الرسالة إلى أهل كولوسي | 02 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح الرسالة إلى أهل كولوسي
للدكتور . وليم إدي
اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي
ذكره جهاده من أجلهم وتحذيره إياهم من المعلمين المضلين وذا بداءة القسم الاحتجاجي من هذه الرسالة.
أبانته اهتمامه بأهل كولوسي خشية أن يقعوا في أضاليل خطرة (ع ١ – ٣) . وحثه إياهم على الثبات في الحق الذي تعلموه ومدحه إياهم على ما أظهروه من النظام ومن الثبوت (ع ٤ – ٧). وبيان أن الضلالة التي حذرهم منها هي الفلسفة الباطلة والغرور الباطل حسب تقليد الناس (ع ٨). والتصريح بعظمة المسيح وكمال عمله بخلاف التعليم الذي ليس بموجب المسيح (ع ٩ – ٢٣).
١ «فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَيُّ جِهَادٍ لِي لأَجْلِكُمْ، وَلأَجْلِ ٱلَّذِينَ فِي لاَوُدِكِيَّةَ، وَجَمِيعِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَرَوْا وَجْهِي فِي ٱلْجَسَدِ».
فيلبي ١: ٣٠ وص ١: ٢٩ و١تسالونيكي ٢: ٢ ص ٤: ١٦ ورؤيا ١: ١١ و٣: ١٤
أَيُّ جِهَادٍ لِي لأَجْلِكُمْ قال سابقاً أنه كان «يجاهد من أجلهم» (ص ١: ٢٩) وأخذ هنا يبين عظمة ذلك الجهاد الروحي وهو أنه شديد مؤلم وأنه مجاهد بأفكاره وصلواته. وكونه مسجوناً منعه من أن يجاهد في مقاومته المعلمين المضلين بينهم شفاهاً.
ٱلَّذِينَ فِي لاَوُدِكِيَّةَ الذين هم مثلهم في خطر الضلال. ولاودكية مدينة في قسم من أسيا الصغرى كان يُعرف يومئذ عند الرومانيين بأسيا وهي في كورة فريجية على قربة من كولوسي وهيرابوليس. وهذه المدن الثلاث كولوسي ولاودكية وهيرابوليس على نهر ليكون وهو فرع من نهر مياندر وأكبرها لاودكية وفيها إحدى كنائس أسيا السبع التي كتب إليها يوحنا الرسول في سفر الرؤيا. والأرجح أن بولس أسس هذه الكنيسة لا بنفسه بل بواسطة الذين أرسلهم من أفسس إلى لاودكية. ولعل الكنائس الثلاث كانت كلها تحت عناية أبفراس المبشر لأن بولس أمر الكولوسيين بأن يرسلوا رسالته إليهم إلى أهل لاودكية في تورايخ عدة قرون ثم هُدمت ولم يبق منها سوى أطلاها.
وَجَمِيعِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَرَوْا وَجْهِي فِي ٱلْجَسَدِ أي مؤمني المدن الثلاث المذكورة. أنه كان قد سمع نبأهم من أبفراس وغيره وهو وإن لم يرهم بالذات حملته محبته لنفوسهم وغيرته للمسيح وللحق على أن يهتم بهم خشية أن يضلوا. وهم عرفوه بالخبر ولعلهم رأوا بعض رسائله فلا شك في أنهم عرفوا روحه وأمياله مع أنهم جهلوا منظره.
استنتج أكثر المفسرين مما ذُكر في هذه الآية وفي غيرها من هذه الرسالة أن بولس لم يزر مدينة من تلك المدن الثلاث قبل أن كتب هذه الرسالة.
٢ «لِكَيْ تَتَعَزَّى قُلُوبُهُمْ مُقْتَرِنَةً فِي ٱلْمَحَبَّةِ لِكُلِّ غِنَى يَقِينِ ٱلْفَهْمِ، لِمَعْرِفَةِ سِرِّ ٱللّٰهِ ٱلآبِ وَٱلْمَسِيح».
٢كورنثوس ١: ٦ و١تسالونيكي ٣: ٢ و٢تسالونيكي ٢: ١٦ و١٧ ص ٣: ١٤ فيلبي ٣: ٨ وص ١: ٩
لِكَيْ تَتَعَزَّى قُلُوبُهُمْ فعل هنا كما فعل المسيح في أنه أخذ يعزي تلاميذه وهو مزمع أن يفارقهم بقوله «لا تضطرب قلوبكم الخ» (يوحنا ١٤: ١). والتعزية تفيد فوق إفادتها التسلية عن الأحزان تقوية إيمانهم بالإنجيل ورجائهم مواعيده بدليل قوله «أَيْ لِنَتَعَزَّى بَيْنَكُمْ بِٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي فِينَا جَمِيعاً، إِيمَانِكُمْ وَإِيمَانِي» (رومية ١: ١٢).
مُقْتَرِنَةً فِي ٱلْمَحَبَّةِ لأن «المحبة رباط الكمال» (ص ٣: ١٤) وهي شرط الاتحاد. والكنيسة المقترنة في المحبة تقترن في الإيمان والرجاء ومقاومة الضلال كما أن الخصومات في الكنيسة تفتح أبواباً لدخول الضلال.
لِكُلِّ غِنَى يَقِينِ ٱلْفَهْمِ أي الفهم الكامل العظيم. وأبان بولس أهمية هذا الفهم بما أضافه إليه فلم يكتف بأن يقول الفهم بل قال «يقين الفهم» ولم يكتف بهذا حتى أضاف إليه «غنى» ولم يكتف بهذا فزاد عليه لفظة «كل». وأبان أن هذا نتيجة الاقتران في المحبة حتى يقوي أحدهم الآخر على فهم الحق والتمسك به. وهذا كقوله للفيلبيين «وَهٰذَا أُصَلِّيهِ: أَنْ تَزْدَادَ مَحَبَّتُكُمْ أَيْضاً أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ فِي ٱلْمَعْرِفَةِ وَفِي كُلِّ فَهْمٍ» (فيلبي ١: ٩). وقوله للأفسسيين «وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي ٱلْمَحَبَّةِ، حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا الخ» (أفسس ٣: ١٨). وتكلم الرسول على يقين الرجاء في (عبرانيين ٦: ١١) وعلى يقين الإيمان في (عبرانيين ١٠: ٢٢). و«يقين الفهم» هنا ليس بأقل قيمة منهما لأنه يعسر علينا أن نتصور يقين الإيمان ويقين الرجاء بدون يقين الفهم لموضوع الرجاء والإيمان.
لِمَعْرِفَةِ سِرِّ ٱللّٰهِ ٱلآبِ وَٱلْمَسِيحِ أبان بذلك نوع المعرفة الذي أراد أن يفهموه «لكل غنى يقين الفهم» وهو معرفة اختبارية لا عقلية فقط (ص ١: ٩ و١٠ وفيلبي ١: ٩). وموضوعه سر الله الذي تكلم عليه سابقاً بقوله «أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هٰذَا ٱلسِّرِّ فِي ٱلأُمَمِ، ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ» (ص ١: ٢٧). وجوهر هذا السر «المسيح فيكم» أي أن المسيح الإله المتجسد حل في الإنسان وهو يعلن سر الله الآب لأنه «كلمة الله» الذي قيل فيه «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا ١: ١٨).
