
القديس أوغسطينوس هو أحد أبرز رجال الكنيسة الغربيّة، وهو المفكر اللاهوتي الأكثر تأثيرًا في رؤيته للقضايا اللاهوتية في عصره، والأجيال التي خلفته، وهو الفيلسوف الذي دَرَس الفلسفة والحكمة فكان نابغة عصره، وعرف كيف يُحاور ويرد على الذين يشككّون في الإيمان المسيحي، أو أولئك الذين لم يدركوا الحقائق المسيحية القويمة، كان خطيبًا مُفوَهًا، دَرَس الخطابة وعلمَها، كان راعيًا عرف كيف يرعى شعبه رغم كل مسؤولياته المتعددة، وكتاباته الوفيرة.
وقد وُلِد القديس أوغسطينوس في الشرق، في بلدة من بلدان القارة الأفريقية، لكن صيته وسمعته .. إيمانه وعلمه .. فاض في الكنيسة الغربية، وإليه يعود الإصلاح الكنسي على يد “مارتن لوثر” تلميذ رهبنته، الإصلاح الذي أعاد وأصلح ما أفسدته عصور الظلام.
وقصة القديس أوغسطينوس هي قصة كل إنسان افتقدته نعمة ومحبة الله المُخلصة وعرف فاعلية عمل المسيح في حياته فصار ابنًا لله، بعد أن كان مولودًا في الخطيئة وعاش فيها، وتمرَّغ في أوحالها.
أوغسطينوس .. قصة حياة
في مدينة تاجست، في مقاطعة نوميديا، المعروفة الآن بـ “سوق أخرس” قُرب بلدة عنابة بالجزائر، عاش رجل يُدعى باترسيوس Patricius وهو رجل من قبائل البربر، لكنه تمتع بالجنسية الرومانية، وثني الديانة، متوسط الحال، عضوًا في مجلس المدينة، هذا الرجل تزوج من مونيكا Monica وهي فتاة من عائلة مسيحية، قَبِلت التعاليم المسيحية من والدتها، ومربيتها، وعاشت خلال رحلة حياتها في محبة عظيمة للرب يسوع الذي آمنت به، وكم تمنت وصلَّت كثيرًا من أجل خلاص ابنها ومعرفته لعمل المسيح الفدائي وقَبوله مخلصًا لحياته.
لهذه الأسرة وُلِدَ الطفل أوغسطينوس Augustin في 23 من شهر نوفمبر سنة 354 ميلادية، ومع أن أوغسطينوس يُعتبر من البربر، إلا أنه كان متمتعًا بالجنسية الرومانية.
كان أوغسطينوس ومعنى اسمه ملك صغير، هو الطفل الأول في هذه العائلة التي رُزقت بأبناء آخرين لم يذكر لنا التاريخ غير اسم واحد منهم هو تافيجيوس Tavigius، وأخت نعرف أنها آمنت بالسيد المسيح، وصارت فيما بعد رئيسة لأحد الأديرة.
عاش القديس أوغسطينوس حياة حافلة ومثيرة، ففي خلال مراحل حياته المختلفة كان نموذجًا للشاب الباحث وراء العلم .. الطموح .. الشهواني .. الابن المرتبط بأمه والمحبوب منها .. الدارس للعلم والفلسفة والخطابة .. القارئ الجيد والكاتب الماهر .. الكاهن والأسقف .. الراعي المحبوب لدى شعبه.
أضواء على حياة أوغسطينوس
* مراحل تعليمه الأولى
كان التعليم آنذاك ينقسم لثلاث مراحل، الأولى يُعتبر تمهيديًا يدرس خلاله القراءة والكتابة، أما المرحلة الثانية فكانت إعدادية وتهتم بدراسة الشعر وقواعد البيان واللغة، والمرحلة الثالثة هي مرحلة التعليم العالي وكانت تختص بدراسة الخطابة والفلسفة.
