أعمال الرسل

أعمال الرسل | 25 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح سفر أعمال الرسل 

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الخامس والعشرون

بولس أمام فستوس ورفعه دعواه إلى قيصر ع ١ إلى ١٢

١ «فَلَمَّا قَدِمَ فَسْتُوسُ إِلَى ٱلْوِلاَيَةِ صَعِدَ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ قَيْصَرِيَّةَ إِلَى أُورُشَلِيمَ».

فَسْتُوسُ والٍ وصفه المؤرخون بالعدل والاستقامة تولى نحو سنتين ومات وهو والٍ خلافاً لأكثر من سلفه من الولاة.

بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ منها يوم وصوله إلى قيصرية ويوم سفره منها إلى أورشليم فإذاً لم يسترح في قيصرية سوى يوم واحد لبلوغه إياها. وهذا دليل على نشاطه وإمضائه أمور ولايته.

إِلَى أُورُشَلِيمَ أنها أكبر مدن ولايته وأهمها وليجتمع برؤساء أمة اليهود ولولا ذلك ما استطاع أن يعرف أحوال ولايته حق المعرفة. ولكن الحكومة الرومانية استحسنت أن تجعل قيصرية قصبة الولاية ومسكن ولاتها.

٢ «فَعَرَضَ لَهُ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ وَوُجُوهُ ٱلْيَهُودِ ضِدَّ بُولُسَ، وَٱلْتَمَسُوا مِنْهُ».

ص ٢٤: ١ وع ١٥

فَعَرَضَ أي جدد الشكوى التي كانت على بولس منذ سنتين وسكت اليهود عنها تلك المدة يأساً من استفادتهم من تجديدها أمام فيلكس. وهذا دليل على أهمية المسئلة بين بولس واليهود عند أعضاء مجمع السبعين وعلى شدة بغضهم لبولس وعلى أنه اعتبر من أعظم الوسائل إلى نشر الدين المسيحي وانحطاط سلطانهم على الشعب. وكان بغضهم ليسوع أعظم علل بغضهم لرسوله الغيور الأمين.

رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ هو اسماعيل بن فابي على قول يوسيفوس لا حنانيا المذكور في (ص ٢٣:٢). والذي جعل حنانيا عدواً لبولس جعل إسماعيل عدواً له أيضاً وهو كونه ركناً لدين يسوع الناصري.

وَوُجُوهُ ٱلْيَهُودِ هم أعضاء المجمع كما سبق في (ص ٤: ٥ و٨: ٢٣ و٢٣: ١٤ و٢٤: ١).

٣ «طَالِبِينَ عَلَيْهِ مِنَّةً، أَنْ يَسْتَحْضِرَهُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَهُمْ صَانِعُونَ كَمِيناً لِيَقْتُلُوهُ فِي ٱلطَّرِيقِ».

ص ٢٣: ١٢ و١٥

طَالِبِينَ عَلَيْهِ مِنَّةً ظنوا حداثة توليه عليهم علة لرغبته في اتخاذهم أصدقاء وأنه يرى طلبتهم وسيلة سهلة إلى ذلك. والفرق زهيد بين طلب تعويج الحق منة وتعويجه بالرشوة.

وَهُمْ صَانِعُونَ كَمِيناً الخ طلبهم إلى فستوس أن يستحضر بولس للمحاكمة في أورشليم خداع لأن قصدهم من ذلك تمهيد السبيل إلى قتل بولس قبل وصوله إليهم وكان القتلة قد تآمروا واتفقوا مع أعضاء المجمع على المكيدة كما فعلوا سابقاً (ص ٢٣: ١٢).

كان من علامات سقوط الشعب اليهودي ديناً وأدباً وإشرافهم على الدمار أن مجمعهم الأعظم يعتمد الخداع والقتل.

٤ «فَأَجَابَ فَسْتُوسُ أَنْ يُحْرَسَ بُولُسُ فِي قَيْصَرِيَّةَ، وَأَنَّهُ هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَنْطَلِقَ عَاجِلاً».

أبى فستوس إجابتهم إلى ما طلبوا بناء على أن بولس محجور عليه في قيصرية معد للمحاكمة وأن فستوس نفسه عازم على الرجوع إلى قيصرية سريعاً فلا يوافقه أن يبقى في أورشليم ليحضر محاكمته فيها. ولا نعلم كل الأسباب الحقة لإباءته ولعله خاف أن تكون المحاكمة في أورشليم على شغب واضطراب. ولعل فيلكس أو ليسياس أخبره بالكمين الذي صنعوه لقتل بولس فخشي مثله حينئذ. وأعظم العلل أن الله الذي وعد بولس بأنه يشهد للحق في رومية (ص ٢٣: ١) حمل فستوس في (ع ١٥) لأغريباس الملك ما طلبه رؤساء اليهود بأحسن إيضاح وقال انهم سألوه أولاً الحكم عليه بلا فحص وأنه بعدما أجابهم «بأن ليس للرومانيين عادة أن يسلموا أحداً للموت قبل أن يكون المشكو عليه مواجهة مع المشتكين فيحصل على فرصة للاحتجاج عن الشكوى» طلبوا إليه أن يستدعيه إلى أورشليم.