اختلف المفسرون في نسبة إحدى تينك الكلمتين إلى الأخرى فرأى بعضهم أن معنى «سر الله الآب والمسيح» إما سر الله أبي المسيح وإما أن سر الله الآب هو المسيح. وليس من المهم أن نحكم بأرجحية أحد القولين لأن سر الله الآب ليس سوى سر المسيح. وسر المسيح ليس سوى سر الله الآب بدليل أن جوهر الآب والابن واحد. ولا يمكننا أن نتكلم في سر المسيح ما لم نشر إلى سر الله الآب كما لو تكلمنا في سر تجسد المسيح وسر الفداء وسر دعوة الأمم فكل ما يُنسب إلى الآب من هذه الأسرار يُنسب إلى الابن فلولا المسيح كان الله الآب لم يزل مكتوماً ولكنه بالمسيح أُعلن.
٣ «ٱلْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْعِلْمِ».
١كورنثوس ١: ٢٤ و٢: ٦ و٧ و١٢: ٦ الخ وأفسس ١: ٨ وص ١: ٩
ٱلْمُذَّخَرِ فِيهِ أي في المسيح.
جَمِيعُ كُنُوزِ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْعِلْمِ أبان الرسول في هذه الآية كيف أن المسيح سر الله الآب لأن هذه الكنوز كانت مخزونة فيه منذ الأزل ولما جاء ملء الزمان أرسله الله ليعلنه للعالم. وتلك الكنوز مخفاة عن القلوب الدنيوية ومعلنة لمن فتح الله عيون قلوبهم بدليل قول المسيح «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ عَنِ ٱلْحُكَمَاءِ وَٱلْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ» (متّى ١١: ٢٥). وعبّر عن فوائد الحكمة والعلم الروحية «بالكنوز» بياناً لقيمتها العظيمة لنفس الإنسان إذ هي تؤكد له الخلاص من الخطية والموت وتجعله سعيداً إلى الأبد في السماء. وعلى هذ شبه المسيح ملكوت السماوات بكنز مخفي (متّى ١٣: ٤٤).
٤ «وَإِنَّمَا أَقُولُ هٰذَا لِئَلاَّ يَخْدَعَكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ مَلِقٍ».
رومية ١٦: ١٨ و٢كورنثوس ١١: ١٣ وأفسس ٤: ١٤ و٥: ٦ وع ٨ و١٨
وَإِنَّمَا أَقُولُ هٰذَا الإشارة هنا إلى ما قاله في جهاده من أجلهم في الآية الأولى.
لِئَلاَّ يَخْدَعَكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ مَلِقٍ أبان بهذا علة خوفه عليهم والخطر الذين هم عرضة له بغية أن ينقذهم من الخداع. وأشار بقوله «كلام ملق» إلى «أسرار أخر» و«حكمة أخرى» و«علم آخر» اعتاد السفسطيون تعليمه بكلام يجذب العقل وكان لذلك شبه حكمة والغاية منه التضليل. وصرّح الرسول بأنه لم يأت بمثل ذلك بقوله «وَكَلاَمِي وَكِرَازَتِي لَمْ يَكُونَا بِكَلاَمِ ٱلْحِكْمَةِ ٱلإِنْسَانِيَّةِ ٱلْمُقْنِعِ، بَلْ بِبُرْهَانِ ٱلرُّوحِ وَٱلْقُوَّةِ» (١كورنثوس ٢: ٤).
٥ «فَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ غَائِباً فِي ٱلْجَسَدِ لٰكِنِّي مَعَكُمْ فِي ٱلرُّوحِ، فَرِحاً، وَنَاظِراً تَرْتِيبَكُمْ وَمَتَانَةَ إِيمَانِكُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ».
١كورنثوس ٥: ٣ و١تسالونيكي ٢: ١٧ و١كورنثوس ١٤: ٤٠ و١بطرس ٥: ٩
ذكر في هذه الأية علة مختصة به من علل نهيه إياهم عن أن يُخدعوا.
وَإِنْ كُنْتُ غَائِباً فِي ٱلْجَسَدِ يغلب أنه إذا خاب أحد عن غيره التي عنه المسؤولية فيه والعناية به ولكن الرسول حقق لهم أن بعده لم يحمله على أن يغفل عنهم البتة.
لٰكِنِّي مَعَكُمْ فِي ٱلرُّوحِ أي في الأفكار والاهتمام والصلوات لا في الروح القدس أو الوحي. فإنه كان يسبر عليهم كأنه حاضر معهم ولا يفتأ يسأل عنهم. وقال هذا ليبين صدق قوله في الآية الأولى أنه في جهاد من أجلهم ولكي يعتبروه كأنه ناظر إليهم بسلطة رسول المسيح فيتقووا بذلك ليثبتوا ويقاوموا المضلين.
فَرِحا معكم في كل أفراحكم.
نَاظِراً تَرْتِيبَكُمْ قال هذا بناء على ما عرفه من أبفراس من أنباء تصرفهم الحسن في الأمور الروحية فإنه ابتهج بذلك وأمكنه أن يتصور ترتيبهم كأنه حاضر معهم. ورغبة بولس في «الترتيب» الكنسي ظاهرة من قوله لأهل كورنثوس «لْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ بِلِيَاقَةٍ وَبِحَسَبِ تَرْتِيبٍ» (١كورنثوس ١٤: ٤٠).
٦ «فَكَمَا قَبِلْتُمُ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ ٱلرَّبَّ ٱسْلُكُوا فِيهِ».
١تسالونيكي ٤: ١ ويهوذا ٣
كَمَا قَبِلْتُمُ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ ٱلرَّبَّ بواسطة تعليم أبفراس الذي أرسله بولس وبإرشاد الروح القدس (ص ١: ٥ – ٧). وقال «قبلتم المسيح» لا قبلتم تعليم المسيح ليشير بذلك إلى تمسكهم بالمسيح نفسه باعتبار كونه حياً وحاضراً معهم وأنهم متحدون به بالإيمان. وهم قبلوا المسيح باعتبارهم إياه ابن الله وملكهم وربهم ومخلصهم الوحيد ومصدر حياتهم الجديدة (١كورنثوس ١٢: ٣ و٢كورنثوس ٤: ٨ وفيلبي ٣: ٨ ويوحنا ٦: ٥٧ و١٤: ٢١ و٢٣).
ٱسْلُكُوا فِيهِ أي ابقوا متمسكين بالمسيح وإنجيله عاملين بمقتضى أمره وسيرته بمعونة روحه القدوس. قال ذلك لأن غاية المضلين أن يفسدوا إيمانهم بالمسيح فخشي أن يتحولوا إلى «يسوع آخر» و«إنجيل آخر» كما قال في (٢كورنثوس ١١: ١٤ وغلاطية ١: ٦).
٧ «مُتَأَصِّلِينَ وَمَبْنِيِّينَ فِيهِ، وَمُوَطَّدِينَ فِي ٱلإِيمَانِ، كَمَا عُلِّمْتُمْ، مُتَفَاضِلِينَ فِيهِ بِٱلشُّكْرِ».
أفسس ٢: ٢١ و٢٢ و٣: ١٧ وص ١: ٢٣
مُتَأَصِّلِينَ وَمَبْنِيِّينَ أنزلهم منزلة الشجرة والبناء (كما في ١كورنثوس ٣: ٩ – ١٥ وأفسس ٣: ١٧) في الثبوت والنمو.
فِيهِ أي في المسيح وحده.
وَمُوَطَّدِينَ فِي ٱلإِيمَانِ، كَمَا عُلِّمْتُمْ أي ثابتين في التعليم الذي علمتموه من المبشرين الأولين الذين أرسلتهم إليكم غير ملتفتين إلى معلمي الفلسفة اليونانية والأوهام اليهودية. وقد أنزل الإيمان هنا منزلة الآلة التي بها توطدوا بالمسيح.
مُتَفَاضِلِينَ فِيهِ بِٱلشُّكْرِ أي مكثرين الشكر لله مصدر كل بركاتكم الروحية. وكل رسائل بولس توجب على المؤمنين الشكر (انظر تفسير فيلبي ٤: ٦).
٨ «اُنْظُرُوا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ بِٱلْفَلْسَفَةِ وَبِغُرُورٍ بَاطِلٍ، حَسَبَ تَقْلِيدِ ٱلنَّاسِ، حَسَبَ أَرْكَانِ ٱلْعَالَمِ، وَلَيْسَ حَسَبَ ٱلْمَسِيحِ».
إرميا ٢٩: ٨ ورومية ١٦: ١٧ وأفسس ٥: ٦ وع ١٨ وعبرانيين ١٣: ٩ متّى ١٥: ٢ وغلاطية ١: ١٤ وع ٢٢ غلاطية ٤: ٣ و٩ وع ٢٠
حذّر الرسول في ما سبق الكولوسيين من الضلال عموماً وأخذ من هنا إلى الآية الخامسة عشرة يبين الضلالة الخاصة التي هم عرضة لها فبين ما هي بطريقين ما في بعضهما من الأكاذيب وما في البعض الآخر من الإنكار للحقائق.
اُنْظُرُوا أي انتبهوا واسهروا لأن الخطر مقبل.
أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ قصد «بأحد» بعض المضلين المعروفين الذين لم يستحسن أن يذكر أسماءهم كما فعل في الرسالة إلى غلاطية (غلاطية ١: ٧). ومعنى «السبي» أخذ المغلوبين في الحرب عبيداً والكولوسيين نجوا من ملكوت الظلمة ونُقلوا إلى ملكوت النور (ص ١: ١٢ و١٣) وكانوا حينئذ عرضة لخطر عبودية أردأ جسداً وروحاً فالعبودية الجسدية للرسوم الخارجية (ع ١٦) والعبودية الروحية للبدع (ع ١٨).
بِٱلْفَلْسَفَةِ وَبِغُرُورٍ بَاطِلٍ أي بالفلسفة التي هي غرور باطل أو خداع. لم يُرد بولس أن يحذرهم من كل نوع من أنواع الفلسفة مع أنه حسب كثيراً مما سُمي فلسفة جهالة بالنسبة إلى حكمة المسيح (١كورنثوس ٢: ٦). لكنه حذرهم هنا من نوع فلسفة معروف لقرائه شائع في كولوسي. وهو خليط من الفلسفة اليونانية والأوهام اليهودية. وسمي في تاريخ الكنيسة بتعليم الغنوسيين.
حَسَبَ تَقْلِيدِ ٱلنَّاسِ هذا أصل الفسلفة الكاذبة فإن معلميها اتخذوا تقليد الناس بدلاً من الإعلانات الإلهية. وكان في اليهود ثلاث فرق عظيمة الفريسيون والصدوقيون والأسينيون. فالصدوقيون نفوا الوحي والتقليد. والفريسيون الأسينيون اشتهروا بالتمسك بالتقاليد. والذي شاع في كولوسي من تلك التقاليد كان مما تمسك به الأسينيون أي الباطنيون فادعوا أن لهم كتباً تتضمن كل كنوز الحكمة التي أخفوها عن الناس سوى العقلاء من تلاميذهم.
حَسَبَ أَرْكَانِ ٱلْعَالَمِ أبان أصل الفلسفة الباطلة بقوله «تقليد الناس» وأبان مواضيعها بقوله «أركان العالم». والمراد «بأركان العالم» مبادئ العلم التي توافق صغار المبتدئين (غلاطية ٤: ٣ انظر تفسير ذلك) وهي هنا الرسوم الدينية الخارجية كالتي أعطاها الله لليهود استعداداً لقبول تعاليم الإنجيل الروحية. ونسبها إلى «العالم» لانها من الأمور المادية الخارجية المحسوسة.
وَلَيْسَ حَسَبَ ٱلْمَسِيحِ بهذا تمتاز فلسفة المضلين عن التعليم الحق الذي المسيح بداءته ومركز دائرته ونهايته فالمسيح ليس بمصدر فلسفتهم ولا موضوعها وهم وضعوا بدلاً منه رسوم خارجية ووسطاء من الملائكة.
٩ «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً».
يوحنا ١: ١٤ وص ١: ١٩
في هذه الآية بيان التعليم الصحيح في شأن المسيح فابتدأ كلامه بقوله «فإنه» لأنه قصد دفع الكذب بالحق.
فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ أي في المسيح وحده وهو مسكنه الدائم.
كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ أي مجموع القوى والصفات الإلهية أو كل ما يختص بالجوهر الإلهي (انظر تفسير ص ١: ١٩).
جَسَدِيّاً اعتقد الغنوسيون أن اللاهوت هو جوهر الله المحدود وأنه صدر عنه انبثاقات أو قوات أو صدورات وكلها دون المصدر فصرح بولس بأنه حلّ في المسيح كل ملء اللاهوت في صورة بشرية أي أن الله تجسد ومنذ الأزل حل ملء اللاهوت «في الكلمة» أي الأقنوم الثاني من اللاهوت بدليل قول يوحنا «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ» (يوحنا ١: ١) لكنه منذ تجسَّد حلّ ذلك الملء في المسيح جسدياً بدليل قول الإنجيلي «وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ» (يوحنا ١: ١٤ انظر أيضاً ١يوحنا ٤: ٣). والمرجّح أن الرسول قصد بهذا القول أن ينفي عقيدة من عقائد المضلين وهي أن الشر لا ينفك عن المادة فاستنتجوا من ذلك استحالة أن يكون للمسيح جسد حقيقي وهو الله القدوس. ولحلول كل ملء اللاهوت فيه ساغ ليوحنا أن يقول «مِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ» (يوحنا ١: ١٦). ولكونه غير محدود أمكن المخلوقات أن تأخذ من ذلك الملء من دون أن ينقص.
١٠ «وَأَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ، ٱلَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ».
يوحنا ١: ١٦ أفسس ١: ٢٠ و٢١ و١بطرس ٣: ٢٢ ص ١: ١٦
وَأَنْتُمْ الذين آمنتم بالمسيح وصرتم «فيه».
مَمْلُوؤُونَ فِيهِ من المواهب الروحية التي تجري من المسيح إلى النفس المتحدة به كما جاء في (يوحنا ١: ١٦) وكما طلب الرسول لأجل الأفسسيين بالصلاة (أفسس ٣: ١٩ و٤: ١٣) ونتج من ذلك أن الذين ظنوا أنهم يحتاجون فضلاً عن المسيح إلى الملائكة وغيرهم من الوسطاء المخلوقين هم مبتدعون.
رَأْسُ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ بين كل جنود السماء رتب الملائكة (انظر تفسير ص ١: ١٦) فهو أمام الكل وقبلهم مقاماً وسلطة ومصدر القوة لهم كما أن الرأس للأعضاء. وبُين فضل المسيح على الملائكة في (عبرانيين ١: ١ – ١٤). ونتيجة ما قيل هنا وهنالك أن الذين لهم المسيح حصلوا على كل ما يحتاجون إليه فإنه لا يليق أن تُعبد الملائكة إذ هم عبيد الله كالناس تحت ذلك الرأس (رؤيا ٢٢: ٨ و٩).
١١ «وَبِهِ أَيْضاً خُتِنْتُمْ خِتَاناً غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا ٱلْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ ٱلْمَسِيحِ».
تثنية ١٠: ١٦ و٣٠: ٦ وإرميا ٤: ٤ ورومية ٢: ٢٩ وفيلبي ٣: ٣ رومية ٦: ٦ وأفسس ٤: ٢٢ وص ٣: ٨ و٩
وَبِهِ أي بالمسيح.