1) دراسته في تاجست
التحق أوغسطينوس بالمدرسة الابتدائية في مدينته “تاجست” وتعلَّم فيها. وعن هذه المرحلة الأولى من حياته كتب في كتابه “الاعترافات” يقول: “وضعونى في المدرسة، طلبًا للعلم، وكنت غبيًا فلم أجد لها نفعًا وفضلًا عن ذلك، إن تكاسلت ضربوني وكان كبار القوم يعدون أسلوب الضرب أسلوبًا ممتازًا ..” ورغمًا عن ذلك فقد عرف أوغسطينوس الصلاة صغيرًا، وعرف أن هناك إلهًا قديرًا يحكم الكون وينصت لطالبيه، فكتب يقول “ومع ذلك فقد وجدنا أناسًا يصَلُّون، فأدركنا منهم قدر ما سمحت لنا معرفتك بك أن في الكون شخصًا، وإن خرج عن نطاق حواسنا، قديرًا ينصت إلينا ويساعدنا، وعندئذ أخذتُ صغيرًا أصلي لك يا ملجأي وحماي، فحطمت قيود لساني وإليك توسلت وابتهلتُ أنا الصغير، الحقير”.
2) دراسته في مادورا 365م
وحين أتم المرحلة التعليمية الأولى أرسله أبواه إلى معهدٍ شهير في مدينة مادورا ليدرس القواعد والبيان. لم تكن هذه الفترة توافق مزاج أوغسطينوس، فكم من مرة يعترف بأنه أُجبر على دراسة العلوم وهو لا يرغبها، وأبى أن يتعلم اللغة اليونانية، وحين عرف ما لقيمة هذه اللغة في دراسة الكتاب المقدس تسائل يومًا، “لماذا نفرتُ من اللغة اليونانية وقد باشرت درسها صغيرًا؟ إن لم تكن الخطيئة قد جعلت اليونانية مكروهة لديّ، فأي شيء هو إذًا!”؟ على أن القديس أحب دراسة اللاتينية وواظب على درسها وتعلَّم الكثير عنها ومنها، فدرس آدابها وخاصةً أدب شيشرون الخطيب المشهور والمُفوه آئنذاك. وحين جاء عام 369م كان عامًا من الفساد في حياة الشاب أوغسطينوس، رغمًا عن كل محاولات أمه لحمايته من الوقوع في براثن الشر والرذيلة.
* أوغسطينوس في قرطاجة 370م
كانت تجمع والديه رغبة في تعليمه الدرس والعلم والثقافة، وحين جاءت الفرصة لِيُكمِل تعليمه سافر إلى قرطاجة بالقرب من تونس الحالية، ليتلقى علومه ودراسته العليا، وقد كانت قرطاجة مدينة العلم التي بناها وشيّدها الرومان في أفريقيا.
لم يستقر أوغسطينوس في قرطاجة حتى تعرف على فتاة فقيرة صارت له عشيقة، وعاشا معًا نحو أربعة عشر عامًا أنجب خلالها ابن دعاه اديوداتوس Adeodatus، يقول عن هذه العلاقة “اتخذت لي زوجة ولم تكن شرعية، اتخذتها إشباعًا لشهوة جامحة ولم يكن لديَّ سواها وحفظت معها جميع عهودي، ثم تحققت تمامًا من الفرق بين الميثاق الزوجي المعقود في سبيل إعطاء الحياة وبين ما يرتكز على إشباع اللذة الحيوانية إيلادًا للبنين”، ورغم أن هذا الأمر لم يكن غريبًا في ذلك العصر، إلا أن والدته رفضت هذه العلاقة وعملت على خلاص ابنها منها.
في هذه الفترة انكب أوغسطينوس وواظب على درس علومه بشغف ونهم، وأصبح تَوَّاقًا للنجاح والتفوق على أقرانه، ولم يكن هذا التغيير عن رغبة في التعلّم الخالص، بل في سبيل أن يحظى بتمجيد الناس له، على أن أوغسطينوس عرف من خلال دراسته شيئًا هامًا وهو أن الحق وحده هو الذي يقود الإنسان إلى السعادة.
* أوغسطينوس في روما 383م
ما أن وصل أوغسطينوس إلى روما حتى تقابل مع الأسقف أمبرسيوس Ambroiseus أسقف ميلانو، وقد كان أمبرسيوس خطيبًا مفوهًا، مما جذب إليه أوغسطينوس، وحين جاءه أوغسطينوس لم يجده خطيبًا مقتدرًا فقط، بل عالمًا قوي الحجة والمنطق، دارسًا للكتاب المقدس وقادرًا على صياغة المفاهيم الروحية، ووجده راعيًا يجيد التعامل مع رعيته، فتوطدت العلاقة بين الشاب أوغسطينوس والأسقف والمعلم أمبرسيوس. يقول عن هذه العلاقة “استقبلني رجل الله الشهير استقبال أب لابنه، وأظهر لي كل عاطفة طيبة في قلب أسقف، وأخذت أحبه”. لقد كان لقاء أوغسطينوس مع أسقف ميلانو عاملًا أدى لثورة في أفكار وحياة أوغسطينوس فيما بعد. أصبحت قراءة الكتاب المقدس عند أوغسطينوس ليست غريبة، وكان يستطيع أن يتعرف على الكثير منها، رغم عدم إيمانه الكامل بحقائق الكتاب حتى ذلك الحين.
وفي هذه الأثناء جاءت أمه مونيكا لتكون بجانبه، ولتعمل على تخليصه من عشيقته، فاستجاب لها، وترك عشيقته ترحل لبلادها، بينما احتفظ بابنه اديوداتوس الذي أحبه ورأى فيه الكثير من الذكاء والنبوغ والعبقرية.
ذات يوم روى سمبليشيانوس وهو صديق لأوغسطينوس، عن صديقه فيكتوريانوس، الذي كان يعمل أستاذًا للفلسفة، ومعروفًا بوثنيته الشديدة، كيف قَبِلَ المسيح مخلصًا شخصيًا لحياته، وآمن به ربًا على حياته مما أثَّر في أوغسطينوس تأثيرًا بالغًا، في مرحلةٍ كان الإيمان يعرف طريقه إلى حياة الشاب أوغسطينوس.
* توبة أوغسطينوس 386م
كان أوغسطينوس يسكن مع صديق له اسمه اليبوس، وذات يوم جاءهما صديق ثالث يدعى بونتسيانوس، كان هذا الصديق يعمل في منصب حكومي كبير، وحين رأى الكتاب المقدس في منزلهما ظن أنهما من المسيحيين المؤمنيين، ففرح وراح يسرِد لهما بعض الحكايات والأمور عن الراهب المصري القديس أنطونيوس، الذي قال عنه أوغسطينوس فيما بعد “عجبنا لجهلنا إنسانًا يشهد على مقربة منا لعجائبك التي أجريتها بقوة نعمتك في إطار الإيمان الصحيح، ضمن كنيستك”، ثم يقول: “وفيما كان بونتسيانوس يَروي لنا هذه الأخبار كنت أنت أيها الرب توجّهني نحو نفسي .. وفيما كنت أشيح بنظري إلى الوراء لئلا أقابل نفسي وجهًا لوجه، كنت أنت تضعني أمام نفسي لأرى ما أنا عليه من الشناعة والقبح والقروح والأدناس، رأيت نفسي فخفتُ، ولكن أين المفر؟. إن أشحتُ بوجهي عني وجدت أمامي بونتسيانوس يقصُ عليَّ أخباره فتعود بي من جديد إلى ما كنت عليه سابقًا وتُصوِّب عليَّ نظراتي .. وفي أثناء تلك المعركة الضارية التي زرعت القلق في داخلي، هرعت إلى اليبوس، قلق الفكر والمحيَّا وصرخت قائلًا: ماذا نعمل هنا؟. وماذا سمعت؟. الجهال يغتصبون السماء اغتصابًا ونحن بعلمنا الفارغ، نتمرغ في اللحم والدم ! لماذا نخجل من اللحاق بهم؟”.