أَنْ يَنْطَلِقَ إلى قيصرية.

٥ «وَقَالَ: فَلْيَنْزِلْ مَعِي ٱلَّذِينَ هُمْ بَيْنَكُمْ مُقْتَدِرُونَ. وَإِنْ كَانَ فِي هٰذَا ٱلرَّجُلِ شَيْءٌ فَلْيَشْتَكُوا عَلَيْهِ».

ص ١٨: ١٤ وع ١٨

فَلْيَنْزِلْ الفاء هنا سببيّة والمعنى إذ لم يناسب أن أستدعي بولس إلى هنا.

مَعِي إلى قيصرية.

مُقْتَدِرُونَ أن يتوبوا عن المجمع لأنهم من أعضائه أو لأن المجمع عيّنهم وأنهم أهل للشكوى لمعرفتهم الأمور المتعلقة.

وَإِنْ كَانَ فِي هٰذَا ٱلرَّجُلِ شَيْءٌ أي ذنب أو علة كافية للشكوى.

٦ «وَبَعْدَ مَا صَرَفَ عِنْدَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ٱنْحَدَرَ إِلَى قَيْصَرِيَّةَ. وَفِي ٱلْغَدِ جَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِبُولُسَ».

ما في هذه الآية دليل على نشاطه للعمل وأمانته في الوعد.

كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ (ص ١٢: ٢١ و١٨: ١٢).

٧ «فَلَمَّا حَضَرَ، وَقَفَ حَوْلَهُ ٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ كَانُوا قَدِ ٱنْحَدَرُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ، وَقَدَّمُوا عَلَى بُولُسَ دَعَاوِيَ كَثِيرَةً وَثَقِيلَةً لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُبَرْهِنُوهَا».

مرقس ١٥: ٣ ولوقا ٢٣: ٢ و١٠ وص ٢٤: ٥ و١٣

حَوْلَهُ أي حول كرسي الولاية.

ٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ كَانُوا قَدِ ٱنْحَدَرُوا بأمر الوالي نواباً عن مجمع اليهود.

دَعَاوِيَ كَثِيرَةً وَثَقِيلَةً وهي معروفة مما ذُكر سابقاً في (ص ٢٤: ٥ و٦) ومن جواب بولس عليها في الآية الآتية.

لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُبَرْهِنُوهَا فإن قيل لماذا قدموا شكايات لم يستطيعوا إثباتها قلنا أنهم اتكلوا على كثرة عددهم وعلى رفع أصواتهم وعلو منزلتهم حاسبين أن ذلك يقوم مقام الشهود والأدلة ويغني عنها.

٨ «إِذْ كَانَ هُوَ يَحْتَجُّ: أَنِّي مَا أَخْطَأْتُ بِشَيْءٍ، لاَ إِلَى نَامُوسِ ٱلْيَهُودِ وَلاَ إِلَى ٱلْهَيْكَلِ وَلاَ إِلَى قَيْصَرَ».

ص ٦: ١٣ و٢٤: ١٢ و٢٨: ١٧

في هذه الآية خلاصة جواب بولس على دعاويهم ومنها نستنتج أسلوب شكواهم وماهيّة تلك الدعاوي.

لاَ إِلَى نَامُوسِ ٱلْيَهُود نفى بذلك شكواهم أنه رفض ناموس موسى بسيرته أو تعليمه وصرّح بأنه لم يزل يهودياً مع كونه مسيحياً.

وَلاَ إِلَى ٱلْهَيْكَلِ نفى دعواهم أنه شرع في أن يدنس الهيكل.

وَلاَ إِلَى قَيْصَرَ نفى دعواهم أنه هيّج فتنة على السلطة الرومانية. وهذه الدعاوي الثلاث هي خلاصة ما اشتكى به ترتلس عليه منذ سنتين ص ٢٤: ٥ و٦) وقيصر اسم لكل أمبراطور روماني وأول أمبراطور سُمي به هو الأمبراطور يوليوس ثم أوغسطس ثم طيباريوس ثم كاليغولا ثم كلوديوس ثم نيرون.

٩ «وَلٰكِنَّ فَسْتُوسَ إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُودِعَ ٱلْيَهُودَ مِنَّةً قَالَ لِبُولُسَ: أَتَشَاءُ أَنْ تَصْعَدَ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِتُحَاكَمَ هُنَاكَ لَدَيَّ مِنْ جِهَةِ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ؟».

ص ٢٤: ٢٧ ع ٢٠

إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُودِعَ ٱلْيَهُودَ مِنَّةً هذا كعمل فيلكس (انظر ص ٢٤: ٢٧) ولو أراد أن يعامل بولس عدلاً لأطلقه إذ لم تثبت عليه دعوى.

أَتَشَاءُ أَنْ تَصْعَدَ إِلَى أُورُشَلِيمَ هذا ما طلبه اليهود إلى فستوس وهو في أورشليم وأبى أن يجيبهم إليه وفيه تسليم فستوس أن بولس لم يذنب شيئاً بمقتضى الشريعة الرومانية. وعرض فستوس على بولس أن يحاكم في مجمع السبعين بناء على كون الدعاوي عليه تخص بالشريعة اليهودية وأنه كما تبرر في المجلس الروماني يتبرر في المجلس اليهودي ويخلص من كل التهم.

لَدَيَّ أي في حضرتي فأقيك من كل جور. كان الظلم أن يبقيه أسيراً بعد ما عرف براءته وأن يعرض عليه أن يحاكم في مجلس أعدائه لكنه أظهر شيئاً من العدل في أمرين الأول أنه يحضر مجلس المحاكمة لحمايته والثاني أنه خيّره في الصعود إلى أورشليم ولم يجبره عليه.

ولعل فستوس علم أن بولس يصرّح بحقوقه باعتبار أنه روماني ويرفض أن يحاكم في مجلس يهودي لكنه بعرضه ذلك على بولس أظهر منّة لليهود وميله إلى احترام ناموسهم وعوائدهم.

١٠ «فَقَالَ بُولُسُ: أَنَا وَاقِفٌ لَدَى كُرْسِيِّ وِلاَيَةِ قَيْصَرَ حَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ أُحَاكَمَ. أَنَا لَمْ أَظْلِمِ ٱلْيَهُودَ بِشَيْءٍ، كَمَا تَعْلَمُ أَنْتَ أَيْضاً جَيِّداً».

أَنَا وَاقِفٌ لَدَى كُرْسِيِّ وِلاَيَةِ قَيْصَرَ نسب الولاية إلى قيصر أمبراطور الرومانيين لأن الوالي نائب عنه وهو حاكم باسمه وسلطانه. وعنى بقوله «واقف لدى كرسي ولاية قيصر» أن له حقاً أن يحاكم في محكمة رومانية لا يهودية بناء على كونه رومانياً.

حَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ أُحَاكَمَ سأله فستوس أن يُحاكم في مجمع اليهود فأبى بولس ذلك هنا لأمرين:

الأول: أنه في أيدي الرومانيين وتحت حمايتهم ومحاكمتهم فلا داعي لخروجه من ذلك إلى غيره.

الثاني: أنه روماني فيحق له أن يحميه الرومانيون وأن يحاكم بمقتضى شريعتهم.

أَنَا لَمْ أَظْلِمِ ٱلْيَهُودَ بِشَيْءٍ هذا سبب ثالث لإبائه المحاكمة في مجمع اليهود ومعناه أنهم لم يثبتوا عليه أنه أخطأ بشيء إلى ناموسهم وهيكلهم. ولو كان قد أخطأ إليهم بشيء ما حق لهم أن يحاكموه في محكمتهم للأمرين المذكورين آنفاً فبالأولى أن لا حق لهم أن يحاكموه فيها بعد أن بذلوا جهدهم في إثبات الذنب عليه وعجزوا. ولم يأب بولس أن يُحاكم لمجرد قوله «أنه بريء» لأنه لو صح له ذلك ما حُوكم وتبرأ. واستشهد الوالي بصحة دعواه بقوله «كما تعلم أنت أيضاً جيداً».

١١ «لأَنِّي إِنْ كُنْتُ آثِماً، أَوْ صَنَعْتُ شَيْئاً يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ، فَلَسْتُ أَسْتَعْفِي مِنَ ٱلْمَوْتِ. وَلٰكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا يَشْتَكِي عَلَيَّ بِهِ هٰؤُلاَءِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُسَلِّمَنِي لَهُمْ. إِلَى قَيْصَرَ أَنَا رَافِعٌ دَعْوَايَ».

ص ١٨: ١٤ و٢٣: ٢٩ وع ٢٥ وص ٢٦: ٣١ ص ٢٦: ٣٢ و٢٨: ١٩

أبان بولس في أول هذه الآية أن إبائته الذهاب إلى أورشليم للمحاكمة مبنيّة على ما تبرهن في ما مر من المحاكمة لا على رغبته في الهرب من الفحص أو التخلص من العقاب إن كان مذنباً.

إِنْ كُنْتُ آثِماً أي لو ثبت عليّ في المحاكمة التي جرت علي أني آثم.

أَوْ صَنَعْتُ شَيْئاً يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ أي لو ثبت عليّ في تلك المحاكمة ارتكابي ما يُجب علّي الموت.