أَيْضاً خُتِنْتُمْ حين آمنتم زيادة على كونكم «مملوئين فيه» فإذاً كان اختتانهم قد تم. وقال ذلك دفعاً لتعليم مضلي كولوسي وجوب أن يختتن مؤمنو الأمم وصرّح بأنهم قد حصلوا على الختان الحقيقي حين آمنوا وتجددت قلوبهم. وأورد ثلاث علامات على حقيقة ذلك الختان الأولى نوع الختان والثانية شموله والثالثة مصدره.
غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ هذه هو العلامة الأولى من علامات حقيقته وهو أنه ختان باطن روحي صنعه الروح القدس لا خارجي صنعته أيدي الناس (انظر تفسير أفسس ٢: ١١ وفيلبي ٣: ٢ و٣).
بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا ٱلْبَشَرِيَّةِ هذا هو العلامة الثانية على حقيقة الختان وهي أنه شمل الجسد كله وأما الختان اليهودي فكان جزئياً. والمراد «بخلع الجسم البشري» التخلص من كل شهوة جسدية محرمة. وعبّر عن هذا الجسم «بالإنسان العتيق» في (ص ٣: ٩) و«بجسد الخطية» في (رومية ٦: ٦) و«جسد هذا الموت» في (رومية ٧: ٢٤). وليس مراده الجسد الحقيقي لأن الشر غير مختص به فيمكن أن يصير هيكل الله فالكلام مجاز لا حقيقة. وكلمة «خطايا» خلا منها أفضل النسخ ورفضها أكثر المفسرين ولم يعتبروها من الوحي كما بين في الإنجيل ذي الشواهد.
بِخِتَانِ ٱلْمَسِيحِ هذا هو العلامة الثالثة على حقيقة الختان الروحي ومعنى العبارة الختان الذي المسيح علته ومصدره غير المأخوذ من موسى ولا من الآباء ويكون باتحاد المؤمنين به. وليس المراد «بالختان» هنا ختان المسيح المذكور في (لوقا ٢: ٢١) لأنه أخذ على نفسه أن يكمل كل بر الناموس عنا. فالمقصود به هنا الختان الروحي.
١٢ «مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي ٱلْمَعْمُودِيَّةِ، ٱلَّتِي فِيهَا أُقِمْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ».
رومية ٦: ٤ ص ٣: ١ أفسس ١: ١٩ و٣: ٧ أعمال ٢: ٢٤
مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي ٱلْمَعْمُودِيَّةِ إن المسيح نائب الإنسان فلما مات مات عنه. فمات شعبه معه عن الخطيئة وعن الدينونة ولما دُفن دُفن شعبه معه عن العالم وعن الخطيئة. فالدفن مع المسيح يشير إلى شدة الاتحاد به والاشتراك في نتائج عمله. قيل سابقاً «إننا مملؤون فيه» وإننا مختونون بختانه وزاد على ذلك هنا «أننا مدفونون معه» وهذا إثبات لحقيقة الموت ولانفصال المؤمن عن حياته القديمة في الخطيئة انفصالاً أشد من الانفصال الذي أشار إليه «بالختان» بل أشد مما أشار إليه بالموت نفسه. وقيل أن هذا الانفصال قد تمّ بالمعمودية لأن كل مؤمن يعترف عند معموديته بإيمانه بالمسيح وموته ودفنه للخطية ولأنه حصل في وقت المعمودية بإيمانه بالمسيح والاعتراف بذلك الإيمان جهراً على فوائد كل ما عمله المسيح واشتراه لشعبه بالفداء (انظر تفسير رومية ٦: ٤).
ٱلَّتِي فِيهَا أي بالمعمودية أو بواسطة اتحاده فيها بالمسيح الذي اعترف به فالمعمودية ختم ذلك الاتحاد ورمز إلى المعمودية الروحية.
أُقِمْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ من موت الخطية إلى حياة القداسة (انظر تفسير رومية ٦: ٥ و٦ وأفسس ٢: ٥ و٦).
بِإِيمَانِ عَمَلِ ٱللّٰهِ الخ أي بواسطة تيقنكم ما عمله الله وهو أنه أقام المسيح من الموت. فالإيمان هنا ليس سوى اليد التي بها يمسك المؤمن الله. فعمل الله هنا موضوع الإيمان لا علته فهو كما في (أفسس ١: ١٩ و٢٠). وكثيراً ما ذُكر في الإنجيل أن قيامة المسيح أصل رجاء المؤمنين لأن إيمانهم بأن الله أقام المسيح يتضمن اليقين بأن الله قادر ومستعد أن يقيمهم معه من الموت في الخطيئة إلى الحياة الروحية. وقيامة المسيح وحياته في السماء عربون قيامة كل المتحدين به وعلتها أيضاً فضلاً عن كونها برهان عظمة قوة الله كما يظهر من قول الرسول «لأَنَّكَ إِنِ ٱعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ، وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ ٱللّٰهَ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، خَلَصْتَ» (رومية ١٠: ٩). ومن قوله في صلاته من أجل نفسه «لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ» (فيلبي ٣: ١٠).
ولا دليل في ما قيل هنا من الدفن مع المسيح والقيامة معه في المعمودية على طريق المعمودية فذلك بيان لشدة الاتحاد بين المؤمن والمسيح حتى كأنه شاركه في دفنه وقيامته. ويعترف المؤمن بذلك في المعمودية سواء كانت معموديته برش الماء عليه أو صبه أو بتغطيسه فيه. ولا إشارة في ذلك إلى قيامة الجسد في اليوم الأخير بل الإشارة إلى القيامة الروحية ولكن لا بد أن القيامة الروحية تتضمن قيامة الجسد وتَضمنها.
١٣ «وَإِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فِي ٱلْخَطَايَا وَغَلَفِ جَسَدِكُمْ، أَحْيَاكُمْ مَعَهُ، مُسَامِحاً لَكُمْ بِجَمِيعِ ٱلْخَطَايَا».
أفسس ٢: ١ و٥ و٦ و١١
في هذه الآية والاثنتين بعدها بيان فوائد اشتراك المؤمنين في قيامة المسيح.
إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فِي ٱلْخَطَايَا هذا بيان حالهم قبل إيمانهم بالمسيح كما ذُكر سابقاً في (أفسس ٢: ١) فراجع التفسير هناك.
وَغَلَفِ جَسَدِكُمْ كان مؤمنو كولوسي من الأمم غير مختونين جسدياً ولا روحياً فعاشوا بمقتضى شهوات أجسادهم غير ملتفتين إلى الله ولا إلى القداسة.
أَحْيَاكُمْ أي أحياكم الله (انظر تفسير أفسس ٢: ٥).
مَعَهُ أي مع المسيح حين آمنتم واتحدتم به.
مُسَامِحاً لَكُمْ بِجَمِيعِ ٱلْخَطَايَا وبرهان ذلك إحياؤه إياهم روحياً. ذكر المسامحة للكولوسيين بقوله «لكم» ولكنها تستلزم المغفرة لكل من يؤمن لأن المغفرة عمل الله مرة لأجل جميع المؤمنين بدليل قوله «ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ» (٢كورنثوس ٥: ١٩) وقوله «مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً فِي ٱلْمَسِيحِ» (أفسس ٤: ٣٢).
١٤ «إِذْ مَحَا ٱلصَّكَّ ٱلَّذِي عَلَيْنَا فِي ٱلْفَرَائِضِ، ٱلَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ ٱلْوَسَطِ مُسَمِّراً إِيَّاهُ بِٱلصَّلِيبِ».
أفسس ٢: ١٥ و١٦
إِذْ مَحَا ٱلصَّكَّ عندما غفر وفي العبارة بيان كمال المغفرة. والذي محا الصك هو الله محاه بالمسيح بدليل قوله «كما سامحكم الله في المسيح» (أفسس ٤: ٣٢). وهو يمحو خطايا كل إنسان حين يؤمن بناء على الفداء الذي أكمله المسيح مرة واحدة عن خطايا العالم عند موته الذي أكد المغفرة لكل من يأتي إلى الله به. ومعنى قوله «محا الصك» كمعنى قوله «مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ ٱلْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ» (أفسس ٢: ١٥) فراجع التفسير هناك. وقصد «بالصك» هنا الناموس كله الذي وجب على الإنسان أن يطيعه لكي ينال الحياة بحفظه. وعبر عنه «بالصك» وهو ورقة الإقرار بالدين لأن الوصايا العشر كتبت على لوحي حجر بإصبع الله. والأمم مكلفون كاليهود بحفظ الناموس الأدبي لأنه مكتوب على قلوبهم فلو حفظوه كانوا تبرروا به ولكن بمخالفتهم إياه دينوا (رومية ٣: ١٩). وحُسبت خطايانا في هذه الآية دَيناً علينا لله أوفاه المسيح عنا. وحُسب ناموس الله «صكاً» على الإنسان كُتب فيه «افعل هذا فتحيا» (لوقا ١٠: ٢٨) و«اَلنَّفْسُ ٱلَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حزقيال ١٨: ٢٠). والذي كتبه بولس إلى فليمون في شأن أنسيموس يشبه ما يفعله المسيح من أجلنا باعتبار كونه شفيعاً وهو قوله «إِنْ كَانَ قَدْ ظَلَمَكَ بِشَيْءٍ، أَوْ لَكَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَٱحْسِبْ ذٰلِكَ عَلَيَّ» (فليمون ١٨).
ٱلَّذِي عَلَيْنَا ونحن عاجزون أن نوفي لأن الناموس يطلب الطاعة الكاملة التي لا يستطيع الإنسان الساقط أن يقوم بها ويصرّح بالدينونة على كل من لم يحفظوه حفظاً تاماً. وقصد بقوله «علينا» إدخال المعلمين المضلين الذين افتخروا بالناموس.
ٱلْفَرَائِضِ التي مجموعها الناموس.
ٱلَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا قال ذلك تفسيراً لقوله «الذي علينا» وهو أشد دفعاً لتعليم المضلين وجوب حفظ الناموس للتبرير. فالناموس «علينا» بالنظر إلى المطاليب التي يكلفنا بها و«ضدٌّ» بالتهديدات التي يتهددنا بها لمخالفتنا إياه (رومية ٧: ٧ – ١٢ و١٤ وغلاطية ٣: ٢١ وعبرانين ١٠: ٣).
وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ ٱلْوَسَطِ أي من بين الله والإنسان حيث يشتكي على الخاطئ ويقف في طريق تبريره ويطلب دينونته. و«رفع من الوسط» لأن المسيح أطاعه عنا واحتمل العقاب الذي أوجبه علينا.
مُسَمِّراً إِيَّاهُ بِٱلصَّلِيبِ وبذلك ألغاه وفي هذا إشارة إلى نيل المؤمنين التحرر من دينونة الناموس بموت المسيح لأنه احتمل لعنة الناموس من أجل الجميع (غلاطية ٣: ١٣ انظر أيضاً رومية ٣: ٢١ و٢٢ ورومية ٧: ٢ و٤ و٦).
إن المسيح سُمر على الصليب حقيقة واستعار بولس تسميره للناموس كأن الناموس أُميت بالتسمير لأنه فقد بموت المسيح قوته التي تجبر المؤمن على إطاعته لتخلص نفسه وقوته على الدينونة لمخالفته إياه حتى لم يبق في «الوسط». الناس سمروا المسيح على الصليب وقتلوه عليه ولكن المسيح سمر الناموس عليه وقتله باعتبار كونه علة الدينونة على المؤمن (غلاطية ٣: ١٣ و١بطرس ٢: ٢٤).
١٥ «إِذْ جَرَّدَ ٱلرِّيَاسَاتِ وَٱلسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ».
تكوين ٣: ١٥ ومزمور ٦٨: ١٨ وإشعياء ٥٣: ١٢ ومتّى ١٢: ٢٩ ولوقا ١٠: ١٨ و١١: ٢٢ ويوحنا ١٢: ٣١ و١٦: ١١ وأفسس ٤: ١٨ و٦: ١٢ وعبرانيين ٢: ١٤ و٢كورنثوس ٢: ١٤
إِذْ جَرَّدَ ٱلرِّيَاسَاتِ وَٱلسَّلاَطِينَ أي عرّاهم من القوة على مقاومته كما أن الغالب بجرد المغلوب من أسلحته. و«الرياسات والسلاطين» هم المشار إليهم في قوله «فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ ٱلرُّؤَسَاءِ، مَعَ ٱلسَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ ٱلْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ ٱلشَّرِّ ٱلرُّوحِيَّةِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ» (أفسس ٦: ١٢). فهم قوات الشر أعداء المسيح وأعداؤنا وذُكروا أيضاً في (رومية ٨: ٣٨ و٣٩ و١كورنثوس ١٥: ٢٤ و٢٥). وأشار المسيح إلى انتصاره عليهم بقوله «كَيْفَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ ٱلْقَوِيِّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ، إِنْ لَمْ يَرْبِطِ ٱلْقَوِيَّ أَوَّلاً، وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ» (متّى ١٢: ٢٩ انظر أيضاً لوقا ١١: ٢٢). ويوافق ذلك أيضاً قول الرسول «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلاَدُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ ذَاكَ ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ» (عبرانيين ٢: ١٤). وقول يوحنا «لأَجْلِ هٰذَا أُظْهِرَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ لِكَيْ يَنْقُضَ أَعْمَالَ إِبْلِيسَ» (١يوحنا ٣: ٨). اتخذ المسيح طبيعة الإنسان لكي يحمل التجربة عنه ويغلبها عنه ولذلك جُرب من إبليس في البرية فغلبه المسيح هناك (لوقا ٤: ١٣). وجُرب منه بواسطة تلميذه بطرس أن يأبى الآلام والموت (متّى ١٦: ٢٣). ومجاهدته للشيطان جُددت قرب موته بدليل قوله «هٰذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ ٱلظُّلْمَةِ» (لوقا ٢٢: ٥٣). وقوله «اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هٰذَا ٱلْعَالَمِ خَارِجاً» (يوحنا ١٢: ٣١). ومعظم هذه المحاربة كانت يوم آلامه في جثسيماني وانتهت حين عُلق على الصليب في الجلجثة وحينئذ جرّد كل التجريد جميع قوات الشر فغلبهم لنفسه ولكل شعبه الذي رغب بواسطته في أن يغلب التجربة والخطية والموت.
أَشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ عند صعوده. والكلام مبني على ما اعتاده الملوك يوم يرجعون منتصرين من الحرب فإنهم كانوا يحتفلون بالأسرى والغنائم. وأشار الرسول بهذا إلى قوله مقتبساً «إِذْ صَعِدَ إِلَى ٱلْعَلاَءِ سَبَى سَبْياً وَأَعْطَى ٱلنَّاسَ عَطَايَا» (أفسس ٤: ٨ انظر أيضاً أفسس ١: ٢٠ و٢١). وكان «إشهاره إياهم جهاراً» بين الملائكة القديسين وأرواح الأبرار المكملين. وأشار إلى هذا الظفر يوحنا بقوله «فَطُرِحَ ٱلتِّنِّينُ ٱلْعَظِيمُ، ٱلْحَيَّةُ ٱلْقَدِيمَةُ ٱلْمَدْعُوُّ إِبْلِيسَ وَٱلشَّيْطَانَ، ٱلَّذِي يُضِلُّ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ طُرِحَ إِلَى ٱلأَرْضِ، وَطُرِحَتْ مَعَهُ مَلاَئِكَتُهُ. وَسَمِعْتُ صَوْتاً عَظِيماً قَائِلاً فِي ٱلسَّمَاءِ: ٱلآنَ صَارَ خَلاَصُ إِلٰهِنَا وَقُدْرَتُهُ وَمُلْكُهُ وَسُلْطَانُ مَسِيحِهِ، لأَنَّهُ قَدْ طُرِحَ ٱلْمُشْتَكِي عَلَى إِخْوَتِنَا ٱلَّذِي كَانَ يَشْتَكِي عَلَيْهِمْ أَمَامَ إِلٰهِنَا نَهَاراً وَلَيْلاً. وَهُمْ غَلَبُوهُ بِدَمِ ٱلْحَمَلِ الخ» (رؤيا ١٢: ٩ – ١١). فكانت قيامة المسيح وصعوده ظفراً جهاراً على أعدائه.