كان الله يتعامل مع أوغسطينوس في مراحل عمره المختلفة، حتى وإن كان أوغسطينوس في هذه الأثناء لا يدرك معاملات الله له، فقد تحدث الله إليه في موت صديقه، وفي دراسته للفلسفة، وفي قراءته للكتاب المقدس، ومن خلال عظات الأسقف أمبرسيوس، وفي تعاليم وصلوات أمه، وها هو يتكلم إليه بحديث خاص وشيّق عن الراهب القديس أنطونيوس، ذلك الحديث الذي أخجله وجَعَل نفسه تثُور فيه، فيخرج إلى حديقة المنزل الذي يسكنه، وهناك في الحديقة ووسط أزمته وتساؤلاته الحائرة، راح يبحث عن الحقيقة، ويتأمل فيما صنعه الله معه، كان حائرًا يائسًا، لكن أمامه أملًا في أن يلتقي بالحقيقة، يلتقي بالله. وحين كتب يشرح هذه اللحظات التي جعلت منه قديسًا في المسيح قال “ذهبت إلى البستان تحت تأثير العاصفة التي عصفت بقلبي دون أن يقوى أحد على تهدئتها، وحدك يا رب تعرف حدًا لذاك الاضطراب، أما أنا فقد كنت أجهله، رغم أني كنت أسير نحو الشفاء وأموت عن الحياة الأرضية الزائلة، مدركًا ما كنت عليه من إثم، جاهلًا ما سأصير إليه من صلاح قريب .. انفردت في الحديقة فلحق بي اليبوس، خطوة خطوة، ومع أنه كان بجانبي بقيت أشعر بوحشة .. جلست ارتجف بشدة غضبًا لكوني لم أقبل مشيئتك وميثاقك يا إلهي، تعذَّبت ونقمتُ بشدة على نفسي، تقلَّبتُ وتململتُ في قيودي وكدتُ أحطمها، لكنني بقيت موثقًا بأحد قيودها الضعيفة .. بقيت متأرجحًا بين الموت عن الموت، والحياة للحياة، استوقفتني الأباطيل والشقاوة التعسة، خليلاتي القديمات لقد كن تشدني بطرف ثوبي اللحمي وتهمس في أذني قائلة: هل تطردنا حقًا؟ أنتركك حقًا منذ الآن وإلى الأبد؟. ثم انخفض صوتها كثيرًا فتجلت أمامي اليوم قيمة العفاف، ورن السؤال ” هل يمكنك أنت أن تعمل ما تصَّل إليه؟ أولئك لم يصلوا إلى ما هم عليه بقدرتهم الشخصية، بل بقوة يسوع المسيح، الرب إلههم أرسلني إليك. وأنت فما بالك تتردد بين نعم ولا؟. ألق بنفسك بين يديه ولا تجزع فإنه لا يتخل عنك ولا يدعك تسقط .. وإذ كنت بكُليتي غائصًا في بحر من التفكير والتأمل .. قلت حتى متى يا رب؟. حتى متى تظل غاضبًا؟. لا تذكر آثامنا السالفة، قلت هذا لأن آثامي مازالت تقيدني، وأجهشت بالبكاء وصرخت حتى متى يا رب؟ أغدًا أم بعد غدٍ؟ ولماذا لا يكون في الحال؟ ولماذا لا أضع الآن حدًا؟ .. نطقت بهذا الكلام وبكيت بكاءًا مرًا بقلب منسحق، فطرق أذني بغتةً صوت من خارج من بيت جيران خُيّل إليّ أنه صوت صبي أو صبية يغني مرددًا: “خذ واقرأ! خذ واقرأ! امتقع لوني وأصغيت بكُليتيّ .. ومن ثمَّ حبست دموعي ونهضت لأني رأيت في ذلك الصوت نداءً سماويًا يدعوني إلى أن أفتح كتاب الرسول بولس وأقرأ أول فصل يقع عليه نظري عفوًا، ولقد سمعت في الماضي أن القديس أنطونيوس اتعظ بعبارة من الإنجيل سمعها ذات يوم فطبقها على نفسه: “اذْهَبْ وَبِعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَراءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنزٌ فيِ السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنيِ” (متى 19 :21). واهتدى القديس أنطيونيوس إليك يا رب لدى سماعه ذاك الكلام.
عُدت مسرعًا إلى حيث تركت كتاب الرسول بولس فأخذته وفتحته وقرأت سرًا أول فصل وقع نظري عليه: “لِنَسْلُكَ بِلَيَاقَةٍ كَمَا فيِ النَّهَارِ لاَ بِالبَطَرِ وَالسُّكْرِ لاَ بِالمَضَاجِعِ وَالعَهَرِ لاَ بِالخِصَامِ وَالحَسَدِ بَلْ الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ المَسِيحَ وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيرًا للِجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ” (رومية 13:13 -14).