فَلَسْتُ أَسْتَعْفِي مِنَ ٱلْمَوْتِ أي لا أسأل العفو من الموت الواجب حسنة أو صدقة بل كنت أقول أجروا ما وجب عليّ.

وَلٰكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أي إذا كان الأمر خلاف ما فرضت وبطل كل ما اتهموني به.

فَلَيْسَ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُسَلِّمَنِي لَهُمْ أي لا يستطيع ذلك أحد أراد العدل والحق لأن ذلك التسليم يكون هبة بريء لأعدائه لكي يفعلوا به ما يشاؤون فأوضح بذلك أن سؤال فستوس إياه الذهاب إلى أورشليم للمحاكمة بعد ما تحقق براءته يصنع منة لليهود مخالف للحق والعدل بالذات بلا داع ومعرّض للخطر بالنتائج.

فسؤال فستوس لبولس ما ذُكر دل على قدر جهله الأحوال ونقص حكمته وإيثاره إرضاء اليهود على إجراء العدل وهي مما حمل بولس على أن لا يثق به ولا يركن لسياسته وعلى أن يلجأ إلى من هو أعظم منه.

إِلَى قَيْصَرَ أَنَا رَافِعٌ دَعْوَايَ أي أنا مستأنف الدعوى إلى الأمبراطور. وحقّ الروماني أن يرفع دعواه من محاكم الولايات إلى البلاط الأمبراطوري أُعتبر من أعظم الحقوق واثمنها. وما كان الاستئناف يومئذ يحتاج في تحصيله إلى الكتابة أو الوسائط سوى مجرد القول «Appello» أي استأنفت فقوته كقوة القول «Civis Romanus Sum» أي أنا روماني (ص ١٦: ٣٧ و٢١: ٢٥). ولم يكن حق الاستئناف إلا للروماني. وكون هذه الرعوية لبولس هو الوسيلة التي اتخذها الوالي الروماني. في الآية العاشرة لجأ من محكمة يهودية إلى محكمة رومانية وفي هذه الآية لجأ من محكمة الوالي إلى محكمة الأمبراطور وبذلك انتهت المحاكمة التي لم تُجر على سنن العدل وتخلّص بولس من بغض أعدائه ومكايدهم وأراح الوالي من حيرته. وحُقق لبولس ذهابه إلى رومية الذي رغب فيه منذ زمن طويل (رومية ١: ٩ – ١١ و١٥: ٢٣ و٢٤).

١٢ «حِينَئِذٍ تَكَلَّمَ فَسْتُوسُ مَعَ أَرْبَابِ ٱلْمَشُورَةِ، فَأَجَابَ: إِلَى قَيْصَرَ رَفَعْتَ دَعْوَاكَ. إِلَى قَيْصَرَ تَذْهَبُ».

ص ١٩: ٢١ و٢٣: ١١

أَرْبَابِ ٱلْمَشُورَةِ من مساعديه الرومانيين في أمور الولاية السياسية. ولعل موضوع تلك المشورة النظر في أنه هل يوجد ما يمنع بولس من رفع دعواه إلى قيصر. كان لكل روماني بمقتضى الشريعة الرومانية حق الاستئناف وعلى كل حاكم أن يقبل ذلك ما لم يكن المستأنف من قطاع الطريق وقد قُبض عليه وهو حامل أسلحة العصيان. ولا ريب في أن الجميع تعجبوا من توقيف المحاكمة على هذا السبيل ولعل ذلك كان موضوع سرور لفستوس لأنه لم يرد أن يحكم على بريء ولم يرد أن يغيظ اليهود بإطلاقه. ولا شك في أنه كان موضوع حزن وغضب لليهود المشتكين لنجاة بولس من كيدهم.

إِلَى قَيْصَرَ رَفَعْتَ دَعْوَاكَ ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا استفهام للتعجب من ذلك لإظهار عدم الرضى التام به لأن بولس وهو الأسير الأول الذي وقف قدام فستوس للمحاكمة رفع دعواه من سلطانه إلى سلطان قيصر. وربما أظهر في قوله هذا شيئاً من إمارات الهزء فكأنه قال «أظننت أنك تجد في مجلس نيرون عدلاً لا تجده في مجلسنا وأنت غير شاعر بما سيحدث لك من التعب».

إِلَى قَيْصَرَ تَذْهَبُ لم يبقَ في اختيار فستوس أن يرسل بولس أو لا يرسله إلى قيصر بعد رفع دعواه إليه لأنه رأى وجوب ذلك وهو وأرباب المشورة فلم يبق له إلا أن يرسله في أول فرصة.

بولس أمام أغريباس الثاني ع ١٣ إلى ٢٧

١٣ «وَبَعْدَمَا مَضَتْ أَيَّامٌ أَقْبَلَ أَغْرِيبَاسُ ٱلْمَلِكُ وَبَرْنِيكِي إِلَى قَيْصَرِيَّةَ لِيُسَلِّمَا عَلَى فَسْتُوسَ».