فِيهِ أي بالصليب إيماء إلى أن موت المسيح وسيلة إلى انتصاره على قوات الشر (يوحنا ١٢: ٣١ – ٣٣ وأفسس ٢: ١٦). فبالموت غلب المسيح الذي له سلطان الموت وإكليله الذي من الشوك صار إكليل نصرة (رؤيا ١٩: ١٢) وصليبه بعد ان كان علامة الهوان والعار صار آية الافتخار والنصر.
١٦ «فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ فِي أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أَوْ هِلاَلٍ أَوْ سَبْتٍ».
رومية ١٤: ٣ و١٠ و١٣ رومية ١٤: ٢ و١٧ و١كورنثوس ٨: ٨ ورومية ١٤: ٥ وغلاطية ٤: ١٠
في هذه الآية وما بعدها إلى الآية التاسعة عشرة تحذير من أعمال خاصة تنافي ما سبق وتشير إلى أن المؤمنين ليسوا «مملوئين» في المسيح وأن الصك الذي عليهم لم يُمح وأنهم لم يزالوا تحت رق الرسوم الخارجية.
فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ أي لا تدعوا أحداً يفرض عليكم «فرائض حسب تقليد الناس حسب أركان العالم» (ع ٨) وإن يقنعكم بأنكم مذنبون بعدم إطاعتكم له. وهذا موافق لقوله «مَنْ أَنْتَ ٱلَّذِي تَدِينُ عَبْدَ غَيْرِكَ؟ هُوَ لِمَوْلاَهُ يَثْبُتُ أَوْ يَسْقُطُ». وقوله «وَأَمَّا أَنْتَ فَلِمَاذَا تَدِينُ أَخَاكَ… لأَنَّنَا جَمِيعاً سَوْفَ نَقِفُ أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيحِ» وقوله «طُوبَى لِمَنْ لاَ يَدِينُ نَفْسَهُ فِي مَا يَسْتَحْسِنُهُ» (رومية ١٤: ٤ و١٠ و٢٢).
فِي أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ مما حرمته الشريعة الموسوية الرمزية (لاويين ٧: ١٠ – ٢٧). ومما لم يكن على مؤمني الأمم أن يحفظوه لأن في الإنجيل قد بطل التمييز بين اليهود والأمم ومأكولاتهم (أعمال ١٠: ١١ وعبرانيين ٩: ١٠). والقرينة تدل على أن معلمي كولوسي المضلين حملوا تلاميذهم على التسليم بعقائد الغنوسيين فضلاً عن حفظ الرسوم الموسوية التي غايتها قهر الجسد وإماتته رغبة في كسب القداسة. وإلى هذا أشار بولس الرسول بقوله «إِنَّهُ فِي ٱلأَزْمِنَةِ ٱلأَخِيرَةِ يَرْتَدُّ قَوْمٌ عَنِ ٱلإِيمَانِ، تَابِعِينَ أَرْوَاحاً مُضِلَّةً وَتَعَالِيمَ شَيَاطِينَ، فِي رِيَاءِ أَقْوَالٍ كَاذِبَةٍ، مَوْسُومَةً ضَمَائِرُهُمْ، مَانِعِينَ عَنِ ٱلزَّوَاجِ، وَآمِرِينَ أَنْ يُمْتَنَعَ عَنْ أَطْعِمَةٍ قَدْ خَلَقَهَا ٱللّٰهُ لِتُتَنَاوَلَ بِٱلشُّكْرِ» (١تيموثاوس ٤: ١ – ٣). وقوله «وَاحِدٌ يُؤْمِنُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَمَّا ٱلضَّعِيفُ فَيَأْكُلُ بُقُولاً… لاَ تَنْقُضْ لأَجْلِ ٱلطَّعَامِ عَمَلَ ٱللّٰهِ. كُلُّ ٱلأَشْيَاءِ طَاهِرَةٌ، لٰكِنَّهُ شَرٌّ لِلإِنْسَانِ ٱلَّذِي يَأْكُلُ بِعَثْرَةٍ» (رومية ١٤: ٢ و٢٠) ولذلك حثهم على أن يكونوا أصحاء في الإيمان «لاَ يُصْغُونَ إِلَى خُرَافَاتٍ يَهُودِيَّةٍ وَوَصَايَا أُنَاسٍ مُرْتَدِّينَ عَنِ ٱلْحَقِّ. كُلُّ شَيْءٍ طَاهِرٌ لِلطَّاهِرِينَ، وَأَمَّا لِلنَّجِسِينَ وَغَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ شَيْءٌ طَاهِراً، بَلْ قَدْ تَنَجَّسَ ذِهْنُهُمْ أَيْضاً وَضَمِيرُهُمْ» (تيطس ١: ١٤ و١٥). ومثل هذا حمله على أن يقول «لَيْسَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ أَكْلاً وَشُرْباً، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (رومية ١٤: ١٧).
أَوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أَوْ هِلاَلٍ أَوْ سَبْتٍ هي أعياد يهودية سنوية وشهرية وأسبوعية أراد المضلون أن يجبروا عليها المؤمنين بالمسيح. وأشار إلى هذه الأعياد النبي بقوله «لاَ تَعُودُوا تَأْتُونَ بِتَقْدِمَةٍ بَاطِلَةٍ. ٱلْبَخُورُ هُوَ مَكْرُهَةٌ لِي. رَأْسُ ٱلشَّهْرِ وَٱلسَّبْتُ وَنِدَاءُ ٱلْمَحْفَلِ… رُؤُوسُ شُهُورِكُمْ وَأَعْيَادُكُمْ بَغَضَتْهَا نَفْسِي» (إشعياء ١: ١٣ و١٤ انظر أيضاً حزقيال ٤٥: ١٧› وهوشع ٢: ١١). وعلى ذلك قال بولس للغلاطيين «أَتَحْفَظُونَ أَيَّاماً وَشُهُوراً وَأَوْقَاتاً وَسِنِينَ؟ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَكُونَ قَدْ تَعِبْتُ فِيكُمْ عَبَثاً» (غلاطية ١٤: ١٠ و١١). وصرّح بولس في عبارة التفسير أن المؤمنين غير مكلفين بحفظ أعياد اليهود وسبوتهم. وغني عن البيان أن قوله هذا لا ينفي وجوب تقديس السبت المسيحي. لأن الأمر يحفظه من الله منذ أول الخليقة البشرية لا من الرسوم الخاصة باليهود ويمتاز عن السبت اليهودي في زمان حفظه وعلته وكيفيته.
١٧ «ٱلَّتِي هِيَ ظِلُّ ٱلأُمُورِ ٱلْعَتِيدَةِ، وَأَمَّا ٱلْجَسَدُ فَلِلْمَسِيحِ».
عبرانيين ٨: ٥ و٩: ٩ و١٠: ١
ٱلَّتِي هِيَ ظِلُّ ٱلأُمُورِ ٱلْعَتِيدَةِ هذا موضوع كل الرسالة إلى العبرانيين (انظر عبرانيين ص ٨ و١٠). فالرسوم الموسوية الخارجية لم تكن سوى إشارات إلى أمور روحية متوقعة. فبعد أن أتى المشار إليه زالت ظلاله إذ لم يبق لها من نفع بل تكون ضارة إذا اتكل الإنسان عليها.
وَأَمَّا ٱلْجَسَدُ فَلِلْمَسِيحِ المراد «بالجسد» هنا «الأمور العتيدة» بمقابلتها مع «ظلها» والمرموز إليه بمقابلته مع رمزه فكان المسيح جسد «الأمور العتيدة» لأنه جعل لها معنى وجوهراً وقيمة وحياة وهذا موافق لقوله «إِذاً قَدْ كَانَ ٱلنَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية ٣: ٢٤). وقوله «لأَنَّ غَايَةَ ٱلنَّامُوسِ هِيَ: ٱلْمَسِيحُ» (رومية ١٠: ٤).
١٨ «لاَ يُخَسِّرْكُمْ أَحَدٌ ٱلْجِعَالَةَ، رَاغِباً فِي ٱلتَّوَاضُعِ وَعِبَادَةِ ٱلْمَلاَئِكَةِ، مُتَدَاخِلاً فِي مَا لَمْ يَنْظُرْهُ، مُنْتَفِخاً بَاطِلاً مِنْ قِبَلِ ذِهْنِهِ ٱلْجَسَدِيِّ».
ع ٤ حزقيال ١٣: ٣ و١تيموثاوس ١: ٧
الكلام هنا مبني على ما كان يجري في الألعاب اليوناينة.
لاَ يُخَسِّرْكُمْ أَحَدٌ ٱلْجِعَالَةَ المقصود «بالجعالة» هنا الحياة الأبدية في السماء (١كورنثوس ٩: ٢٤ وفيلبي ٣: ١٤). والمحذر من تخسيره هنا كل واحد من المعلمين المضلين. وطريق تخسير المضلين إياهم الجعالة أن يحملوهم على الاتكال على وسطاء غير المسيح فيمنعوهم من الإتيان إليه رأساً.
رَاغِباً فِي ٱلتَّوَاضُعِ أي نوعه الذي لم يكلف الله به أحداً وهذا يحمله على ادعاء أن الإنسان لا يستحق أن يأتي إلى الله بالصلاة ولا أن يجلس على مائدة الرب ولا أن يدعي أن مواعيد الكتاب المقدس له فيمتنع من قبول ما أنعم الله به عليه من البركات. أو المراد «بالتواضع» هنا صورته دون حقيقته مثل الملبوسات الدنيئة وإمارات الذل والكلام الدال على احتقار النفس وما شاكل ذلك من الأقوال والأعمال والكبرياء سائدة في القلب.
وَعِبَادَةِ ٱلْمَلاَئِكَةِ قال أولئك المضلون أن المؤمنين غير مستحقين أن يدنوا من الله فيجب أن يتخذوا الملائكة وسطاء فيعبدوهم بدلاً من الله. وأصل عبادة الملائكة عندهم بعضه من تعليم الأسينيين بناء على أن الناموس أُعطي بواسطة الملائكة (أعمال ٧: ٣٥ وغلاطية ٣: ١٩) وما جاء في نبوءة دانيال من أمر حراسة الملائكة للممالك (دانيال ١٠: ١٠ – ٢١) وبعضه من تعليم الغنوسيين إن جوهر الملائكة متوسط بين جوهر الله وجوهر الناس. وعبادة الملائكة محرمة في الإنجيل (رؤيا ٢٢: ٩).
مُتَدَاخِلاً فِي مَا لَمْ يَنْظُرْه هذا أيضاً من ضلال المضلين فإنهم ادعوا أنهم يعرفون الأسرار بالأحلام ورؤى الملائكة وأمثال ذلك.
مُنْتَفِخاً بَاطِلاً لأن التواضع الذي ادعاه المضلون لم يكن إلا ستراً لكبريائهم الوافرة كما قال الرسول في العلم الدنيوي (١كورنثوس ٨: ١). فإنهم انتفخوا بدعواهم أن لهم علماً فوق الطبيعة بما في السماوات من المساكن والسكان.
مِنْ قِبَلِ ذِهْنِهِ ٱلْجَسَدِيِّ وصف ذهنه «بالجسدي» لأن علمه غير مبني على الوحي أو الإيمان بل على آراء بشرية طبيعية. فالكلام هنا يشبه قول بولس في «ٱهْتِمَامَ ٱلْجَسَدِ هُوَ عَدَاوَةٌ لِلّٰهِ» (رومية ٨: ٧).
١٩ «وَغَيْرَ مُتَمَسِّكٍ بِٱلرَّأْسِ ٱلَّذِي مِنْهُ كُلُّ ٱلْجَسَدِ بِمَفَاصِلَ وَرُبُطٍ، مُتَوَازِراً وَمُقْتَرِناً يَنْمُو نُمُوّاً مِنَ ٱللّٰهِ».
أفسس ٤: ١٥ و١٦
غَيْرَ مُتَمَسِّكٍ بِٱلرَّأْسِ هذا علة كل الضلالات المذكورة فإن أوهام المضلين وتقاليدهم منعتهم من التمسك بالمسيح رأس الكنيسة. وأن عبادتهم الملائكة هي اتخاذ المخلوقات بدلاً من المسيح الذي هو المركز الوحيد لحياة الكنيسة ونموها وقوتها.
ٱلَّذِي مِنْهُ كُلُّ ٱلْجَسَدِ إن مثل هذه العبارة في رسالة أفسس (أفسس ٤: ١٥ و١٦) فارجع إلى التفسير هناك. ومقصوده الآية أنه يجب على كل مؤمن باعتبار كونه عضواً من جسد المسيح أن يقترن بالمسيح الرأس ولا يكتفي باقترانه بغيره من الأعضاء. والضمير في «منه» يرجع إلى الرأس مجازاً وإلى المسيح حقيقة.
بِمَفَاصِلَ وَرُبُطٍ، مُتَوَازِراً وَمُقْتَرِناً أشار «بالمفاصل والربط» إلى ما في الجسد الحقيقي من النظام والعضلات والأعصاب التي بها يرتبط بعض الأعضاء ببعض ويجزي فيها الشعور والحياة والتغذية من الرأس إلى كل الجسد. والمراد بها مجازاً أفراد المؤمنين في الكنيسة الذين نالوا باقترانهم بالمسيح واقتران بعضهم ببعض مواهب مختلفة وقوات ونعماً لنفع الجسد كله ولا سيما نموه الذي هو المقصود.
يَنْمُو نُمُوّاً مِنَ ٱللّٰهِ في القداسة والنفع للغير وهذا النمو مصدره الله وغايته مجد الله وشرطه الاتحاد الحي بيسوع المسيح الرأس. واختيار الكنيسة منذ نحو تسعة عشر قرناً يشهد بأن لا حياة لها ولا نمو إلا باقترانها المتين القلبي بالمسيح وأنها نمت نمواً سريعاً وحييت حياة كاملة وهي متمسكة بالمسيح وإنجيله.
٢٠ «إِذاً إِنْ كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ عَنْ أَرْكَانِ ٱلْعَالَمِ، فَلِمَاذَا كَأَنَّكُمْ عَائِشُونَ فِي ٱلْعَالَمِ، تُفْرَضُ عَلَيْكُمْ فَرَائِضُ».
رومية ٦: ٣ و٥ و٧: ٤ و٦ وغلاطية ٢: ١٩ وأفسس ٢: ١٥ ع ٨ غلاطية ٤: ٣ و٩
إِذاً أي بناء على ما سبق في (ع ١٨) من قوله «مدفونين معه».
إِنْ كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ كما كان حين آمنتم وكررتم إقراركم بالمعمودية مشتركين في موت المسيح على الصليب ونتائجه.
عَنْ أَرْكَانِ ٱلْعَالَمِ أي رسوم الدين الخارجية باعتبار كونها ضرورية للخلاص. وسبق ذكرها في الآية الثامنة. وكانت الكنيسة مفتقرة إليها في طفولتها مدة كونها قاصرة «وتحت أوصياء ووكلاء» (غلاطية ٤: ٣ و٤) قبل أن استعدت لحرية البالغين وحياتهم الروحية. ولكن كل تلك الأركان زالت حين مات المسيح (ع ١٤) وتحررت الكنيسة من عبوديتها (غلاطية ٢: ١٩ و٤: ٩).
ومن المعلوم أن بولس حين حذّر الكولوسيين من الرسوم اليهودية الخارجية ومما أُخذ من الفلسفة اليونانية لم يقصد أن يحذرهم ويحذرنا من ممارسة الرسوم المسيحية الظاهرة التي تفيدنا معاني روحية بشرط أن نستعملها للمنفعة الروحية المقصودة منها وأن لا نتكل على مجرد استعمالها ولا ننسب إليها أكثر مما تستحق لئلا نسلب لها بعض ما للمسيح.
فَلِمَاذَا كَأَنَّكُمْ عَائِشُونَ فِي ٱلْعَالَمِ الخ الاستفهام إنكاري والمراد أنه يجب أن لا يكونوا كذلك. ومعنى قوله «كأنكم عائشون في العالم» كأنكم من العالم لا من المؤمنين. والفرائض المذكورة هنا هي التي بُينت في الآية الآتية وهي ما لم يُكلف المسيحيون بها كما ظهر من قوله «لماذا» الخ.
٢١ «لاَ تَمَسَّ، وَلاَ تَذُقْ، وَلاَ تَجُسَّ؟».
١تيموثاوس ٤: ٣
لاَ تَمَسَّ الخ هذه من فرائض المضلين ذُكرت بياناً لتعاليمهم التي هي من «أركان العالم». والأمور الممنوعة بهذه الفرائض باعتبار أنها نجسة هي أطعمة وأشربة وما شاكلها من أسباب المعاش لم يحرمها الله. وهي من قواعد الزهد اعتقدها الذين يرون أن المادة مركز الإثم وأن إماتة الجسد قداسة. وكان بعض تلك المحرمات مما حُرم في شريعة موسى وبعضها مما أضافه الأسينيون ومن ذلك أكل الزيت واللحم ولمس الوثني.
٢٢ «ٱلَّتِي هِيَ جَمِيعُهَا لِلْفَنَاءِ فِي ٱلاسْتِعْمَالِ، حَسَبَ وَصَايَا وَتَعَالِيمِ ٱلنَّاسِ».
إشعياء ٢٩: ٣١ ومتّى ١٥: ٩ وتيطس ١: ١٤
ٱلَّتِي هِيَ جَمِيعُهَا لِلْفَنَاءِ فِي ٱلاسْتِعْمَالِ هذا كلام معترض فهو ليس من فرائض المضلين بياناً لأنواع ما حسبوه نجساً وحرموه وهي من الفانيات التي عيّن الله أنها تتلاشى بالاستعمال حسب قول المسيح «أَمَا تَفْهَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ ٱلإِنْسَانَ مِنْ خَارِجٍ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ إِلَى قَلْبِهِ بَلْ إِلَى ٱلْجَوْفِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى ٱلْخَلاَءِ، وَذٰلِكَ يُطَهِّرُ كُلَّ ٱلأَطْعِمَةِ» (مرقس ٧: ١٨ و١٩ قابل بهذا ١كورنثوس ٦: ١٣).
وإذ كان الله قد عيّن تلك الأطعمة للاستعمال وللفناء به لم يكن للمضلين أن يحرموها لأنه لا تأثير دائم لها في من يتناولها حسب قول الرسول «لٰكِنَّ ٱلطَّعَامَ لاَ يُقَدِّمُنَا إِلَى ٱللّٰهِ، لأَنَّنَا إِنْ أَكَلْنَا لاَ نَزِيدُ وَإِنْ لَمْ نَأْكُلْ لاَ نَنْقُصُ» (١كورنثوس ٨: ٨).
حَسَبَ وَصَايَا وَتَعَالِيمِ ٱلنَّاسِ هذا متعلق بالفرائض (ع ٢٠) وصفة لها أُتي بها بياناً لكون المؤمنين غير مكلفين بحفظها لأن مصدرها من الناس لا سلطان لها غير قولهم ومقابلة للوصايا الإلهية. وهو موافق لقول المسيح للفريسيين «قَدْ أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ ٱللّٰهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ!… وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا ٱلنَّاسِ» (متّى ١٥: ٦ و٩).
٢٣ «ٱلَّتِي لَهَا حِكَايَةُ حِكْمَةٍ، بِعِبَادَةٍ نَافِلَةٍ، وَتَوَاضُعٍ، وَقَهْرِ ٱلْجَسَدِ، لَيْسَ بِقِيمَةٍ مَا مِنْ جِهَةِ إِشْبَاعِ ٱلْبَشَرِيَّةِ».
١تيموثاوس ٤: ٨ ع ١٨
ٱلَّتِي لَهَا حِكَايَةُ حِكْمَةٍ هذا نعت «لوصايا وتعاليم الناس». و«الحكاية» هنا المشابهة فالمعنى أنها تشبه الحكمة ويدعي أهلها أنها حكمة وليست إياها. وهذه المشابهة قائمة بثلاثة أمور ذُكرت في هذه الآية.
بِعِبَادَةٍ نَافِلَةٍ أي فوق ما فرضه الله وهي جهلية لأنها باطلة بدليل قول المسيح «بَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا ٱلنَّاسِ» (متّى ١٥: ٩). وفيها تمرد على الله باتخاذ مشيئة الإنسان بدل مشيئة الله. ومن ذلك عبادة الملائكة المذكورة في الآية الثامنة عشرة.
وَتَوَاضُعٍ وهذا ذُكر أيضاً في الآية الثامنة عشرة وهو تواضع على ما يظهر للناس من الإمارات الخارجية لا تواضع قلبي أمام الله.
وَقَهْرِ ٱلْجَسَدِ بعدم الاعتناء الواجب من طعام وكسوة وسهر والتعرض للحر والبرد باعتبارهم أن الجسد مركز الخطيئة فأوجبوا أن يهان ويُعذب لكي تتطهر بآلامه.
لَيْسَ بِقِيمَةٍ مَا أي ذلك للقهر لا ينفع شيئاً للغاية المطلوبة ولذلك كان بلا قيمة.
إِشْبَاعِ ٱلْبَشَرِيَّةِ أي إزالة قوة الشهوات الطبيعية على استعبادها الإنسان وحملها إياه على ارتكاب المحظورات. ادعى أولئك المعلمون المضلون أنه بواسطة قهر الجسد مراعاة لفرائض في الآية الحادية والعشرين تُكبح الشهوات البشرية وتُكسر قوة التجربة بها حتى لا يستطيع الجسد أن يقاوم الروح ويستعبدها ولكن صرّح الرسول هنا أنه لا نفع من حفظ تلك الفرائض لانتصار النفس على شهوات الجسد. فاختبار كل العالم يشهد بصحة كلام الرسول فإن كل قوانين الناس الجائرة على الطبيعة الإنسانية والنذور الزهدية لا تمنع من ارتكاب الإثم بل تنشئ الكبرياء والاتكال على البر الذاتي فالواسطة الوحيدة إلى كبح الشهوات هي نعمة الله وتجديد القلب بالروح القدس.
السابق |
التالي |