وعندما قصّ أوغسطينوس على صديقه اليبوس ما حدث له، وأراه النص الكتابي الذي طالعه، أخذ اليبوس الكتاب وقرأه واستمر في القراءة حتى وصل إلى (رومية 14 :1) وكان يقول: “وَمِنْ هُوَ ضَعِيفٌ فيِ الإِيمِانِ فَاقْبَلُوهُ”، واعتبر اليبوس أن هذا النص يشمله هو أيضًا، فقاما معًا ليخبرا مونيكا أم أوغسطينوس التي صلَّت مرارًا لأجل خلاص ابنها فكان فرحها لا يُوصف بهذا الخبر السار، وراحت تبارك الله الذي استجاب لدموعها التي ذرفتها أمامه حتى يستجب صلاتها، وها هو يحقق رجاءها ويشفي نفس ابنها لتضمن خلاصه الأبدي، ولم تمضِ فترة من الوقت حتى ربحت زوجها باترسيوس للمسيح، وقد كانت هذه كل أمانيها، كتب عنها أوغسطينوس في اعترافاته: “وفي أيامها الأخيرة على الأرض اكتسبت زوجها إليك، وما أن أصبح مسيحيًا حتى زال عنها كابوس الغم والحزن الذي سيطر عليها قبل اهتدائه، لقد كانت “خادمة خدامك” وكل من عرفها سبَّحك كثيرًا وعظمَّك وأحبك فيها.. ربَّت أولادها ثم ولدتهم ثانية حين ابتعدوا عنك.. وبعد أن قبلنا نعمة عمادك رحنا نحيا من حياتها”. وبعد أن رأت خلاص أولادها، واديوداتوس ابن ابنها أوغسطينوس، لم يمض من الزمن الكثير حتى رقدت في الرب، وكان أوغسطينوس يبلغ من العمر حينذاك 33 عامًا.
أوغسطينوس بعد الإيمان
بعد أن آمن أوغسطينوس بالمسيح، وملَّكه ربًا وسيدًا على حياته، تبدًّلت وتغيَّرت حياته تمامًا، وتغيرت نظرته للأمور الدنيوية والعالم الحاضر فأصبحت تدور في نطاق خدمة الله العليّ، لقد تأثر أوغسطينوس كثيرًا برسول المسيحية بولس حين اختلى بعيدًا عن العالم وأصدقائه، كما أنه كان متأثرًا بحياة الراهب المصري أنطونيوس، فقرر أن يختلي بنفسه مع إلهه، مصلّيًا ومتأملًا وباحثًا عن إرادة الله، ومستقبل حياته.
خرج أوغسطينوس من عزلته، وكان قد قرر قطع علاقته بماضيه الآثم، ليكرس نفسه تمامًا لخدمة الله، ورجع عائدًا إلي بلدته تاجست، حيث أسس ما يشبه ديرًا للتعبد عاش فيه مع بعض أصدقائه (اليبوس ونيريدوس، وأديوداتوس ابنه) نحو ثلاث سنوات، حيث كان يقوم بدراسة كلمة الله، الكتاب المقدس، وكتابة هذه التأملات في شكل دراسات وكتيبات، وكتب يوزعها على من يرغب في التعلُم ومعرفة الله وكلّمِته.
أوغسطينوس كاهنًا وأسقفًا
سرعان ما ذاع صيت أوغسطينوس، وتقواه، وعلمِه، حتى إن الأسقف “فاليروس” أسقف مدينة هيبو، طلب إليه أن ينضم إلى الخدمة الكهنوتية، وبكل خشوع قَبِل أوغسطينوس هذه الدرجة الكهنوتية ليصبح كاهنًا في عام 391م، وكان عليه أن يقوم بمهمة الوعظ والإرشاد الديني والدفاع عن الإيمان ضد الهرطقات، مما حبب إليه الشعب، وقرَّبه من “فاليروس” أكثر، فأوكل إليه إعداد المجمع الأفريقي الذي عُقِد في 393م، فكانت هذه انطلاقة أوسع لخدمة أوغسطينوس فيما بعد.
حين تقدم الأسقف فاليروس في العمر وإذ كان يحب شعبه، ويرى أن أوغسطينوس هو الأفضل في أن يتولى القيادة خلفًا له، عرض الأمر على أوريليوس أسقف قرطاجة وبقية أساقفة المجمع، فوافقوا على طلبه وَسِيم أوغسطينوس أسقفًا على مدينة هيبو، وظل أسقفًا لها لمدة ثمانية وثلاثين عامًا، حتى انطلق إلي سماء المجد في 28 أغسطس عام 430 ميلادية، لتكون أيام عمره على الأرض، نحو ستة وسبعون عامًا. بعدما أثرى الكنيسة عِلمًا وفكرًا ولاهوتًا، جعل منه مؤسسًا للإصلاح الذي شهدته الكنيسة على يد المصلحين الكبار، مارتن لوثر .. كلفن .. زونجلي، هؤلاء الذين استخدمهم الله سببًا في بركة الكنيسة.
من خدمة أوغسطينوس
بعدما رجع أوغسطينوس إلى تاجست، اهتم بتأسيس جماعة “خدام الله”، وقد اعتمدت هذه الجماعة حياة النسك والرهبنة والعزلة عن العالم، وعندما اختير ليكون قسًا، طلب أن يؤسس ديرًا للرهبنة، بل قام أيضًا بتأسيس دير للراهبات، وحين أسند إليه الأسقف فاليروس مهمة الوعظ كان بارعًا، لكنه لم يقف عند هذا الحد، بل شرع في تأسيس كلية لاهوت للتعليم الديني تخرج فيها عشرة أساقفة وعدد كبير جدًا من الكهنة، كما اهتم بتنظيم الكنائس المحلية، وعمل على حل بعض المشكلات المادية والاجتماعية لرعيته، بل وللوثنيين أيضًا.
أما عن خدمة الكتابة والتأليف والرد على الهرطقات، فقد كتب الكثير من الكتب والمقالات الدفاعية ليرد بها على الهرطقات والتعاليم المضلة في وقته، ومن أشهرها الآريوسية.
وعن كتاباته الأخرى فإن كتاب “الاعترافات” يُعد من أهمها، وقد كتب كُتبًا وبُحوثًا عقائديّة، وأخلاقيّة، وكتب في شرح الكتاب المقدس، وغيرها من الكتب الروحية.
دروس من حياة أوغسطينوس
- محبة الله تشمل كل الخليقة، ولا يوجد إنسان لا تستطع محبة الله أن تشمله، وتغفر له ذنوبه، وتطهره من آثامه، وتمنحه البر الذي في المسيح.
- توجد أعظم فرصة لأعظم خاطئ يدوام على قراءة الكتاب المقدس، كما يوجد أعظم خطرٍ لأعظم قديس يهمل قراءة الكتاب المقدس.
- معرفة الأطفال للكتاب المقدس، تكون بمثابة بذرة في أرض جيدة، فحين تتأصل فيهم وهم أطفالٌ، تستطيع أن تحفظهم عندما يكبرون.
- التوبة الصادقة، والاعتراف بعمل المسيح الخلاصي مفتاح الحياة الطاهرة النقية، وطريق الحياة الأبدية.
- الصلاة الحقيقية النابعة من قلب محب لا تضيع سُدىً، وهكذا كانت صلاة مونيكا أم أوغسيطنوس، لابنها وزوجها تأكيدًا لقول الكتاب المقدس “كَذَلِكُنَّ أَيْتَهُاَ النِّسَاءُ كُنَّ خَاضِعَاتٍ لِرِجَالِكُنَّ حَتىَ وَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ لاَ يُطِيعُونَ الْكَلِمَةَ يُرْبحَوُنَ بِسِيرَةِ الْنِّسَاءِ بِدُونِ كَلِمَةٍ” (1بطرس 3 :1).
- القديسون هم رائحة بخور ذكية، فبقداستهم يؤثرون فيمن حولهم، وفي معاصريهم، ولاحقيهم، ويصنعون التاريخ المضيء في حياة الكنيسة.