كان من نتائج رفع بولس دعواه إلى قيصر قطع كل محاكمة عليه في سورية من يهود رومانيين وانقطاع الفرص لشهادته بالحق أمام اليهود ولكنه مع كل ذلك حدثت فرصة أخرى لوقوفه في حضرة أعظم اليهود منزلة ولاحتجاج عن الحق كان أوضح وأكمل كل احتجاجاته.

أَغْرِيبَاسُ ٱلْمَلِكُ ويسمى أحياناً أغريباس الثاني تمييزاً له عن أبيه أغيرباس الأول الذي ذُكر موته في (ص ١٢: ٢٣). وكان في سن السابعة عشرة في سنة موت أبيه وهي سنة ٤٤ ب. م وكان هو وقتئذ في بلاط الأمبراطور لأنه تربى مع أولاده. قال يوسيفوس أراد الأمبراطور كلوديوس أن يوليه مكان أبيه فثناه وزراؤه عن ذلك لصغر سن أغريباس واضطراب اليهودية فولى بدلاً منه قسيبوس فيدُس الوالي الروماني. وفي سنة ٤٨ ب. م مات عمه هيرودس ملك خلكيس فملكه كلوديس موضعه. وفي سنة ٥٣ ب. م أضاف إلى ملكه الربع الذي كان لعمه فيلبس والربع الذي كان لليسانويس (لوقا ٣: ١). ولما جلس نيرون على عرش الامبراطورية أضاف إلى ملكه بعض مدن الجليل وبيرية وولاه حراسة الهيكل والحلل الكهنوتية ووهب له سلطان انتداب رئيس الكهنة اليهودية ولكن اليهود لم يعتبروه كثيراً لشكهم في إخلاصه التمسك بالدين لأنه تربى بين الرومانيين الوثنيين. ومما يدل على أن شكهم كان في محله أنه عندما عصى اليهود الرومانيين ونشأ عن عصيانهم حصار أورشليم وخراب المدينة والهيكل اتفق أغريباس مع الرومانيين على شعبه الإسرائيلي. ومما قلل اعتباره عند اليهود عيشته مع أخته برنيكي بالزناء. وبلغ سن الثالثة والسبعين ومات في رومية سنة ٩٩ ب.م.

بَرْنِيكِي أخت أغريباس الكبيرة وكانت مشهورة بحسن الصورة وقبح السيرة تزوجها أولاً عمها هيرودس ملك خليكس ولما مات جاءت إلى أخيها. ثم دفعاً لما لحقها من العار بإقامتها ببيت أخيها على ما ذُكر تزوجت بليمون ملك كيليكية الذي هاد ليتزوجها طمعاً في مالها وافتتاناً بجمالها لكنه تركها وترك دينها بعد قليل فرجعت إلى أخيها ثم صارت حظية للأمبراطور الروماني وسبايانوس ثم لأبنه الأمبراطور تيطس.

لِيُسَلِّمَا عَلَى فَسْتُوسَ لأنه قدم والياً على سورية.

١٤ «وَلَمَّا كَانَا يَصْرِفَانِ هُنَاكَ أَيَّاماً كَثِيرَةً، عَرَضَ فَسْتُوسُ عَلَى ٱلْمَلِكِ أَمْرَ بُولُسَ، قَائِلاً: يُوجَدُ رَجُلٌ تَرَكَهُ فِيلِكْسُ أَسِيراً».

ص ٢٤: ٢٧

عَرَضَ فَسْتُوسُ… أَمْرَ بُولُسَ على سبيل الأخبار والتحدث بأمور الولاية لا للمحاكمة. فظن فستوس أن أغريباس لكونه يهودياً يقدر أن يوضح له ما جهله من أمر بولس كعلة بغض اليهود له واتهامهم إياه بمقاومته إياهم وديانتهم مع تصريحه بأنه يهودي متمسك بديانة آبائه وأنه يستطيع معاونته بأن يعرض للأمبراطور نيرون تفصيل أمر بولس بالإيضاح.

تَرَكَهُ فِيلِكْسُ أَسِيراً (ص ٢٤: ٢٧).

١٥ «وَعَرَضَ لِي عَنْهُ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَمَشَايِخُ ٱلْيَهُودِ لَمَّا كُنْتُ فِي أُورُشَلِيمَ طَالِبِينَ حُكْماً عَلَيْهِ».

ع ٢ و٣

طَالِبِينَ حُكْماً عَلَيْهِ نستدل من جواب فستوس لليهود في العدد التالي أنهم سألوه أن يحكم على بولس بالموت لمجرد دعواهم أنه مجرم مستحق الموت.

