أعمال الرسل

أعمال الرسل | 19 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح سفر أعمال الرسل 

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح التاسع عشر

خدمة بولس في أفسس ع ١ إلى ٤١

١ «فَحَدَثَ فِيمَا كَانَ أَبُلُّوسُ فِي كُورِنْثُوسَ أَنَّ بُولُسَ بَعْدَ مَا ٱجْتَازَ فِي ٱلنَّوَاحِي ٱلْعَالِيَةِ جَاءَ إِلَى أَفَسُسَ. فَإِذْ وَجَدَ تَلاَمِيذَ»

١كورنثوس ١: ١٢ و٣: ٥ و٦

فِيمَا كَانَ أَبُلُّوسُ فِي كُورِنْثُوسَ أي قبل وصول بولس إلى أفسس.

ٱجْتَازَ فِي ٱلنَّوَاحِي ٱلْعَالِيَةِ أي كورة غلاطية وكورة فريجية وهما مرتفعتان عن أفسس لأنها في الساحل (ص ١٨: ٢٣). وسكت لوقا عن حوادث هذا السفر الطويل جرياً على عادته أن لا يفصل غير أمور الأماكن التي دخلها بولس حديثاً.

جَاءَ إِلَى أَفَسُسَ إنجازاً لوعده في (ص ١٨: ٢). وتلك المدينة مركز خدمته في ذلك السفر وهو سفره الثالث كما كانت كورنثوس مركز الجزء الآخر من خدمته في السفر الثاني. وأفسس مدينة كبيرة قديمة جعلها الرومانيون قصبة كورة آسيا. موقعها على مصب نهر كيستر على التخم الغربي من آسيا الصغرى. اشتهرت يومئذ بسعة متجرها وثروتها وعبادتها للأوثان وممارسة أهلها السحر وكان فيها ملعب يسع ثلاثين ألف مشاهد. قصد بولس أن يجعلها حصن الدين المسيحي في آسيا كما جعل كورنثوس حصن هذا الدين في بلاد اليونان. كان فيها هيكل أرطاميس وهذا الهيكل بُني سنة ٦٠٠ ق. م واحترق ليلة ولادة اسكندر الكبير سنة ٣٥٦ ق. م ثم جُدد فصار إلى بهاء أعظم من بهائه الأول حتى حُسب يومئذ من عجائب الدنيا السبع. وهُدمت أفسس سنة ٢٦٢ ب. م ولم تزل في موقعها أطلال كثيرة واسعة وقرية صغيرة اسمها اليوم أيّاسالوك.

فَإِذْ وَجَدَ تَلاَمِيذَ كان هؤلاء التلاميذ يهوداً في الأصل تتلمذوا أولاً ليوحنا المعمدان ثم اعترفوا بالمسيح على قدر ما عرفه يوحنا.

٢ «سَأَلَهُمْ: هَلْ قَبِلْتُمُ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لَمَّا آمَنْتُمْ؟ قَالُوا لَهُ: وَلاَ سَمِعْنَا أَنَّهُ يُوجَدُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ».

ص ٨: ١٦

هَلْ قَبِلْتُمُ حين اعتمدتم.

ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ أي تأثيره العجيب كالتكلم بالألسنة والتنبوء اللذين كانا يليان المعمودية والإقرار بالإيمان (ص ٢: ٣٨ و٨: ١٧ و٩: ١٧ و١٠: ٤٤ – ٤٨ و١١: ١٥ و١٦ و١٥: ٨). ونستنتج من سؤال بولس أن ذلك التأثير كان كثيراً ما يحدث على أثر المعمودية لا أنه حسبه من الضروريات.

لَمَّا آمَنْتُمْ بالمسيح كما أعلنه يوحنا المعمدان. وكان ذلك الإيمان غير كامل.

وَلاَ سَمِعْنَا أَنَّهُ يُوجَدُ الخ أي لم يبلغنا حين آمنا واعتمدنا أن الروح القدس يوجد في الكنيسة أو في المؤمنين إذ لم يذكر لنا أحد حينئذ اسم الروح القدس. ومن المحال أن يكون هؤلاء باعتبار كونهم يهوداً أصلاً أو تلاميذ يوحنا أو تلاميذ المسيح لم يسمعوا شيئاً من أمور الروح القدس لأن أسفار العهد القديم مملوءة بذكره. وذكره يوحنا المعمدان بقوله «هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَنَارٍ» (متّى ٣: ١١). فيلزم أن يكون معناهم أحد أمرين إما ما ذكرناه آنفاً أنهم حين المعمودية لم يسمعوا اسمه وإما أنهم لم يسمعوا أنه أُعطي للناس بعلامات ظاهرة كما جاء معناه في قوله «لأَنَّ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ، لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ» (يوحنا ٧: ٣٩). فإذاً هم كأبلّوس لم يسمعوا شيئاً من أنباء حوادث يوم الخمسين وإعطائه مواهبه العجيبة للمؤمنين (ص ١٨: ٢٥) لأن المرجح أنهم تركوا اليهودية قبل صلب المسيح. ولأن غاية مناداة يوحنا كانت تمهيد الطريق لمجيء المسيح لم يكن من داع إلى أن يعلن لتلاميذه كثيراً من أمور الروح القدس فلا عجب من نقص معرفة تلاميذه بذلك الروح. ووجود مثل هؤلاء التلاميذ في أفسس بعيدين عن موضع كرازة يوحنا بعد ثلاثين سنة من وفاته دليل قاطع على شدة ما كان له من التأثير.

٣ «فَسَأَلَهُمْ: فَبِمَاذَا ٱعْتَمَدْتُمْ؟ فَقَالُوا: بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا».

ص ١٨: ٢٥

فَبِمَاذَا ٱعْتَمَدْتُمْ أي ما الإيمان الذي اعترفتم به حين اعتمدتم أو كيف أمكنكم أن تعتمدوا وأنتم لم تسمعوا شيئاً من أمور الروح القدس.

بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا هذا علة كافية لعدم سمعهم نبأ الروح القدس لأنهم لو تعمدوا بالمعمودية المسيحية لسمعوا ذكر الروح القدس لا محالة لأنها هي «بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلٱبْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» كما أمر المسيح (متّى ٢٨: ١٩). وكانت معمودية يوحنا علامة التوبة والإيمان بالمسيح المتوقع أن يأتي. نعم أنّه علّم أن يسوع الناصري هو المسيح يوحنا ١: ٢٩ و٣٦ و٣: ٢٦ و٣٠) لكن لم يكن لتلاميذه أن يعرفوا شيئاً من تعليم المسيح ومن نبإ موته كفارة عن الخطيئة ونبإ قيامته وصعوده وسكبه الروح القدس على التلاميذ. ولا دليل على أن يوحنا ذكر في معموديته اسم أحد الأقانيم فلم تكن معموديته سوى علامة التوبة والإيمان على ما ذُكر.

٤ «فَقَالَ بُولُسُ: إِنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِمَعْمُودِيَّةِ ٱلتَّوْبَةِ قَائِلاً لِلشَّعْبِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدَهُ، أَيْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».

متّى ٣: ١١ ويوحنا ١: ١٥ و٢٧ و٣٠ وص ١: ٥ و١١: ١٦ و١٣: ٢٤ و٢٥

أبان بولس هنا أن خدمة يوحنا لم تكن سوى خدمة إعداد لطريق الرب فلم تكن كافية لبيان حقيقة الديانة المسيحية ولا مما يمنح الخلاص إنما دلت الناس على المسيح الذي هو «حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١: ٢٩).

٥ «فَلَمَّا سَمِعُوا ٱعْتَمَدُوا بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ».

ص ٨: ١٦

هذه الآية من كلام لوقا ذكرها بياناً لتأثير كلام بولس في نفوس السامعين ولا ريب في أنه بسط الكلام في المسيح أكثر مما ذُكر هنا فآمنوا وأظهروا إيمانهم بقبولهم المعمودية المسيحية.

بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوع أي بالمعمودية المسيحية كما رُسمت في (متّى ٢٨: ١٩ انظر شرح ص ٢: ٣٨ و١١: ٤٨).

يتضح مما قيل هنا أن معمودية يوحنا غير معمودية المسيح وأنها لا تغني عنها لأنها ليست سوى إعداد لتلك (متّى ٣: ١١). فالمرجح أن كثيرين من الثلاثة الآلاف الذين اعتمدوا يوم الخمسين كانوا من تلاميذ يوحنا. وبين المعموديتين أربعة فروق:

  • الأول: أن معمودية يوحنا كانت بالإيمان بالمسيح الذي سيأتي والمعمودية المسيحية كانت للإيمان بالمسيح الذي قد أتى.
  • الثاني: أن الأولى كانت وقتية كسائر خدمة يوحنا والثانية دائمة إلى نهاية العالم.
  • الثالث: أن الأولى كانت إعداداً للنظام المسيحي لا بدل الختان والثانية كانت سراً أعطاه المسيح للكنيسة بدلاً من الختان.
  • الرابع: أن الثانية كانت باسم أقانيم اللاهوت الثلاثة والأولى لا دليل على أنها كانت باسم أحد تلك الأقانيم.

٦، ٧ «٦ وَلَمَّا وَضَعَ بُولُسُ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْهِمْ، فَطَفِقُوا يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَاتٍ وَيَتَنَبَّأُونَ. ٧ وَكَانَ جَمِيعُ ٱلرِّجَالِ نَحْوَ ٱثْنَيْ عَشَرَ».

ص ٦: ٦ و٨: ١٧ ص ٢: ٤ و١٠: ٤٦

ما ذُكر هنا كما ذُكر في (ص ١٠: ٤٦) إلا أن الروح القدس هناك حل قبل المعمودية وبدون وضع الأيادي.

وَضَعَ بُولُسُ يَدَيْهِ علامة موهبة الروح (انظر شرح ص ٨: ١٧).

يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَاتٍ (انظر شرح ص ٢: ١٧ و١٨ و١٠: ٤٦).

وَيَتَنَبَّأُونَ (انظر شرح ص ٢: ١٧ و١١: ٢٧).

نَحْوَ ٱثْنَيْ عَشَرَ فقط لا كل مؤمني أفسس المشار إليهم في (ص ١٨: ٢٧) وذكر لوقا دفعاً لتوهم أنهم كلهم كانوا مثل هؤلاء الاثني عشر في طفولية الإيمان.

٨ «ثُمَّ دَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ، وَكَانَ يُجَاهِرُ مُدَّةَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ مُحَاجّاً وَمُقْنِعاً فِي مَا يَخْتَصُّ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».

ص ١٧: ٢ و١٨: ٤ ص ١: ٣ و٢٨: ٢٣

وجه بولس أفكاره إلى اليهود وبذل أتعابه في سبيل نفعهم كعادته وأتى ذلك أيضاً إجابة لطلبهم السابق (ص ١٨: ٢٠). والمراد «بملكوت الله» هنا التعليم المسيحي أو الديانة الجديدة كما في (ص ١: ٣ و٨: ١٢). ومعنى قوله «محاجاً ومقنعاً» أنه بيّن حقيقة تلك الديانة بالأدلة القاطعة ودفع الاعتراضات عليها وحث اليهود على قبولهم إياها. وفعله هنا كفعله في كورنثوس (ص ١٨: ٤).

٩ «وَلَمَّا كَانَ قَوْمٌ يَتَقَسَّوْنَ وَلاَ يَقْنَعُونَ، شَاتِمِينَ ٱلطَّرِيقَ أَمَامَ ٱلْجُمْهُورِ، ٱعْتَزَلَ عَنْهُمْ وَأَفْرَزَ ٱلتَّلاَمِيذَ، مُحَاجّاً كُلَّ يَوْمٍ فِي مَدْرَسَةِ إِنْسَانٍ ٱسْمُهُ تِيرَانُّسُ».

٢تيموثاوس ١: ١٥ و٢بطرس ٢: ٢ ويهوذا ١٠ ص ٩: ٢ وع ٢٣ وص ٢٢: ٤ و٢٤: ١٤

لَمَّا «لما» هنا ظرفية تعليلية وهي تشير إلى زمن انفصال بولس من مجمع اليهود وعلة ذلك الانفصال.

يَتَقَسَّوْنَ بعدم إيمانهم بحقائق الإنجيل ورفضهم أن يقبلوا يسوع مسيحاً والخلاص بموته. وعلة ذلك التقسي إما تحذير رؤساء الدين في أورشليم من بولس وتعليمه وإما حسدهم إذ رأوا الأمم المبغضين يشاركون اليهود في مواعيد نسل إبراهيم.

شَاتِمِينَ شتماً كالتجديف في (ص ١٣: ٤٨ و١٨: ٦).

ٱلطَّرِيقَ أي الدين المسيحي ويعبر عنه أيضاً «بطريق الرب» (ص ١٨: ٢٥) و «طريق الخلاص» (ص ١٦: ١٧). واحتقارهم هذا الطريق احتقار لمنشئه الله ولذلك يحق أن يُحسب تجديفاً.

أَمَامَ ٱلْجُمْهُورِ المجتمع في المجمع. الظاهر أن مقاومتهم كانت بعنف وصراخ حتى تعذرت المحاورة. ولعل معنى «الجمهور» أهل السوق من الوثنيين قصد اليهود تهييجهم على بولس بما فعلوا كما فعل يهود تسالونيكي (ص ١٧: ٥).

ٱعْتَزَلَ عَنْهُمْ اعتزالاً دائماً.

أَفْرَزَ ٱلتَّلاَمِيذَ عن اليهود غير المؤمنين ومن المجمع ونظمهم كنيسة ما فعل في كورنثوس (ص ١٨: ٦ و٧). ومن الغريب أن الذين حملوه على ذلك هم اليهود الذين دعوه سابقاً إلى المكث عندهم ومخاطبته إياهم (ص ١٨: ٢٠).

مُحَاجّاً علم بهذا الأسلوب لأنهم أجبروه بمقاومتهم على إيراد تعليمه على طريق الجدال.

كُلَّ يَوْمٍ ليلاً ونهاراً (ص ٢٠: ٣١) وهذا دليل على كثرة أتعابه في التبشير وهو يعمل في صناعته ليحصل على أسباب المعاش (ص ٢٠: ٣٤).

فِي مَدْرَسَةِ… تِيرَانُّسُ هل تيرانس هذا رابيّ يهودي فتح تلك المدرسة لتدريس الشريعة الموسوية وتقاليد الشيوخ أو هو فيلسوف يوناني فتح تلك المدرسة لتعليم المنطق والبيان أو الفلسفة ذلك لا نعلمه والأرجح أنه فيلسوف يوناني. ومهما يكن أصله فلا ريب أنه كان قد تنصر. ولا نعلم أسكن بولس معه في تلك المدرسة أم انفرد بها. أو مجاناً أخذها أم بالأجرة وليس في ذلك شيء من الأهمية.

١٠ «وَكَانَ ذٰلِكَ مُدَّةَ سَنَتَيْنِ، حَتَّى سَمِعَ كَلِمَةَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ جَمِيعُ ٱلسَّاكِنِينَ فِي أَسِيَّا، مِنْ يَهُودٍ وَيُونَانِيِّينَ».

ص ٢٠: ٣١

مُدَّةَ سَنَتَيْنِ من وقت اعتزاله المجمع. وبشّر فيهما بولس في مدرسة تيرانّس لأنه لم يكن للتلاميذ حينئذ كنيسة مسيحية فكانوا يجتمعون للعبادة في أي مكان وجدوه مناسباً لذلك.

كَلِمَةَ ٱلرَّبِّ أي الكلمة التي الرب مصدرها وموضوعها.

أَسِيَّا قُسمت أسيا الصغرى عند اليونان إلى اثنتي عشر قسماً ثلاثة منها على الجنوب وهي كيليكية وبمفيلية وليكية وثلاثة على الغرب وهي كاريا وليديا وميسيا وثلاثة على الشمال وهي بيثينية وبفلاغونية وبنتس وثلاثة في وسطها وهي كبدوكية وغلاطية وفريجية وأما بيسيدية وليكأونية المذكورتان في (ص ١٣ وص ١٤) فهما جزءان مما جاورهما وكانا متغيرين فيُحسبان جزئين من هذه وجزئين من تلك. وجمع الرومانيون ثلاثة منها وهي كاريا وليديا وميسيا إلى كورة واحدة سموها آسيا وجعلوا قاعدتها أفسس وهي المرادة في الآية. وكان فيها الكنائس السبع التي كتب إليها يوحنا سفر الرؤيا وهي كنائس أفسس وسميرنا وبرغامس وثياتيرا وسرديس وفيلادلفيا ولاودكية إلا أن لاودكية كانت داخلة في فريجية.

وكان من وسائل انتشار الإنجيل في تلك الكورة على ما ذُكر أن الناس كانوا يأتون أفسس من كل أقطار كورتها للتجارة أو للعبادة فكانت لهم فرصة لسمع الإنجيل. ومن تلك الوسائل أنهم كانوا يسمعون الإنجيل من شفاه بولس ورفقائه الذين منهم لوقا وتيموثاوس وتيطس وأبفراس وهم يجولون للتبشير في المدن والقرى هناك. والأرجح أنه أُسست يومئذ كنائس آسيا الصغرى المذكورة آنفاً وحينئذ كتب بولس رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس وذكر فيها أعماله في أفسس.

١١، ١٢ «١١ وَكَانَ ٱللّٰهُ يَصْنَعُ عَلَى يَدَيْ بُولُسَ قُوَّاتٍ غَيْرَ ٱلْمُعْتَادَةِ، ١٢ حَتَّى كَانَ يُؤْتَى عَنْ جَسَدِهِ بِمَنَادِيلَ أَوْ مَآزِرَ إِلَى ٱلْمَرْضَى، فَتَزُولُ عَنْهُمُ ٱلأَمْرَاضُ، وَتَخْرُجُ ٱلأَرْوَاحُ ٱلشِّرِّيرَةُ مِنْهُمْ».

مرقس ١٦: ٢٠ وص ١٤: ٣ و٢ملوك ٤: ٢٩ وص ٥: ١٥

قُوَّاتٍ غَيْرَ ٱلْمُعْتَادَةِ الذي جعل هذه المعجزات تمتاز عن غيرها هو أنها صُنعت على بعدٍ بواسطة أمتعة مست جسد بولس لا كثرة تلك المعجزات ولا عظمتها. ولم يُذكر في الكتاب أن بولس صنع شيئاً من المعجزات مدة خمس سنين قبل ذلك وهي منذ أخرج روح العرافة من الجارية في فيلبي (ص ١٦: ١٨).

عَنْ جَسَدِهِ أي مما لبسه أو مما مس جسده من غير ملبوساته.

بِمَنَادِيلَ معنى أصلها اليوناني ما يُمسح به العرق عن الوجه ثم أُطلقت على القطع الصغيرة من المنسوجات (لوقا ١٩: ٢٠ ويوحنا ١١: ٢٤ و٢٠: ٧).

مَآزِرَ هي في اليوناني ما يلبسها الصناع عند العمل على مقدم الجسد وقاية لما تحتها من الثياب. ويحتمل المعنى أن تلك الأمتعة كانت مما استعمله بولس وأن الناس استعاروها منه وحملوها إلى المرضى ليشفوا بها ثم ردوها إليه. ويحتمل أن الناس اتوا بها من بيوتهم ومسوا بها جسد بولس وأخذوها إلى المرضى.

لا داعي أن نظن شفاء المرضى بتلك الوسيلة كان وهماً من الأغبياء لم يصدقه بولس فإن تلك الأمتعة كانت بمنزلة ظل بطرس (ص ٥: ١٥) ومنزلة هدب ثوب يسوع (متّى ٩: ٢٠ و٢١). ومنزلة الطين الذي طلى به المسيح عيني الأعمى (يوحنا ٩: ٦). والجاعل لتلك الوسائل هذا الفعل قوة الله العاملة بها للشفاء وإيمان الذي شُفي. فتلك الوسائل كلها لولا علم الله عبث وكان أقلها بنعمة الله فعالاً.

قضى الله أن يشفي المرضى بتلك الوسائل لأن بها شُفي كثيرون على مسافات بعيدة لا يمكن أن يشفوا بغيرها من الوسائط ولكي لا يكون شيء من الريب في مصدر ذلك الشفاء كما يمكن أن يكون لو حدث بكلمة من فم بولس دون أمر محسوس. وتلك المناديل والمآزر لم تكن لها قوة في نفسها بل كانت أدلة على قوة الله التي وهبها لرسوله تصديقاً لتعليمه فتعلم أهل أفسس بذلك أن لصلاة الإيمان ومنديل من الرسول قوة أعظم من قوى كل تعاويذهم ورقاهم وتمائمهم.

ٱلْمَرْضَى البعيدين عن بولس والعاجزين عن المجي إليه.

ٱلأَرْوَاحُ ٱلشِّرِّيرَةُ كان شر الأمراض ينتج من دخول الشياطين في الإنسان وكان إخراجها من أعظم الأدلة على القوة الإلهية كما في (ص ٥: ١٦ و٨: ٧). فكان لبولس أن يقول في نفسه لأهل أفسس ما قاله فيها لأهل كورنثوس «إِنَّ عَلاَمَاتِ ٱلرَّسُولِ صُنِعَتْ بَيْنَكُمْ فِي كُلِّ صَبْرٍ، بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ» (٢كورنثوس ١٢: ١٢).

١٣ «فَشَرَعَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْيَهُودِ ٱلطَّوَّافِينَ ٱلْمُعَزِّمِينَ أَنْ يُسَمُّوا عَلَى ٱلَّذِينَ بِهِمِ ٱلأَرْوَاحُ ٱلشِّرِّيرَةُ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، قَائِلِينَ: نُقْسِمُ عَلَيْكَ بِيَسُوعَ ٱلَّذِي يَكْرِزُ بِهِ بُولُسُ!».

متّى ١٢: ٢٧ مرقس ٩: ٣٨ ولوقا ٩: ٤٩

كثر في تلك الأيام الذين ادعوا القوة على إخراج الشياطين بالعزائم والرقي والتعاويذ وأنهم على قول يوسيفوس اتصل بهم أكثرها بالتسلسل من سليمان الحكيم. وكثر يومئذ هؤلاء المدعون لزيادة عدد الذين سكنتهم الشياطين في عصر المسيح والرسل على ما كانوا قبل ذلك وبعده (انظر ص ٥: ١٦ وقابل به متّى ١٢: ٢٧). واشتهرت أفسس يومئذ أكثر مما سواها من المدن بكثرة هؤلاء وشهرتهم وكان منهم أولاد سكاوا. ومن أمثالهم سيمون الساحر في السامرة (ص ٨: ٩) وعليم الساحر في قبرس (ص ١٣: ٦) وكثيراً ما حرّم الكتاب المقدس السحر ومشاورة أهله والاتكال عليهم (لاويين ١٩: ٣١ وإشعياء ٨: ١٩).

ٱلطَّوَّافِينَ أي الذين يجولون من مدينة إلى مدينة لإخراج الشياطين من المسكونين ومن المرضى الذين ادعى هؤلاء الطوافون أن علة أمراضهم سكن الشيطان فيهم.

أَنْ يُسَمُّوا… بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أي يتخذون اسمه وسيلة إلى إخراج الأرواح النجسة. ولا ريب في أنهم سمعوا بولس يستعمل هذا الاسم ورأوا أن له فاعلية عظيمة على يده فقصدوا أن يمتحنوا فاعلية ذلك الاسم ليُخرجوا به الشياطين توصلاً إلى الربح. وكان هؤلاء يستعملون سابقاً يهوه اسم الله الأعظم أو أسماء بعض الملائكة أو اسم سليمان فلما شاهدوا بولس ينجح باستعمال اسم يسوع رغبوا في الاقتداء به.

نُقْسِمُ عَلَيْكَ ظنوا أنهم بهذه العبارة يجبرون الأرواح الشريرة على طاعتهم.

بِيَسُوعَ ٱلَّذِي يَكْرِزُ بِهِ بُولُسُ كان اسم يسوع أو يشوع شائعاً بين اليهود فنعتوه «بالذي» الخ تمييزاً له عن غيره ممن سموا بهذا الاسم.

١٤ «وَكَانَ ٱلَّذِينَ فَعَلُوا هٰذَا سَبْعَةَ بَنِينَ لِسَكَاوَا، رَجُلٍ يَهُودِيٍّ رَئِيسِ كَهَنَةٍ».

ما ذُكر في هذه الآية مثال من أمثلة كثيرة أو هو بيان لما سبق.

يَهُودِيٍّ أصلاً بقطع النظر عن اعتقاده حينئذ.

رَئِيسِ كَهَنَةٍ كان هذا لقب كبير الأحبار في أورشليم أو زعيم قسم من الأربعة والعشرين التي قُسم كهنة اليهود إليها. لكن يعسر تصديق أن من كان في مثل تلك الرتبة الدينية العالية يكون في أفسس ويمارس بنوه مثل تلك المهنة الدنيئة المحرمة في الشريعة اليهودية. فالمحتمل أن ذلك اللقب كان لذي رتبة دينية في مجمع اليهود في أفسس أو أنه دعى ذلك اللقب كذباً ترويجاً لسحره والأرجح أنه يهودي مرق من دينه إلى الوثنية وصار كاهناً في هيكل أرطاميس فإنه كثيراً ما شوهد اسم «رئيس الكهنة» على المسكوكات والحجارة من آثار أفسس المختصة بالعبادة الوثنية.

١٥ «فَقَالَ ٱلرُّوحُ ٱلشِّرِّيرُ لَهُمْ: أَمَّا يَسُوعُ فَأَنَا أَعْرِفُهُ، وَبُولُسُ أَنَا أَعْلَمُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَمَنْ أَنْتُمْ؟».

فَقَالَ ٱلرُّوحُ ٱلشِّرِّيرُ على قسم بني سكاوا. وهذا الروح كالمذكور في (متّى ٨: ٢٨) في شدة قوته واستخدامه لسان الإنسان ليعبر به عن أفكاره هو.

يَسُوعُ فَأَنَا أَعْرِفُهُ وأُسلّم بسلطانه الإلهي على إخراج الشياطين (متّى ٨: ٢٩ ومرقس ١: ٢٤ ولوقا ٤: ٣٤).

بُولُسُ أَنَا أَعْلَمُهُ أنه خادم يسوع وأنه أُعطي سلطاناً على إخراج الأرواح (ع ١٢).

وَأَمَّا أَنْتُمْ الخ هذا كلام غيظ واستخفاف فكأنه قال أي سلطان لكم فإنكم لستم بيسوع ولا ببولس فأي حق لكم أن تقسموا عليّ بذلك الاسم الذي نقشعر منه (يعقوب ٢: ١٩).

١٦ «فَوَثَبَ عَلَيْهِمُ ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي كَانَ فِيهِ ٱلرُّوحُ ٱلشِّرِّيرُ، وَغَلَبَهُمْ وَقَوِيَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى هَرَبُوا مِنْ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ عُرَاةً وَمُجَرَّحِينَ».

وَثَبَ عَلَيْهِمُ ٱلإِنْسَانُ نسب في الآية السابقة التكلم الذي هو للإنسان إلى الروح النجس وهنا نسب قوة الروح النجس إلى الإنسان وكل من النسبتين حق لأن الإنسان والروح النجس اشتركا في العمل فالروح أعطى الإنسان القوة حتى قدر أن يثب على السبعة ويغلبهم.

عُرَاةً لما وثب عليهم مزق أثوابهم وعرّاهم كل التعرية أو بعضها.

١٧ «وَصَارَ هٰذَا مَعْلُوماً عِنْدَ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِ وَٱلْيُونَانِيِّينَ ٱلسَّاكِنِينَ فِي أَفَسُسَ. فَوَقَعَ خَوْفٌ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَكَانَ ٱسْمُ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ يَتَعَظَّمُ».

لوقا ١: ٦٥ و٧: ١٦ وص ٢: ٤٣ و٥: ٥ و١١

ذُكرت هذه الحادثة هنا لشدة تأثيرها في الناس لأن المعزّمين كفوا بعد ذلك عن التعزيم على الأرواح باسم يسوع ولتحقيقها لكل أهل أفسس أن معجزات بولس امتازت عن أعمال السحر والخداع.

فَوَقَعَ خَوْفٌ كما وقع في أورشليم حين ضرب الله حنانيا وسفيرة بالموت لكذبهما على الروح القدس لأنه ظهر للجميع وجود قوة سرية لا تُقاوم ولم يُشاهد لها من نظير في تلك المدينة المشهورة بمهارة سحرتها وهي ليست إلا قوة الله الفاعلة بيد بولس رسوله فوجب عليهم أن يخافوه تعالى خوف الهيبة والوقار. ولا ريب في أنه وقع مثل ذلك الخوف في مصر لما ظهر الفرق بين عجائب موسى وأعمال السحرة.

وَكَانَ ٱسْمُ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ يَتَعَظَّمُ يجب هنا أن ننتبه إلى الاسم الذي تعظم فإنه ليس هو اسم بولس الذي صنع المعجزات بل هو اسم يسوع الذي كرز به بولس (ع ١٣) وفعل المعجزات به وهذا الاسم أهانه المعزّمون فانكسارهم تعظيم لاسم من أهانوه.

١٨ «وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُوا يَأْتُونَ مُقِرِّينَ وَمُخْبِرِينَ بِأَفْعَالِهِمْ».

متّى ٣: ٦

ما ذُكر في هذه الآية نتيجة الحادثة في ما قبلها.

ٱلَّذِينَ آمَنُوا ما نُسب إليهم يمكن أنهم أتوه عند إيمانهم والأرجح أنهم لم يأتوه إلا بعد حين أي أنهم بقوا وقتاً بعد إيمانهم يمارسون السحر سراً وهم لم يشعروا بالخطيئة في ذلك لكنهم بعد الحادثة المذكورة انتبهت ضمائرهم وأجبرتهم على ترك السحر وعلى الاعتراف بسوء فعلهم وذلك لأنهم تحققوا بها أن الله مع بولس وأن إنذاره حق وأنه تعالى يغضب على كل من يشتغل بالسحر.

يَأْتُونَ مُقِرِّينَ أي معترفين جهراً على مشهد من الناس كما يتبين من الآية التالية مما اقترن باعترافهم من أعمالهم.

مُخْبِرِينَ بِأَفْعَالِهِمْ أي بما فعلوه من الشر بعد معموديتهم وتعهدهم أنهم يعتزلون كل خداع وما يتعلق بخدمة الشيطان لأنه لا يخلو من أنهم ادعوا إخراج الشياطين كذباً أو مارسوا السحر أو استشاروا السحرة المعزمين. والاعتراف العلني بالأعمال الجهرية مما يجب لنوال المغفرة.

١٩ «وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ ٱلسِّحْرَ يَجْمَعُونَ ٱلْكُتُبَ وَيُحَرِّقُونَهَا أَمَامَ ٱلْجَمِيعِ. وَحَسَبُوا أَثْمَانَهَا فَوَجَدُوهَا خَمْسِينَ أَلْفاً مِنَ ٱلْفِضَّةِ».

ذكر في هذه الآية أعمالهم المقارنة باعترافهم الموافقة له ولولا تلك الأعمال كان اعترافهم عبثاً.

يَسْتَعْمِلُونَ ٱلسِّحْرَ من عرافة وغيرها كتفسير الأحلام وإعلان الأسرار كإبانة المسروق والسارق وكشف الكنوز والخبايا ووسائل المحبة والقبول وتمييز أيام السعد من أيام النحس وحوادث الإنسان المستقبلة والتمائم العرافية والعزائم والرقى وأمثالها من المدعيات الباطلة. وكل ذلك محرم لانه اجتهاد الإنسان في إدراك السرائر المختصة بالله فهو مخالف لقول الكتاب «ٱلسَّرَائِرُ لِلرَّبِّ إِلٰهِنَا، وَٱلْمُعْلَنَاتُ لَنَا وَلِبَنِينَا إِلَى ٱلأَبَدِ» (تثنية ٢٩: ٢٩).

ٱلْكُتُبَ اشتهر في الأزمنة القديمة ما عُرف «بالكتب الأفسسية» وهي ما نُقل من الألفاظ المكتوبة على أثواب أرطاميس وتاجها وزنارها وقدميها وقواعد تماثيلها ولم يكن لها معنى في لغة من اللغات ومنها «أسكيون» و «كتكيون» و «ليكس» و «تيتراس». وكان الناس يكتبونها ويحملونها أحرازاً ويلفظون بها في أوقات الخطر. قال يوستاتيوس اليوناني أنه في الألعاب الأولمبيادية صرع مصارع أفسسي كل من صارعه ثم وجدوا رباطاً على وظيفه مكتوباً فيه بعض ألفاظ الكتب الأفسسية فلما أُخذ الرباط منه كان يُصرع بسهولة. ولا بد من أنه كان من كتب السحر المذكورة في هذه الآية غير الكتب الأفسسية مما يشتمل على الوسائل إلى كل ما ذكرناه من تفسير الأحلام وما بعده.

خَمْسِينَ أَلْفاً مِنَ ٱلْفِضَّةِ إن كان المقصود بالفضة هنا الدرهم اليوناني (كما يرجح) فقيمته خمسة غروش ونصف غرش وقيمة المجموع ٢٧٥٠٠٠ غرش أو ما يزيد على ألفي ليرة إنكليزية. وإن كان المقصود بها الشاقل اليهودي كان المبلغ ما يقرب من ثلاثة أضعاف ذلك. ولا يخفى أن قيمة النقود يومئذ كانت أغلى من قيمتها اليوم كثيراً وبلغت أثمان تلك الكتب المبلغ المذكور لقلتها ولعظمة الأسرار التي تعلنها على زعمهم.

أتى يسوع نوراً للعالم ليزيل كل ظلماته فكانت ظلمة هذه الأباطيل تتبدد أمام إنجيله حيث دخل. فمهما خسر الإنسان من تركه من المحرمات كالسحر وبيع المسكرات والمقامرة والربا الزائد يجب أن لا يحسب خسارته مصاباً وأن يقتدي بمؤمني أفسس لأنه «ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه».

٢٠ «هٰكَذَا كَانَتْ كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ تَنْمُو وَتَقْوَى بِشِدَّةٍ».

ص ٦: ٧ و١٢: ٢٤

في هذا الوقت كتب بولس من أفسس إلى أهل كورنثوس قوله الموافق لما في هذه الآية «لأَنَّهُ قَدِ ٱنْفَتَحَ لِي بَابٌ عَظِيمٌ فَعَّالٌ، وَيُوجَدُ مُعَانِدُونَ كَثِيرُونَ» (١كورنثوس ١٦: ٩).

هٰكَذَا أي بواسطة تبشير بولس ومعجزاته وانتصاره على السحر.

٢١ «وَلَمَّا كَمَلَتْ هٰذِهِ ٱلأُمُورُ، وَضَعَ بُولُسُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ بَعْدَمَا يَجْتَازُ فِي مَكِدُونِيَّةَ وَأَخَائِيَةَ يَذْهَبُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، قَائِلاً: إِنِّي بَعْدَ مَا أَصِيرُ هُنَاكَ يَنْبَغِي أَنْ أَرَى رُومِيَةَ أَيْضاً».

ص ٢٠: ٢٢ ورومية ١٥: ٢٥ وغلاطية ٢: ١ ص ١٨: ٢١ ورومية ١٥: ٢٤ إلى ٢٨

هٰذِهِ ٱلأُمُورُ أخص هذه الأمور ما جرى بينه وبين السحرة والأرجح أنها تشتمل على الحوادث المتعلقة بتبشير بولس ورفاقه بالإنجيل في أفسس والمدن المجاورة لها وتأسيس الكنائس فيها وهي ما شغل ثلاث سنين (ص ٢٠: ٣١). ومنها ثلاثة أشهر شغلها بوعظه في مجمع اليهود وسنتان شغلهما بالتعليم في مدرسة تيرانس وجولانه في تلك الكورة قبل مقاومته الطوافين المعزمين (ع ١٣) وتسعة أشهر بعد ذلك قبل الشغب الذي هيجه ديمتريوس (ع ٢٣).

فِي نَفْسِهِ بإرشاد الروح القدس.

مَكِدُونِيَّةَ وَأَخَائِيَةَ هما القسمان اللذان قسم الرومانيون بلاد اليونان إليهما حين استولوا عليها. وغاية بولس من السفر إليهما إنهاض غيرة التلاميذ الروحية وإصلاح ما نشأ من الخلل في الكنائس الحديثة ولا سيما كنيسة كورنثوس كما ذُكر في الرسالتين إليها وإكمال جمع الإحسان لفقراء المسيحيين في أورشليم كما ذُكر في (رومية ١٥: ٢٥ و١كورنثوس ١٦: ١ – ٣).

إِلَى أُورُشَلِيمَ ليحمل إليها ما جمع من الإحسان كما يظهر من (ص ٢٦: ٣١ و١كورنثوس ١٦: ١ – ٩ ورومية ١٥: ٢٥).

قَائِلاً لأصدقائه.

أَنْ أَرَى رُومِيَةَ أيضاً ليبشر بالإنجيل هناك على وفق قصده أن يجعل كل مركز كبير في المملكة الرومانية مركزاً للدين المسيحي أيضاً لأنه اعتبر ملكوت المسيح الروحي مما يجب أن يكون في كل مملكة أرضية. فإنه بنشوء هذا الملكوت في رومية يكون قد تأسس في مراكز العالم الثلاثة الكبرى وهي أورشليم وبلاد اليونان ورومية. فالأولى مركز الديانة اليهودية والثانية مركز الفلسفة والثالثة مركز السلطة. ولا يتم هذا القصد إلا بأن يذهب إلى رومية ويبشر فيها. وكان قد قصد ذلك منذ زمان طويل (رومية ١: ٣ و١٥: ٢٣ و٢٤ و٢٨). نعم أنه أتم هذا القصد لكنه لم يكن كما توقع لأنه ذهب إليها أسيراً مقيّداً.

٢٢ «فَأَرْسَلَ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ ٱثْنَيْنِ مِنَ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَخْدِمُونَهُ: تِيمُوثَاوُسَ وَأَرَسْطُوسَ، وَلَبِثَ هُوَ زَمَاناً فِي أَسِيَّا».

ص ١٣: ٥ رومية ١٦: ٢٣ و٢تيموثاوس ٤: ٢٠

إِلَى مَكِدُونِيَّةَ أي فيلبي وتسالونيكي أكبر مدنها كما هو المرجّح.

يَخْدِمُونَهُ أي يساعدونه في الجسديات والتبشير (ص ١٣: ٥ و١تسالونيكي ٣: ٢ و٢كورنثوس ٨: ٢٣ ورومية ١٦: ٢١ وفيلبي ٢: ٢٥ وكولوسي ٤: ١١ وفليمون ١٣).

تِيمُوثَاوُسَ أمر بولس تيموثاوس بأنه بعد إكمال خدمته في مكدونية يذهب إلى كورنثوس لكي يُعد الكنيسة لمجيئه وليجمع إحسانها للفقراء أورشليم (١كورنثوس ٤: ١٧ – ١٩ و١٦: ١٠).

أَرَسْطُوسَ المرجح أنه هو المذكور في (رومية ١٦: ٢٣ و٢تيموثاوس ٤: ٢٠). وكونه «خازن مدينة أفسس» لا يمنع من أن يكون مساعداً لبولس لاحتمال أنه كان في تلك الوظيفة قبل خدمته لبولس أو بعدها وإن كان خازناً مدة إقامة بولس هناك فمن المحتمل أن واجبات مأموريته لا تمنعه من أن يترك أفسس وقتياً.

زَمَاناً بعد ذهاب تيموثاوس وأرسطوس على أنه كان يقصد أن يذهب على أثرهما بعد قليل (ع ٢١) ولعله أقام زمناً أكثر مما قصد أولاً.

٢٣ «وَحَدَثَ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ شَغَبٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ بِسَبَبِ هٰذَا ٱلطَّرِيقِ»

٢كورنثوس ١: ٨ ص ٩: ٢ و١٨: ٢٦

وَحَدَثَ… شَغَبٌ هذا يدل على أنه كان في راحة وسكون بعد انتصاره على الطوّافين المعزّمين إلى ذلك الوقت.

هٰذَا ٱلطَّرِيقِ أي الدين المسيحي. وسُمّي هذا الدين «بالطريق» لأنه طريق الإيمان والصلاح والقداسة والخلاص والسعادة والسماء (ص ٩: ٢ و١٩: ٩ و٢٢: ٤ و٢٤: ١٤ و٢٢).

٢٤ «لأَنَّ إِنْسَاناً ٱسْمُهُ دِيمِتْرِيُوسُ، صَائِغٌ صَانِعُ هَيَاكِلِ فِضَّةٍ لأَرْطَامِيسَ، كَانَ يُكَسِّبُ ٱلصُّنَّاعَ مَكْسَباً لَيْسَ بِقَلِيلٍ».

ص ١٦: ١٦ و١٩

صَانِعُ هَيَاكِلِ فِضَّةٍ هذا بيان لقوله «صائغ». وكانت هذه الهياكل تماثيل صغيرة لهيكل الإلاهة أرطاميس الكبير. وكانت تُباع كثيراً والمشترون يأخذونها لتساعدهم على عبادة تلك الإلاهة. وكانت أيضاً بمثابة إحراز للمسافرين وللسكان وتذكاراً لزوار هيكلها الذين قصدوه من الأقطار. وكان حمل أمثال هذه الهياكل من عوائد الوثنيين القديمة التي سقط فيها الإسرائيليون أيضاً بدليل قوله «بَلْ حَمَلْتُمْ خَيْمَةَ مُولُوكَ، وَنَجْمَ إِلٰهِكُمْ رَمْفَانَ، ٱلتَّمَاثِيلَ ٱلَّتِي صَنَعْتُمُوهَا لِتَسْجُدُوا لَهَا» (ص ٧: ٤٣). فاشتغل كثيرون بصنع تلك الهياكل وحصلوا به على أرباح وافرة.

ٱلصُّنَّاعَ الصاغة شركاء ديمتريوس وغيرهم من أرباب تلك الصناعة.

٢٥ «فَجَمَعَهُمْ وَٱلْفَعَلَةَ فِي مِثْلِ ذٰلِكَ ٱلْعَمَلِ وَقَالَ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ سِعَتَنَا إِنَّمَا هِيَ مِنْ هٰذِهِ ٱلصِّنَاعَةِ».

ٱلْفَعَلَةَ أي الأجراء في الصياغة.

سِعَتَنَا الخ أي ثروتنا. يتضح من ذلك أن الغاية العظمى من هذا الاجتماع والخطاب الربح الشخصي وأما المحاماة عن الدين فكان أمراً ثانوياً.

٢٦ «وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَتَسْمَعُونَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَفَسُسَ فَقَطْ، بَلْ مِنْ جَمِيعِ أَسِيَّا تَقْرِيباً، ٱسْتَمَالَ وَأَزَاغَ بُولُسُ هٰذَا جَمْعاً كَثِيراً قَائِلاً: إِنَّ ٱلَّتِي تُصْنَعُ بِٱلأَيَادِي لَيْسَتْ آلِهَةً».

مزمور ١١٥: ٤ وإشعياء ٤٤: ١٠ إلى ٢٠ وإرميا ١٠: ٣

وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَتَسْمَعُونَ أي أن الأمر واضح مسلّم به لا موهوم.

أَفَسُسَ… جَمِيعِ أَسِيَّا تَقْرِيباً هذا على وفق ما في الآية العاشرة من جهة وعظ بولس في الكور المجاورة لأفسس وهو دليل على تأثير كلمة الله ببركة الروح على أتعاب الرسول. وشهادة ديمتريوس في هذه الآية كشهادة أفلينيوس والي بيثينية المجاورة لأفسس للأمبراطور ترجانوس بانتشار الديانة المسيحية بعد مدة ليست بطويلة قال فيها انتشر هذا الوهم (أراد به الدين المسيحي) كالعدوى بين عدد وافر من الناس ذكوراً وأناثاًً كباراً وصغاراً أغنياء وفقراء شرفاء وأدنياء فتُركت هياكل الآلهة بلا عبدة ومذابحها بلا ذبائح.

ٱلَّتِي تُصْنَعُ بِٱلأَيَادِي لَيْسَتْ آلِهَةً هذا كما قال بولس في أثينا (ص ١٧: ٢٩) فتفسير ديمتريوس كلام بولس حق وخوفه من زوال الديانة الوثنية وانقطاع ربحه بانتشار الدين المسيحي كان في محله.

٢٧ «فَلَيْسَ نَصِيبُنَا هٰذَا وَحْدَهُ فِي خَطَرٍ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ فِي إِهَانَةٍ، بَلْ أَيْضاً هَيْكَلُ أَرْطَامِيسَ ٱلإِلٰهَةِ ٱلْعَظِيمَةِ أَنْ يُحْسَبَ لاَ شَيْءَ، وَأَنْ سَوْفَ تُهْدَمُ عَظَمَتُهَا، هِيَ ٱلَّتِي يَعْبُدُهَا جَمِيعُ أَسِيَّا وَٱلْمَسْكُونَةِ».

نَصِيبُنَا أي ربحنا لأن التبشير بالإنجيل قلل اعتبار الأوثان فنتج عن ذلك كساد التماثيل.

بَلْ أَيْضاً لو نادى ديمتريوس ورفقاؤه في الشعب لنقصان ربحهم في تجارتهم بسبب مناداة بولس ما هيّج ذلك الشعب عليه فاضطروا أن ينادوا بأضرار تهم الجميع ولم يروا وسيلة لذلك أحسن من قولهم أن دينهم في خطر من قبل التبشير بالإنجيل.

هَيْكَلُ أَرْطَامِيسَ كان هيكل أرطاميس مبنياً من رخام أبيض اشترك في نفقة بنائه كل مدن آسيا حتى أن النساء بذلت جواهر حلاها في سبيل ذلك. وكان طوله ٤٢٥ قدماً وعرضه ٢٢٠ قدماً وكانت دعائم ما سُقف منه ١٢٧ عموداً علو كل منها ٦٠ قدماً وكانت من أنفس الرخام وكل منها هدية ملك ٩١ منها بيض و٣٦ ملونة. وكان معلقاً عليها هدايا لا تثمن هي تقدمات الشكر ممن حصلوا على نجاح عظيم أو نجاة من خطر. وكان فيه تماثيل وصور صنعها أمهر النحاتين والمصورين اليونانيين. قيل أن إحدى الصور التي من صنع أباليس بلغت نفقتها ما يساوي خمسة آلاف ليرة إنكليزية.

ٱلإِلٰهَةِ ٱلْعَظِيمَةِ نُعتت بالعظيمة تمييزاً لها عن آلهة أخرى أدنى منها وعن تماثيلها في غير أفسس. زعم عبدتها أن تمثالها هبط من السماء. وكان ذلك التمثال من خشب وكثيراً ما طبعوا صورة أرطاميس على مسكوكات النقود ويظهر من تلك الصورة أنها كانت قبيحة المنظر. كان نصف بدنها الأعلى مغطى بالثديّ الكبيرة إشارة إلى أنها مانحة الخصب والتغذية وكان النصف الأسفل منشوراً مربعاً مغطى بصور النحل وسنابل الحنطة والأزهار. وكانت عظمة تلك الإلاهة متوقفة على عظمة هيكلها.

يُحْسَبَ لاَ شَيْءَ هذا ينتج بالضرورة من تسليم الناس بقول بولس «ٱلَّتِي تُصْنَعُ بِٱلأَيَادِي لَيْسَتْ آلِهَةً» (ع ٢٦).

سَوْفَ تُهْدَمُ عَظَمَتُهَا تنبأ ديمتريوس بما تمّ أخيراً وهو لا يعلم أنه نبي. ولم تكن الواسطة لهدم تلك العظمة إلا ما ذكره وهو التبشير بالإنجيل. فإن ذلك الهيكل لم يبق منه اليوم سوى أطلاله.

يَعْبُدُهَا جَمِيعُ أَسِيَّا وَٱلْمَسْكُونَةِ ليس في هذا القول كثير من المبالغة إذا أُريد «بالمسكونة» المملكة الرومانية كما كان شائعاً فإنه لم يكن في العالم كله نظير هيكلها في العظمة إلا هيكل أبلون في دلفي. وكان عبدتها لا يُحصون يقصدون هيكلها من كل دان وقاص.

خلاصة ما استطاعه ديمتريوس من تبجيل أرطاميس أن هيكلها زينة المدينة وأنها مصدر ربح الصاغة. فما أعظم الفرق بين هذا الوصف ووصف المبشرين المسيحيين للديانة المسيحية فإنهم يصفونها بأن مجدها قدرتها على أن تجعل الناس أتقياء على الأرض وممجدين في السماء.

٢٨ «فَلَمَّا سَمِعُوا ٱمْتَلأُوا غَضَباً، وَطَفِقُوا يَصْرُخُونَ قَائِلِينَ: عَظِيمَةٌ هِيَ أَرْطَامِيسُ ٱلأَفَسُسِيِّينَ».

يظهر من هذه الآية ما كان لخطاب ديمتريوس من شديد التأثير في أهل صناعته فإنهم اتقدوا غيظاً خوفاً على ربحهم وغيرة لدينهم.

عَظِيمَةٌ هِيَ أَرْطَامِيسُ الخ قوله «عظيمة» هي الكلمة ذات الشأن في هذه العبارة. وفي هذه العبارة جوهر اعتقادهم وهو أن هذه الإلاهة التي عبدوها تستحق أن توصف بالعظمة فهي عظيمة الآن وتبقى كذلك مهما افترى الناس عليها. وتضمن صراخهم شكوى عليهم. بعض الناس أنهم تآمروا على إهانة أرطاميس التي هي فخر الأفسسين ومجدهم وإلا لم يكن من داع إلى ذلك الصراخ وقد عرفوا أن هذه الشكوى لا تقع إلا على اليهود وحسبوا بولس منهم.

٢٩ «فَٱمْتَلأَتِ ٱلْمَدِينَةُ كُلُّهَا ٱضْطِرَاباً، وَٱنْدَفَعُوا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى ٱلْمَشْهَدِ خَاطِفِينَ مَعَهُمْ غَايُوسَ وَأَرِسْتَرْخُسَ ٱلْمَكِدُونِيَّيْنِ، رَفِيقَيْ بُولُسَ فِي ٱلسَّفَرِ».

رومية ١٦: ٢٣ و١كورنثوس ١: ١٤ ص ٢٠: ٤ و٢٧: ٢ وكولوسي ٤: ١٠ وفليمون ٢٤

ٱمْتَلأَتِ ٱلْمَدِينَةُ انتشر الهياج من الصاغة إلى جمهور المدينة على خلاف رتبهم وصنائعهم فإنهم استنتجوا من الصراخ أن بعض اليهود الأجانب أهان إلاهتهم. وذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الأمر حدث في شهر أيار الذي وقفه كل أهل آسيا على عبادة أرطاميس ولذلك كثر عدد المجتمعين في المدينة وزادوا غيرة في عبادتها وهم كانوا على غاية الاستعداد للتهيج بمثل ذلك الأمر. وأُستدل على حدوثه في شهر أيار من اجتماع وجوه آسيا حينئذ في أفسس فإن هؤلاء كانوا يأتون إلى أفسس في ذلك الشهر للقيام بواجبات العيد (انظر شرح ع ٣١).

ٱنْدَفَعُوا… إِلَى ٱلْمَشْهَدِ مقتدياً بعضهم ببعض كعادة الناس في مثل تلك الحال. وذهبوا إلى المشهد لأنه مجتمع الجمهور ومنازلة بعض الأبطال لبعض والمحاربة للوحوش في ساحته. وكان ذلك المشهد يسع ثلاثين ألف مشاهد ولم تزل آثاره إلى اليوم.

خَاطِفِينَ مَعَهُمْ غَايُوسَ وَأَرِسْتَرْخُسَ الأرجح أنهم مروا بمحلة اليهود وخطفوا هذين الرجلين وأن بولس كان حينئذ في شديد الخطر منهم (١كورنثوس ١٥: ٣٢ و٤: ٩) لكنه نجا منه كما نجا من مثله في تسالونيكي (ص ١٧: ٦) ولعل هذا الوقت هو ما أنقذه فيه بريسكلا وأكيلا معرضين نفسيهما للموت بذلك (رومية ١٦: ٣ و٤). وغايوس اسم يوناني (وهو كابوس في اللاتينية) كان شائعاً يومئذ وذُكر في الإنجيل أربعة سموا به غايوس الكورنثي الذي عمّده بولس ونزل عليه ضيفاً (١كورنثوس ١: ١٤ ورومية ١٦: ٢٣). وغايوس الدربي (ص ٢٠: ٤) وغايوس الأفسسي وهو الذي كتب إليه يوحنا الرسول رسالته الثالثة. وغايوس المذكور هنا ولعله هو الذي كتب إليه يوحنا. وأرسترخس رجل من تسالونيكي (ص ٢٠: ٤) رافق بولس إلى فلسطين وكان معه حين غرقت السفينة (ص ٢٧: ٢) وكان معه في رومية يوم حبسه الأول (كولوسي ٤: ١٠ وفليمون ٢٤).

٣٠ « وَلَمَّا كَانَ بُولُسُ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْنَ ٱلشَّعْبِ لَمْ يَدَعْهُ ٱلتَّلاَمِيذُ».

يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ المشهد حيث اجتمع الجمهور وأراد هذا الدخول لاهتمامه برفيقيه آملاً أن يساعد على تسكين الهيجان بما يقوله. وكيف كان الأمر فإنه لم يرد أن يكونا عرضة للخطر دون مشاركته لهما فيه ومحاماته عنهما.

لَمْ يَدَعْهُ ٱلتَّلاَمِيذُ أي المسيحيون من أهل أفسس فإنهم كانوا مختبرين غيرة أهل أفسس لأرطاميس وعارفين بما يقع من الخطر على بولس من أولئك الجمهور المتقد غيظاً.

٣١ «وَأُنَاسٌ مِنْ وُجُوهِ أَسِيَّا كَانُوا أَصْدِقَاءَهُ أَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ لاَ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ إِلَى ٱلْمَشْهَدِ».

وُجُوهِ أَسِيَّا أي أهل الرتب الخاصة على ما يفيد الأصل اليوناني وهم عشرة يُختارون كل سنة من مدن آسيا المختلفة وكانت أعمالهم ترتيب الذبائح والملاعب التي تؤتى في شهر أيار عبادة لأرطاميس وكانت النفقة كلها على وفرتها من أموالهم لأن الذبائح كانت كثيرة وكان عليهم أن يأتوا بوحوش الملاعب من بلاد بعيدة وأن يستأجروا الأبطال المشهورين من بلادهم وغيرها فمن الضرورة أنهم كانوا من أرباب الثروة والمراتب العالية. ويظهر لنا قدر الاحترام الذي كان لبولس من هؤلاء أنهم حسبوه من أصدقائهم واعتنوا بسلامته.

أَصْدِقَاءَهُ كانت صداقتهم له شخصية لا يلزم منها أنهم آمنوا بتعاليمه وإلا لم يبقوا يخدمون الإلاهة.

أَرْسَلُوا الأرجح أنهم أرسلوا رسلاً بكلام شفاهي.

لاَ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ الخ إلى الجمهور الهائج بنار التعصب الديني الطالب من يشفي غيظه به.

٣٢ «وَكَانَ ٱلْبَعْضُ يَصْرُخُونَ بِشَيْءٍ وَٱلْبَعْضُ بِشَيْءٍ آخَرَ، لأَنَّ ٱلْمَحْفَلَ كَانَ مُضْطَرِباً، وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَدْرُونَ لأَيِّ شَيْءٍ كَانُوا قَدِ ٱجْتَمَعُوا!».

هذا بيان لما يتوقع أن يكون فيه مثل ذلك الجمهور. وكان كل ما فعلوا نتيجة توهمهم وقوع الاعتداء أما على مدينتهم أو على دينهم أو على الاهتهم أو هيكل أرطاميس لكنهم كانوا لم يعرفوا ما هو ذلك التعدي ولا من هم المعتدون.

٣٣ «فَٱجْتَذَبُوا إِسْكَنْدَرَ مِنَ ٱلْجَمْعِ، وَكَانَ ٱلْيَهُودُ يَدْفَعُونَهُ. فَأَشَارَ إِسْكَنْدَرُ بِيَدِهِ يُرِيدُ أَنْ يَحْتَجَّ لِلشَّعْبِ».

١تيموثاوس ١: ٢٠ و٢تيموثاوس ٤: ١٤ ص ١٢: ١٧

إِسْكَنْدَرَ… وَكَانَ ٱلْيَهُودُ يَدْفَعُونَهُ بغية أن يتقدمهم خطيباً. وبما أن اليهود كانوا أعداء بولس نستنتج أن اسكندر كان عدوه. ولعله هو الذي أشار إليه بولس بقوله «إِسْكَنْدَرُ ٱلنَّحَّاسُ أَظْهَرَ لِي شُرُوراً كَثِيرَةً» (٢تيموثاوس ٤: ١٤). والأرجح أن قصدهم من دفعهم إياه إلى الخطابة ليبين للجمهور أن اليهود ليسوا بمسيحيين فهم ليسوا شركاء بولس ورفيقيه وأنهم كرهوه وكرهوا كل أعماله.

٣٤ «فَلَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ يَهُودِيٌّ، صَارَ صَوْتٌ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْجَمِيعِ صَارِخِينَ نَحْوَ مُدَّةِ سَاعَتَيْنِ: عَظِيمَةٌ هِيَ أَرْطَامِيسُ ٱلأَفَسُسِيِّينَ!».

١ملوك ١٨: ٢٦ ومتّى ٦: ٧

عَرَفُوا أَنَّهُ يَهُودِيٌّ عرفوا ذلك من هيئته أو ثيابه ولهجته. وكان الوثنيون يبغضون اليهود دائماً وكان كافياً لنفارهم من سمع اسكندر أنه كان من أولئك المبغضين. وعرفوا أنه من المحال أن يتكلم يهودي بما يرفع شأن أرطاميس التي ظنوا وقوع الإهانة عليها.

عَظِيمَةٌ هِيَ أَرْطَامِيسُ الخ ما أتوا به هنا مثل ما أتى به كهنة البعل فإنهم كانوا «مِنَ ٱلصَّبَاحِ إِلَى ٱلظُّهْرِ (يصرخون) «يَا بَعْلُ أَجِبْنَا» (١ملوك ١٨: ٢٦). وهذا يذكرنا قول المسيح «حِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا ٱلْكَلاَمَ بَاطِلاً كَٱلأُمَمِ» (متّى ٦: ٧). وكان ما فعلوه جزءاً من عبادتهم لأرطاميس كما في (ع ٢٨) أيضاً. وقصدوا فوق ذلك أن يظهروا فرط غيرتهم وإكرامهم لإلاهتهم المهانة.

٣٥ «ثُمَّ سَكَّنَ ٱلْكَاتِبُ ٱلْجَمْعَ وَقَالَ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلأَفَسُسِيُّونَ، مَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي لاَ يَعْلَمُ أَنَّ مَدِينَةَ ٱلأَفَسُسِيِّينَ مُتَعَبِّدَةٌ لأَرْطَامِيسَ ٱلإِلٰهَةِ ٱلْعَظِيمَةِ وَٱلتِّمْثَالِ ٱلَّذِي هَبَطَ مِنْ زَفْسَ؟».

ثُمَّ سَكَّنَ ٱلْكَاتِبُ ٱلْجَمْعَ الظاهر أن نار غضبهم خمدت قليلاً بعد أن صرخوا نحو ساعتين فحضر بعض الحكام وأمرهم بالسكوت فسكتوا. وكان هذا الكاتب رب منزلة سامية في أفسس وكان من واجبات منزلته أن يحفظ سجلات المحكمة ويحضرها عند الحاجة وكان الناس قد اعتادوا أن يكرموه ويطيعوه.

مَنْ… لاَ يَعْلَمُ أي كل إنسان يعلم فلا حاجة لأن تنادوا كذلك كأن ما تنادون به أمر مجهول يُفتقر إلى إعلانه. وعلى فرض أن يهودياً أنكر ذلك فهل إنكاره ينفي شهادة كل العالم.

مَدِينَةَ ٱلأَفَسُسِيِّينَ مُتَعَبِّدَةٌ والكلمة اليونانية المترجمة بمتعبدة ( νεωκορον) أي مكنسة هيكلها كناية عن شدة تعبدها لها. وكانت هذه الكلمة مكتوبة على كثيرين من مسكوكاتها ولم يزل بعض تلك المسكوكات محفوظاً إلى الآن. وكان الأفسسيون يحسبون من أعظم ممجدات مدينتهم امتيازها عن سائر المدن بخدمتها وحراستها لهيكلها العظيم فحسدها على ذلك الملوك والأمبراطورون.

ٱلَّذِي هَبَطَ قال أفلينيوس المؤرخ «أن ذلك التمثال من أقدم العاديات فإن الهيكل خرب وجدد سبع مرات وذلك التمثال محفوظ فيه» وأن الناس اعتقدوا أنه هبط من السماء.

زَفْسَ أي المشتري وهو عندهم إله الآلهة. ما قاله الكاتب في هذه الآية للأفسسين سكن غضبهم بعض التسكين فحوّل أذهانهم من الغضب إلى الافتحار بمدينتهم وهيكلهم وإلاهتهم. والظاهر أن ذلك الكاتب لم يكن من المتعصبين ولا ممن يميلون إلى الاضطهاد.

٣٦ «فَإِذْ كَانَتْ هٰذِهِ ٱلأَشْيَاءُ لاَ تُقَاوَمُ، يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا هَادِئِينَ وَلاَ تَفْعَلُوا شَيْئاً ٱقْتِحَاماً».

هٰذِهِ ٱلأَشْيَاءُ أي أن مدينة أفسس حارسة الهيكل والتمثال الذي هبط من السماء.

ًلاَ تَفْعَلُوا شَيْئاً ٱقْتِحَاما أي بلا تأمل ونظر في العواقب فإنكم إذا بقيتم هائجين ارتكبتم الاقتحام الذي لا يحسن بكم.

٣٧ «لأَنَّكُمْ أَتَيْتُمْ بِهٰذَيْنِ ٱلرَّجُلَيْنِ، وَهُمَا لَيْسَا سَارِقَيْ هَيَاكِلَ، وَلاَ مُجَدِّفَيْنِ عَلَى إِلٰهَتِكُمْ».

ع ٢٩

أشار الكاتب بما في هذه الآية إلى أنهم قد وقعوا في ما حذرهم منه لأنهم قبضوا على رجلين لم يذنبا بشيء إلى الهيكل أو إلى الإلاهة.

أَتَيْتُمْ بالإجبار والإهانة.

هٰذَيْنِ ٱلرَّجُلَيْنِ لعله أشار بيده إلى أرسترخس وغايس حين قال ذلك.

لَيْسَا سَارِقَيْ هَيَاكِلَ لم يتهمها أحد بهذا الذنب ولم يدع أحد فقدان شيء من الهيكل.

وَلاَ مُجَدِّفَيْنِ الخ نعم أن بولس تكلم في مواعظه على بطلان العبادة الوثنية وعلى أنها جهل كما يتبين من خطابه لأهل أثينا (ص ١٧: ٢٩) لكنه لم يطعن في معبود خاص من معبودات اليونانيين أو الرومانيين لعلمه أن ذلك لا يحمل عبدتها إلا على الغضب والمقاومة. والطريق التي اختارها بولس لمفارقة الضلال هي أفضل الطرق في كل عصر وهي أنه أظهر الحق ليُظهر فضله على الباطل بالمقابلة أي أنه نسخ الظلمة بالنور بدون أن يطعن في الظلمة فإنه لم يخفض مقام أرطاميس أمام عبدتها بل رفع شأن المسيح لينظروا الفرق بينهما ويختاروا الأفضل. وزاد الكاتب على ما قاله في الآية السادسة والثلاثين من أن ما فعلوه لا يحسن بهم أنه ظلم لأنهم قبضوا على رجلين لم يذنبا بشيء.

٣٨ «فَإِنْ كَانَ دِيمِتْرِيُوسُ وَٱلصُّنَّاعُ ٱلَّذِينَ مَعَهُ لَهُمْ دَعْوَى عَلَى أَحَدٍ، فَإِنَّهُ تُقَامُ أَيَّامٌ لِلْقَضَاءِ، وَيُوجَدُ وُلاَةٌ، فَلْيُرَافِعُوا بَعْضُهُمْ بَعْضاً».

ص ١٦: ١٩ و١٧: ٦

أشار الكاتب في هذه الآية إلى طريق أفضل من القبض على الأبرياء اقتحاماً وجرهم إلى المشهد وهي طريقة شرعية مظهرة للحق وحكم بأن الدعوة ليست بجمهورية وإنما هي شخصية.

كَانَ دِيمِتْرِيُوسُ وَٱلصُّنَّاعُ… لَهُمْ دَعْوَى أي إن ظنوا أن أحداً اعتدى عليهم وجب أنهم هم يشتكون عليه لا المدينة كلها وأن محل إقامة الدعوى المحكمة لا المشهد. فأظهر بما قاله أنه عرف أن غيرة ديمتريوس وجماعته لعبادة أرطاميس خداعاً ورياء والغرض ربحهم لا شرفها.

تُقَامُ أَيَّامٌ لِلْقَضَاءِ في أماكن مخصوصة إما في السوق كما في فيلبي (ص ١٦: ١٩) وإما في غيرها كما في كورنثوس (ص ١٨: ١٣).

يُوجَدُ وُلاَةٌ أي قضاة ينظرون في الدعاوي ويحكموا بمقتضى الشريعة.

فَلْيُرَافِعُوا بَعْضُهُمْ بَعْضاً أي المشتكي يبسط شكواه والمُشتكى عليه يحامي عن نفسه ما استطاع.

٣٩ «وَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَ شَيْئاً مِنْ جِهَةِ أُمُورٍ أُخَرَ، فَإِنَّهُ يُقْضَى فِي مَحْفِلٍ شَرْعِيٍّ».

بعد أن بيّن مقتضى الحكمة والعدل في الدعاوي الشخصية بيّن مقتضى ذلك في الدعاوي الجمهورية مدنية أو عامة.

وَإِنْ كُنْتُمْ وجه هنا خطابه رأساً إلى ديمتريوس وزمرته.

أُمُورٍ أُخَرَ غير الأمور الشخصية التي تُرى في المحاكم الصغرى.

فَإِنَّهُ يُقْضَى أي يُحكم به على وفق الحوادث بمقتضى الشريعة المتعلقة به فلا يبقى في صحة الحكم.

فِي مَحْفِلٍ شَرْعِيٍّ أشار بذلك إلى أن المحفل الذي كانوا فيه حينئذ ليس بشرعي فلا محل للنظر في الدعاوي فيه. فالأرجح أن الكاتب أشار إلى محفل يُقام كل ثلاثة أشهر في المدن الكبيرة يحضره قضاة معينون للحكم في الدعاوي المستأنفة من المحاكم الصغرى.

٤٠ «لأَنَّنَا فِي خَطَرٍ أَنْ نُحَاكَمَ مِنْ أَجْلِ فِتْنَةِ هٰذَا ٱلْيَوْمِ. وَلَيْسَ عِلَّةٌ يُمْكِنُنَا مِنْ أَجْلِهَا أَنْ نُقَدِّمَ حِسَاباً عَنْ هٰذَا ٱلتَّجَمُّعِ».

بعد أن أبان الكاتب أن اجتماعهم الاقتحامي في غير موضعه مع وجود الطرق القانونية للإنصاف ذكر سبباً أعظم مما سبق لوجوب العدول عنه وهو أنه ذو خطر على جميع الذين اشتركوا فيه بل على جميع أهل أفسس أيضاً لأن الحكومة الرومانية كانت لطيفة في سياسة الممالك التي استولت عليها في سوى الهياجات الجمهورية فإنها كانت شديدة فيها.

لأَنَّنَا أي كل أهل المدينة رؤساء ومرؤوسين.

خَطَرٍ هذه هي عين الكلمة التي استعملها ديمتريوس (ع ٢٧) في نصيبه ونصيب الصاغة. ومراده «بالخطر» هنا أن الدولة الرومانية تحرم مدينة أفسس الحقوق السياسية التي منحتها إياها وهو من أعز الأشياء عندهم.

نُحَاكَمَ أي تُقام علينا الدعوى في رومية ويطلب منا علة هذا الهياج الجمهوري.

وَلَيْسَ عِلَّةٌ كافية للاحتجاج فنكون عرضة للعقاب.

حِسَاباً أي حججاً نتبرأُ بها.

٤١ « وَلَمَّا قَالَ هٰذَا صَرَفَ ٱلْمَحْفَلَ».

صَرَفَ ٱلْمَحْفَلَ أمر المجتمعين بالانصراف باعتبار أنه حاكم فأطاعوا.

كان خطاب هذا الكاتب بمقتضى الحكمة ومما يستحق المدح فإنه أرضاهم أولاً بأن مدح غيرتهم الدينية وحولهم من جهة الغضب إلى جهة الافتخار بأنهم حفظة تمثال أرطاميس وهيكلها وبيّن لهم جودة ما لهم من الوسائل لفض الدعاوي الشخصية والجمهورية ثم أنذرهم بالخطر من سوء العاقبة. فاتخذ الله فصاحة هذا الكاتب الأفسسي وقاية لحياة بولس كما استخدم غاليون الوالي الروماني العادل لحمايته في كورنثوس (ص ١٨: ١٢ – ١٦). وكما استخدم الواليين فيلكس وفستوس لإنقاذ بولس من مؤامرة اليهود (ص ٢٤: ٣٢ و٣٣ وص ٢٥: ٤).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى