أعمال الرسل | 17 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح سفر أعمال الرسل
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح السابع عشر
بولس وسيلا في تسالونيكي ع ١ إلى ٩
١ «فَٱجْتَازَا فِي أَمْفِيبُولِيسَ وَأَبُولُونِيَّةَ، وَأَتَيَا إِلَى تَسَالُونِيكِي، حَيْثُ كَانَ مَجْمَعُ ٱلْيَهُودِ».
أَمْفِيبُولِيسَ اسم هذه المدينة مركب من لفظتين يونانيتين معناهما حول المدينة فأمفي حول وبوليس المدينة. وسُميت بذلك لأن نهر ستريمون يحيط بها إلا قليلاً. واسمها اليوم أمبولي وهي مما اشتهر في قديم التواريخ اليونانية وموقعها على أمد ثلاثة وثلاثين ميلاً من فيلبي غرباً.
أَبُولُونِيَّةَ مدينة على غاية ثلاثين ميلاً من أمفيبوليس غرباً. اجتاز بولس وسيلا في هاتين المدينتين ولم يمكثا للتبشير والمرجح أن على ذلك خلوهما من اليهود ليفتتحا التبشير بواسطتهم.
تَسَالُونِيكِي قصبة مكدونية على غاية سبعة وثلاثين ميلاً من أبولونية وعلى غاية مئة ميل من فيلبي في جهة الجنوب الغربي. كان اسمها ثرما جدد بناءها كسندر وحصنها وسماها تسالونيكي إكراماً لزوجته تساليا أخت اسكندر الكبير. وهي فرضة على رأس خليج ثرما اشتهرت في كل عصر بأنها مركز تجاري وسياسي واسمها اليوم سالونيك ولا تزال مدينة كبيرة ناجحة سكانها نحو سبعين ألفاً.
حَيْثُ كَانَ مَجْمَعُ ٱلْيَهُودِ هذا أول مجمع يهودي وجده بولس وسيلا في مكدونية كان في المدينة كثيرون من اليهود يومئذ ولا يزالون كثيرين فيها اليوم. وكان المجمع من أحسن الوسائل لنشر الإنجيل ولم يغفل لوقا عن ذكره في كل مكان وُجد فيه من الأمكنة التي ذهب الرسولان إليها للتبشير.
٢ «فَدَخَلَ بُولُسُ إِلَيْهِمْ حَسَبَ عَادَتِهِ، وَكَانَ يُحَاجُّهُمْ ثَلاَثَةَ سُبُوتٍ مِنَ ٱلْكُتُبِ».
لوقا ٤: ١٦ وص ٩: ٢٠ و١٣: ٥ و١٤ و١٤: ١ و١٦: ١٣ و١٩: ٨
حَسَبَ عَادَتِهِ قيل مثل هذا على المسيح (لوقا ٤: ١٦). فكون بولس رئيس الأمم لم يجعله يكف عن بذل جهده في سبيل إرشاد اليهود إلى الإيمان بيسوع المسيح حيث توجه (انظر شرح ص ١٣: ٤٦). وكان يمكنه علاوة على تبشير اليهود في المجمع أن يبشر من مال من الأمم إلى الدين الحق.
وَكَانَ يُحَاجُّهُمْ ثَلاَثَةَ سُبُوتٍ لم يلزم من ذلك أن الرسول لم يقم بتسالونيكي سوى ثلاثة أسابيع لان ما ذكره لوقا في سفر الأعمال من نجاح الإنجيل فيها وما ذُكر في رسالتي بولس إليها يستلزم أنه بقي فيها زماناً طويلاً لانه لم يتركها قبل أن أنشأ فيها كنيسة كبيرة أكثر أعضائها من الأمم. وكان يعمل فيها بيديه لتحصيل أسباب المعاش وهو يبشر (١تسالونيكي ٢: ٩). وأتته مساعدة أهل فيلبي وهو هنالك مرتين (فيلبي ٤: ١٦) وذلك مما يريد القول ببقائه في تسالونيكي أكثر من ثلاثة أسابيع لان المسافة بين المدينتين نحو مئة ميل فتقتضي المراسلة بينهما مدة ليست بقليلة. فنستنتج مما ذُكر أن بولس خص من مدة إقامته هنالك ثلاثة سبوت بمخاطبة اليهود دون غيرهم أو أن الربانيين لم يسمحوا له أن يخاطب الشعب في المجمع أكثر من ذلك.
مِنَ ٱلْكُتُبِ أي أسفار العهد القديم فإن أقوال تلك الكتب ينبوع كل تعليم بولس وأساسه.
٣ «مُوَضِّحاً وَمُبَيِّناً أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، وَأَنَّ هٰذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ يَسُوعُ ٱلَّذِي أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ».
لوقا ٢٤: ٢٦ وص ١٨: ٢٨ وغلاطية ٣: ١
هذه الأية تفسير للآية الثانية وهي محاجته اليهود من الكتب.
مُوَضِّحاً وَمُبَيِّناً مفسراً ما هو مبهم أو عسر الفهم (كما جاء في لوقا ٢٤: ٣٢) ومذكراً إياهم ما علموه ليكون أساساً لاحتجاجه.
يَنْبَغِي بموجب قضاء الله الأزلي المعلن في كتابه.
أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ هذا أول الأمرين اللذين قصد إثباتهما والمعنى أن فحوى العهد القديم هي أن المسيح الموعود به يموت كفارة عن الإثم. وقد سبق الكلام على ذلك في الشرح (لوقا ٢٤: ٢٦ و٢٧). ومع أن الكتاب صرح بهذا التعليم أبى اليهود قبوله وقتئذ ولم يزالوا يأبونه إلى الآن معتقدين أن المسيح يملك كملك أرضي على عرش داود بأعظم المجد الدنيوي الذي لم ينله أحد من ملوك نسبه.
هٰذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ يَسُوعُ الخ هذا ثاني الأمرين اللذين قصد إثباتهما وهو أن يسوع الناصري هو المسيح الذي تألم ومات وقام وأن حوادث تاريخه على وفق نبوءات الكتاب. وإثبات ذلك من كتب اليهود يؤثر فيهم أشد التأثير لأنهم يعتقدون أن كل كلمة فيها موحى بها من الله بل يعتقدون أن كل حرف من حروفه كذلك. ومن النبؤات التي استشهدها بولس وتمت بالمسيح:
- أولاً: أنه يولد في بيت لحم (ميخا ٥: ٢).
- ثانياً: أنه يكون من سبط يهوذا (تكوين ٤٩: ١٠).
- ثالثاً: أنه يكون من نسل يسى وسلالة داود (إشعياء ١١: ١ و١٠).
- رابعاً: تعيين وقت مجيئه (دانيال ٩: ٢٤ و٢٧).
- خامساً: هيئته وصفاته وعمله الخ (إشعياء ص ٥٣).
ولا بد من أن بولس ذكر المعجزات التي فعلها يسوع برهاناً على أنه المسيح لأنه ادعى ذلك والله لا يعمل معجزة إثباتاً لدعوى كاذب. ولا بد من أنه ذكر قيامته أيضاً دليلاً على أنه هو المسيح.
٤ «فَٱقْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ وَٱنْحَازُوا إِلَى بُولُسَ وَسِيلاَ، وَمِنَ ٱلْيُونَانِيِّينَ ٱلْمُتَعَبِّدِينَ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ، وَمِنَ ٱلنِّسَاءِ ٱلْمُتَقَدِّمَاتِ عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ».
ص ٢٨: ٢٤ ص ١٥: ٢٢ و٢٧ و٣٢ و٤٠
كان لتبشير بولس تأثير عظيم في الحال.
فَٱقْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أي من اليهود والدخلاء فإنهم سلموا بصحة ما قاله بولس أي الإنجيل.
ٱنْحَازُوا المعنى في الأصل اليوناني أنهم اختاروا نصيب بولس وسيلا نصيباً لهم أي أنهم انضموا إلى الكنيسة المسيحية معترفين بإيمانهم بواسطة المعمودية.
ٱلْيُونَانِيِّينَ ٱلْمُتَعَبِّدِينَ هم من عبدوا الإله الحق الوحيد من الأمم سواء اعتقدوا صحة الدين اليهودي أم لا (١تسالونيكي ١: ٩ و٢: ١٤ و٤: ٥).
مِنَ ٱلنِّسَاءِ ٱلْمُتَقَدِّمَاتِ الخ أي المرتفعات المقام أو الشريفات. ولا بد أن يكون بعض هؤلاء النساء أزواج أعيان من الأمم كن وسيلة لبولس وسيلا إلى مخاطبة رجالهن بالإنجيل.
٥ «فَغَارَ ٱلْيَهُودُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَاتَّخَذُوا رِجَالاً أَشْرَاراً مِنْ أَهْلِ ٱلسُّوقِ، وَتَجَمَّعُوا وَسَجَّسُوا ٱلْمَدِينَةَ، وَقَامُوا عَلَى بَيْتِ يَاسُونَ طَالِبِينَ أَنْ يُحْضِرُوهُمَا إِلَى ٱلشَّعْبِ».
رومية ١٦: ٢١
نجاح الإنجيل هيّج حسد اليهود هنا كما هيّجه في أنطاكية بيسيدية (ص ١٣: ٥٠) فإنه كان يشق عليهم أن يروا كثيرين من الأمم يفرحون بالبركات التي اعتقدوا أنها لهم دون غيرهم.
اتَّخَذُوا رِجَالاً أَشْرَاراً مِنْ أَهْلِ ٱلسُّوقِ كان اليهود غرباء هنالك ولم يستطيعوا أن ينشئوا شغباً في المدينة إلا بواسطة وطنيي المدينة فاتخذوا واسطة لإنفاذ قصدهم جماعة من أدنياء الشعب البطالين الجهلاء الأردياء القساة واتخذوهم كذلك بالرشوة أو ما شاكلها فإنه كان أهل السوق في اصطلاحهم ما نسميهم اليوم بالأوباش.
سَجَّسُوا ٱلْمَدِينَةَ أي هيّجوا أهلها وكدروهم بازدحامهم وصراخهم.
يُحْضِرُوهُمَا أي بولس وسيلا ضيفي ياسون.
قَامُوا عَلَى بَيْتِ يَاسُونَ أي هجموا عليه. وياسون في اليونانية كيشوع في العبرانية وكان بولس وسيلا في بيته وكان من أقارب بولس (رومية ١٦: ٢١).
إِلَى ٱلشَّعْبِ كانت تسالونيكي مدينة مستقلة كطرسوس يسوسها ولاة رومانيون. وميّز تسالونيكي بالاستقلال أوغسطس قيصر إثابة لها على تحزبها له يوم محاربته بروتس وكاسيوس سنة ٤٢ ق. م. وكان لأرباب المجلس المحلي سلطان الموت والحياة.
٦ «وَلَمَّا لَمْ يَجِدُوهُمَا، جَرُّوا يَاسُونَ وَأُنَاساً مِنَ ٱلإِخْوَةِ إِلَى حُكَّامِ ٱلْمَدِينَةِ صَارِخِينَ: إِنَّ هٰؤُلاَءِ ٱلَّذِينَ فَتَنُوا ٱلْمَسْكُونَةَ حَضَرُوا إِلَى هٰهُنَا أَيْضاً».
ص ١٦: ٢٠
ٱلإِخْوَةِ هم الذين آمنوا حديثاً بالمسيح (ع ٤).
حُكَّامِ ٱلْمَدِينَةِ الحكام هنا في اليونانية غير الحكام المذكورين في (ص ١٦: ١٩) وعلة ذلك الفرق بين سياسة المدينتين وهذا من تدقيقات لوقا وما وافق به التاريخ العالمي فكان من الأدلة على صحة ما كتبه في هذا السفر.
فَتَنُوا ٱلْمَسْكُونَةَ أي أقلقوها وبلبلوها. هذه الشكوى تدل على أنه قد بلغ تسالونيكي نبأ انتشار الديانة المسيحية انتشاراً عجيباً وهي مع أنهم قصدوا بها تعيير الديانة المسيحية لا تخلو من بعض الحق لأن غايتها «نقض أعمال إبليس» (١يوحنا ٣: ٨) ونفي كل أنواع الشر من العالم كالظلم والقساوة وعبادة الأوثان والفجور والأوهام الباطلة وإقامة عبادة الإله الحق الروحانية موضعها وهذا لا يكون بلا بلبلة إذ الشيطان لا يسلم مملكته باختياره.
إِلَى هٰهُنَا أَيْضاً بغية تفتين مدينتنا.
٧ «وَقَدْ قَبِلَهُمْ يَاسُونُ. وَهٰؤُلاَءِ كُلُّهُمْ يَعْمَلُونَ ضِدَّ أَحْكَامِ قَيْصَرَ قَائِلِينَ إِنَّهُ يُوجَدُ مَلِكٌ آخَرُ: يَسُوعُ!».
لوقا ٢٣: ٢ ويوحنا ١٩: ١٢ و١بطرس ٢: ١٣
هٰؤُلاَءِ كُلُّهُمْ أي بولس وسيلا وحزبهما وسائر المسيحيين.
ضِدَّ أَحْكَامِ قَيْصَرَ اتهموهم بجرم سياسي وهو عصيان قيصر الأمبراطور الروماني والحق أن الذي أغاظهم وحملهم على الشكوى خوفهم إضرار الديانة اليهودية بانتشار الإنجيل وهذه الشكوى تشبه التي كانت عليهما في فيلبي (ص ١٦: ٢٠). وهي مثل شكوى اليهود على المسيح إلى بيلاطس (متّى ٢٧: ١١ و١٢ ومرقس ١٥: ٢ و٣ ويوحنا ١٨: ٣٣ – ٣٧ و١٩: ١ و٢). والمراد بالأحكام هنا السلطة «وقيصر» اسم عام لكل أمبراطور روماني من أيام يوليوس قيصر الأول.
مَلِكٌ آخَرُ: يَسُوعُ! ملكوت السموات الذي بشر به بولس ليس من هذا العالم (لوقا ٢٣: ٢) فإنه اتى ليملك قلوب الناس لا أجسادهم فلم يكن مبارياً لقيصر ولا مضاداً له. والمشتكون عرفوا ذلك أو كان لهم أن يعرفوه لو أرادوا ولعلهم بنوا شكواهم على ما جاء في تبشير بولس من أن يسوع رب. ولا بد من أن بولس استعمل في وعظه في تسالونيكي عبارات تشبه بعض عباراته في رسالتيه إليها. ولعلهم أشاروا في شكواهم إلى مثلها (كما في ١تسالونيكي ٢: ١٢ و٥: ١ و٢تسالونيكي ١: ٥ و٢: ١). وحولوا ما قاله في مجيء المسيح الثاني للملك إلى أنه يملك الآن على الأرض.
٨ «فَأَزْعَجُوا ٱلْجَمْعَ وَحُكَّامَ ٱلْمَدِينَةِ إِذْ سَمِعُوا هٰذَا».
أَزْعَجُوا ٱلْجَمْعَ أي أقلقوا أهل المدينة جملة بتهييجهم إياهم على المسيحيين.
وَحُكَّامَ ٱلْمَدِينَةِ لأنهم لم يعرفوا أحقة شكواهم أم باطلة ولا ما يجب عليهم أن يفعلوه وخافوا من أن يُشتكى إلى رومية بحدوث العصيان في تسالونيكي.
إِذْ سَمِعُوا هٰذَا أي ما ذُكر من الشكوى على المسيحيين.
٩ «فَأَخَذُوا كَفَالَةً مِنْ يَاسُونَ وَمِنَ ٱلْبَاقِينَ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُمْ».
فَأَخَذُوا كَفَالَةً الأرجح أنهم أخذوا مقداراً من الدراهم ضمانة أنهم لا يأتون شيئاً ينافي راحة المدينة أو أن يسافر بولس وسيلا منها.
ٱلْبَاقِينَ الذين قبض عليهم من المسيحيين عند الهياج. والظاهر أن أولئك الحكام كانوا عادلين لا كحكام فيلبي الذين ظلموا الرسولين ليرضوا سفلة الشعب وكان المضطهدون من اليهود والأمم والمضطهدون المسيحيين كلهم لا بولس وسيلا دون غيرهما بدليل ما جاء في (١تسالونيكي ٢: ١٤).
بولس في بيرية ع ١٠ إلى ١٥
١٠ «وَأَمَّا ٱلإِخْوَةُ فَلِلْوَقْتِ أَرْسَلُوا بُولُسَ وَسِيلاَ لَيْلاً إِلَى بِيرِيَّةَ. وَهُمَا لَمَّا وَصَلاَ مَضَيَا إِلَى مَجْمَعِ ٱلْيَهُودِ».
ص ٩: ٢٥ وع ١٤
فَلِلْوَقْتِ الأرجح أنهم أرسلوهما في مساء ذلك اليوم عينه وقاية لهما وللكنيسة من سجس جديد وإنجازاً لوعدهم للحكام.
لَيْلاً كما خرج بولس من دمشق (ص ٩: ٢٥).
إِلَى بِيرِيَّةَ هي مدينة في الجنوب الغربي من تسالونيكي وعلى غاية ستين ميلاً منها وتسمى الآن قيرية وسكانها نحو عشرين ألفاً.
مَجْمَعِ ٱلْيَهُودِ كان يهود بيرية أقل عدداً من يهود تسالونيكي لكن كان لهم مجمع حضره الرسولان للتبشير فيه.
١١ «وَكَانَ هٰؤُلاَءِ أَشْرَفَ مِنَ ٱلَّذِينَ فِي تَسَالُونِيكِي، فَقَبِلُوا ٱلْكَلِمَةَ بِكُلِّ نَشَاطٍ فَاحِصِينَ ٱلْكُتُبَ كُلَّ يَوْمٍ: هَلْ هٰذِهِ ٱلأُمُورُ هٰكَذَا؟».
ص ٣٤: ١٦ ولوقا ١٦: ٢٩ ويوحنا ٥: ٣٩
أَشْرَفَ عقلاً وأدباً لا نسباً. وأظهروا أشرفيتهم بإخلاصهم وخضوعهم لسلطان الحق واستعدادهم للنظر في دعاوي الديانة الجديدة بلا هوىً.
مِنَ ٱلَّذِينَ فِي تَسَالُونِيكِي لأن هؤلاء كانوا كأكثر اليهود الذين رفضوا دعاوي تلك الديانة بلا فحص لأنها لم توافق ما ألفوه من الآراء ولكن أهل بيرية لم يفعلوا فعلهم فإنهم أطاعوا قول المسيح «فَتِّشُوا ٱلْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً» (يوحنا ٥: ٣٩).
فَقَبِلُوا ٱلْكَلِمَةَ أي سمعوها وسلموا بها.
بِكُلِّ نَشَاطٍ أظهروا بذلك ما كان لهم من الاستعداد وأنهم وجدوا الديانة الجديدة كافية للقيام بحاجات نفوسهم فرغبوا فيها.
فَاحِصِينَ ٱلْكُتُبَ الخ أي أسفار العهد القديم فقابلوا ما فيها بتعاليم بولس ليروا صحة هذه التعاليم أو بطلانها ولم يأتوا ذلك في السبوت فقط بل في كل يوم. ومن ذلك العصر صار أهل بيرية مثالاً في لبحث عن الحق.
١٢ «فَآمَنَ مِنْهُمْ كَثِيرُونَ، وَمِنَ ٱلنِّسَاءِ ٱلْيُونَانِيَّاتِ ٱلشَّرِيفَاتِ، وَمِنَ ٱلرِّجَالِ عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ».
فَآمَنَ أي أن النتيجة كانت كما توقع من سجاياهم الحسنة وميلهم إلى الحق ومطالعتهم الأسفار المقدسة إذ لا يؤمن الناس ما لم يسمعوا (رومية ١٠: ٤). وعلى تكذيب بعض الناس أقوال الإنجيل حكمهم عليها قبل أن يسمعوها. فلا يستطيع أحد قراءة الكتاب المقدس بالإخلاص والصلاة ولا يقتنع بصحة دعاوي الدين المسيحي.
مِنْهُمْ أي من يهود بيريّة.
ٱلنِّسَاءِ ٱلْيُونَانِيَّاتِ ٱلشَّرِيفَاتِ أي اللواتي أصلهن وثني وهن من أعيان المدينة كاللواتي آمنّ في تسالونيكي (ع ٤).
ٱلرِّجَالِ الذين أصلهم وثني. المرجح أن بولس وسيلا بقيا في بيرية عدة أسابيع أو بضعة أشهر بدليل كثرة أعمالهما فيها وقول بولس أنه في تلك المدة اجتهد أن يزور أهل تسالونيكي مرة أو مرتين (١تسالونيكي ٢: ١٧ و١٨). ومن العجب أن بولس لم يذكر مسيحي بيريّة في شيء من رسائله مع أنهم كانوا كثيري العدد ممدوحي الأعمال.
١٣ «فَلَمَّا عَلِمَ ٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ مِنْ تَسَالُونِيكِي أَنَّهُ فِي بِيرِيَّةَ أَيْضاً نَادَى بُولُسُ بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ، جَاءُوا يُهَيِّجُونَ ٱلْجُمُوعَ هُنَاكَ أَيْضاً».
هذا يدل على شدة بغض اليهود لبولس وتعليمه. فمن خواص الإنجيل أن من الناس من يحبونه حتى يريدوا أن يبذلوا أموالهم وحياتهم في سبيله وأن منهم من يبغضونه حتى يحبوا أن يقاصوا مشقة السفر الطويل ليهيّجوا الناس عليه كما فعل اليهود هنا وفي أنطاكية بيسيدية وإيقونية (ص ٢٤: ١٩). ووصفهم بولس بقوله «هُمْ غَيْرُ مُرْضِينَ لِلّٰهِ وَأَضْدَادٌ لِجَمِيعِ ٱلنَّاسِ» (١تسالونيكي ٢: ١٥).
١٤ «فَحِينَئِذٍ أَرْسَلَ ٱلإِخْوَةُ بُولُسَ لِلْوَقْتِ لِيَذْهَبَ كَمَا إِلَى ٱلْبَحْرِ، وَأَمَّا سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسُ فَبَقِيَا هُنَاكَ».
متّى ١٠: ٢٣
كَمَا إِلَى ٱلْبَحْرِ كان البحر على غاية ستة عشر ميلاً من شرقي بيريّة وكان السفر في البحر أهون وأقصر مدّة منه في البر لأنه لا يشغل سوى ثلاثة أيام. وطريقه في البر صعبة وطولها لا يقل عن ٢٥٠ ميلاً فيشغل قطعها نحو عشرة أيام. والأرجح أن بولس سافر بحراً لأنه لو سافر براً لذكر لوقا كعادته المدن التي مر بها بولس ولعله قال «كما إلى البحر» لا «إلى البحر» لأن رفاق بولس لم يكونوا قد قصدوا فرضة معيّنة حين تركوا بيريّة بل عزموا على أن ينزلوا إلى البحر حيث يجدون سفينة متأهبة للسفر إلى أثينا. ولعل بولس لم يعتمد حين ترك بيريّة أن يتوجه في البحر إلى تسالونيكي شمالاً كما كان يشتهي (١تسالونيكي ٢: ١٧) أو يتوجه فيه إلى أثينا جنوباً أو لعل الكاف في كما للتوكيد كما يفيد أصله اليوناني أحياناً. وهذه نهاية زيارة بولس لمكدونية إجابة لدعوة الرؤيا في ترواس وفي القول «اعبر إلى مكدونية وأعنّا» فزار ثلاث مدن كبيرة فيها وأسس كنيسة مسيحية في كل منها. وعلى تقدمه في السفر غرباً لفتوحات جديدة بالإنجيل ليست كدعوة الرؤيا بل شر أعداء المسيح فإنه منعه من الرجوع وأجبره على التقدم ولا بد من أن كل ذلك كان إتماماً لقصد الله.
وَأَمَّا سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسُ الخ علة بقائهما إما إخفاء سفر بولس وإما كون سفره وحده أكثر أمناً له.
١٥ «وَٱلَّذِينَ صَاحَبُوا بُولُسَ جَاءُوا بِهِ إِلَى أَثِينَا. وَلَمَّا أَخَذُوا وَصِيَّةً إِلَى سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسَ أَنْ يَأْتِيَا إِلَيْهِ بِأَسْرَعِ مَا يُمْكِنُ، مَضَوْا».
ص ١٨: ٥
وَٱلَّذِينَ صَاحَبُوا بُولُسَ لإرشاده ووقايته.
وَصِيَّةً إِلَى سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسَ الخ طلبهما ليساعداه على التبشير في أثينا أو في كورنثوس فأتى تيموثاوس إليه وهو في أثينا ولكن بولس أرجعه حالاً من هنالك إلى تسالونيكي. والأرجح أن علة ذلك ما بلغه من أخبار أهلها (١تسالونيكي ٣: ١ – ٥).
بولس في أثينا وخطابه في أريوس باغوس ع ١٦ – ٣٤
١٦ «وَبَيْنَمَا بُولُسُ يَنْتَظِرُهُمَا فِي أَثِينَا ٱحْتَدَّتْ رُوحُهُ فِيهِ، إِذْ رَأَى ٱلْمَدِينَةَ مَمْلُؤَةً أَصْنَاماً».
٢بطرس ٢: ٨
بَيْنَمَا بُولُسُ يَنْتَظِرُهُمَا هذا يدل على أن بولس لم يقصد الإقامة بأثينا إلا أن يأتي سيلا وتيموثاوس.
أَثِينَا هي قاعدة أخائية كما أن تسالونيكي قاعدة مكدونية. وكانت عند اليونان منذ العصور الخالية مركز العلم والحكمة والتمدن والصناعة والقوة والسياسة واشتهرت بأنها خدمت البشر بالعلم والحرية. وكانت يوم أتى بولس إليها قد فقدت سلطتها السياسية باستيلاء الرومانيين عليها سنة ٤٠ ق. م لكنها لم تزل ذات مدارس عظيمة (قصدها أفضل الشبان) وأبنية فاخرة جداً.
مَمْلُؤَةً أَصْنَاماً الذي أثر في بولس أكثر من سائر مشاهدها النفيسة أوثانها الكثيرة لأنه رأى حيثما توجه هياكل وتماثيل ومذابح.
قال بيترونيس المؤرخ «أن تجد إلهاً في أثينا أسهل من أن تجد فيها أناساً». وقال برسانياس «أن آلهة أثينا أكثر من آلهة سائر بلاد اليونان». وقال زينفون «ما أثينا سوى مذبح وتقدمة». وقال يوسيفوس المؤرخ الروماني «أن في أثينا تماثيل مختلفة الأنواع والمواد لكل الآلهة». وكانت تماثيلها محيطة بكل ساحة وقائمة في كل زاوية من زوايا الأزقة والشوارع وفي باحة كل دار وفي كل مخدع.
ٱحْتَدَّتْ رُوحُهُ لما في ذلك من الإهانة لله الإله الحق والمخالفة لوصيته والاضرار للناس لما يقترن به من الفواحش والجور (كما بُيّن في رومية ١: ٢٤ – ٢٧). وكثير من تلك الآلهة لم يكن سوى شهوات الإنسان مشخصة. قال سنيكا الفيلسوف «من المحال أن عبدة مثل هذه الآلهة تستحي بشيء من أنواع الفجور».
١٧ «فَكَانَ يُكَلِّمُ فِي ٱلْمَجْمَعِ ٱلْيَهُودَ ٱلْمُتَعَبِّدِينَ، وَٱلَّذِينَ يُصَادِفُونَهُ فِي ٱلسُّوقِ كُلَّ يَوْمٍ».
فِي ٱلْمَجْمَعِ ٱلْيَهُودَ كعادته. كان موضوع مخاطبته اليهود أن يسوع هو المسيح وأن قيامته من الموت برهان على ذلك.
فِي ٱلسُّوقِ محل التجارة والتنزه واجتماع الناس لسمع الأخبار والمحاورات والمناظرات فكان لبولس أن يصادف هنالك الفلاسفة والمعلمين واتباعهم على اختلاف مذاهبهم الفلسفية ولا ريب في أنه دفع عن الحق في كل وقت سمع فيه بعضهم ينكره.
١٨ «فَقَابَلَهُ قَوْمٌ مِنَ ٱلْفَلاَسِفَةِ ٱلأَبِيكُورِيِّينَ وَٱلرِّوَاقِيِّينَ، وَقَالَ بَعْضٌ: تُرَى مَاذَا يُرِيدُ هٰذَا ٱلْمِهْذَارُ أَنْ يَقُولَ؟ وَبَعْضٌ: إِنَّهُ يَظْهَرُ مُنَادِياً بِآلِهَةٍ غَرِيبَةٍ لأَنَّهُ كَانَ يُبَشِّرُهُمْ بِيَسُوعَ وَٱلْقِيَامَةِ».
قَوْمٌ مِنَ ٱلْفَلاَسِفَةِ كانت فرق الفلاسفة كثيرة ذكر الكاتب اثنتين منها هما اشهرها.
ٱلأَبِيكُورِيِّينَ هم أتباع أبيكوريوس وهو فيلسوف يوناني وُلد في جزيرة ساموس سنة ٣٤٢ ق. م أقام بأثينا مدة طويلة ومات فيها سنة ٢٧٠ ق. م وأوصى بأن يكون بيته وبستانه بعد موته مدرسة لفلسفته ولذلك كثيراً ما دُعي أتباعه بالبستانيين. ومن فلسفته أن في الوجود آلهة لكنهم بعيدون عن العالم لا يبالون بأحزان الناس ولا بآثامهم ولا بشيء من سائر أعمالهم كأنهم أعدام وأن الآلهة في راحة تامة لا يحتاجون إلى قرابين الناس ولا يسمعون صلواتهم وأن المادة أزلية نُظمت ورُتبت اتفاقاً وأن اللذة غاية الإنسان العظمى وأن للإنسان أن يتبع ما شاء من الشهوات ما لم ينشأ عنها ألم. وأن لا حياة سوى الحياة الدنيا فلا خوف من حساب ولا عقاب. وأن النفس مادة كالجسد تموت بموته. وأشار بولس إلى خلاصة فلسفتهم بقوله نقلاً عن قولهم «فَلْنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ لأَنَّنَا غَداً نَمُوتُ» (١كورنثوس ١٥: ٣٢). وأتباع هذا المذهب يقاومون الإنجيل لأنه يقاومهم على شهواتهم.
ٱلرِّوَاقِيِّينَ هم أتباع زينو وهو فيلسوف يوناني وُلد في قبرس في سنة ٣٥٠ ق. م علم في أثينا ٥٨ سنة وانتحر سنة ٢٥٨ ق. م وكان يعلم تلاميذه في رواق مزين بالصور ولذلك دُعي أتباعه بالرواقيين. والحكمة عنده هي أن لا يتأثر الإنسان بشيء من الحوادث مفرحاً أو محزناً وأن يسود على الحوادث ولا تسود عليه. وأن يتلقى مهما حدث من لذة أو ألم بالطمأنينة. وأن الدين الحق يقوم بعدم الاكتراث بالانفعالات. وكان مؤمناً بالله لكنه لم يميّز بين الله والعالم إذ العالم والله عنده شيء واحد. وأن كل شيء بقضاء وقدر على الله والعالم سواء. وأن النفوس تعود أخيراً إلى الله أصلها وتفنى فيه. وكان الرواقيون يقاومون الإنجيل لأنه قاومهم على اعتمادهم البر الذاتي وافتخارهم بالحكمة.
ٱلْمِهْذَارُ الكثير الكلام الباطل. وصف الأثينيون بولس بذلك تحقيراً وأصله في اليونانية ملتقط الفتات. وأرادوا به هنا من يلتقط قليلاً من متفرقات الأفكار ويوزعها على الناس فهو قريب من النُتفة في العربية.
بِآلِهَةٍ غَرِيبَةٍ قسم الآثينيون الآلهة ثلاثة أقسام وأصل الآلهة هنا في اليونانية تفيد القسم الأدنى من هذه الثلاثة. سجن اليونانيون سقراط الفيلسوف وحكموا عليه بالموت سنة ٣٩٩ ق. م لمثل هذه الدعوى عينها.
لأَنَّهُ… بِيَسُوعَ وَٱلْقِيَامَةِ هذا علة قولهم «منادياً بآلهة غريبة» والمعنى أنه نادى لهم بيسوع والذي أقامه. ولا يعقل أن أولئك الفلاسفة حسبوا القيامة إلهاً وأن بولس جمجم كلامه وأبهم مراده حتى أوهمهم ذلك.
١٩، ٢٠ «١٩ فَأَخَذُوهُ وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى أَرِيُوسَ بَاغُوسَ، قَائِلِينَ: هَلْ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا هُوَ هٰذَا ٱلتَّعْلِيمُ ٱلْجَدِيدُ ٱلَّذِي تَتَكَلَّمُ بِهِ. ٢٠ لأَنَّكَ تَأْتِي إِلَى مَسَامِعِنَا بِأُمُورٍ غَرِيبَةٍ، فَنُرِيدُ أَنْ نَعْلَمَ مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هٰذِهِ».
فَأَخَذُوهُ أخذ الصديق للصديق كما أخذه برنابا من طرسوس (ص ٩: ٢٧).
أَرِيُوسَ بَاغُوسَ أي أكمة المرّيخ وهي تل صخري مشرف على المدينة يُصعد إلى قنته بدرج. وكانت مجالسهم العظمى هنالك وكانت مقاعد القضاة منحوتة في صخرها ولم تزل باقية إلى هذا اليوم. وأخذوا بولس إلى هنالك لأن المكان مناسباً لمخاطبة الجمهور.
هَلْ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ ظاهر هذه العبارة لطف وافر ولكنها لا تخلو من بعض التهكم.
ٱلَّذِي تَتَكَلَّمُ بِهِ في السوق (ع ١٧).
٢١ «أَمَّا ٱلأَثِينِيُّونَ أَجْمَعُونَ وَٱلْغُرَبَاءُ ٱلْمُسْتَوْطِنُونَ، فَلاَ يَتَفَرَّغُونَ لِشَيْءٍ آخَرَ إِلاَّ لأَنْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَسْمَعُوا شَيْئاً حَدِيثاً».
هذه الآية من كلام لوقا وهي بيان لرغبة رجال أثينا في أن يسمعوا كلام بولس خلافاً لسائر أهل المدن التي زارها لكنهم لم يأتوا ذلك محبة للإنجيل أو رغبة في قبوله.
ٱلأَثِينِيُّونَ بأسرهم أغنياء وفقراء علماء وجهلاء.
ٱلْغُرَبَاءُ ٱلْمُسْتَوْطِنُونَ الذين اتخذوا تلك المدينة وطناً وقتياً لأن طلبة العلم كانوا يقصدونها من سائر البلدان ليحضروا حلقات الفلسفة المتنوعة وكانوا يجرون مجرى أهل المدينة.
فَلاَ يَتَفَرَّغُونَ لِشَيْءٍ آخَرَ هذا من المبالغة والمراد به أن معظم أعمالهم الأُلفة والبحث عن غرائب الحوادث والتعاليم.
شَيْئاً حَدِيثاً أحدث مما سمعوه أمس.
٢٢ «فَوَقَفَ بُولُسُ فِي وَسَطِ أَرِيُوسَ بَاغُوسَ وَقَالَ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلأَثِينِيُّونَ، أَرَاكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَأَنَّكُمْ مُتَدَيِّنُونَ كَثِيراً».
مدح كثيرون خطاب بولس هنا لأنه كان على وفق مقتضى الحال ولأن بولس أظهر فيه غاية الحكمة بالأسلوب الذي اختاره لإعلان الحق للأثنيين إذ بنى ما أعلنه على ما اعتقدوه قبلاً.
أَرَاكُمْ مما اختبرته وشاهدته في مدينتكم.
مُتَدَيِّنُونَ كَثِيراً اشتهر أهل أثينا بشدة مراعاتهم الأمور الدينية وافتخروا بذلك فاتخذ بولس ذكر ذلك وسيلة إلى أن يرضوه ويصغوا إليه. وهذا ليس من التملق لأنه لم يمدحهم ولم يذمهم على ذلك بل ذكر ما هو الواقع من رغبتهم في العبادة حسب معرفتهم واعتقادهم. وأحب بولس أن يحولهم عن رغبتهم في العبادة الباطلة إلى الرغبة في العبادة الحقة ويقودهم من اعتقادهم آلهة كثيرة موهومة إلى معرفة الإله الواحد القدوس غير المنظور وغير المحدود الأزلي المحب.
٢٣ «لأَنَّنِي بَيْنَمَا كُنْتُ أَجْتَازُ وَأَنْظُرُ إِلَى مَعْبُودَاتِكُمْ، وَجَدْتُ أَيْضاً مَذْبَحاً مَكْتُوباً عَلَيْهِ: لإِلٰهٍ مَجْهُولٍ. فَٱلَّذِي تَتَّقُونَهُ وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ، هٰذَا أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ».
يوحنا ٤: ٢٢
أَجْتَازُ في أزقة مدينتكم وساحاتها.
مَعْبُودَاتِكُمْ أراد بذلك كل ما يتعلق به من الهياكل والمذابح والتماثيل.
وَجَدْتُ أَيْضاً مَذْبَحاً فوق المذابح المختصة بآلهة معروفة الأسماء والصفات.
لإِلٰهٍ مَجْهُولٍ هذا إثبات لقوله «متدينون كثيراً». وشهد يوسانياس وفيلستريتوس بأنه كان في أثينا مذابح مكتوب عليها «لإله مجهول». وجاء في التواريخ اليونانية أنه تفشى وباء شديد في أثينا ونسبوه إلى غضب أحد الآلهة وأرادوا أن يعرفوا من هو فاستشاروا أبيميندس فأمرهم أن يُطلقوا الغنم في المدينة وأنه حيث تربض إحداها قرب هيكل أو صنم يذبحونها هناك رجاء أن تأتي الغنمة إلى مقام الإله الذي غضب عليهم فيرفع نقمته عنهم. لكن بعضها ربض حيث لا صنم ولا هيكل فأقاموا في المربض مذبحاً وكتبوا عليه «لإله مجهول» اعتقاداً أنه هو الذي أرسل النقمة وهو الذي يقدر أن يرفعها. وبهذا سلموا بأن ديانتهم مع وفرة آلهتها غير وافية بأن تبيّن لهم كل المعبودات حتى لا تتركهم يجهلون من عبادته لا بد منها لدفع البلاء. فأخذ بولس في أن يُعلن لهم من سلموا باحتياجهم إلى معرفته. وفي هذا العنوان برهان على «أن العالم لم يعرف الله بالحكمة» (١كورنثوس ١: ٢١) وأنه لا يستطيع الإنسان بواسطة حكمته أن يعرف من شأنه تعالى ما فيه الكفاية لراحة العقل.
وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ الخ أي وأنتم لا تعلمون اسمه ولا صفاته ولا العبادة التي ترضيه. فبذلك العنوان أقررتم بوجود إله يستحق العبادة مجهول الاسم والصفات فإيّاه أعلن لكم وهو الإله الواحد الحي. وبهذا خلّص بولس نفسه من التهمة التي بها حُكم على سقراط بالموت وهي أنه نادى بآلهة جديدة وأنبأهم بمن اعترفوا بجهلهم إيّاه وتوصل إلى مقدمة لطيفة لخطابه. ولو خاطب اليهود في مجمعهم لكان أخذ موضوع خطابه من ناموس موسى لكنه في خطابه اليونانيين في أريوس باغوس اتخذ موضوع خطبته عنوان أحد مذابحهم الوثنية.
لم يطعن بولس في العبادة الوثنية بل اتخذ المبدأ الغريزي الحامل على العبادة الإلهية وبيّن لهم وجوب الجري بمقتضاه في سنن الصواب.
٢٤ «ٱلإِلٰهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، هٰذَا، إِذْ هُوَ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِٱلأَيَادِي».
ص ١٤: ١٥ متّى ١١: ٢٥ ص ٧: ٤٨
شرع بولس في ما يأتي يبيّن صفات الإله الحق الواحد وأعماله وطريق عبادته الواجبة.
ٱلإِلٰهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْعَالَمَ هذا تصريح بتوحيد الله مناف لاعتقادهم كثرة الآلهة وبأنه مبدع كل شيء خلافاً للمعتقدين أزلية المادة وانتظامها اتفاقاً.
إِذْ هُوَ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ هذا لازم عن كونه خالق كل شيء. ومعناه أن الله متسلط على كل ما خلق وسائسه ومعتنٍ به. وينتج من ذلك أنه الإله الذي يجب أن نعبده وتخافه وحده وأنه ليس من إله سواه.
لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ الخ لأنه خالق الكل فهو مالئ الكل غير محدود فلا يُحصر في هيكل أحدثه الناس. ولا بد من أنهم شعروا بغرابة هذا القول وهم محاطون بهياكل فاخرة فاعتبروها مساكن الآلهة. إن بولس سمع هذه العبارة في خطاب استفانوس (ص ٧: ٤٨ و٥٨) ولا ريب في أنه اغتاظ حينئذ منها كسائر اليهود الذين اعتبروا هيكلهم في أورشليم مسكن الله وأن القول بخلاف ذلك تجديف. ولكنه هنا نادى بتلك العبارة عينها وفي هذا منافاة لضلالهم في أمر المعابد فتعليمه هنا على وفق تعليم المسيح للمرأة السامرية في قوله «تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ» (يوحنا ٤: ١٢).
لا شيء في قول بولس هنا مناقض لكون الله أعلن آية مجده في قدس الأقداس في خيمة الاجتماع وفي هيكل سليمان ولا مانع فيه للمسيحيين من أن يحسبوا الكنيسة بيت الله وأنها مقدسة لأن ذلك لا يلزم منه أن الله محدود أو محصور في مكان.
٢٥ «وَلاَ يُخْدَمُ بِأَيَادِي ٱلنَّاسِ كَأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ، إِذْ هُوَ يُعْطِي ٱلْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْساً وَكُلَّ شَيْءٍ».
مزمور ٥٠: ٨ تكوين ٢: ٧ وعدد ١٦: ٢٢ وأيوب ١٢: ١٠ و٢٧: ٣ و٣٣: ٤ وإشعياء ٤٢: ٥ و٥٧: ١٦ وزكريا ١٢: ١
وَلاَ يُخْدَمُ بِأَيَادِي ٱلنَّاسِ المراد بأيدي الناس هنا الناس باعتبار أن أيديهم آلة خدمتهم. هذا تصريح آخر بما يخالف اعتقادهم في شأن الله وطريق عبادته أبان به عدم افتقار الله إلى خدمة الإنسان وغناه عن ذبائحهم. فالأثينويون كسائر الوثنيين قدّموا لآلهتهم قرابين نفيسة وذبائح وافرة وأولموا ولائم فاخرة لها وأنفقوا ثروتهم على تزيين هياكلهم كأن تلك الآلهة اقتاتت بالذبائح وافتقرت إلى القرابين وسروا بها. وصرح بولس بأن الله غني عن كل ذلك بناء على قوله آنفاً «أنه خالق الكل ورب الكل» .وهذا على وفق قول داود «لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى» (مزمور ٥١: ١٦ انظر ايضاً مزمور ٥٠: ١ – ١٢). هذا وأن الله مع غناه عن عبادة الإنسان بغية مسرّته تعالى ومجده يرضى عبادتنا بغية خيرنا وسعادتنا وإظهار شكرنا له على كل آلائه الزمنية والروحية فيليق بالإنسان ويجب عليه أن يقدمها (يوحنا ٤: ٢٣).
إِذْ هُوَ يُعْطِي مبدأ العبادة الوثنية هو أن العابد يجعل معبوده مديوناً له لكن بولس أبان أنه لا يمكن أن يكون الله مديوناً لعباده لأنه هو الواهب كل شيء لهم ولاحاجة له إلى شيء.
حَيَاةً وَنَفْساً وَكُلَّ شَيْءٍ المراد بالحياة والنفس هنا شيء واحد فالعطف للتفسير فهو كقوله «فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً» (تكوين ٢: ٧). وأراد «بكل شيء» مقومات الحياة فالله الذي وهب الحياة هو الذي يحفظها على الدوام ويعتني بكل نفس من أنفاسها. وهذا يبيّن شدة افتقار الإنسان إلى الله وينتج عن ذلك أن الله في غاية الغنى عنه.
٢٦ «وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ ٱلنَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ ٱلأَرْضِ، وَحَتَمَ بِٱلأَوْقَاتِ ٱلْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ».
تثنية ٣٢: ٨
علّم بولس آنفاً توحيد الله وأخذ هنا يعلّم وحدة الأصل البشري وهذا مما لم يعلّمه أحد من المعلمين الوثنيين فإنهم كما اعتقدوا آلهة كثيرة اعتقدوا أصولاً كثيرة للبشر. ولعل بولس قصد في هذه الآية توبيخ اليونانيين على زهوهم بأنهم أشرف الناس أصلاً لأنهم نشأوا من تربة أتيكا على زعمهم. فقسموا البشر قسمين اليونان والبربر فحسبوا أن الطبع يقضي بأن تكون نسبة البربر إلى اليونان كنسبة العبيد إلى السادة.
مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ أي كل صنوف البشر ذات طبيعة واحدة من أصل واحد. وهذا موافق لما قيل في الأصحاح الأول من سفر التكوين من ان كل البشر من أب واحد هو آدم. ولا ينافي هذا ما يُشاهد من اختلاف صنوف البشر في الألوان والهيآت واللغات لأن ذلك الاختلاف لعللٍ معروفة كأحوال الإقليم واختلاف المأكولات والعادات وأمثال ذلك.
وَحَتَمَ بِٱلأَوْقَاتِ ٱلْمُعَيَّنَةِ في تاريخ الأمم. وذلك من جهة أزمنة ارتقاء بعضها وانخفاض الآخر وانتصار هذه وانكسار تلك وحضرهم ومهاجرتهم.
بِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ بمقادير ممالك الأمم ومواقعها على اختلافها. وأمضى ذلك بفصل بعضها عن بعض بتخوم طبيعية كالجبال والبحار والأنهر وبعنايته الإلهية وسياسته وهي الفاعل الأعظم. وصرّح الرسول في هذه الآية بأن الله قضى بكل الأحوال التي تؤثر في أخلاق الناس وخلقهم. وهذا مناف لآراء الفلاسفة الوثنيين فإنهم نسبوا كل شيء إلى الاتفاق أو الاضطرار (المعروف بالقدر الأعمى).
٢٧ «لِكَيْ يَطْلُبُوا ٱللّٰهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً».
رومية ١: ٢٠ إرميا ٢٣: ٢٣ وص ١٤: ١٧ ورومية ١٠: ٦ و٨
صرّح الرسول هنا بغاية الله من خلقه الإنسان ووضعه إيّاه حيث يشاهد أعماله وهي أن يعرف خالقه ويعبده.
لِكَيْ يَطْلُبُوا ٱللّٰهَ أي يرغبوا في الحصول على معرفته بمشاهدة آيات حكمته وقوته وجودته في أعماله. أنه تعالى لم يعلن نفسه للناس في طريق يجبرهم على الاعتراف بوجوده وصفاته لكنه أراد أن يكون الإنسان حراً في ما يعتقده ولذلك أعلن نفسه في طريق يمكن الذين يطلبونه من أن يجدوه.
لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ بمشاهدتهم أعماله واستدلالهم بها فهم يستطيعون معرفة وحدانية الله ومعرفة صفاته من أعمال الخليقة والعناية والوسائط محصورة في هذا دون الوحي. وعلّم بولس وثنيي لسترة مثل هذه الحقيقة (ص ١٤: ١٥ و١٧ قابل هذا بما في رومية ١: ١٨ – ٢١). وبقوله «يتلمسونه» شبه الأمم الذين يطلبون معرفة الله بمشاهدة أعماله بالإنسان الملتمس مراده في الظلمة وهذا حال الوثنيين الذين لا وحي لهم. وقوله «لعلهم» الخ دلالة على أن أكثرهم لم يجدوا الله. ويثبت ذلك أيضاً كتابتهم على المذبح «لإله مجهول» ووفرة آلهتهم دليل قاطع على جهلهم أواحد المعبود أم ألوف. ويثبته أيضاً عجزهم عن معرفة أنه أظلت الآلهة تعتني بالعالم أم تركته لشأنه بعدما خلقته ومثل هذا ريبهم في طريق العبادة المرضية.
مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً أي مع قربه إليهم حتى لا يحتاجوا إلا إلى مد أيديهم ليجدوه لأن الله أوجد وسائط كافية لمعرفته إذا اتخذت (وهي شواهد أعماله) فالحق على الإنسان في الجهل لا على الله لأنه نتيجة عماية الإنسان الاختيارية. وفي قول «ليس بعيداً» منافاة لقول الأبيكوريون أن الآلهة بعد الخلق اعتزلت العالم وكل التفات إلى البشر وكل عناية بهم ومنافاة لاعتقاد أكثر الوثنيين على اختلاف فرقهم لأنهم اعتقدوا أن مسكن الآلهة قنة جبل أولمبوس أو هياكل بعيدة عن أكثرهم. وأراد بقوله «كل واحد منا» كل فرد من أفراد البشر. وشهادة ضمائرهم من قواطع البرهان على ذلك وأشار إلى هذه الشهادة بقوله «شَاهِداً أَيْضاً ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِيمَا بَيْنَهَا مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً» (رومية ٢: ١٥). وقوله هنا كقول موسى «إِنَّ هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةَ ٱلَّتِي أُوصِيكَ بِهَا ٱلْيَوْمَ لَيْسَتْ عَسِرَةً عَلَيْكَ وَلاَ بَعِيدَةً مِنْكَ. لَيْسَتْ هِيَ فِي ٱلسَّمَاءِ حَتَّى تَقُولَ: مَنْ يَصْعَدُ لأَجْلِنَا إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَيَأْخُذُهَا لَنَا وَيُسْمِعُنَا إِيَّاهَا لِنَعْمَلَ بِهَا؟ وَلاَ هِيَ فِي عَبْرِ ٱلْبَحْرِ حَتَّى تَقُولَ: مَنْ يَعْبُرُ لأَجْلِنَا ٱلْبَحْرَ وَيَأْخُذُهَا لَنَا وَيُسْمِعُنَا إِيَّاهَا لِنَعْمَلَ بِهَا؟ بَلِ ٱلْكَلِمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْكَ جِدّاً، فِي فَمِكَ وَفِي قَلْبِكَ لِتَعْمَلَ بِهَا» (تثنية ٣٠: ١١ – ١٤).
٢٨ «لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضاً: لأَنَّنَا أَيْضاً ذُرِّيَّتُهُ».
كولوسي ١: ١٧ وعبرانيين ١: ٣ تيطس ١: ١٢
لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ هذا برهان على قربه تعالى منا لأنه علة وجودنا وبقائنا. وذهب بعضهم إلى أن الرسول أشار بذلك إلى ثلاثة أمور:
- الأول: حياتنا الروحية.
- والثاني: حياتنا الحيوانية.
- والثالث: وجودنا المطلق. ورأى آخر أن مراد الرسول إنّا لولا الله لم نكن ذوي حياة بشرية ولم نستطع الحركة كما يتحرك الجماد كالنجوم وأشكالها التي هي ليست حية ولم نوجد مطلقاً. والأرجح أن الرسول قصد بتلك الأمور الثلاثة حياتنا وكل ما يتعلق بها من القوى الجسدية والعقلية وأفعالها وانفاعلاتها. وصرّح بأن علة هذا كله قربنا من الله وقرب الله منا.
كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ استشهد بعض شعراء اليونان ليدل على أن ما قاله ليس من رأيه أو رأي اليهود خاصة بل هو رأي علمائهم أيضاً. والذي استشهده من أولئك الشعراء أراتوس اليوناني. وُلد هذا الشاعر في كيليكية نحو سنة ٢٧٧ ق. م وما ذكره الرسول من قوله أخذه عنه بلفظه. وجاء مثل معناه في قول كلينش وهو شاعر آخر من اليونانيين كان في نحو سنة ٣٠٠ ق. م. وتربية بولس وهو صغير في طرسوس التي اشتهرت بمدارسها العلمية جعلته يألف أقوال الشعراء اليونانيين ويختبرها. واقتبس في بعض رسائله بعض أقوال شاعرين آخرين وهما مينندر وأبيمنديس (١كورنثوس ١٥: ٣٣ وتيطس ١: ١٢).
ذُرِّيَّتُهُ أي نسله.
٢٩ «فَإِذْ نَحْنُ ذُرِّيَّةُ ٱللّٰهِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ أَنَّ ٱللاَّهُوتَ شَبِيهٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرٍ نَقْشِ صِنَاعَةِ وَٱخْتِرَاعِ إِنْسَانٍ».
إشعياء ٤٠: ١٨
فَإِذْ أي بناء على شهادة عقولكم وشعرائكم.
ذُرِّيَّةُ ٱللّٰهِ المستلزمة أننا مماثلون له. والمعنى أنا من طبيعة الإنسان نقدر أن نتوصل إلى صفات الله خالقه. فالإنسان نفس حية عاقلة فيلزم أن يكون خالقه روحاً حياً عاقلاً.
لاَ يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ لأن هذا الظن هذيان. وقال نظن ولم يقل تظنوا تلطفاً كأنه يجب عليه كما يجب عليهم الاحتراس من الضلال المذكور. وفيه تلميح إلى أن ذلك الضلال عام أكثر الناس كما هو الواقع منذ العصور وهو ضلال كل العالم الوثني.
ٱللاَّهُوتَ أي الجوهر الإلهي.
شَبِيهٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرٍ لأن كلا منها جماد لا يستطيع أن يهب ما ليس له من الصفات. وصفات الإنسان معروفة ومعلوم أنها ليست للجماد فمن الهذيان أن نعتبر الجماد كالإنسان الحي العاقل. فالأولى أن يكون هذياناً أن نعتبر الجماد كالله خالق الإنسان وواهب الحياة والعقل وأن نعبده كما اعتبر أهل أثينا وعبدوا تمثال زفس الذهب وأهل أفسس تماثيل هيكل أرطاميس الفضية وسائر الوثنيين تماثيل الرخام التي لا تحصى في أثينا.
نَقْشِ صِنَاعَةِ وَٱخْتِرَاعِ إِنْسَانٍ أي منحوتات. كانت منحوتات أثينا في غاية الإتقان لم يقدر على أن ينحت الناس مثلها قبلها وبعدها ولكن ليس من اتفاق يستطيع أن يجعل الجماد حياً ويجعل له صفات إلهية فالحجر المنحوت لا يزال حجراً فتغير الهيئة لا يغير الجوهر.
٣٠ «فَٱللّٰهُ ٱلآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا، مُتَغَاضِياً عَنْ أَزْمِنَةِ ٱلْجَهْلِ».
لوقا ٢٤: ٤٧ وتيطس ٢: ١١ و١٢ و١بطرس ١: ١٤ و٤: ٣ ص ١٤: ١٦ ورومية ٣: ٢٥
ٱلآنَ أي أيام التشبير بالإنجيل وإعلان الله نفسه لكل الناس لا لأمة واحدة لأنه انتهت أيام جهل الإنسان وأوقات صبر الله.
يَأْمُرُ بسلطان كملك لا يغض الطرف عن العصيان وهو يأمر بواسطة الإنجيل والمنادين به.
جَمِيعَ ٱلنَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ قوله في كل مكان زيادة لتقرير الشمول والمعنى أنه يأمر كل فرد من أفراد البشر بلا استثناء بخلاف ما فعل قبل عهد الإنجيل من اختصاصه اليهود بأوامره.
أَنْ يَتُوبُوا أي يرجعوا عن أفكارهم الباطلة وأعمالهم السيئة ولا سيما عبادة الأوثان. والتوبة لفظة غريبة عن أذهان الأثينويين فمع كل علمهم لم يفهموا معناها ولم يشعروا بوجوبها ففلسفتهم لم تعلمهم أن يبغضوا الخطيئة ويرجعوا عن ارتكابها. وهنا يجب على المسيحيين الآن أن ينشروا أمر الله بين الوثنيين ويدعوهم إلى معرفة الحق وطريق الخلاص.
مُتَغَاضِياً عَنْ أَزْمِنَةِ ٱلْجَهْلِ لم يخَف بولس من أنه نسب الجهل إلى الأثينويين المتفاخرين بأنهم فاقوا سائر البشر بالمعرفة لأنه بنى ذلك على شهادة ما كتبوه على مذبحهم. والمراد «بأزمنة الجهل» كل الأوقات التي مضت قبل الإنجيل لأن أكثر الناس فيها جهلوا الله وعبدوا الأوثان. وكانت جديرة بأن تسمى بأزمنة الخطيئة والفساد ولكنه اقتصر على إضافتها إلى الجهل تلطفاً.
ومعنى «تغاضى الله عن تلك الأزمنة» أنه ترك أهلها الوثنيين يرتشدون بشهادة الطبيعة ولم يمنعهم عن العبادة الباطلة بوحي إو إعلان لهم كما فعل لليهود ولم يعاقبهم كما يستحقون. وهذا مثل ما جاء في (ص ١٤: ١٦) فراجع التفسير هناك وقابله بما في (رومية ٣: ٢٥).
٣١ «لأَنَّهُ أَقَامَ يَوْماً هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ ٱلْمَسْكُونَةَ بِٱلْعَدْلِ، بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ، مُقَدِّماً لِلْجَمِيعِ إِيمَاناً إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ».
ص ١٠: ٤٢ ورومية ٢: ١٦ و١٤: ١٠ ص ٢: ٢٤
ذكر بولس في هذه الآية العلة التي أوجبت التوبة على الوثنيين وهي أن الإله الذي أمر بالتوبة قاصد أن يلاحظ أيطيع الناس أم لا وأن يعاقب العصاة. فإنه قد مضى يوم جهل الإنسان وأناة الله وأتى يوم إعلان إرادته وأمره بالتوبة وبعده يأتي يوم الحساب أمام الديان الذي عيّنه الله.
أَقَامَ يَوْماً أي عيّن وقتاً للدينونة الآخرة كما قال بطرس في خطابه للأمم في قيصرية (ص ١٠: ٢٢).
ٱلْمَسْكُونَةَ كل البشر من يهود وأمم.
بِٱلْعَدْلِ بلا محاباة ولا ظلم في المحاكمة. وفي هذا تلميح إلى أن عدل الله يقتضي الحساب والجزاء وأنه بواسطة تلك المحاكمة يظهر عدل الله أعظم ظهور أمام كل خلائقه.
إن آريوس باغوس حيث خطب بولس كان محل المحاكمة. وفي هذا تلميح إلى أن عدل الله يقتضي الحساب والجزاء وأنه بواسطة تلك المحاكمة يظهر عدل الله أعظم ظهور أمام كل خلائقه.
بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ أي اختاره الله ديّانا وهذا الرجل هو المسيح كما يظهر من (ص ١٠: ٤٢ ويوحنا ٥: ٢٥ ومتّى ص ١٥). ولا ريب في أنه كان يريد أن يبيّن ذلك لو صبروا عليه.
مُقَدِّماً لِلْجَمِيعِ إِيمَاناً أي اتى البيان المقنع لكل من يصغي إليه.
إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ صرّح بولس في خطبته هنا كما صرح في سائر خطبه أن قيامة المسيح أثبتت كل دعاويه (انظر شرح ص ١: ٢٢) ومن تلك الدعاوي أن الله عيّنه ديّاناً للعالمين.
٣٢ «وَلَمَّا سَمِعُوا بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ كَانَ ٱلْبَعْضُ يَسْتَهْزِئُونَ، وَٱلْبَعْضُ يَقُولُونَ: سَنَسْمَعُ مِنْكَ عَنْ هٰذَا أَيْضاً!».
لَمَّا سَمِعُوا بِٱلْقِيَامَةِ كانت القيامة عند قدماء اليونان من ضروب المحال وخلاصة عقائدهم في الموتى قول استيلوس الشاعر اليوناني «من مات فليس له قيامة» فذكر بولس القيامة أثّر في السامعين تأثيراً أوقفه عن الخطاب وكما جرى هنا جرى على استفانوس في أورشليم من اليهود (ص ٧: ٥٧).
كَانَ ٱلْبَعْضُ يَسْتَهْزِئُونَ الاستهزاء هنا كالاستهزاء في (ص ٢: ١٣) فإنهم حسبوا كلام بولس كلام مجنون أو سكران يستحق أن يضحك به.
وَٱلْبَعْضُ يَقُولُونَ لم يلزم مما قالوه أنهم اعتبروا إمكان القيامة أكثر ممن استهزئوا لكنهم كانوا ألطف منهم كلاماً.
سَنَسْمَعُ مِنْكَ عَنْ هٰذَا أَيْضاً أي عن كل فحوى خطابه لا القيامة فقط. وهذا أسلوب لطيف للاستعفاء من السمع. ولعل المستهزئين منهم هم الأبيكوريون أهل الطيش واللهو والآخرين الرواقيون الذين أكثر من هؤلاء وقاراً ورصانة. ولعل كلامه أثر في بعضهم وقتياً فأجابوا عليه مثل جواب فيلكس الوالي (أعمال ٢٤: ٢٥) ولم يبالوا بعد ذلك بشيء مما سمعوا من خطابه. ومهما يكن السبب فإنهم لم يسمحوا لبولس أن يتمم خطبته وينبئهم بالمسيح وطريق الخلاص به.
٣٣ «وَهٰكَذَا خَرَجَ بُولُسُ مِنْ وَسَطِهِمْ».
وَهٰكَذَا خَرَجَ أي على الحال التي سبقت ترك رسول الأمم آريوس باغوس وفارق أيّمة اليونانيين المفتخرين بالحكمة والتمدن والدين وبعضهم مستهزئ وبعضهم غير مكترث بالأمر والباقون يتوقعون فرصة أخرى لم تكن. وقوله «خرج» يدل على أنه كان حراً لم يؤخذ إلى آريوس باغوس إجباراً للمحاكمة (ع ١٩).
ولم نسمع بعد هذا أن بولس زار أثينا ثانية ومع أنه كتب خمس رسائل إلى ثلاث مدن أُخر يونانية (كتب إلى فيلبي واحدة وإلى تسالونيكي اثنتين وإلى كورنثوس اثنتين) لم يذكر أثينا في واحدة منها فبقيت إلى بعد أيام قسطنطين الكبير مركز الديانة والفلسفة الوثنية وكانت آخر مدن أوربا التي قبلت الديانة المسيحية.
٣٤ «وَلٰكِنَّ أُنَاساً ٱلْتَصَقُوا بِهِ وَآمَنُوا، مِنْهُمْ دِيُونِيسِيُوسُ ٱلأَرِيُوبَاغِيُّ، وَٱمْرَأَةٌ ٱسْمُهَا دَامَرِسُ وَآخَرُونَ مَعَهُمَا».
وَلٰكِنَّ هذا الاستدراك يدل على أن خدمة بولس في أثينا لم تكن بلا ثمر على أن ذلك الثمر كان قليلاً بالنسبة إلى ما جنى في فيلبي وتسالونيكي.
أُنَاساً ٱلْتَصَقُوا بِهِ أي اتبعوه وسلموا بتعليمه غير مكترثين بهزء المستهزئين ومقاومة المقاومين.
وَآمَنُوا بما قاله في خطابه للفلاسفة وبالمسيح الذي كان ينادي به دائماً.
مِنْهُمْ دِيُونِيسِيُوسُ ٱلأَرِيُوبَاغِيُّ أي هذا كان ممن آمنوا ولا ريب في أنه كان ذا شأن لأن نسبته إلى آريوس باغوس دليل على أنه من أعضاء ذلك المجلس الذي كان يومئذ أسمى مجالس العالم فإنه لم يعيّن فيه عضو ما لم يكن قد بلغ سن الستين وكان قبل ذلك قاضياً في مجلس آخر. وما قيل هنا كل ما نعرف من أمره.
دَامَرِسُ لا نرى علة لذكرها إلا أنه لم يؤمن سواها من النساء في أثينا.
إن تأثير خطاب بولس في أثينا وإن يكون قليلاً على ما ظهر لم يكن عبثاً لأن كنيسة المسيح انتفعت بما فيه من الحكمة والقوة من ذلك اليوم إلى هذه الساعة فتعلم منه المبشرون بالإنجيل الحجج المناسبة لإقناع الوثنيين بعبادة الإله الوحيد الحي ودعوتهم إلى التوبة وإنذارهم بالدينونة الآتية.
السابق |
التالي |