١٦ «فَأَجَبْتُهُمْ أَنْ لَيْسَ لِلرُّومَانِ عَادَةٌ أَنْ يُسَلِّمُوا أَحَداً لِلْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ٱلْمَشْكُوُّ عَلَيْهِ مُواجَهَةً مَعَ ٱلْمُشْتَكِينَ، فَيَحْصُلُ عَلَى فُرْصَةٍ لِلٱحْتِجَاجِ عَنِ ٱلشَّكْوَى».

ع ٤ و٥

أبان فستوس بهذا العدد عدم إجابته إلى ما سألوه وأن ما طلبوه مخالف للشريعة الرومانية. فضلت الشريعة الرومانية يومئذ كل شرائع ممالك الأرض بالعدل.

لَيْسَ لِلرُّومَانِ عَادَةٌ أي شريعتهم تمنعهم من مثل هذا وتوجب عليهم عكسه.

أَنْ يُسَلِّمُوا أَحَداً لِلْمَوْتِ إكراماً لشخص أو لجماعة أو منة عليه أو عليها.

مُواجَهَةً مَعَ ٱلْمُشْتَكِينَ الخ لكي يعرف المشكو عليه من هم المشتكون وما هي دعواهم ليدفع عن نفسه إن أمكن.

قول فستوس في (ع ١٥ و١٦) تفصيل لما في (ع ٤) مع شيء من الزيادة إذ لم يذكر هناك سوى طلبتهم الثانية بعد رفضه طلبتهم الأولى لمخالفتها للشريعة الرومانية. ورفض طلبتهم الثانية لعدم مناسبتها له.

١٧ «فَلَمَّا ٱجْتَمَعُوا إِلَى هُنَا جَلَسْتُ مِنْ دُونِ إِمْهَالٍ فِي ٱلْغَدِ عَلَى كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ، وَأَمَرْتُ أَنْ يُؤْتَى بِٱلرَّجُلِ».

ع ٦

ٱجْتَمَعُوا إِلَى هُنَا على وفق الأمر المذكور في (ع ٥).

مِنْ دُونِ إِمْهَالٍ هذا كالذي كتبه لوقا في (ع ٦).

كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ (انظر ع ٦ و١٠).

أَنْ يُؤْتَى بِٱلرَّجُلِ من حيث يحرسه قائد المئة (ص ٢٤: ٢٣).

١٨ «فَلَمَّا وَقَفَ ٱلْمُشْتَكُونَ حَوْلَهُ لَمْ يَأْتُوا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّا كُنْتُ أَظُنُّ».

استنتج فستوس من شدة غيظ اليهود على بولس وتمادي الزمان على أسره أنهم يتهمونه بجرائم فاحشة مخالفة للشريعة الرومانية كتهييج فتنة وما شاكله وتعجب لما رأى أنهم لم يتهموه بسوى آراء مخالفة لآرائهم.

١٩ «لٰكِنْ كَانَ لَهُمْ عَلَيْهِ مَسَائِلُ مِنْ جِهَةِ دِيَانَتِهِمْ، وَعَنْ وَاحِدٍ ٱسْمُهُ يَسُوعُ قَدْ مَاتَ، وَكَانَ بُولُسُ يَقُولُ إِنَّهُ حَيٌّ».

ص ١٨: ١٥ و٢٣: ٢٩

مَسَائِلُ مِنْ جِهَةِ دِيَانَتِهِمْ لا مسائل سياسية كالعصيان على الحكومة ولا مسائل شخصية كقتل أو سرقة. فقول فستوس هنا كقول غاليون في (ص ١٨: ١٧). ومثل تلك المسائل عند الرومانيين أمور لا يعبأ بها.

وَعَنْ وَاحِدٍ… قَدْ مَاتَ… بُولُسُ يَقُولُ إِنَّهُ حَيٌّ اقتصر فستوس على ذكر واحدة من تلك المسائل وهي قيامة يسوع والأرجح أن علة ذلك في خطابه أمامه تكلم بها بزيادة اهتمام كما تكلم أمام فيلكس في (ص ٢٣: ٦ و٢٤: ١٥ و١٦). وما أشار فستوس إليه بكلامه هنا في دعاوي اليهود وجواب بولس عليها لم يُذكر في (ع ٧ و٨) إلا مجملاً بغاية الاختصار. وما في كلام هذا الوالي الوثني الروماني من الاستخفاف بأعظم مبادئ الديانة المسيحية لا يحتاج إلى بيان لأنه حسب التأمل في ذلك المبدأ فضولاً وتصديقه حماقة.

٢٠ «وَإِذْ كُنْتُ مُرْتَاباً فِي ٱلْمَسْأَلَةِ عَنْ هٰذَا قُلْتُ: أَلَعَلَّهُ يَشَاءُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَيُحَاكَمَ هُنَاكَ مِنْ جِهَةِ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ؟».

لم يذكر العلة الأولى لعرضه على بولس المحاكمة في أورشليم وهي إرادته «أن يودع اليهود منة» (ع ٩) وهذا لا يمنع من أنه ظن أيضاً أنه بواسطة حضوره محاكمته في أورشليم يعرف غير ما عرفه من أمور الدينين اليهودي والمسيحي والفرق بينهما.

مُرْتَاباً فِي ٱلْمَسْأَلَةِ أي متحيراً في أمر الأسير هل أُطلقه لأنه لم يتعد الشريعة الرومانية أو أبقيه مقيداً لشكوى اليهود عليه بأنه خالف شريعتهم.

٢١ «وَلٰكِنْ لَمَّا رَفَعَ بُولُسُ دَعْوَاهُ لِكَيْ يُحْفَظَ لِفَحْصِ أُوغُسْطُسَ، أَمَرْتُ بِحِفْظِهِ إِلَى أَنْ أُرْسِلَهُ إِلَى قَيْصَرَ».

رَفَعَ بُولُسُ دَعْوَاهُ (انظر تفسير ع ١١).

لِفَحْصِ أُوغُسْطُسَ لنظره في دعواه وحكمه فيها. وأوغسطس هنا لقب الأمبراطور نيرون ومعناه الموقر توقير الآلهة فأعطاه المجلس الروماني الأعلى أولاً أكتافيانوس قيصر وورثه عنه خلفاءه ولقب فستوس نيرون به للتعظيم مع أنه ما لبث أن لقبه بقيصر وهو أدنى من لقب أوغسطس.

إِلَى أَنْ أُرْسِلَهُ الخ بوسائط مناسبة من مركب وحراس لسرعة وصوله رومية بالأمن.

٢٢ «فَقَالَ أَغْرِيبَاسُ لِفَسْتُوسَ: كُنْتُ أُرِيدُ أَنَا أَيْضاً أَنْ أَسْمَعَ ٱلرَّجُلَ. فَقَالَ: غَداً تَسْمَعُهُ».

ص ٩: ١٥

كُنْتُ أُرِيدُ أَنَا أَيْضاً أَنْ أَسْمَعَ لاشتهار بولس بالفصاحة والبلاغة بين الناس وبشدة تأثير كلامه في القلوب وبكونه من رؤساء ملته الجديدة وبكثرة مبغضيه وشدة غضبهم عليه وبطل مدة أسره في قيصرية. ولا بد من أن أغريباس كان قد سمع أنباء يسوع وما أنشأه من الدين وأحب أن يسمع بيان ذلك من أعظم أتباع ذلك الدين.

غَداً أسرع فستوس إلى اغتنام الفرصة ليستفيد ممن ظنه قادراً على كشف الحجاب عن تلك المسئلة المبهمة فكان وسيلة بيد الله لبيان حقيقة الدين المسيحي بكلام لم يسبق له نظير في الفصاحة والبلاغة.

٢٣ «فَفِي ٱلْغَدِ لَمَّا جَاءَ أَغْرِيبَاسُ وَبَرْنِيكِي فِي ٱحْتِفَالٍ عَظِيمٍ، وَدَخَلاَ إِلَى دَارِ ٱلٱسْتِمَاعِ مَعَ ٱلأُمَرَاءِ وَرِجَالِ ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُقَدَّمِينَ، أَمَرَ فَسْتُوسُ فَأُتِيَ بِبُولُسَ».

ما في هذه الآية إنجاز لقول المسيح لحنانيا في بولس «هٰذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ ٱسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ وَمُلُوكٍ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ» (ص ٩: ١٥). ولقوله لرسله «تُسَاقُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلأُمَمِ» (متّى ١٠: ١٨).

فِي ٱحْتِفَالٍ عَظِيمٍ نفهم من هذا أن ذلك الاحتفال كان أعظم من أمثاله من احتفالات الملوك ولولا ذلك لم يكن من داع إلى ذكره. كان تعظُّم أبي أغريباس في ذلك المكان منذ ست عشرة سنة قبل هذا علة موته الفظيع (ص ١٢: ٢١ – ٢٣) لكن هذا الابن لم يستفد شيئاً من مصاب أبيه.

دَارِ ٱلٱسْتِمَاعِ أي النادي في قصر هيرودس (ص ٢٣: ٣٥).

ٱلأُمَرَاءِ أي قواد الألوف على مفاد الأصل اليوناني (انظر شرح ص ٢١: ٢٣). قال يوسيفوس أنه كان خمسة من أولئك الأمراء في قيصرية. والأرجح أنهم حضروا المحفل إكراماً لأغريباس.

٢٤ «فَقَالَ فَسْتُوسُ: أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ وَٱلرِّجَالُ ٱلْحَاضِرُونَ مَعَنَا أَجْمَعُونَ، أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ هٰذَا ٱلَّذِي تَوَسَّلَ إِلَيَّ مِنْ جِهَتِهِ كُلُّ جُمْهُورِ ٱلْيَهُودِ فِي أُورُشَلِيمَ وَهُنَا، صَارِخِينَ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَعِيشَ بَعْدُ».

