً. ولكن في عرف المنطق، واللغة التي يفهمها العقل البشري، نستطيع أن نقرر أن الله اختارنا للفداء قبل أن يخلقنا، أي أنه دبر أن يخلقنا الخليقة الثانية قبل أن يخلقنا الخليقة الأولى. فنحن إذاً مخلوقون للحياة التي أتاحتها لنا النعمة، لا للموت الذي قدمته الخطية أجرة للذين باعوا أنفسهم لها، والملكوت الذي يرثه مباركو الآب، قد أُعد لهم منذ تأسيس العالم” (متى25: 34)، وذبيح فدائنا قد دُبر قبل كون العالم: “عالمين أنكم افتديتم… بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم” (بط1: 18-20) . وأبناء الملكوت، قد سُجلت أسماؤهم في سفر الفداء منذ تأسيس العالم” (رؤيا13: 8).،

فالحقيقة والفداء، والطبيعة والكنيسة، إن هي إلا حلقات متماسكة في سلسلة تدبير الله، قد رتبت سابقاً، ثم نفذت. ومع أن اختيار المؤمنين للحياة الأبدية يرى لنا تاريخياً كأنه أحداث من اختيار الأمة اليهودية لأنه جاء بعد رفضها، إلا أنه في الحقيقة والواقع مدبر في فكر الله “قبل تأسيس العالم”.،

د- غاية اختيارنا: ” لنكون قديسين في المحبة” في تربة الاختيار تنمو نبتتان جميلتان في جو حسن جميل، أما النبتتان فهما: القداسة، وعدم اللوم. وأما الجو فهو: “المحبة”. في هذا أكبر دليل على أن الاختيار لا يدفع الناس إلى التوغل في مجاهل الشر والفساد، بل هو أكبر مشجع يرفعهم إلى مستوى القداسة وعدم اللوم “لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة”.،

رغب بعض المفسرين في اعتبار هذه العبارة وصفاً لموقفنا النظري كما يرانا الله في المسيح، ونعتقد نحن- مع الترجمة العربية- أن هذه الجملة تصف تصرفنا العملي نتيجة تمتعنا ببركات الفداء، فمع أننا في المسيح “قديسون وبلا لوم” حكماً وشرعاً، إلا أنه من الواجب أن نكون أيضاً “قديسين وبلا لوم” فعلاً واختباراً.،

والفرق بين القداسة وعدم اللوم، هو أن القداسة اختبار داخلي ، لكن عدم اللوم حالة خارجية. فالأولى أساس الثانية، والثانية ثمرة الأولى وحجتها. الأولى تصف حالة إيجابية، والثانية تصف حالة سلبية. الأولى حالة كمالية، والثانية حالة ممكنة. فقد يكون الإنسان “بلا لوم” من حيث المنتظر منه، ومع ذلك يكون بعيداً عن مستوى القداسة الراقي. إن كل قديس بلا لوم، لكن ليس كل من هو بلا لوم قديساً.،

“قدامه”… ما أرهب الحياة المسيحية وما أرحبها! لأن المؤمن يقضي كل حياته “قدام الله”. هذا دليل على أن القداسة التي يتصف بها المسيحي الحقيقي، ليست قداسة سطحية وإنما هي قداسة داخلية عميقة، لأن عيني الله مخترقتان كل حجاب.،

قبل أن تقدم الذبيحة في العهد القديم، كان يفحصها الكاهن ليعرف ما إذا كان فيها عيب، ومتى تبين له أنها “بلا عيب”، كان يقدمها على المذبح. وبما أن كاهننا الأعلى وذبيحنا الأعظم، قدم نفسه عنا “بلا عيب ولا دنس” وَجب أن يكون المختارون فيه، مثله- “قديسين وبلا لوم”.،

“في المحبة”: هذه العبارة- كما وردت في الأصل- قد تصف ما قبلها أو ما بعدها، ونحن نميل إلى اعتبارها وصفاً لما قبلها فهي الجو المقدس الذي تنمو فيه القداسة وتترعرع. وحجتنا في هذا: – أ- أن نفس هذه العبارة وردت خمس مرات أُخر في هذه الرسالة على اعتبار أنها من الفضائل المسيحية (3: 17، 4: 2 و15 و16، 5: 2).- ب-إن مقامها في هذه القرينة، بمثابة الصدى لصوت اختيار الله لنا، فهي خير حجة على أن نعم الله لم تُسبغ علينا عبثاً. فالله، من جانبه، اختارنا “حسب مسرة مشيئته” لنكون نحن من جانبنا قديسين وبلا لوم قدامه “في المحبة” التي هي أسّ الفضائل ورباط الكمال. وليس بخاف أن ما في قلوبنا نحن البشر من محبة، ليس سوى صدى محبة الله لنا، وما محبتنا لله إلا فتح قلوبنا لتُنشر فيها أشعة أنوار محبة الله- “نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً”. إن قوله “قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة” ليس أساس اختيار الله لنا، بل هو غاية هذا الاختيار، فلم يخترنا الله لكوننا “قديسين”، بل لنكون “قديسين” لأنه اختارنا ونحن خطاة ليقدسنا.،

التبني،

نرى هذين العددين – أ- حقيقة التبني. “عيننا للتبني”. – ب – الوقت الذي فيه تبنانا الله: “سبق فعيننا” – جـ – وسيط التبني: “بيسوع المسيح” – د – علة التبني: “حسب مسرة مشيئته”. – هـ – غاية التبني: “لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب”.،

أ- حقيقة التبني:”إذ سبق فعيننا للتبني لنفسه”.،

التبني في اصطلاح علماء اللاهوت “هو فعل نعمة الله المجانية، الذي به يُقبل في عداد بني الله فيصير لنا حق في جميع أنعامهم”. وكلمة “تبنّ” يُراد بها اتخاذ شخص ابناً، ومعاملته كذلك. فالمتبنون ليسوا أبناء بالطبيعة، لكنهم محسوبون كذلك، لا لشيء صالح فيهم، ولا لفضل يُنتظر منهم، بل لمجرد نعمة الله المجانية. فقد ينفق لأحد الموسرين أن يزور أحد ملاجئ اليتامى أو اللقطاء، فيعجب بذكاء أحد الأولاد، ويكون الزائر بلا ولد، فيتخذ ذلك اليتيم ابناً له. ولكن اله قد تفضل كرماً منه، فتبنانا لنفسه، ونحن نجسون لا شيء فينا يدعو إلى الإعجاب والحب، فضلاً عن ذلك، فإن الله لم يعوزه أبناء، إذ كان يكفيه أن يتمتع بالمسيح ابن محبته الأوحد، “وكنا نحن بالطبيعة أبناء الغضب – لا أبناء المحبة- كالباقين أيضاً”، لكن الله حسبنا أبناء له تعالى. هذا هو تبني النعمة. وهو يختلف عن التبني العام، في أن الثاني يُراد به حسبان جميع البشر أبناء الله، باعتبار كونه خالقهم وحافظهم. لكن “تبني النعمة” يُراد به اختيار الله بعضاً من الناس ليكونوا أبناءه، بنوع خاص يمتاز عن بنوة البشر العامة. وفي الوقت نفسه لا نبلغ مرتبة بنوة المسيح لله، لأن بنوتنا اكتسابية بالحسبان، لكن بنوة المسيح حق جوهري وصلة أزلية.،

هذا هو التبني، الذي ظل فكرة غامضة مبهمة في العهد القديم، فأراق عليه تجسد المسيح نوراً سماوياً ساطعاً، أرانا فيه امتيازاً مجيداً يتمتع به الفرد نتيجة إيمانه بالمسيح (غلاطية3: 26، 4: 4 و5، يوحنا1: 12 و13)، بعد أن كان حقاً مشاعاً على الأمة اليهودية (مزمور103: 13، هوشع11: 1). “لنفسه”- هنا يلتقي طرفا درج التبني- فباعثه ونشأته من قلب الله، ومآله إليه تعالى.،

– ب – الوقت الذي فيه تبنانا الله:”إذ سبق فعيننا للتبني”. معروفة لدى الله منذ الأزل، كل أعماله. فالمستقبل ماثل أمامه كالماضي، والحاضر. فمن هذا القبيل ليس في أعمال الله سابق ولا لاحق، ولكن في لغة المنطق، أو بالحري في عرف اللغة التي يحاول العقل أن يفهم بها شيئاً عن أعمال الله، قد عرَّفنا الرسول أن التبني سابق للاختيار لأن قوله “إذ سبق” عائد على قوله “اختارنا فيه” فالله سبحانه وتعالى، أحبنا أولاً، ثم عيننا للتبني، ومن ثمّ اختارنا ليحقق فينا هذا القصد المجيد كل هذا قد دبره الله قبل تأسيس العالم (رومية8: 29).،

في العدد السابق استعمل الرسول كلمة: “اختارنا”، وفي هذا العدد استعمل كلمة: “عيّننا- وهما تعبيران إلهيّان لحق واحد. والفرق بينهما- على الغالب- هو أن أولاهما: “اختارنا” تشير ضمناً إلى معدن الخطأ الذي انتقانا الله منه، وثانيهما: “عيّننا” تشير إلى الامتياز الذي رفعنا الله إليه فالأولى ترجع بنا ضمناً إلى “المنجم” الذي أخذنا الله منه. والثانية تشير إلى المقام الذي وضعنا الله فيه. الأولى تشير إلى الأشخاص، والثانية تشير إلى الغاية التي اختيروا لها. وما دمنا أولاد لله، فكل ما لله لنا. وجميع الأشياء تعمل معاً لخيرنا. والثقة المتبادلة بيننا وبينه من نصيبنا. والهداية والإرشاد من حقنا. ومجد الخلود، وخلود المجد، لنا.،

– جـ – وسيط التبني: “بيسوع المسيح”. في المسيح اختارنا الله، وبه عيّننا للتبني. فهو وسيط الاختيار ووسيط التبني. فيه رآنا الله قبل أن نخلق، فأحبنا. وبه تبنانا لنفسه. وقد تم لنا هذا الامتياز بواسطة تجسد المسيح وموته على الصليب، وكما أن المسيح هو الوسيط الذي به تبنانا الله. فهو أيضاً الوسيط الذي به نتمتع بهذا الامتياز، بإيماننا باسمه (يوحنا1: 12 وغلاطية3: 26).،

– د – باعث التبني:”حسب مسرة مشيئته”. إن هذه العبارة عائدة إلى ما قبلها إلى بدء العدد الرابع: “كما اختارنا فيه”. فهي تصف الباعث الإلهي للاختيار والتبني معاً. وقد وردت في الكتاب المقدس بمعنيين: أولهما: سلطان الله المطلق الذي به يدبر كل ما يحسن في عينيه، بعيداً عن كل مؤثر أو دافع، أو باعث خارجي، ومن غير أن يكون في حاجة إلى تقديم حساب من أعماله، بدليل ما جاء في متى11: 26 ولوقا10: 21. والمعنى الثاني يشير إلى رضى الله ونعمته، وتعطفه المتفاضل على أبنائه، وإرادته الصالحة المرضية الكاملة نحوهم. هذا، في الغالب، هو المعنى الذي أراده الرسول هنا، وفي سائر كتاباته (رومية12: 2). فالاختيار ينطوي على محض مسرة الله التي أظهرها نحو شعبه، فلا يداخله شيء من غضب الله على غير المؤمنين لأن الاختيار هو علة خلاص المؤمنين، لكنه ليس علة رفض الغير المؤمنين. فإذا حق للمختارين أن يفرحوا به وأن يشكروا الله عليه، فلا حق لغير المخلصين أن يتذمروا أو يشكوا منه لأنه ليس علة هلاكهم وإنما العلة هي عدم إيمانهم.،

6لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ،،

– هـ – غاية التبني: “لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب”.،

هنا تتجاوب الغاية النهائية مع العلة الأساسية. فالعلة الأساسية هي “مسرة مشيئته”، والغاية النهائية هي: “مدح مجد هذه النعمة”.،

إن نعمة الله، مجانية في أساسها. فليس لها من دافع سوى نفسها، فلا تستدرّها الدموع، ولا تستعطفها الأنات، إلا إذا كانت حرارة الفتيلة المدخنة تضيف شيئاً إلى حرارة الشمس، وهي مجانية في طريق الحصول عليها، فلا الذهب يشتريها. ولا الحسنات تحييها، ولا الصلوات تغذيها، فهب منبت الحسنات. ومبعث الصلوات، وهي مجانية في غايتها، لأنها لا تنتظر من المنعم عليهم أجراً ولا شكوراً.،

يحدثنا هذا العدد عن ثلاث حقائق متعلقة بالنعمة

 (1) مجد النعمة. (2) مدح مجد النعمة. (3) وسيط النعمة:،

“مجد النعمة”. بما ان هذه النعمة منحدرة على البشر من علوّ شاهق،،

وصادرة عن الله ذي الجلال والإكرام والمجد، فهي إذاً نعمة ذات مجد، لأنها مشتقة من غنى الله في المجد، ولأنها ترفع المتمتعين بها إلى ذُرى المجد- فهي كالمياه، ترتقي إلى المستوى الذي منه نبعت، وهي ذات مجد لأنها مظهر كمال الله الممجد، ومجلى صلاحه المطلق، ومجتمع صفاته القدسية المجيدة، فمجد النعمة هو كمالها، وفيضها، ومجانيتها، وتنازلها، وسموّها. فكما أن مجد الله هو التناسق المتكون من مجتمع صفاته، كذلك مجد النعمة هو التناسق المتكوّن من مجتمع كل مزاياها.،

(2) “مدح مجد نعمته” إن الهوة السحيقة التي هوى إليها البشر، قدّمت مجالاً متسعاً لإعلان مجد نعمة الله، وإعلائه. فمع أن مجد نعمة الله عال، وسام في ذاته، سواء أخُلق البشر وافتُدوا أم لم يخلقوا ويفتدوا، إلا أن لوحة خطايا البشر السوداء، كانت أداة لإظهار مجد نعمة الله، وإعلائه وإعلانه للرؤساء والسلاطين في السماويات والأرضين. فلو كان البشر أطهاراً في أنفسهم، أو كان لهم أقل يد في تخليص ذواتهم، لنقص جمال مجد نعمة الله. فمجد نعمة الله، ظاهر في مجانيتها وفي المسافة الشاسعة التي قطعتها النعمة في تنازلها من السماء إلى أركان الأرض السفلى، وفي رفع الخطاة من مهاوي الفساد إلى أوج المجد ومدح مجد هذه النعمة، هو إظهار هذا المجد، وشكر الله عليه، والتغني به، ليعرفه كل دان وقاص “إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح” (رومية3: 23 و24)، “…. لكي يبين غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد… التي أيضاً دعانا إليها ليس من اليهود فقط بل من الأمم أيضاً (رومية9: 23 و24).،

الفداء

7الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ،،

إلى هنا حدثنا الرسول عن البركات الروحية السماوية التي أغدقها الله علينا في المسيح-من اختيار سابق، وتينّ وفق تدبير معين، بدافع من نفسه، لرفع لواء مجد نعمته التي أنعم بها علينا في ابن محبته.،

وجدير بالاعتبار، أن الرسول لم يذكر إلى الآن شيئاً عن الخطية، ولا عن التربة التي منها اختارنا الله، فيكاد القارئ يعتقد، أن هؤلاء الذين اختارهم الله وعينّهم للتبني، إنما هم أطهار بالفطرة، وقديسون بالطبيعة، لم يقترفوا إثماً ولم يرتكبوا جريرة . لكن العدد السابع ينم عن طبيعة أصلهم، وحقيقة حالهم:”الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا”. فالمختارون كانوا أصلاً غارقين في لجّ الآثام والخطايا. والمتبنون كانوا”بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين أيضاً”. فالفضل في اختيارهم ليس لأصلهم ولا لحالهم، بل لله وحده.،

إن كلمة “فداء” يعني الفكاك من الأسر بواسطة دفع فدية أو دية. والثمن الذي دفعه المسيح فدية عنّا هو دمه الثمين. هذا ما سبق فأنبأ به تلاميذه (مت 20: 28)،

والدم كما ذكر في الكتاب المقدس، له قوة التكفير عن ذنب، والفكاك من أسر، وتثبيت عهد، وإزالة معصية.،

فما أثمن هذا الدم الكريم!‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ فهو أساس فدائنا (أفسس 1: 7 ). وأداة تبريرنا(رو 5: 8و9). ومطّهر ضمائرنا(عب 9: 14). ورأس شركتنا مع الله(1 يو 1: 7). وثمن المصالحة معه (1 كو 1 : 20-22).،

ولقد أشار الرسول في هذا العدد، إلى الفداء، باعتبار كونه امتيازاً يملكه المؤمنون المطعّمون في المسيح، رأسهم الأعلى، ورئيسهم، وهو بركة يتمتعون فيها في الحال. هذا واضح من قوله:”الذي فيه لنا الفداء”. فالفداء بركة حالية وإن كان في كماله رجاءً عتيداً   ( رو 8: 23).،

ومن الحقائق التي عرفّنا بها الرسول في هذا الفداء:- ا- وسيطه: “فيه”. ما أغنى هذه الكلمة الصغيرة، المركّبة من حرف جر:”في”، ومن ضمير الغائب”ﻫ”‍‍‍‍!لكنها في عُرف لغة النعمة، كلمة مركبة من حرف رفع وبناء، ومن ضمير المفرد العلم الحاضر في كل زمان ومكان –”في المسيح”. “فيه” تم اختيارنا. وتعييننا للتبني، وفيه حق لنا الفداء.،

– ب- وسيلته: “بدمه”-دم المسيح حمل لله الكريم”الذي رفع خطية العالم. إن هذه الوسيلة التي تمّ بها فداؤنا، تعين طبيعة هذا الفداء- فهو كفارى، لم يتم بمجرد رغبة من الله”ولا بكلمة صدرت عنه، ولا بقدرة كامنة فيه، بل بدم ابن محبته الذي مات عنا طوعاً واختياراً. فهو فداء كريم، كلف الآب تضحية ابن محبته، وكلف ابن محبته تضحية نفسه وحياته-والجود بالنفس أقصى غاية لجود. وقد ذكر الرسول هذا الفداء معرّفاً إياه بأداة التعريف، فقال”الفداء”، مميزاً إياه عن كل أشباه الفداء وظلاله، التي تمت ي العهد القديم وفي نظم أخرى- بدم كباش وحملان. وبديهي أن الله المقتصد في كلل تدابيره، ما كان ليجري فداءنا بدم المسيح لو كان في الإمكان تفادي هذا الثمن العظيم:”كريمة هي فدية النفوس فغلقت إلى الدهر”. يُضاف إلى هذا، أن كرامة الشريعة الإلهية فوق كل كرامة، لأن كرامة الشريعة مشتقة من كرامة صاحب الشريعة. الإله الذي أراد أن يغفر خطايا البشر،هو بذاته الذي قال”إن النفس التي تخطئ هي تموت”. فبر الله يتطلب احترام شريعته بإدانة كل نفس تخطئ. ورحمة الله تنادي بمغفرة خطايا الفجار الأثمة. فليس في السماء ولا في الأرض ملتقى لبر لله برحمته سوى الصليب، ذلك قدّم الله ابن محبته فداء وكفارة عن خطايا البشر. ولو كان في الإمكان أن يكتفي في أمر الفداء بمعجزات المسيح، أو بأمثاله وتعاليمه، أو بحياته وسيرته. لما وُجد داع لإراقة قطرة واحدة من دمه الثمين على الصليب، فالصليب إذاً ضرورة ملحّة، قضت بها رحمة الله ي التقائها بعدالته.،

-ج- ثمرة الفداء: “غفران الخطايا”- هذه هي الثمرة الناضجة التي ينالها مفديو يسوع المسيح- “غفران الخطايا”. فما هو هذا الغفران؟ إذا اعتبرناه عاطفة قلبية، قلنا إنه ارتداد تيار غضب الله عن الخطاة، وتدفق تيار رضوانه تعالى عليهم. وإذا حسبناه قوة أدبية، قلنا إنه كسر شوكة الآلام المبرحة التي ينشئها الضمير اللوام المحتج في قلب الإنسان. وإذا نظرنا إليه باعتبار كونه حقيقة شرعية، قلنا إنه رفع العقاب الذي يستحقه البشر بسبب خطاياهم. فالغفران إذاً هو عاطفة قلبية شريفة، أظهرها الله نحو البشر، وهو قوة أدبية تتسرّب في قوى الإنسان النفسية، وهو حقيقة شرعية، يتمتع بها الخاطئ المتبرّر مجاناً بنعمة المسيح. فهو نعمة متدفقة من قلب اله، وهو أثر أدبي متصل بالضمير وهو حكم شرعي يحظى به الخاطئ تجاه الناموس.،

إن الكلمة المترجمة “خطية”: تعني حرفياً “الخروج عن الخط” أو “الانحراف عن السبيل” أو “عدم إصابة المرمى” (رومية 4: 25 ،2كو 5: 19 ،كولوسي 2: 13) وقد استعملت أيضاً للتعبير عنا الارتداد(عب6: 6).،

غير أن الغفران، لا يزيل الآثار الطبيعية التي تتركها الخطية في حياة المرء. فقد يصفح الإنسان عن خطية صديق ائتمنه فخانه وجرده من كل ما يملك، لكن هذا الصفح لن يرد لذلك الصديق الخائن تلك الثقة التي أضاعها، وقد تصح زوجة طيبة، وهي على فراش الموت، عن خطايا زوج خائن، لكن هذا الغفران لن يسترجع لذلك الزوج تاج وفائه الذي حطمه تحت قدميه القاسيتين، والشاب الذي يعبث بزهرة طهارته، لن يستعيدها ولو ذُرفت منه دموع التوبة مدراراً، أو تساقطت سحب ندامته أمطاراً.،

– د- قياس الفداء وغفران الخطايا: “حسب غنى نعمته”. هذا هو قياس الغفران الذي أثمره لنا الفداء، وهو قياس الفداء الذي أثمر الغفران. فمثَل الفداء و الغفران مثَل شجرة وثمرها، ومتى ذكرنا أن غنى نعمة الله لا يُحد، تحققنا أن هذا قياس، وحد غير محدود.،

إذا كانت غاية بركات الله علينا، مدح مجد نعمته، فإن باعث هذه البركات وقياسها-غنى نعمته. ومن الملاحظ، إن كلمة “غنى”- وقد وردت في الأصل بصيغة الجمع- هي إحدى مميزات كتابات بولس الرسول، لأنه وجد لذة خاصة في التعبير بها عن بركات الله وآلائه، ونعمه (أفسس 1: 18، 2: 4و7، 3: 8و16، رو 2: 4، 9: 23، 10: 12، 11: 12و33، 1 كو 1: 5، 2 كو 8: 9، 9: 11، فيلبي 4: 19، كولوسي 1: 27 ، 2: 2).،

في جمال الطبيعة نستطيع أن نرى شيئاً من غنى جمال الله، وفي دقة النواميس المحيطة بالكون، نشهد شيئاً من غنى حكمة الله، وفي قوة المادة وقدرتها، نستطيع أن نلمس شيئاً من غنى قدرة الله، لكننا في الصليب وحده نستطيع أن نرى غنى نعمة الله.،

على أنه وإن تكن بركات الله موهوبة لنا”حسب غنى نعمته”، إلا أننا لا نتمتع بها، إلا على قدر ما نوسع في قلوبنا مكاناً لها: “افغر فاك فأملأه”. فقياس البركات من حيث مصدرها هو غنى نعمة المعطي. وقياس هذه البركات من حيث الاستمتاع بها، هو درجة إيمان المعطى. فما أعظم غنى الله، وما أكبر مسؤولية الإنسان.،

الحكمة والفطنة،

أعداد 8 و 9 و 10،

في هذه الأعداد ذكر الرسول الحلقة الرابعة في سلسلة البركات الإلهية الموهوبة للمؤمنين- الحكمة والفطنة. فأشار إلى هاتين البركتين، إشارة مجملة في عدد 7، ثم فصلها في الأعداد 8- 10، فذكر المعلنات الإلهية التي كفلتها لنا الحكمة والفطنة الموهوبتان لنا من إله النعم والعطايا ومن فرط غنى الله، وحكمته، ونعمته، أنه لم يكتفِ بأن أنعم علينا بالفداء حسب غنى نعمته، بل أفاض علينا نعمته، وأردفها بفضيلتين ناجمتين عنها: الحكمة والفطنة.،

8ﭐلَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ، 9إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، 10لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ،

وقد حرص الرسول على أن يرينا غنى هاتين الهبتين فقال: “كل حكمة وفطنة” – فالله قد وهبنا هاتين النعمتين بأعلى قياس. هذا دليل آخر على غنى نعمته، وفيض سخائه، إذ أفاض علينا كل حكمة وفطنة. بل هذا برهان حكمته المتعالية، لأنه لم يقتصر على أن يهبنا نعمة الفداء، بل وهبنا مع الفداء كل حكمة وفطنة، لنميز بركات الفداء، ونقدّرها حق قدرها، فنستمتع بها ونشكر الله عليها، وإلا فما قيمة اللآلىء والجواهر في نظر غِرّ جهول لا يعرف قدرها؟ وفي إمكاننا أن تتحقق شدة لزوم هاتين الهبتين- “الحكمة والفطنة”، متى ذكرنا أن بين الذين يكتب إليهم بولس، قوماً هم عبيد وخدم (6: 5-9). ومع أنه من الجائز أن نفسر هاتين الكلمتين على اعتبار أنهما صفتان للإله لمعطي، كما ارتأى بعض المفسرين، إلا أنهما نعمتان موهوبتان للإنسان المعطى، فالحكمة (فرونيزيس) هي القدرة التي بها ندرك مقاصد الله المعلنة في إنجيله الطاهر، ونميز بركات الفداء. والفطنة (صوفيا) هي الشعور الباطني الذي به نتمتع بما تدركه الحكمة.،

الحكمة لغةً، هي العلم بحقائق الأشياء_ وهي عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل الوسائل- وضدها الجهالة.،

والفطنة هي الحذق والفهم. وقد تُفسر بجودة تهيؤ النفس لتصوُّر ما يرد عليها من الغير- وتقابلها الغباوة.،

فإذا كانت الحكمة هي العلم بحقائق الأشياء، فالفطنة هي تذوّق ثمرة العلم.،

وإذا كانت الحكمة هي الوصول إلى أفضل الغايات بأفضل الوسائل.،

فالفطنة هي الحيطة والاتزان والتدبر في استعمال هذه الوسائل.،

الحكمة هي إحدى ملكات العقل والإدراك بها نحاط علماً بالأشياء.،

والفطنة تتعلق بالفهم والتمييز، بها نقارن بين الغث والسمين فنتخير السمين ونوجهه أحسن اتجاه في حياتنا.،

إن الحكمة التي يعنيها الرسول في هذا الباب، تختلف عن الحكمة الكلامية التي وبخ الكورنثيين عليها. هذه حكمة “أسرار” عملية، مشبعة، ومروية، وتلك حكمة مماحكات سفسطية لا تشبع إلا لتجيع ولا تروي إلا لتعطش. هذه حكمة الجهلاء الحكماء (مت 11: 25 )، وتلك حكمة الحكماء الجهلاء (كولوسي 2: 4و8). إن خير سلاح نصرع به كبرياء المعرفة العقلية، ليس الجهالة الفكرية، بل الحكمة القلبية.،

فنعمة الله تعزي القلب، وتغذي العقل، وتنير الضمير، وتشحذ العزيمة، وتقوي الإرادة.،

-ب- مشتملات الحكمة والفطنة: “إذ عرفنا … “،

في هذه الأعداد (8 و 9و10)، فصَّل الرسول ما سبق فأجمله في العدد السابع، فذكر “سر” الفداء الذي كان مكتوماً منذ الدهور، إلى أن جاء الوقت المعين لإذاعته، ومن ثمَّ أعلن لنا تجسيد المسيح الذي سرّ الآب أن “يجمع فيه كل شئ- ما في السموات وما على الأرض “.،

إن كلمة “سر” كما وردت في العهد الجديد تحمل معنى غير الذي تحمله الآن. فهي،

بحسب الاستعمال الحاضر، تعني الأشياء التي نعجز عن فهمها حتى بعدما نحاط علماً بها_ مثال ذلك: “ميلاد المسيح من عذراء”، و”اتحاد اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح”،”وكون الله ثلاثة أقانيم في إله واحد، والهاً واحداً في ثلاثة أقانيم” و لكن كلمة “سر” في هذا العدد، تعني الخبر المكتوم في الصدر إلى أن يجئ وقت الإفصاح عنه، ومن ثم يصبح العلم به في حيّز الإمكان فهي تعني “المجهول” الذي يصير معلوماً بإذاعته، وإنه علا، وكشفه(رؤ 1: 20،17: 7، متى 13: 11). وفي الغالب استقى بولس الرسول كلمة “سر” من مصادر يهودية كسفر دانيال ومن الملاحظ أن البقية الباقية من السفر التاريخي القديم، المعروف بسفر أخنوخ- وهو أحد الأسفار غير القانونية- يكثر فيه ورود كلمة “السر” الإلهي الذي أحيط به البشر علماً.،

ومن المحتمل، أن بعض الهيئات اليونانية التي كان لبعض أعضاء كنيسة أفسس علاقة بها، قبل إيمانهم، كانت تحتفظ”بأسرار”لها، فلا تفضي بها إلا لأخصاء من تابعيها، يكونون حائزين على اختبارات معينة، ومن المحتمل أن بولس كان يخاطب أمثال هؤلاء القوم بلغتهم، مظهراً لهم أن المسيحية ليست خالية من” الأسرار”، لكنها عامرة بالأسرار الشريفة، الراقية الإلهية، التي أعلنت للبشر بتجسد “الكلمة” الحي.،

أما هذا “السر” الإلهي، الذي أعلن لنا بتجسد المسيح فهو سر مشيئة الله في الفداء وفي العناية، إذ”قصد أن يجمع كل شئ في المسيح في ملء الأزمنة”. فموضوع الحكمة والفطنة إذاً هو معرفة مشيئة الله. ومن أوصاف هذه المشيئة-1- أنها صالحة ومرضية، مفعمة رحمة وسعادة وهناء للبشرية، لذلك قال فيها الرسول:”حسب مسرة مشيئته”. وهي أيضاً مشيئة مستقلة منبعثة من قلب الله مباشرة، غير خاضعة لمشورات ولا لمؤثرات خارجة عنه، لأنه قصدها “في نفسه”، أي”في فكره، وفي أعماق قلبه”.،

ويفضل بعض ثقات المفسرين أن يفسر كلمة”فيه” على اعتبار أن قصد الله تم في المسيح المتجسد والمصلوب، والمقام، والممجد، الذي فيه يجتمع كل شئ (أفسس 1: 11 ورومية 8: 28، 9: 11، 2تي 1: 9).،

عدد 10: (2) إن قصد هذه المشيئة- أو بالحري، مشيئة هذه المشيئة- هو إن”يجمع الله كل شئ في المسيح ما في السموات وما على الأرض”. وقد عبر الرسول عن هذا القصد بكلمات أخرى إذ قال: “تدبير ملء الأزمنة”. إن أفضل تفسير لهذه العبارة الأخيرة، هو ما جاء في ص3 : 8-11 من هذه الرسالة عينها: “لي أنا أصغر جميع القديسين أعطيت هذه النعمة أن أبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يستقصى. وأنير الجميع في ما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور، في خالق الله الجميع بيسوع المسيح لكي يُعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة. حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا”.،

“تدبير ملء الأزمنة”- هذه أول مرة نلتقي فيها بكلمة: “تدبير” في هذه الرسالة. وهي من مميزات كتابات بولس الرسول. وقد وردت خمس مرات في العهد الجديد: “لهذه الأمة مصالح بتدبيرك” (أعمال 24: 3)، “لا تصنعوا تدبيراً للجسد” (رومية 13: 14)، “لتدبير ملء الأزمنة” (أفسس 1: 10)، “سمعتم بتدبير نعمة الله” (أفسس 3: 2)، “حسب تدبير الله المعطى لي” (كولوسي 1: 25). والكلمة في معناها النهائي تنطوي على الحكمة، والاقتصاد، والعناية، وبعد النظر. وقد استعملت ابتدائياً- في اليونانية والعربية- للتدبير المنزلي. ثم عُمّمت لتشير إلى تدبير الكنيسة. لذلك وصفت بها طغمة خاصة من خدام الكنيسة- “الشيوخ المدبرون حسناً” (1 تي 5: 17، 1 كو 12: 28).،

ويعتقد الدكتور مواليه، أنها تعني “وكالة” أو “توكيل”. أي أن يسوع المسيح هو الوكيل الأعلى لبيت الله الذي هو كنيسته تعالى، وقد وضعت في يديه مقاليد جميع شؤون الكنيسة والكون. وفي ملء الأزمنة يكون كل شيء وكل شخص مركزاً فيه، ويكون هو رأساً ورئيساً لكل ما في السموات وما على الأرض. والمستفاد من كلمة “ملء الأزمنة”. أنَّ سياسة الله للكون- في دائرة الفداء وفي دائرة العناية- تسير على نظام تدريجي متناسق، فلا تُكتمل إلا في عصور متعاقبة، وأدوار متوالية: فالتجسيد تم في ملء زمن آخر معين (غلاطية 4: 4)، وكذلك استقر الروح القدس في الكنيسة في ملء زمن آخر معين، وستتم الكرازة بالإنجيل في ملء زمن آخر معين. ومن ثم ننتقل من ملء “أزمنة النعمة” تدريجياً إلى ملء “أزمنة المجد”. وفي هذا إشارة ضمنية إلى ما جاء في سفر دانيال: “زمان وزمانين ونصف زمان (دانيال 12: 7). أو بعبارة أخرى: أن الآب دبر أن يكون الابن سيداً، ورأساً، ومدبراً، ومديراً لكل شيء في عصور النعمة المتعاقبة، التي ستُتوج وتختم بعصر المجد. فالمجد هو النعمة في نضوجها وإثمارها، والنعمة هي المجد في بدايته وأزهاره.أما ماهية هذا التدبير فقد أوضحها الرسول فيما يلي. والأزمنة المقصودة في هذه القرينة هي تلك المدة الممتدة بين مجيء المسيح الأول ومجيئه الثاني.،

“ليجمع كل شيء في المسيح ….” هذه العبارة بدلٌ لما قبلها، ومفسرة لها: “تدبير ملء الأزمنة”. “ليجمع”- هذه كلمة حسابية. فالجمع هو “ضمّ” أشياء متفرقة، وربطها بعضها ببعض لتكون على نسق واحد، تحت رأس واحد- هذا هو القصد النهائي في الفداء: “أن يجمع الله كل شيء في المسيح”. فمع أن الفداء في فعله الابتدائي يُقصد به خلاص المؤمنين، إلا أنه في معناه الكمالي. وفي بلوغه، يتناول جميع الأشياء- “ما في السماء وما على الأرض” فتتوحد كلها تحت سلطان ابن الإنسان المطلق. هذه هي النصرة النهائية التي أوضحها الرسول في رسالة أخرى معاصرة لهذه الرسالة. “لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب” (فيلبي 2: 11).،

إن قوله: “كل شيء…ما في السموات وما على الأرض” يعني طبقات مختلفة من الخلائق- من الملائكة المختارين (1 تي : 21) إلى أبناء الله المؤمنين المتفرقين مذاهب وجماعات في أنحاء المعمورة، في كل عصر ومصر (يوحنا 11: 52)، إلى جميع الخلائق الحية الناطقة، إلى الخلائق الغير الناطقة التي شاطرت الإنسان آلام السقوط، لتشاطره شيئاً من حرية المجد (رومية 8: 21). فتخضع كلها تحت سلطان المسيح: “الذي قد مضى إلى السماء وملائكة وسلاطين وقوات مخضعة له” (1 بط 3: 22)، “الذي هو رأس كل رياسة وسلطان” (كولوسي 2: 10).،

ويميل بعض المفسرين أمثال يوحنا الذهبي الفم، وموليه، إلى حصر هذه العبارة في المؤمنين من البشر، وفي الملائكة المختارين. ولكن الترجمة العربية تؤيد ما ذهب إليه فريق كبير من المفسرين كما أسلفنا- بدليل قول الرسول: “كل شيء” لا “كل شخص”. “وما في السموات وما على الأرض”، لا “من في السموات ومن على الأرض”.،

كما أن الأرض هي المركز الرئيسي للنظام الشمسي بأسره، كذلك “يسوع المسيح” شمس البر هو الرأس الذي “فيه” يجتمع كل ما في السموات وما على الأرض (كو 1: 16). “فيه خلق الكل ما في السموات وما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى سواء كان عروشاً أم رياسات أم سيادات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق”.،

ومن الملاحظة، أن كلمة “المسيح” كما وردت في الأصل، متصلة بأداة التعريف. فيراد بها إذاً- المسيح في وظيفته الفدائية.،

الميراث الإلهي،

عدد 11 و12،

11الَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلْنَا نَصِيباً، مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ، 12لِنَكُونَ لِمَدْحِ مَجْدِهِ، نَحْنُ الَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي الْمَسِيحِ.،

إلى هنا بلغ بولس قمة المعلنات السماوية التي شرع يفضي بها إلى من كتب لهم هذه الرسالة. وقد كان من المتوقع أن يختم مقدمة هذه الرسالة بالعدد السابق. لذلك هبط بقارئيه من جبال المعلنات السماوية، إلى وادي الحياة العملية على الأرض. فصار لزاماً عليه، أن يمس الصلة التاريخية- بين اليهود والأمم. فرسم الرسول في الأربعة الأعداد التالية صورة بديعة للرجاء اليهودي الصحيح الذي تحقق في أيامه مبدئياً في المسيح. وفي هذا الرجاء المحقق، التقى اليهودي بالأممي، فأضحى كلاهما أمة واحدة مقدسة لله، “وشعب اقتناء ليخبروا بفضائل الذي دعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب” هذه هي البركة التي يحدثنا عنها الرسول في خمسة أوجه:،

– ا- ماهيتها: “الذي يه أيضاً نلنا نصيباً”. هذه هي الحلقة الخامسة في سلسلة البركات التي جعلها بولس الرسول موضوع شكر له تعالى- بركة الميراث الإلهي.،

تختلف ماهية هذا الميراث، باختلاف فهمنا العبارة التي استُهل بها هذا العدد. فإذا أخذنا بالترجمة الحالية القائلة: “الذي فيه أيضاً- في المسيح نلنا نصيباً”، استطعنا أن نفهم أن جميع المؤمنين ممثلين في الكاتب والمكتوب إليهم، صاروا ورثة في الملكوت الروحي. هذا يؤيده قول الرسول نفسه في رسالته إلى كولوسي: “شاكرين الآب الذي أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور” (كولوسي 1: 12). ولكن ربما كان أقرب إلى الأصل أن نترجمها إلى: “الذي فيه صرنا نحن ميراثه ونصيبه” هذا يوافق الفكر الأساسي في اختيار الله الأمة اليهودية قديماً لتكون له: “شعب ميراث” (تث 4: 20، 9: 29). فقد قال موسى في الخطبة الخالدة التي فاه بها قبيل وفاته: “إن قسم الرب هو شعبه يعقوب حبل نصيبه” (تث 32: 9) وفي موضع آخر قال الله لإسرائيل: “تكونون لي خاصة من بين الشعوب” (خروج 19: 5) بل هذا هو المعنى الذي تغنى به زكريا: “والرب يرث يهوذا نصيبه في الأرض المقدسة ويختار أورشليم بعد. اسكتوا يا كل البشر قدام الرب لأنه قد استيقظ من مسكن قدسه” (زكريا 2: 12 و13). هذا هو الرجاء الذي رآه بولس محققاً في المسيح فتغنى به أيضاً في العدد الثامن عشر من هذا الإصحاح.،

لسنا ندري أي البركتين أعظم: أن نكون ورثة الله في ملكوته (رومية 8: 27) أم أن نكون نحن ميراثاً لله في تدبير الفداء ؟.،

يلوح لنا أن ثانيتهما أعظم. لأنها تحمل دلالة عظمى على أن لنا قيمة في نظر الله جل شأنه، حتى يعتبرنا نصيباً له وميراثاً !!!.،

فاسمعي أيتها السموات وتعجبي أيتها الأرض !!!.،

– ب – الزمن الذي صرنا فيه أهلاً لهذه البركة: “معينين سابقاً” – إذاً ليست هذه البركة بنت ساعتها، ولا هي فكرة طارئة. كما أنها ليست أجرة صرنا لها أهلاً بسبب صلاح أتيناه، ولا هي مكافأة على خير كان مرّجواً منا. وإنما هي هبة رتبت لنا “بتعيين سابق”. (لمعرفة القصد من هاتين الكلمتين راجع تفسير غرة العدد الخامس).،

– ج – الباعث الإلهي: “حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته”. هذه بركة جاءتنا نتيجة تدبير إلهي محكم- “حسب قصد” غير أن هذا التدبير المحكم ليس جهلياً، ولا هو تعسفي، وإنما هو نتيجة “رأي”، وحكمة، ومشورة: “حسب رأي مشيئة الله” الصالحة المرضية الكاملة. فالله جل شأنه، لم يتأثر في هذا التدبير المحكم بمؤثر خارجي، ولم يكن هو فيه مخالفاً طبيعته القدسية المتعالية، ولا مغتصباً حرية إرادة البشر.،

إن لمشيئته السماوية، رأياً عالياً وحكمة رشيدة. فلئن غابت عنا هذه الحكمة، إلا أننا نثق بها ونطمئن إلى أحكامها.،

– د – غاية هذه البركة: “لنكون لمدح مجده”. في العددين الخامس والسادس، تكلم الرسول عن “مدح مجد نعمة الله”، وهنا يحدثنا عن “مدح مجده”. فيليق بنا أن نوازن بين كلامه هنا وهنالك لنتبين أوجه الشبه وأوجه التباين في كلامه في هذين الموضعين:،

عدد 5 و6 عدد 11 و12،

(ا) الموضوع: “التبني” ……………………………. “الميراث”،

(ب) الزمن: “سبق فعيننا” ………………………… “معينين سابقاً”،

(ج) الوسيط: “بيسوع المسيح” ……………………. “به”،

(د) لباعث: “حسب مسرة مشيئته” …. حسب قصد … “رأي مشيئته”،

(ﻫ) الغاية: “لمدح مجد نعمته” ……………………… “لمدح مجده”،

فالتشابه متوفر من حيث: الزمن، والوسيط، والباعث، والغاية. ولا يوجد سوى وجه واحد للتباين: وهو أن الرسول تكلم في العددين الخامس والسادس عن التبني لكنه في العددين الحادي عشر والثاني عشر تكلم عن إحدى ثمرات التبني – الميراث. وهنالك فارق طفيف في الغاية: هناك تحدث الرسول عن “مدح مجد نعمة” الله، لكنه يحدثنا هنا عن “مدح مجده” تعالى: وعلة هذا الفارق ترجع إلى وجهة نظر الرسول إلى طبيعة “الإنجيل” فتارة يدعوه “بشارة (إنجيل) نعمة الله” (أعمال 20: 24) وطوراً يسميه: “إنجيل مجد الله” (1 تي 1: 11، 2 كو 5: 4) والمراد بمدح مجده، حمد جلاله تعالى.،

(ﻫ) المتمتعون بهذه البركة: “نحن الذين قد سبق رجاؤنا في المسيح” هؤلاء هم المؤمنون من اليهود، الذين كانوا سابقين للمؤمنين في رجائهم بالمسيح- ذلك الرجاء الذي ولدته في نفوسهم مواعيد الله الثمينة في العهد القديم، وأذكت ناره في صدورهم تلك النبوات التاريخية التي فاه بها إشعيا وزكريا وملاخي وسائر أنبيائهم.،

والظاهر أن نزعة بولس اليهودية، قد انتعشت في نفسه في هذه الآونة فأراد أن يبين للأمم، أن يهوديته لم تكن عبثاً، لأن رجاؤه في المسيح كان سابقاً لرجاء الأمم فيه. ولكن على رغم كون المؤمنين من اليهود، هم أصحاب الحق الأول في المسيح، إلا أن الأمم أيضاً “شركاء في الجسد والميراث ونوال موعده في المسيح بالإنجيل” (3: 6). هذه هي الوكالة التي شعر بولس بأنه مؤتمن عليها بنوع خاص: “أن يبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يُستقى” (2: 8). فالإنجيل قُدم لليهود أولاً ثم للأمم. لكن الأولين صاروا آخرين، والآخرين أولين. هذا من جهة اليهود كأمة. أما الأفراد المؤمنين منهم، أمثال بولس الرسول، فقد ظلوا إلى النهاية أولين. وغير خاف أن الكنيسة الأولى، كانت إلى أجل معيّن في القرن الأول، يهودية الصبغة والمسحة. لأن الرسل يهود أصلاً، ولأن الأغلبية الساحقة من المؤمنين الأولين كانت من اليهود.،

ولا يغرب عن البال، أنه على قدر الامتيازات تكون المسؤوليات. فإذا كانت المزايا قد قُدمت لليهودي أولاً ثم لليوناني، فإن العقاب أيضاً منصبّ على رأس “اليهودي” أولاً ثم اليوناني “لأن ليس عند الله محاباة”.،

“لليهود أولاً” – أولاً فقط، لا أولاً وآخراً – فأسبقية اليهود منحصرة في الزمن ليس إلا. “ومن يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر”.،

بركة الخلاص،

عدد 13،

13الَّذِي فِيهِ أَيْضاً أَنْتُمْ، إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ، إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ، الَّذِي فِيهِ أَيْضاً إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ،،

مع أن الرسول فخور بيهوديته، التي خوّلته حقّ الأسبقية على الأمم، في لرجاء بالمسيح، إلا أنه حرص شديد الحرص، على أن لا يغمط الأمم حقهم في المسيح. فما كاد يفرغ من كلامه عن المؤمنين من اليهود، الذين “سبق رجاءهم في المسيح”، حتى انتقل حالاً إلى الأممين الذين لهم أيضاً في المسيح رجاء حي، فسرعان ما تكلم عن “نحن” حتى انتقل إلى “أنتم أيضاً” إنَّ في هذا استدراكاً بليغاً لما كان يمكن أن يتبادر إلى أذهان بعض اليهود، فيحسبوا أنفسهم أصحاب الحق الأوحد في المسيح، فيحتكروه لأنفسهم. وفي هذا أيضاً خير تشجيع للأمم: مخافة أن يتوهموا أن لاحق لهم في المسيح، فيحتقروا أنفسهم ويظلموها. فقال الرسول،موجهاً الخطاب إلى المؤمنين من الأمم: “الذي يه أيضاً أنتم ذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم”.،

إن الفرصة التي أتيحت للأمم ليسمعوا فيها كلمة الإنجيل، أضحت لكثيرين منهم مصدر خير وبركة، لأنها آلت إلى خلاصهم لذلك استحالت لهم “كلمة الحق” إلى “إنجيل خلاصهم”. فهم بشروا أولاً، ثم سمعوا، فصدّقوا، فقبلوا، فختموا.،

عبر الرسول عن البشارة التي سمعها الأمم، بكلمتين – أولاهما: “كلمة الحق”، وثانيهما: “إنجيل خلاصكم”. فالأولى تعبر عن البشارة في جوهرها، ومضمونها، ومصدرها “كلمة الحق”. فهي تتضمن “الحق، وكل الحق، ولا شيء إلا الحق” وهي صادرة عن الإله الحق، كما أنها تحدثنا عن المسيح الذي هو “الطريق، والحق، والحياة”. وفي الغالب لقبها الرسول بـ “كلمة الحق” مقابل طقوس العهد القديم، ورموزه، وخرافات اليونان وأساطيرهم. فالعهد القديم الذي أُؤتمن اليهود عليه، يتضمن رمز الحق، وظلال الحق، لكن العهد الجديد يتضمن جوهر الحق وقلب الحق. والكلمة الثانية “لإنجيل خلاصكم” – تشير إلى البشارة في غايتها، وثمرها، ونتيجتها الفعالة – لأنها تعلن الخلاص وتقدمه للناس، وهي أيضاً تؤدي بهم إلى الخلاص إذا هم صدَّقوا وآمنوا: “لست أستحي بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن” (رومية 1: 16).،

والحقيقة المشتركة في هذين الإسمين، هي – أن هذا الحق الذي تتضمنه كلمة البشارة هو “الحق الخلاصي”، الذي ينبئنا بأن الله موجود، وأنه محب، وأنه تجسد في المسيح لكي يصالحنا لنفسه (1 كورنثوس 5: 19). وقد وصف الرسول هذا الإنجيل بقوله “كلمة”، لأن الإنجيل يحمل رسالة مقولة ومسموعة وموّحدة القصد والمرمى. وقال فيه أيضاً: “إنجيل”، لأنه يحوي بشارة مفرحة. ولاشك في أن بشرى الخلاص، هي أبهج خبر يزَف إلى الإنسان الغارق في لج الخطايا، سواء أسمع الإنسان رسالة الإنجيل بأذنه، أم قرأها بنظره، وتدبرها بفكره، فمن المحقق أن هذه الرسالة ليست من إيحاآت الإنسان ولا هي وليدة تصوراته الداخلية، وإنما هي صادرة عن مصدر خارجي.،

ختم الروح القدس،

عدد 14،

“الذي فيه أيضاً آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتني لمدح مجده”.،

جميل أن خاتمة البركات الإلهية الموهوبة للمؤمنين، هي بركة ختم الروح القدس. فيليق بنا أن نتَّئد في سيرنا، لنتأمل جمال هذه الماسة البديعة، مقبلين إياها على أوجهها الأربعة، لأن لكل وجه فيها جمالاً خاصاً: – ا– القصد من الختم – ب– وقت الختم – ج– طبيعة الختم – د– دلالة الختم.،

– ا- القصد من الختم: يُستعمل الختم عادة لأحد الأغراض الآتية، أو لبعضها، أو لجميعها معاً: – للملكية كما تعودت السلطات أن تدمغ الأشياء التابعة لها، دليلاً على امتلاكها إياها. أو لتقرير صحة الشيء المختوم، مثلما تختم الوثائق الرسمية دلالة على صحتها. أو لإذاعة الاسم أو الرسم الذي يحمله الختم مثلما تحمل قطع النقود صورة الملك. فصورة الملك تشهد بصحة قطعة النقود، كما أن قطعة النقود تحمل صورة الملك وتذيعها بين الملأ. أو لضمان حفظ الشيء وصيانته من الأيدي التي قد تعبث به، مثلما تختم أهراء الغلال بختم صاحبها، أو مثلما تختم أبواب خزانة بها ودائع أو مضبوطات للإبقاء عليها وحفظها من العبث بها. وفي الغالب خُتم المؤمنون لهذه الغايات الأربع. لأنهم ملك لله (رؤيا 7: 3)، ولأنهم أولاد الله بالحقيقة (رومية 8: 16 و5: 5)، ولأن الله افتداهم “ليخبروا بفضائل الذي دعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب، وأن يحدثوا بمجد الله الذي أنقذهم من سلطان الظلمة ونقلهم إلى ملكوت ابن محبته “(كولوسي 1: 12 و13) ولأن الفادي وعد بحفظهم من كل خطر وصيانتهم من كل ضرر (يوحنا 10: 28 و29).،

إن هذا الختم هو معمودية الروح القدس التي ينالها المؤمن، وبها يحصل على يقين الخلاص والبهجة، والنصرة والحرية في الخدمة، والصلاة. فقوله:”ختم الروح” مرادف للقول:”معمودية الروح” و”حلول الروح”.،

وهنا نقرر بكل وضوح وجلاء أن “ختم الروح” لا يشير إلى تلك المواهب الروحية الخارقة التي منحها الله لبعض الناس، في بعض الكنائس، لبعض مناسبات – كموهبة التكلم بالألسن وما إليها. لكن الإشارة هنا منصرفة إلى النعم الروحية الداخلية العميقة التي جعلها الله حقاً لكل مؤمن متجدد في كل عصر وفي كل مصر – كنعمة المحبة، والرجاء، واليقين، والبهجة، والسلام، والوداعة، والطهارة وما إليها. قابل ما جاء في 1 كورنثوس 12: 31، 13: 1 و2، 14: 22 بما ورد في 1 كورنثوس 13: 8 يتضح لك أن المواهب الخارقة وُهبت لأناس معينين في عصر معين وأنه قُصد بها أن تُبطل يوماً، بخلاف المواهب الروحية الباطنة فإنها باقية ما بقي الله.

– ب- وقت الختم: “إذ آمنتم ختمتم”. يختم المؤمن حالما يؤمن. ومع أن المؤمن لا يشعر بالختم ولا يتحققه إلا بعد الإيمان، إلا أن الله يختمه وقت الإيمان. فالإيمان فعل داخلي، يوجّه قلب المؤمن إلى الله، والختم هو جواب الله على لإيمان المؤمن، فالختم ليس ثمرة من ثمرات الإيمان، بل هو دلالته، وعلامته، وصحته. في العهد القديم أخذ ابراهيم علامة الختان ختماً لبر الإيمان، وفي العهد الجديد ينال المؤمنون معمودية الروح علامة لبنوَّتهم لله.

– ج- طبيعة الختم: “خُتمتم بروح الموعد القدوس”. إن نسبة الختم إلى الروح، نسبة وصفية – أي أن الله الآب ختمنا بالروح القدس – “وأعطى عربون الروح في قلوبنا” (2 كو 1: 22).

وُصف الروح القدس في هذه العبارة بوصفين: أولهما: “روح الموعد”، لأن الروح القدس حل في الكنيسة وفق الموعد. ففي العهد القديم كان الوعد بمجيئه موضوع نبوات الأنبياء (إرميا 31: 31- 34 ويوثيل 2: 28- 30 وحزقيال 36: 27). وفي العهد الجديد وعد المسيح تلاميذه مرات بمجيء الروح القدس، على اعتباراته وعد منه هو. وفي ظروف أخرى حدثهم عن مجيء الروح باعتبار كونه وعداً من الآب (يوحنا 14: 15- 21 و26، 15: 26، 16: 7- 10، أعمال 1: 4).،

إن كلمة، “موعد” ترجع بنا إلى الوعد الأول الذي وعد به الله ابراهيم رئيس العائلة اليهودية. وقد أبان الرسول بولس في رسالة أخرى، الصلة الكائنة بين الموعد الابتدائي الذي وعد به ابراهيم ونسله، وبين موعده النهائي الذي شمل الأمم أيضاً إذ قال، “وأما المواعيد فقيلت في ابراهيم وفي نسله …. لتصير بركة ابراهيم للأمم في المسيح يسوع، لننال بالإيمان موعد الروح” (غلاطية 3: 16 و14). وفي هذا الصدد عينه يقول بطرس الرسول في خطابه الخمسيني: “لأن الموعد” – موعد الروح القدس – “هو لكم ولأولادكم ولكل الذين هم على بعد كل من يدعوه الرب إلهنا” (أعمال 2: 39).،

والوصف الثاني الذي وُصف به الروح، هو: “القدوس”. وقد جاء هذا الوصف بعد الوصف الأول في الترتيب من باب التوكيد، فهو الوصف الذي اختص به الأقنوم الثالث في اللاهوت، متميزاً عن الروح البشرية الإنسانية، وهو “قدوس” في طبيعته، ومقدس في عمله.،

14الَّذِي هُوَ عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ الْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ.،

عدد 14: – د- فاعلية الختم: “الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتني لمدح مجده”.،

إن كلمة “عربون” مستعارة من لغة التجارة، وهي في اللغة الأصلية “أرّابون”- ولعلها فينيقية الأصل.،

“العربون” في عُرف التجارة، هو جزء من الثمن يُدفع مقدماً كضمان لصحة الصفقة، على أمل أن يُدفع باقي الثمن بعد تسلم البضاعة. ويراد به هنا، أن الله أعطى المؤمنين روحه القدوس كضمان لحقهم الأكمل في ميراثهم العتيد في المجد الأبدي. فالروح القدس الذي به ختم المؤمنون، ليشهد لأرواحهم أنهم أولاد الله هو ذات الروح الذي يضمن لهم ميراثهم الأبدي بوصف كونهم أبناء الله. وفي هذا الصدد يقول بولس في رسالة أخرى: “أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب. الروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فإن كنا أولاداً فإننا ورثة أيضاً ورثة الله ووارثون مع المسيح إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه” (رومية 8: 15- 27). والحقيقة المشجعة هي أن الميراث محفوظ للورثة، والورثة محفوظون للميراث (1 بط 1: 4 و5).،

إن النعم الروحية المعطاة للمؤمنين، نتيجة حلول الروح القدس في قلوبهم كالفرح والمحبة والسلام والوداعة، هي عربون المجد الذي يتمتع به المؤمنين في الحياة العتيدة. فالنعمة هي المجد في البذرة، والمجد هو النعمة في البلوغ.،

وهنالك حقيقة أخرى مكملة لهذه – هي أن نعم الروح القدوس، التي بها خُتم المؤمنون، ليست فقط عربون ميراث المؤمنين في الله، بل هي أيضاً عربون ميراث الله في المؤمنين، بدليل قول الرسول في تتمة هذا العدد: “لفداء المقتني”. إن هاتين الحقيقتين ليستا سوى وجهين لحقيقة واحدة شهد بها قديماً إرميا: “ليس كهذه نصيب يعقوب. لأنه” – الله – “مصور الجميع وإسرائيل قضيب ميراثه” (إرميا 10: 16).،

إن قوله “لفداء المقتني” – يراد به نوال المِلك المكتسب بحق الشراء والفداء. وقد ورد الفعل الأصلي المشتقة منه كلمة: “مقتني” في أعمال 20: 28 – في كلام بولس الرسول نفسه ” …. ارعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه”. والفكر الذي تنطوي عليه العبارة “لفداء المقتني” هو أن المؤمنين بالمسيح – من اليهود والأمم – هم شعب اقتناه الله واشتراه بدم الفادي، فأصبحوا ملكه، وخاصته، وميراثه. ومع أن الله – في الوقت الحاضر– لم يمتلكهم تماماً، لكونهم عائشين في بيئة مفسدة، ومعرضين لهجمات الشيطان وسهامه الملتهبة، إلا أنهم مازالوا لله ومختومين له. غير أن الله تعالى، لا يستولي عليهم تماماً، إلا متى حررهم وفكهم من هذا العالم الشرير، وأتم فداء أجسادهم مثلما أنجز فداء أرواحهم – وذلك عند مجيء المسيح ثانية (ملاخي 3: 17 و1 بطرس 2: 9).،

ومع الملاحظ، أن بولس الرسول، عاد إلى استعمال ضمير المتكلم في قوله: “ميراثنا” بعد أن كان قد استعمل ضمير المخاطب: “سمعتم”… “خلاصكم” … “آمنتم” … “خُتمتم”، في العدد السابق.،

في ختام هذه الأنشودة البديعة كرر الرسول – للمرة الثالثة – ذلك القرار الجميل: “لمدح مجده”.،

قديماً أريد ببني إسرائيل أن يكونوا “لمدح مجد الله”، كما قبل في إرميا 13: 11 “لأنه كما تلتصق المنطقة بحقوى الإنسان، هكذا ألصقت بنفسي كل بيت إسرائيل وكل بيت يهوذا يقول الرب ليكونوا لي شعباً، واسماً، وفخراً، ومجداً” – لكنهم لم يسمعوا” – على أن وجه العزاء هو أن ما فشل فيه إسرائيل العالمي سينجح فيه إسرائيل الروحي ليكون “لمدح مجد الله”. وما قصرت دونه الأمة، سيفوز به الفرد.

المقدمة
الإصحاح الثاني

د. القس إبراهيم سعيد

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية سنة 1919م.
* عُين راعيًا للكنيسة الإنجيلية ببني مزار عام ۱۹۱۷م، ثم أستاذًا مقيمًا بكلية اللاهوت الإنجيلية عام 1925.
* أسس الكنيسة الإنجيلية في قصر الدوبارة، وأصبح راعيًا لها في مارس 1940.
* منحته كلية سترلنج في ولاية كنساس بأمريكا درجة الدكتوراه الفخرية عام 1955م.
* عُين رئيسًا للطوائف الإنجيلية ورئيسًا للمجلس الملي الإنجيلي في 30 يناير 1957.
* كان رئيسًا لرابطة الكتَّاب المسيحيين في الشرق الأدنى (فرع مصر).
* رأس السنودس عام 1964 وكان أمينًا عامًا له في المدة 24-1926.
* له عدد كبير من المؤلفات و الترجمات الهامة التي أثرت المكتبة المسيحية لا سيما شرح بشارة لوقا - شرح بشارة يوحنا -شرح رسالة أفسس - أصحاب السعادة – فتح السفر المختوم- شرح أصول الإيمان (مع القس اندراوس واطسن)، لماذا أؤمن؟ منبر الشباب - ميلاديات -كتاب عظيم للنفوس المضطربة الطريق الأوحد - شخصية المسيح.
* انتقل إلى المجد في 5 مايو 1970.
زر الذهاب إلى الأعلى