ع ٢ و٣ و٧ ص ٢٢: ٢٢

ما قاله فستوس هنا كان أنباء للغرباء بعلة الاجتماع وللاعتذار عن إتيانه ما خالف العادة وهو استنطاق الأسير بعد رفع دعواه إلى قيصر.

تَوَسَّلَ ببذل الجهد والإلحاح.

كُلُّ جُمْهُورِ ٱلْيَهُودِ يتبيّن من هذا أن ميل الفريسيين إلى بولس ومخاصمتهم للصدوقيين من أجله (ص ٢٣: ٩) كانا وقتيّين وأن الجميع من كهنة وشيوخ وعامة من كل الفرق اتفقوا على طلب الحكم عليه.

وَهُنَا أي في قيصرية. وهذا دليل على اتفاق يهود قيصرية مع يهود أورشليم على بولس وشدة الإلحاح على فستوس.

صَارِخِينَ إظهاراً لشدة غيظهم من بولس وبغية أن يستميلوا الوالي إلى إجابة طلبهم.

٢٥ «وَأَمَّا أَنَا فَلَمَّا وَجَدْتُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ، وَهُوَ قَدْ رَفَعَ دَعْوَاهُ إِلَى أُوغُسْطُسَ، عَزَمْتُ أَنْ أُرْسِلَهُ».

ص ٢٣: ٩ و٢٦: ٣١ ع ١١ و١٢

لَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ هذا تصريح بتبرئة بولس من تعدي الشريعة بعد محاكمته (ع ٧ و٨ و٢٠) وفيه اعتراف بأن لا حجة له في أن يبقيه أسيراً ويجبره على رفع دعواه إلى قيصر لتحصيل حقوقه.

وَهُوَ قَدْ رَفَعَ دَعْوَاهُ إِلَى أُوغُسْطُسَ لم يذكر علة رفع بولس دعواه إلى قيصر وهي إظهار فستوس ميله إلى إيثار أن يودع اليهود منّة على أن ينصف بولس.

عَزَمْتُ أَنْ أُرْسِلَهُ ظاهر العبارة يدل على أنه أتى ذلك اختياراً والحق أن ذلك كان واجباً عليه بمقتضى الشريعة الرومانية.

٢٦ «وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ يَقِينٌ مِنْ جِهَتِهِ لأَكْتُبَ إِلَى ٱلسَّيِّدِ. لِذٰلِكَ أَتَيْتُ بِهِ لَدَيْكُمْ، وَلاَ سِيَّمَا لَدَيْكَ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ، حَتَّى إِذَا صَارَ ٱلْفَحْصُ يَكُونُ لِي شَيْءٌ لأَكْتُبَ».

كانت عادة الرومانيين أنهم إذا أرسلوا أسيراً من إحدى الولايات إلى رومية للمحاكمة أرسلوا معه تفصيل الدعاوي عليه وصورة ما جرى في المحاكمة المحلية ولكن بولس لم يثبت عليه سيء من تعدّي الشريعة الرومانية فعرف فستوس أن نيرون لا يحسبه أمراً يُلتفت إليه فإذاً لم يكن على بولس شيء يكتبه إلى قيصر.

ٱلسَّيِّدِ أي نيرون. والكلمة اليونانية التي تُرجمت «بالسيد» هنا تُترجم غالباً بالرب ونعت نيرون به هنا دليلاً على تدقيق لوقا في الكتابة. رفض الأمبراطورون الأولون هذا النعت ونهى أوغسطس أولاده وحفدته عن أن يلقبوه به هزلاً أو جدّاً لأنه حسب قبوله حراماً وشؤماً. وأول من قبله كليغولا ثم كلوديوس أما نيرون فأجبر الناس أن يلقبوه به.

لَدَيْكُمْ، وَلاَ سِيَّمَا لَدَيْكَ توقع فستوس أن الحاضرين ولا سيما أغريباس لكونه يهودياً يسعفوه على بيان دعوى على بولس.

٢٧ «لأَنِّي أَرَى حَمَاقَةً أَنْ أُرْسِلَ أَسِيراً وَلاَ أُشِيرَ إِلَى ٱلدَّعَاوِي ٱلَّتِي عَلَيْهِ».

حَمَاقَةً أي قلة عقل. خاف فستوس أن تُنسب إليه إن لم يجد على بولس بمساعدة الحاضرين ما يكتبه إلى قيصر فكان في حيرة عظيمة. والذي أوقعه في هذه الحيرة ميله إلى أن يودع اليهود منّة فإنه احتار كيف يكتب ما لا يظلم بولس به وما لا يوجب على نفسه ذنباً فكان لو كتب أنه بريٌ يخشى قول نيرون لماذا لم تطلقه ولماذا أجبرته على الاستئناف. ولو كتب أنه مذنب يلتزم أن يقيم الأدلة على ذلك وليس من دليل عليه.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى