أعمال الرسل | 16 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح سفر أعمال الرسل
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح السادس عشر
سفر بولس في آسيا الصغرى ع ١ إلى ١٠
١ «ثُمَّ وَصَلَ إِلَى دَرْبَةَ وَلِسْتِرَةَ، وَإِذَا تِلْمِيذٌ كَانَ هُنَاكَ ٱسْمُهُ تِيمُوثَاوُسُ، ٱبْنُ ٱمْرَأَةٍ يَهُودِيَّةٍ مُؤْمِنَةٍ وَلٰكِنَّ أَبَاهُ يُونَانِيٌّ».
ص ١٤: ٦ ص ١٩: ٢٢ ورومية ١٦: ٢١ و١كورنثوس ٤: ١٧ وفيلبي ٢: ١٩ و١تسالونيكي ٣: ٢ و١تيموثاوس ١: ٢ و٢تيموثاوس ١: ٢ و٢تيموثاوس ١: ٥
ثُمَّ وَصَلَ أي بولس مع رفيقه سيلا.
دَرْبَةَ وَلِسْتِرَةَ زارهما في السفر الأول (انظر شرح ص ١٤: ٦) وذهب إليهما في الثاني من طرسوس في مضيق طورس وهو سلسلة جبال ممتدة من الشمال إلى الجنوب طولها نحو ثمانين ميلاً.
قدم الكاتب في (ص ١٤: ٦) لسترة على دربة لأن بولس أتى إليهما من الغرب فبلغ لسترة قبل دربة وقدم هنا دربة على لسترة لأن بولس أتى إليها من الشرق فبلغ دربة قبل لسترة وهذا من الأدلة على صدق الكاتب.
وَإِذَا تِلْمِيذٌ أي مؤمن بالمسيح لا نعلم أمن دربة هو أم من لسترة لكن القرينة تشير إلى أنه من لسترة وكان ممن تلمذهم بولس في سفره الأول منذ ست سنين قبل هذا لأن بولس دعاه ابنه (١كورنثوس ٤: ١٧ و١تيموثاوس ١: ٢ و١٨ و٢تيموثاوس ١: ٢ و٢: ١). وكتب إليه رسالتين ووضع اسمه في عنوان خمس من رسائله. وهذا التلميذ خدم كنيسة كورنثوس (١كورنثوس ١٦: ١٠) وكنيسة أفسس (١تيموثاوس ١: ٣) وسُجن مع بولس في رومية المرة الأولى (فيلبي ٢: ١٩). وطلب بولس أن يأتي إليه أيام سُجن ثانية هناك في آخر حياته (٢تيموثاوس ٤: ٩ و٢١).
ٱمْرَأَةٍ يَهُودِيَّةٍ نعلم من ٢تيموثاوس ١: ١٥ أن اسمها أفنيكي وأنها علّمت ابنها الكتاب المقدس.
أَبَاهُ يُونَانِيٌّ الأرجح أنه وثني إذ لم يذكر الكاتب أنه آمن بالمسيح وهو ليس ممن هادوا ولو كان كذلك لأختتن وختن ابنه ولكنه لم يختن ابنه. ومثل هذا الزواج منعته شريعة موسى (تثنية ٧: ٤ وعزرا ١٠: ٢ و٤٤ ونحميا ١٣: ٢٣). وندر في اليهودية لكنه كثر في مثل ليكأونية مما بعد عن أورشليم واستند من أتوه على ما أتته أستير الملكة زوجة أحشويروس.
٢ «وَكَانَ مَشْهُوداً لَهُ مِنَ ٱلإِخْوَةِ ٱلَّذِينَ فِي لِسْتِرَةَ وَإِيقُونِيَةَ».
ص ٦: ٣
لعل تيموثاوس بشّر بالإنجيل في تينك المدينتين بإرشاد مشائخ كنائسها قبل أن استخدمه بولس وكان حديث السن بدليل قول بولس له يوم أمره بخدمة كنيسة أفسس «لا يستهن أحد بحداثتك» (١تيموثاوس ٤: ١٢ قابل هذا بما في ١تيموثاوس ١: ١٣). ولنا من نبإ تيموثاوس معرفة الصفات الواجب أن تكون للمبشر وهي أن يكون عارفاً بالكتب المقدسة حسناً (٢تيموثاوس ٣: ١٥) وأن يكون مشهوداً له من الإخوة وأن يتعلّم خدمة الكنيسة بإرشاد من يزيده علماً واختياراً.
إِيقُونِيَةَ ارجع إلى شرح (ص ١٤: ٢١).
٣ «فَأَرَادَ بُولُسُ أَنْ يَخْرُجَ هٰذَا مَعَهُ، فَأَخَذَهُ وَخَتَنَهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْيَهُودِ ٱلَّذِينَ فِي تِلْكَ ٱلأَمَاكِنِ، لأَنَّ ٱلْجَمِيعَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَبَاهُ أَنَّهُ يُونَانِيٌّ».
١كورنثوس ٩: ٢٠ وغلاطية ٢: ٣ و٥: ٢
أَنْ يَخْرُجَ هٰذَا مَعَهُ أي يجول معه للتبشير ويكون بمنزلة مرقس في السفر الأول كما كان سيلا بمنزلة برنابا.
خَتَنَهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْيَهُودِ لم يحسب بولس هذا الختان ضرورياً لتيموثاوس بمقتضى اعتقاده بدليل قوله «لأَنَّهُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ ٱلْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً» (غلاطية ٦: ١٥) وبمقتضى اعتقاد مؤمني اليهود إذ حكموا بعدم وجوبه في المجمع (ص ١٥: ١ و٢٨ و٢٩). ولكنه استحسنه ليتمكن تيموثاوس من تبشير اليهود إذ كانوا يعرفون أنه ابن وثني فلو لم يختتن ما سمحوا له أن يتكلم في مجامعهم ولا قبلوه معلماً دينياً. وفعل ذلك على وفق المبدإ الذي ذكره في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس وهو قوله «فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ ٱلْيَهُودَ، وَلِلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ لأَرْبَحَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ» (١كورنثوس ٩: ٢٠ انظر أيضاً رومية ١٤: ٢١ و١كورنثوس ٨: ٨ و ١٠: ٢٥ و٢٨ وأعمال ٢١: ٢٣ – ٢٦). ولم يختن تيطس كما ختن تيموثاوس لأن تيطس كان مقتصراً على تبشير الأمم ولو ختنه لكان ذلك اعترافاً بضرورية الختان للخلاص (غلاطية ٢: ٣ و٤). ولنا من ذلك أنه يجب على المسيحيين أن يكونوا راسخين في جوهريات الدين وأن يتساهلوا في العرضيات إذا كان التساهل وسيلة إلى ربح النفوس. وليس في هذا شيء يسند ذلك المبدأ القبيح وهو «أن نفعل السيئات لكي تأتي الخيرات».
٤ «وَإِذْ كَانُوا يَجْتَازُونَ فِي ٱلْمُدُنِ كَانُوا يُسَلِّمُونَهُمُ ٱلْقَضَايَا ٱلَّتِي حَكَمَ بِهَا ٱلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ ٱلَّذِينَ فِي أُورُشَلِيمَ لِيَحْفَظُوهَا».
ص ١٥: ٢٨ و٢٩
ٱلْمُدُنِ التي بشروا فيها سابقاً وهي دربة ولسترة وإيقونية وأنطاكية بيسيدية وغيرهما مما فيها كنائس مسيحيّة.
ٱلْقَضَايَا التي سبق الكلام عليها في (ص ١٥: ٢٢ – ٢٨) وكانت حينئذ ضرورية لراحة الكنيسة ووحدتها مع أن أكثرها وقتيّ.
ٱلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ بالنيابة عن الكنيسة كلها.
٥ «فَكَانَتِ ٱلْكَنَائِسُ تَتَشَدَّدُ فِي ٱلإِيمَانِ وَتَزْدَادُ فِي ٱلْعَدَدِ كُلَّ يَوْمٍ».
ص ١٥: ٤١
تَتَشَدَّدُ فِي ٱلإِيمَانِ أي تزيد ثقة بحقائق الإنجيل وبأن يسوع المسيح هو المخلّص. وما جاء في هذه الآية كان نتيجة افتقاد بولس وسيلا تلك الكنائس وكل ما اقترن به من تعليم وتعزية. فزال بما قصّاه من حكم المجمع موانع انتشار الإنجيل وهي فساد التعليم بوجوب حفظ شريعة موسى فإنهم عدلوا عن الجدال في العرضيات إلى البحث في الجوهريات.
٦ «وَبَعْدَ مَا ٱجْتَازُوا فِي فِرِيجِيَّةَ وَكُورَةِ غَلاَطِيَّةَ، مَنَعَهُمُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِٱلْكَلِمَةِ فِي أَسِيَّا».
فِرِيجِيَّةَ هي القسم الأكبر من أواسط آسيا الصغرى وهي غربي بيسيدية ومن أعظم مدنها كولوسي وهيرابوليس ولاودكية.
غَلاَطِيَّةَ هي قسم من آسيا الصغرى شرقي فريجية استولى عليها الغاليون وهم سكان فرنسا القدماء ومكثوا فيها سنة ٣٠٠ ق. م ونسبوها إلى اسمهم واستولى عليها الرومانيون سنة ٢٦ ب. م وكان اكثر سكانها من الوثنيين وفيها كثيرون من اليهود. ولم يذكر لوقا ما كان من أتعاب بولس ورفيقيه فيها إذ اعتاد أن لا يذكر إلا ما يحدث في المدن الكبيرة لكننا نعلم أنهم شغلوا زمناً طويلاً هناك وحصلوا على نجاح عظيم ونظموا عدة كنائس وكتب بولس إليها رسالة ظهر منها أنه كان محبوباً إلى أهلها كثيراً (غلاطية ٤: ١٤ و١٥).
مَنَعَهُمُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ لا نعلم بأي وساطة منعهم.
فِي أَسِيَّا المراد بأسيا هنا الغربي من آسيا الصغرى الذي قصبته (أفسس ص ٢: ٩) وهبها أتالوس ملك آسيا للجمهورية الرومانية وفيها الكنائس السبع التي كتب إليها يوحنا الرسول سفر الرؤيا. أراد بولس ان يذهب إليها للتبشير بالإنجيل فلم يأذن له الروح القدس حينئذ لكنه أذن له بعد فبشر فيها ونجح نجاحاً عظيماً.
٧، ٨ «٧ فَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مِيسِيَّا حَاوَلُوا أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى بِثِينِيَّةَ، فَلَمْ يَدَعْهُمُ ٱلرُّوحُ. ٨ فَمَرُّوا عَلَى مِيسِيَّا وَٱنْحَدَرُوا إِلَى تَرُوَاسَ».
٢كورنثوس ٢: ١٢ و٢تيموثاوس ٤: ١٣
مِيسِيَّا قسم الشمال الغربي من آسيا الصغرة.
بِثِينِيَّةَ شرقي ميسيا على شاطئ البحر الأسود قاعدتها نيقية التي التأم فيها المجمع العام في أيام قسطنطين سنة ٣٢٥.
لَمْ يَدَعْهُمُ ٱلرُّوحُ مع أنهم اجتهدوا في أن يأتوها بغية تبشير أهلها بالإنجيل. ولا ريب في أن سبب منع الروح إيّاهم من الذهاب إلى أسيا وبيثينية قصد الله أن يذهبوا إلى أوربا وأن يعرفوا مقصد الروح بالتدريج.
فَمَرُّوا عَلَى مِيسِيَّا ولم يمكثوا.
تَرُوَاسَ هي فرضة ميسيا على البوصفور قرب آثار مدينة تروادة التي اشتهرت قديماً بمحاربة اليونانيين إيّاها. ونظم هوميروس الشاعر اليوناني قصيدته المشهورة في تلك الحرب. وذُكرت ترواس أيضاً في (٢كورنثوس ٢: ١٢ و٢تيموثاوس ٤: ١٣ وأعمال ٢٠: ٥) وهذا غاية ما بلغه بولس وسيلا من قارة آسيا. واختصر لوقا تاريخ حوادث هذا السفر بثماني آيات من هذا الأصحاح وآية واحدة من الأصحاح الخامس عشر. وهذا التاريخ وإن كان وجيزاً اشتمل على حوادث شهور كثيرة.
٩ «وَظَهَرَتْ لِبُولُسَ رُؤْيَا فِي ٱللَّيْلِ: رَجُلٌ مَكِدُونِيٌّ قَائِمٌ يَطْلُبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: ٱعْبُرْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ وَأَعِنَّا!».
رُؤْيَا هذه من الطرق التي اعتاد الله أن يُظهر بها إرادته لعبيده وفي هذا إيضاح الروح ما أُبهم عليهم من قصد الله بمنعهم من الذهاب إلى أسيا وبيثينية قابل بهذا (ص ٩: ١٠ و١٢ و١٠: ٣ و١٧ و١٩ و١١: ٥)
رَجُلٌ مَكِدُونِيٌّ عرفه بولس من ملبوسه أو لهجته أو أخباره. كانت بلاد اليونان يومئذ قسمين الشمالي مكدونية والجنوبي أخائية. وكانت قديماً مكدونية صغيرة لا يعبأ بها وظلت كذلك إلى أيام فيلبس ثم عظمت في أيامه وزادت عظمتها في أيام بولس خاضعة للرومانيين وقصبتها تسالونيكي مقام الحاكم الروماني واشتهرت عند المسيحيين بكونها أول أرض في أوربا بُشر فيها بالإنجيل.
ٱعْبُرْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ أي اقطع البحر بين ترواس ومكدونية.
وَأَعِنَّا أي ساعد أهل مكدونية ثم سائر اليونان ثم باقي أوربا على الشيطان والجهل والإثم والهلاك ببث بشرى الخلاص. واقتصر على ذكر مكدونية لأنها أول أرض أوربا. ومفاد هذه الاستغاثة أن أهل تلك البلاد في احتياج وخطر وأنهم عاجزون عن إنقاذ أنفسهم وأن الإنجيل الذي بشر به بولس هو وسيلة نجاتهم. وكان اليونانيون والرومانيون مولعين بالفلسفة والفنون ومشهورين بالتجارة والغنى والاقتدار على الرحب ولكنهم كانوا يجهلون الإله الحق وطريق الخلاص وكانوا في غاية الافتقار إلى الغنى الروحي وفي رقّ الشيطان والمعصية.
أعلن الله في هذه الرؤيا احتياج أهل مكدونية إلى بشرى الخلاص وإرادته أن يذهب بولس إليها ويبشر أهلها. ولا دليل فيها على أن أهل مكدونية شعروا بذلك الاحتياج واشتاقوا إلى إرشاد المعلمين المسيحيين فالأمر كله من الله فإنه هو الذي دعا بولس وسيلا أن يناديا للوثنيين الجهلاء الهالكين بخلاص يسوع المسيح وأن يحتملا بتلك المنادة المشقات والأخطار. ونتيجة هذه الرؤيا إدخال الديانة المسيحية إلى أوربا وما ينتج عنها من الفوائد كالتمدن وما يتعلق به. ولو كانت الدعوة إلى الشرق بدلاً من أن تكون إلى الغرب لرجح أن تكون أحوال الهند والصين اليوم كأحوال أوربا وأميركا فيه من معرفة الدين الحق والتمدن وأن تكون أحوال أوربا وأميركا كأحوال الهند والصين فيه.
١٠ «فَلَمَّا رَأَى ٱلرُّؤْيَا لِلْوَقْتِ طَلَبْنَا أَنْ نَخْرُجَ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ، مُتَحَقِّقِينَ أَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ دَعَانَا لِنُبَشِّرَهُمْ».
٢كورنثوس ٢: ١٣
لِلْوَقْتِ أجاب بولس وسيلا دعوة الله بسرعة ومسرة فكانا بذلك قدوة لكل المسيحيين عندما يدعوهم الله إلى التبشير بإنجيله. ولا يزال اليوم مثل استغاثة المكدونيين يُسمع من كل أقطار المسكونة لأنه حيث تكون نفس تجهل طريق الخلاص تصرخ مستغيثة بأهل الإنجيل. وعلى المسيحيين أن يجيبوا الدعوة بالذهاب للتبشير أو ببذل نفقات من يذهبون لذلك. فويل للكنيسة التي تسمع مثل هذه الاستغاثة ولا تغيث نعم وويل لكل من أفرادها إن لم يغث وطوبى لمن يسمع ويغيث (دانيال ١٢: ٣).
طَلَبْنَا أَنْ نَخْرُجَ أي حاولنا الحصول على وسائل السفر بحراً إلى مكدونية. وصيغة التكلم هنا تدل على اجتماع لوقا كاتب هذا السفر ببولس وسيلا ومشاركته لهما في كل الحوادث الآتية. والظاهر أن هذا بدء مرافقته بولس.
وكان لوقا طبيباً بدليل ما في (كولوسي ٤: ١٠) ومبشراً بدليل قوله في هذه الآية «لنبشرهم» وأقوال كثيرة في رسائل بولس ولم نعرف شيئاً من أمر تنصره ولكن من المحتمل أنه سمع الإنجيل من بولس في طرسوس أو أنطاكية ثم ذهب إلى ترواس وبشر بالإنجيل وأنشأ كنيسة فيها لأن بولس لم يبشر هناك إلا بعد رجوعه من هذا السفر ووُجد فيها عند وصوله عدة من المسيحيين مجتمعين للعبادة (ص ٢٠: ٧) ولعله رافق بولس ليعتني بصحته فضلاً عن التبشير لأن بولس كان قد أتى من غلاطية بعد أن مرض فيها (غلاطية ٤: ١٣ – ١٥) وظل مرافقاً لبولس في أكثر أيام خدمته وكان معه في آخر أيام حياته حين تركه كل من سواه (٢تيموثاوس ٤: ١١).
مُتَحَقِّقِينَ الخ ما رأى الرؤيا سوى بولس لكن رفقاءه تحققوها بشهادته وصدقوا أن الدعوة دعوة الله لا أمر تخيّليّ. كان قصد بولس في أول عزمه على هذا السفر أن يفتقد الكنائس التي أسسها لكن روح الله قاده في طريق لم يقصدها فتبعه راضياً مسروراً.
بلوغ بولس أوربا وحوادث فيلبي ع ١١ إلى ٤٠
١١ «فَأَقْلَعْنَا مِنْ تَرُوَاسَ وَتَوَجَّهْنَا بِٱلٱسْتِقَامَةِ إِلَى سَامُوثْرَاكِي، وَفِي ٱلْغَدِ إِلَى نِيَابُولِيسَ».
فَأَقْلَعْنَا أي شرعنا في السفر بحراً.
بِٱلٱسْتِقَامَةِ هذا يدل على أن الريح كانت موافقة لأن سفن تلك الأيام كانت شراعية (أي ذات قلوع).
سَامُوثْرَاكِي جزيرة في منتصف الطريق بين ترواس ونيابوليس.
فِي ٱلْغَدِ شغلوا بهذا السفر يومين فقط وشغلوا به غير مرّة خمسة أيام (ص ٢٠: ٦).
نِيَابُولِيسَ أي المدينة الجديدة وهي فرضة فيلبي واسمها اليوم كفالو. والقرينة تدل على أنهم لم يمكثوا فيها وعلة ذلك خلوها من اليهود أو الرغبة في بلوغ المدينة الكبرى لانتهاز أحسن الفرص لفعل الخير بين الكثيرين.
١٢ «وَمِنْ هُنَاكَ إِلَى فِيلِبِّي، ٱلَّتِي هِيَ أَوَّلُ مَدِينَةٍ مِنْ مُقَاطَعَةِ مَكِدُونِيَّةَ، وَهِيَ كُولُونِيَّةُ. فَأَقَمْنَا فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ أَيَّاماً».
فيلبي ١: ١
فِيلِبِّي هي مدينة كبيرة نُسبت إلى فيلبس ملك مكدونية إكراماً له فإنه جدّد بناءها وحصنها. حدث فيها سنة ٤٢ ق. م حرب شديدة بين حزبين قائدا أحدهما بروتوس وكاسيوس وقائدا الآخر أوغسطس وأنطونيوس فنتج عنها أن الجمهورية الرومانية تحولت ملكية.
أَوَّلُ مَدِينَةٍ أي أول المدن التي يبلغها المسافر من الشرق إلى الغرب وتستحق أن تعد بين المدن الأولى في مكدونية لأنه لم يُفقها مقاماً سوى تسالونيكي. وهي ليست اليوم إلا قرية صغيرة يحيط بها أطلال كثيرة.
كُولُونِيَّةُ أي مهجر أسكنه أوغسطس قيصر جمهوراً من الجند الروماني تذكاراً لانتصاره هناك وجعل لسكانه كل ما لسطان رومية من الحقوق فساوتها في نظام حكومتها وشرائعها المدنية. وأتى هذه المدينة وقتئذ بولس رسولاً مسيحياً مزمعاً أن ينتصر انتصاراً أعظم من الانتصار على بروتوس ويؤسس مملكة أبقى من مملكة أوغسطس.
١٣ «وَفِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ خَرَجْنَا إِلَى خَارِجِ ٱلْمَدِينَةِ عِنْدَ نَهْرٍ، حَيْثُ جَرَتِ ٱلْعَادَةُ أَنْ تَكُونَ صَلاَةٌ، فَجَلَسْنَا وَكُنَّا نُكَلِّمُ ٱلنِّسَاءَ ٱللَّوَاتِي ٱجْتَمَعْنَ».
تفيد هذه الآية أنه لم يكن في تلك المدينة مجمع لليهود لقلتهم ولذلك اتخذوا معبداً في البرية واختاروا أن يكون عند النهر لما تقتضيه عبادتهم من التطهيرات واسم ذلك النهر كنجس وهو جدول أي نهر صغير.
نُكَلِّمُ ٱلنِّسَاءَ بحقائق الإنجيل. ولم يذكر الكاتب علة وجود النساء فقط وربما كانت العلة خلوّ فيلبي من رجال يهود فإن كلوديوس قيصر كان قد نفى كل اليهود من رومية (ص ١٨: ٢) وكانت فيلبي يومئذ حصناً عسكرياً وشرائعها المدنية كشرائع رومية فربما كان رجال اليهود قد نفوا منها كما نفوا من رومية. أو أن الرجال كانوا غير مكترثين بالدين أو أنه لم يكن وقت الاجتماع القانوني حينئذ ومهما يكن من ذلك فإن بولس رأى فرصة للتبشير فاغتنمها كعادته.
١٤ «فَكَانَتْ تَسْمَعُ ٱمْرَأَةٌ ٱسْمُهَا لِيدِيَّةُ، بَيَّاعَةُ أُرْجُوانٍ مِنْ مَدِينَةِ ثِيَاتِيرَا، مُتَعَبِّدَةٌ لِلّٰهِ، فَفَتَحَ ٱلرَّبُّ قَلْبَهَا لِتُصْغِيَ إِلَى مَا كَانَ يَقُولُهُ بُولُسُ».
رؤيا ٢: ١٨ لوقا ٢٤: ٤٥
لِيدِيَّةُ اسم شائع بين اليونانيين والرومانيين.
بَيَّاعَةُ أُرْجُوانٍ… ثِيَاتِيرَا كانت ثياتيرا مدينة في آسيا الصغرى واقعة بين برغامس وسرديس وهي إحدى المدن التي كتب يوحنا الرسول سفر الرؤيا إلى كنائسها (رؤيا ٢: ١٨). واشتهرت قديماً بصبغ أحمر كانوا يستخرجونه من ضرب من الصدف في البحر المتوسط. والمحتمل أن ليدية أتت من ثياتيرا إلى فيلبي لكي تبيع ذلك الصبغ والأرجح أنها أتت لتبيع المنسوجات المصبوغة به.
مُتَعَبِّدَةٌ لِلّٰهِ اصطلح لوقا على التعبير عمن تركوا عبادة الأوثان وعبدوا الإله الحق من الأمم بالمتعبدين لما سمعوه من كتب اليهود أو في مجامعهم. فالظاهر أن ليدية كانت من هؤلاء (انظر ص ١٣: ٤٣ و٥٠).
فَتَحَ ٱلرَّبُّ قَلْبَهَا القلب هنا بمعنى مركز الإرادة والعواطف والذهن وفتحه من أعمال الروح القدس فإنه من شأنه أن يلين القلب ويميل به إلى الحق والتسليم بالحق. فالروح الذي أرسل بولس إلى هنالك وفتح شفتيه للتكلم هو فتح قلبها للإصغاء. ولم يفتح الروح قلبها إجباراً بل أظهر لها الحق وهي التفتت إليه وسلمت به اختياراً. ومُغلقات القلب دون الحق الكبرياء والتعصب الجهلي وكره الحق.
١٥ «فَلَمَّا ٱعْتَمَدَتْ هِيَ وَأَهْلُ بَيْتِهَا طَلَبَتْ قَائِلَةً: إِنْ كُنْتُمْ قَدْ حَكَمْتُمْ أَنِّي مُؤْمِنَةٌ بِٱلرَّبِّ، فَٱدْخُلُوا بَيْتِي وَٱمْكُثُوا. فَأَلْزَمَتْنَا».
تكوين ١٩: ٣ و٣٣: ١١ وقضاة ١٩: ٢١ ولوقا ٢٤: ٢٩ وعبرانيين ١٣: ٢
فَلَمَّا ٱعْتَمَدَتْ هِيَ وَأَهْلُ بَيْتِهَا لا يقتضي هذا أنها أتت ذلك في أول سمعها كلام الحق فتعميدها كان بعد أن اختبرت صحة إيمانها. ولاعتماد أهل بيتها معها نظائر في الإنجيل (ص ١٠: ٤٨ و١٦: ٣٣ و١كورنثوس ١: ١٦) وهذا مما يستدل به على جواز تعميد الأطفال إجراء للمعمودية مجرى الختان عند اليهود. ومن أول إجراء إيمان ليدية أنها اعترفت بإيمانها جهاراً واعتنت بواجباتها الدينية لأهل بيتها فمن لم يعتن بخلاص أهل بتيه يُشك في صحة إيمانه.
إِنْ كُنْتُمْ قَدْ حَكَمْتُمْ لأنكم بتعميدكم أياي قد سلمتم بصحة إيماني.
ٱمْكُثُوا أي أقيموا ببيتي مدة إقامتكم بفيلبي. بنت دعوتها إياهم على أنه من استحق أن يعتمد استحق أن يدعو خدم الإنجيل إلى بيته. وهذا أيضاً من أثمار إيمانها لأن إضافة الغرباء من الواجبات المسيحية (رومية ١٢: ١٣ و١تيموثاوس ٣: ٢). إن محبتها للمسيح حملتها على الإحسان إلى عبيده كما فعل السجان هنالك حين آمن (ع ٣٤) والمسيح يحسب إكرام عبيده إكراماً له (متّى ٢٥: ٤٠).
فَأَلْزَمَتْنَا بإلحاحها ولذلك قبل بولس ضيافتها مع رفقائه على خلاف عادته (ص ٢٠: ٣٣ و٣٤) لئلا يُتهم بأنه يخدم الإنجيل لربح دنيوي. والأرجح أنهم كانوا أولاً في الفندق وأن بولس كان ينفق عليهما مما كان يحصله من صناعته ومما يحصله لوقا من معالجة المرضى.
١٦ «وَحَدَثَ بَيْنَمَا كُنَّا ذَاهِبِينَ إِلَى ٱلصَّلاَةِ، أَنَّ جَارِيَةً بِهَا رُوحُ عِرَافَةٍ ٱسْتَقْبَلَتْنَا. وَكَانَتْ تُكْسِبُ مَوَالِيَهَا مَكْسَباً كَثِيراً بِعِرَافَتِهَا».
تثنية ١٨: ١٠
ذَاهِبِينَ من بيت ليدية.
إِلَى ٱلصَّلاَةِ في المعبد الخارجي المذكور في الآية الثالثة عشرة أو مكان في المدينة اتخذوه مجتمعاً دينياً.
جَارِيَةً القرينة تدل على أنها أَمة أي مملوكة.
بِهَا رُوحُ عِرَافَةٍ الحق أنه كان فيها شيطان كما يظهر من (ع ١٨) ولكن لوقا تكلم بمقتضى اعتقاد أهل فيلبي فإن الوثنيين ذهبوا يومئذ إلى أن في هيكل دلفي في بلاد اليونان كاهنات تُعلن الأسرار بوحي أبلو إله ذلك الهيكل ولهذا قصده كثيرون من المحتارين في أمورهم. فظن أهل فيلبي أن تلك الجارية مثل تلك الكاهنات. ولعلها كانت تصاب بالصرع وتصرخ صراخ تلك الكاهنات. وكان مواليها يفسرون صراخها كما شاءوا ليخدعوا الناس.
مَوَالِيَهَا أي أسيادها وعلة أن لها عدة أسياد كثرة ثمنها لكثرة الربح بها.
بِعِرَافَتِهَا أي بإظهارها الخفايا وحوادث المستقبل وهذا إما باطل بجملته وإما حق في بعض الأمور لأنه ربما كان الشيطان الذي فيها يساعدها على إعلان بعض ما لم يستطع البشر معرفته.
١٧ «هٰذِهِ ٱتَّبَعَتْ بُولُسَ وَإِيَّانَا وَصَرَخَتْ قَائِلَةً: هٰؤُلاَءِ ٱلنَّاسُ هُمْ عَبِيدُ ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَ لَكُمْ بِطَرِيقِ ٱلْخَلاَصِ».
متّى ٨: ٢٩ ولوقا ٤: ٣٤
ٱتَّبَعَتْ… وَصَرَخَتْ كانت تأتي ذلك كلما كانوا يذهبون إلى الصلاة.
قَائِلَةً الخ لا بد من أنها سمعت بولس في المعبد إذ تبعته إلى هناك وهو يعظ في الإله العلي وطريق الخلاص فرددت قوله إما مستهزئة بها وإما غير مدركة معناه ولا مكترثة به. أو أن قولها كان شهادة بالحق أُجبر الروح النجس على تأديتها كما شهد الشياطين للمسيح (مرقس ١: ٨ و٥: ٧ ولوقا ٤: ٣٤ و٨: ٢٤).
١٨ «وَكَانَتْ تَفْعَلُ هٰذَا أَيَّاماً كَثِيرَةً. فَضَجِرَ بُولُسُ وَٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلرُّوحِ وَقَالَ: أَنَا آمُرُكَ بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا. فَخَرَجَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ».
مرقس ١: ٢٤ و٣٤ مرقس ١٦: ١٧
فَضَجِرَ بُولُسُ بعد الاحتمال مراراً. وعلة ضجره أنها كانت تمنع الناس بصراخها من سمع تعليمه وينشأ عنها ازدحام كثيرين من الأرذلين الذين لا يستفيدون من وعظه ولا يتركون بلغطهم سبيلاً إلى استفادة غيرهم. وأنه كان يعد مثل تلك الشهادة من مثل ذلك الشاهد تضر بالحق (وإن كانت حقاً) اقتداء بربه يسوع (مرقس ١: ٣٤). ولعله شفق عليها أيضاً وسئم من استعباد الشيطان إياها.
ٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلرُّوحِ أي إلى الجارية التي فيها الروح وهي تتبعه. وهذا دليل على أن ما أصابها لم يكن مرضاً أو فساد عقل بل كان تأثير روح نجس سكنها كما ذُكر في (ص ٥: ١٦).
بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي بسلطانه وبالنيابة عنه. ففي هذا اقتدى بولس بيسوع في إخراجه اللجئون من المجنون في كورة الجدريين (لوقا ٨: ٢٦ – ٣٥).
فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ أي حالاً. وما تبيّن هنا من أمر بولس وإطاعة الشيطان له أنه كان الشيطان ساكن تلك الجارية حقيقة. ولا نسمع من أمر هذه الجارية شيئاً بعد ذلك ولكن لا يبعد عن الظن أن المرأتين اللتين جاهدتا مع بولس في الإنجيل هنالك (فيلبي ٤: ٢) اعتنتا بها نفساً وجسداً.
١٩ «فَلَمَّا رَأَى مَوَالِيهَا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ رَجَاءُ مَكْسَبِهِمْ، أَمْسَكُوا بُولُسَ وَسِيلاَ وَجَرُّوهُمَا إِلَى ٱلسُّوقِ إِلَى ٱلْحُكَّامِ».
ص ١٩: ٢٥ و٢٦ و٢كورنثوس ٦: ٥ متّى ١٠: ١٨
رَأَى مَوَالِيهَا علموا من سكوت الجارية أو تغيّر هيئتها وكلامها أنها برئت.
خَرَجَ رَجَاءُ مَكْسَبِهِمْ أي خرج الشيطان الذي كان علة ربحهم في الحال ورجائهم الربح في المستقبل.
أَمْسَكُوا بُولُسَ وَسِيلاَ غضباً وانتقاماً لخسارتهم ربحهم المحرم ولم يبالوا بما حصلت عليه الجارية من النفع بتحريرها من عبودية الشيطان الجائرة. وما هيّجهم على الرسل كان في كل عصر علة مقاومات كثيرة للديانة المسيحية. والظاهر انهم لم يمسكوا لوقا وتيموثاوس لكونهما لم يتظاهرا في الكلام ولا في العمل وهما في منزلة دون منزلة بولس وسيلا.
إِلَى ٱلسُّوقِ حيث دار الحكومة ومجتمع الناس.
٢٠، ٢١ «٢٠ وَإِذْ أَتَوْا بِهِمَا إِلَى ٱلْوُلاَةِ قَالُوا: هٰذَانِ ٱلرَّجُلاَنِ يُبَلْبِلاَنِ مَدِينَتَنَا، وَهُمَا يَهُودِيَّانِ، ٢١ وَيُنَادِيَانِ بِعَوَائِدَ لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْبَلَهَا وَلاَ نَعْمَلَ بِهَا، إِذْ نَحْنُ رُومَانِيُّونَ».
١ملوك ١٨: ١٧ وص ١٧: ٦
ٱلْوُلاَةِ صنف من الحكام المذكورين في ع ١٩.
قَالُوا لم يذكروا للحكام علة شكواهم الحقة إذ عرفوا أنها ليست بذنب شرعاً. ولم يكونوا مبالين لتعليم بولس وسيلا ولولا غيظهم من إضاعة مكسبهم ما شكوا عليهما بشيء ولا التفتوا إليهما. ومثل ذلك جرى على المسيح فإن مجلس السبعين حكم عليه بالعقاب بدعوى أنه جدف ولكنهم شكوه إلى بيلاطس بأنه يهيج الفتن (لوقا ٢٢: ٦٦ – ٧١ ويوحنا ١٨: ١٩ و١٩: ١٢).
يُبَلْبِلاَنِ مَدِينَتَنَا أي يقلقان أفكار أهل المدينة وما في الآية الحادية والعشرين تفسير لهذه العبارة.
يَهُودِيَّانِ ذكروا ذلك ليحملوا الحكام على كرههما لأن الرومانيين كانوا يكرهون اليهود ويحسبونهم أهل شغب ومكايد وبناء على مثل هذا أمر كلوديوس قيصر بنفيهم من رومية ولا بد من أن ذلك كان معروفاً في فيلبي. ولعل اليهود كانوا قد نفوا منها بناء على ذلك الأمر وعلى أن فيلبي كانت كرومية ثانية (انظر شرح ع ١٢) ولم يفرق الوثنيون بين اليهود والمسيحيين فكان المسيحيون عرضة للنوازل أكثر من غيرهم فاليهود اضطهدوهم لأنهم ليسوا منهم والوثنيون اضطهدوهم باعتبار أنهم يهود.
بِعَوَائِدَ لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْبَلَهَا أشاروا بذلك إلى عقائد اليهود ورسومهم الدينية.
إِذْ نَحْنُ رُومَانِيُّونَ أشاروا بهذا إلى امتيازاتهم عن سائر المدن اليونانية بكون مدينتهم كولونية (ع ١٢) فلم يكن لأهل تسالونيكي مثلاً الحق أن يقولوا مثل هذا. وذكروا أنهم «رومانيون» أي أنهم أشرف الناس ليقابلوا بذلك اليهوديَّين اللذين هما عندهم من أدنى الناس وأن ذنبهما اجتهادهما في تحويلهم عن دينهم وعوائدهم الشريفة إلى دينهما وعوائدهما الدنيئة على قولهم فأقلقا بذلك المدينة. وكان الرومانيون أباحوا لمن استولوا عليهم أن يبقوا في دينهم ويمارسوا رسومه بلا معارضة لكنهم لم يسمحوا بأن يحول أحدٌ أحداً من الرومانيين عن دينه وأن ينشئ ديناً جديداً بغير إذن الحكومة.
٢٢ «فَقَامَ ٱلْجَمْعُ مَعاً عَلَيْهِمَا، وَمَزَّقَ ٱلْوُلاَةُ ثِيَابَهُمَا وَأَمَرُوا أَنْ يُضْرَبَا بِٱلْعِصِيِّ».
٢كورنثوس ٦: ٥ و١١: ٢٣ و٢٥ و١تسالونيكي ٢: ٢
ٱلْجَمْعُ مَعاً عَلَيْهِمَا حرّك موالي الجارية جهلاء الشعب على بولس وسيلا فاتفقوا معهم في الشكوى إلى الولاة فجعلوا الشكاية عامة لا خاصة. والذي حمل الجمع على مشاركة الموالي في ذلك مواساتهم لأهل جنسهم في كره اليهود المبغضين وزعمهم أنهم خسروا نفعاً عظيماً بإزالة بولس وسيلا روح العرافة من الجارية. ولا واسطة للتهييج كظن التعدي على الدين ومثاله التهييج في أفسس (ص ١٩: ٢٧ – ٣٤).
مَزَّقَ ٱلْوُلاَةُ ثِيَابَهُمَا أي أمروا الجلادين بتعريتهما كعادتهم عند الأمر بجلد المذنبين فعروهما بالعنف حتى مزقوا ثيابهما. وعاملوهما كمذنبين بلا فحص تسكيتاً وتسكيناً للجمع الذي كان يصرخ ويهيج وإظهاراً لبغضهم اليهود.
أَنْ يُضْرَبَا بِٱلْعِصِيِّ كان هذا العقاب شديد الألم كثير الإهانة لا يجوز أن يُعاقب به روماني بمقتضى الشريعة الرومانية لما فيه من وفرة الهوان. وكان هذا الضرب إحدى المرات الثلاث التي ذكرها بولس بقوله «ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِٱلْعِصِيِّ» (٢كورنثوس ١١: ٢٥). ولا نعلم أين ضُرب المرتين الأخريين. فإن قيل لماذا لم يطلب بولس وسيلا حقوقهما باعتبار أنهما رومانيان في الحال لا في الغد بعد أن ضُربا (ع ٣٧) قلت لعلهما أتيا ذلك ولم يُسمعا لكثرة ضجيج القوم وعدم تصديقهما إن كانا قد سُمعا.
٢٣ «فَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا ضَرَبَاتٍ كَثِيرَةً فَأَلْقَوْهُمَا فِي ٱلسِّجْنِ، وَأَوْصُوا حَافِظَ ٱلسِّجْنِ أَنْ يَحْرُسَهُمَا بِضَبْطٍ».
ضَرَبَاتٍ كَثِيرَةً هذا يدل على أنهم ضربوهما أكثر مما اعتادوا. والشريعة الرومانية لم تحدد عدد الضربات كالشريعة الموسوية (تثنية ٢٥: ٣) فكانوا يضربون المذنبين ما شاءوا. ولا بد أن ظهر كل منهما كان دامياً لما أنشأ فيه الضرب الشديد على لحمه. وأشار بولس إلى ذلك في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي بقوله «بَعْدَ مَا تَأَلَّمْنَا قَبْلاً وَبُغِيَ عَلَيْنَا كَمَا تَعْلَمُونَ، فِي فِيلِبِّي» (١تسالونيكي ٢: ٢).
أَوْصُوا حَافِظَ ٱلسِّجْنِ جهاراً ليسمع الجميع وليكفوا عن الصراخ والضجيج وليفهموا أن الحكام سيحاكمون بولس وسيلا ويعاقبونهما كما يستحقان. وتوصيتهم السجان تدل على أنهم حسبوهما من شر المذنبين وأكثرهم أضراراً وأنه يقتضي شديد الاحتراس منهما.
٢٤ «وَهُوَ إِذْ أَخَذَ وَصِيَّةً مِثْلَ هٰذِهِ أَلْقَاهُمَا فِي ٱلسِّجْنِ ٱلدَّاخِلِيِّ، وَضَبَطَ أَرْجُلَهُمَا فِي ٱلْمِقْطَرَةِ».
إِذْ أَخَذَ وَصِيَّةً مِثْلَ هٰذِهِ ذكر لوقا هذا بياناً لعلة قساوة السجان فإنه فعل ما فعله إطاعة لتوصية الحكام الخاصة.
ٱلسِّجْنِ ٱلدَّاخِلِيِّ كان السجن غالباً ثلاثة أقسام الأول يدخله النور ويتجدد فيه الهواء والثاني داخل بابا حديد محكم الإيصاد والثالث وراء الثاني غلب أن يكون تحت الأرض مثل الكهف وأن لا يُسجن فيه إلا من وجب عليه الموت.
أَرْجُلَهُمَا فِي ٱلْمِقْطَرَةِ هذه واسطة ثانية للاحتراس بمقتضى الوصية. والمقطرة آلة تعذيب وضبط وهي خشبة صلبة ثقيلة فيها خروق لضبط أعضاء المسجونين وغلب أن تكون خروقها خمسة واحد لضبط الرأس واثنان لليدين واثنان للرجلين وكل من خرقَي الرجلين بعيد عن الآخر إلى حد ينشئ ألماً شديداً للمسجون. وسجان فيلبي لم يضبط سوى أرجلهما. واستعمل الناس المقطرة من قديم العصور (أيوب ١٣: ٢٧ وإرميا ٢٠: ٢ و٢٩: ٢٦).
٢٥ «وَنَحْوَ نِصْفِ ٱللَّيْلِ كَانَ بُولُسُ وَسِيلاَ يُصَلِّيَانِ وَيُسَبِّحَانِ ٱللّٰهَ، وَٱلْمَسْجُونُونَ يَسْمَعُونَهُمَا».
نِصْفِ ٱللَّيْلِ حرمهما النوم ألم الجراح الناشئة من الضرب وتعذيب المقطرة والجوع (ع ٣٤) ولكن مع تعبهما الجسدي كان ضمير كل منهما مستريحان وقلب كلّ مسنوداً بالنعمة الإلهية.
يُصَلِّيَانِ وَيُسَبِّحَانِ ٱللّٰهَ لم يستطيعا أن يجثوا للصلاة لكنهما استطاعا أن يرفعا الصوت والقلب إلى السماء ولم يعوّلا لما اصابهما ولم يتذمراً على الله بأن جعل ذلك من عواقب إطاعتهما لأمره في رؤيا ترواس لكنهما وجدا في ذلك كله ما حملهما على الصلاة والتسبيح. ولعل بعض موضوع صلاتهما أن يكون ما أصابهما وما سيصيبهما من محاكمتهما في الغد وسيلة إلى انتشار الإنجيل. وبعض علل التسبيح أنهما حُسبا مستأهلين أن يُهانا من أجل اسم الرب (ص ٥: ٤١) وأنهما ذكرا قول السيد «طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ. اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ٥: ١١ و١٢) وأن الله شددهما في ذلك الضيق. اطمئنان بطرس في سجنه مكنه من النوم في شدة ضيقه لكن أحوال بولس وسيلا لم تسمح لهما بالنوم فاعتاضا عنه بالصلاة والتسبيح. والمرجح أنهما ترنما ببعض مزامير داود التي توافق ما كانا فيه.
وَٱلْمَسْجُونُونَ يَسْمَعُونَهُمَا ذكر الكاتب ذلك بياناً أنهما صليا وترنما بأصوات الشجاعة والنشاط والسرور إظهاراً لبرآتهما من الذنب وفرحهما بالروح القدس وأن المسجونين فضلوا الاستماع على النوم وأصغوا بعجب ومسرة إلى تلك الأصوات التي لم يعهدوا مثلها في ذلك المكان.
ولنا من ذلك ثلاث فوائد:
- الأولى: أن الديانة المسيحية تنشئ فرحاً داخلياً لا يدفعه شيء من الأحوال الخارجية.
- الثانية: أنه لا يستطيع أعداء المسيحي أن يسلبوه سروره فإن حرموه كل المنافع الدنيوية لم يستطيعوا أن يحرموه نعمة الله.
- الثالثة: إن من شأن الضمير الصالح منح صاحبه وهو في السجن سلاماً وسعادة لا يمنحها الغنى صاحبه وهو في الفرج.
٢٦ «فَحَدَثَ بَغْتَةً زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى تَزَعْزَعَتْ أَسَاسَاتُ ٱلسِّجْنِ، فَٱنْفَتَحَتْ فِي ٱلْحَالِ ٱلأَبْوَابُ كُلُّهَا، وَٱنْفَكَّتْ قُيُودُ ٱلْجَمِيعِ».
ص ٤: ٣١ ص ٥: ١٩ و١٢: ٧ و١٠
زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ لم تكن الزلزلة عادية بل جعلها الله آية حضوره ليؤكد لعبديه حمايته إياهما وعنايته بهما وإجابته لصلاتهما (ص ٤: ٣١) وتبرئتهما جهاراً من كل ذنب ولتكون وسيلة لنجاتهما وشهادة بصحة الديانة التي بشرا بها.
حَتَّى تَزَعْزَعَتْ أَسَاسَاتُ ٱلسِّجْنِ الأرجح أن علة ذكر هذا كون السجن الداخلي تحت الأرض عند الأساس حتى تزعزع هو أيضاً.
فَٱنْفَتَحَتْ فِي ٱلْحَالِ ٱلأَبْوَابُ كُلُّهَا أي دفعة واحدة لا على التوالي كما لو فتحها إنسان وانفتحت من الباب الخارجي إلى الباب الداخلي وهذا جزء من المعجزة ونتيجة الزلزلة.
وَٱنْفَكَّتْ قُيُودُ ٱلْجَمِيعِ وهذا جزء آخر من المعجزة وغايته الشهادة بصحة الديانة التي بشر بها بولس وسيلا اللذان سمع المسجونون صلاتهما وتسبيحهما. ولا بد من أنهم عرفوا علة سجنهما واستنتجوا أن ما حدث كان مما سمعوه منهما وأن الله أعلن أنه أخذ في تبرئتهما وإنقاذهما. ولولا انفكاك القيود لكان لهم أن يظنوا الزلزلة عادية وانفتاح الأبواب من شدة تأثيرها. ولا بد من أن الله جعل في قلوب المسجونين أن يبقوا في السجن مع الفرص للهرب على أنه يمكن أنهم بقوا فيه من تأثير هول الزلزلة وجهلهم كل الأحوال لظلام الليل.
إن لله كل الوسائط لإنقاذ عبيده فيمكنه أن يرسل ملاكه ليقودهم بسكون من السجن كما أنقذ بطرس (ص ١٢) وأن يرسل زلزلة يزعزع أسس السجن ويخيف المضطهدين ويُطلق من له كما فعل هنا.
٢٧ «وَلَمَّا ٱسْتَيْقَظَ حَافِظُ ٱلسِّجْنِ، وَرَأَى أَبْوَابَ ٱلسِّجْنِ مَفْتُوحَةً، ٱسْتَلَّ سَيْفَهُ وَكَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، ظَانّاً أَنَّ ٱلْمَسْجُونِينَ قَدْ هَرَبُوا».
كان من الطبع أن يظن المسجونين هربوا لما رأى أبواب السجن مفتوحة وعلم أن الشريعة الرومانية توجب قتل من نام في نوبة الحراسة وسمح للمسجونين الموكولين إلى حراسته بالهرب (ص ١٢: ١٩ قابل هذا بما في ص ٢٧: ٤٢) فعزم أن ينتحر خوفاً من عار القتل جهاراً وحسب هذا العار شراً ما يمكن أن يصيبه في عالم الأرواح. وكثيراً ما أتى الرومانيون الانتحار في مثل هذه الأحوال. فإن في تلك المدينة عينها انتحر بروتس وكاسيوس وكثيرون من أعوانهما حين غُلبا في محاربة أوغسطس وأنطونيوس. ورأى مؤرخو ذلك العصر أن ذلك من شجاعتهما ومما يوجب لهما المدح واتخذوهما قدوة في ذلك. ومن فوائد الدين المسيحي أنه أبان فظاعة الانتحار وقلله كثيراً.
رَأَى أَبْوَابَ ٱلسِّجْنِ مَفْتُوحَةً مع أنه أوصدها بأحكام قبل نومه.
ٱسْتَلَّ سَيْفَهُ الذي كان اقتناؤه من واجبات كل سجّان وكان ذلك السيف قريباً منه وقتئذ أو على مقلده وهو نائم.
٢٨ «فَنَادَى بُولُسُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: لاَ تَفْعَلْ بِنَفْسِكَ شَيْئاً رَدِيّاً، لأَنَّ جَمِيعَنَا هٰهُنَا».
بِصَوْتٍ عَظِيمٍ ليسمعه السجّان ويكف عن عزمه. ولا ريب في أن الله أعلن لبولس عزم السجان على الانتحار وأن المسجونين لم يهربوا لأنه كان في السجن الداخلي حيث لا شيء من النور كما يظهر من (ع ٢٩).
لاَ تَفْعَلْ بِنَفْسِكَ شَيْئاً رَدِيّاً أي لا تضر جسدك بإزالة حياته ولا روحك بارتكاب القتل لأنه إثم نهى الله عنه بقوله «لا تقتل» وقال له ذلك إذ شفق عليه ولم يرد أن يهلك نفساً وجسداً. فلو أراد بولس الانتقام منه لقساوته عليهما لسكت وتركه ينتحر. فالديانة المسيحية لا تبرح تقول لكل إنسان يضر جسده ونفسه بالمسكرات وإطلاقه لها العنان في ميدان الشهوات والإصغاء إلى أقوال الكفر «لا تفعل بنفسك شيئاً ردياً».
جَمِيعَنَا هٰهُنَا أي نحن بولس وسيلا وسائر المسجونين فلا علة لأن تخاف أو تضر نفسك.
٢٩ «فَطَلَبَ ضَوْءاً وَٱنْدَفَعَ إِلَى دَاخِلٍ، وَخَرَّ لِبُولُسَ وَسِيلاَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ».
فَطَلَبَ ضَوْءاً لإنارة السجن كله ليتحقق وجود جميع المسجونين ولينفع بولس وسيلا.
ٱنْدَفَعَ إِلَى دَاخِلٍ أي إلى السجن الداخلي حيث بولس وسيلا. فالظاهر أنه تحقق أن الزلزلة غير عادية جعلها إلههما آية مسرّته بهما وأنه عرض نفسه لغضب ذلك الإله لاعتدائه عليهما.
خَرَّ لِبُولُسَ وَسِيلاَ احتراماً وتوقيراً لهما واعترافاً بأنهما في حماية قوة إلهية وأنه قسا عليهما جهلاً.
وَهُوَ مُرْتَعِدٌ خوفاً مما حدث ومما يمكن أن يحدث. وهنا يظهر لما حدثت الزلزلة امتلأ السجان رهبة وكآبة ويأساً وندماً ولكن الرسولين كانا حينئذ في اطمئنان وسلام وفرح. أراد ذاك أن يقتل نفسه وأراد هذان أن يفعلا خيراً بإنقاذ غيرهما من الهلاك نفساً وجسداً. وكذا يكون الفرق في أوقات المرض والموت وفي يوم الدين. فما أجدر بكل إنسان أن يتمسك بالرجاء الموضوع أمامه بيسوع المسيح الذي به وحده ينال الراحة والأمن.
٣٠ «ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا وَقَالَ: يَا سَيِّدَيَّ، مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟».
لوقا ٣: ١٠ وص ٢: ٣٧ و٩: ٦
أَخْرَجَهُمَا من السجن الداخلي إلى السجن الخارجي لأنه أرحب من ذاك وأوفق للتكلم.
يَا سَيِّدَيَّ خاطبهما بلطف واحترام مخاطبة الأدنى للأعلى.
مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ الخ عرفنا معنى السؤال من الجواب أي أنه سأل عن وسيلة خلاص نفسه الأبدي إذ لم يكن في خوف من الحكام لأنه لم يهرب أحد من المسجونين وعلى فرض أنه كان في خوف منهم لم يتوقع أن يستعين ببولس وسيلا. ولا بد أنه كان قد علم في الأيام والأسابيع التي تقضت على الرسولين في فيلبي أن غاية وعظهما خلاص النفوس. ولا ريب في أنه كان قد سمع قول الجارية وهي تتبعهم «هٰؤُلاَءِ ٱلنَّاسُ هُمْ عَبِيدُ ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَ لَكُمْ بِطَرِيقِ ٱلْخَلاَصِ» (ع ١٧) وأن روح الله أيقظ ضميره وأبان له أن نفسه في خطر من العقاب على إثمه وأنه مفتقر إلى خلاص أبدي من غضب ذلك الإله (الذي تحقق قوته بالزلزلة) والهلاك الأبدي. وليس ببعيد أنه سمع يوماً بولس وسيلا يبشران بالمسيح وخلاصه. فعلى كل منا ان يسأل هذا السؤال وأن يتأمل حسناً في الجواب لأنه يهمهما كما كان يهم السجان. وهذا الخلاص نزل ابن الله من السماء إلى الأرض وتألم ومات لكي نحصل عليه.
٣١ «فَقَالاَ: آمِنْ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ».
يوحنا ٣: ١٦ و٣٦ و٦: ٤٧ و١يوحنا ٥: ١٠
فَقَالاَ أي بولس وسيلا كلاهما.
آمِنْ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أي تنجو من الخطيئة وعقابها في هذا العالم وفي العالم الآتي بواسطة الإيمان بالمسيح. هذا الجواب جامع لشروط الخلاص بأحسن إيجاز وأوضح بيان وقد صار بركة لألوف وربوات من الناس. ولا ذكر فيه لشيء من الوسائل الاستعدادية كالصلاة وقراءة الكتاب وتوقع نعمة الله إنما هو أمر بمجرد الإيمان في الحال. ولا ذكر فيه لشيء من الأعمال الصالحة كإيفاء القوانين والنذور وزيارة الأماكن المقدسة ولا لوسيط غير المسيح من ملائكة أو قديسين أو رسل. وكان سؤال الناس يوم الخمسين مثل سؤال السجان (ص ٢: ٣٧). وجواب بطرس كجواب بولس معنىً لا لفظاً وهو ما نصه «توبوا وليتعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا» فإن الإيمان يقترن بالتوبة أبداً ووجود أحدهما يستلزم وجود الآخر. وبولس عمّد السجان مع أن وجوب المعمودية لا ذكر له في جوابه هنا.
أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ أي أنت تخلص بإيمانك وأهل بيتك بإيمانهم كما آمنت لا بإيمانك نيابة عنهم. وأظهرا بقولهما ذلك أن أهل بيته في حاجة إلى الخلاص مثله وأن الخلاص معروض عليهم ليشاركوه في الفرح والسلام والأمن.
٣٢ «وَكَلَّمَاهُ وَجَمِيعَ مَنْ فِي بَيْتِهِ بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ».
جَمِيعَ مَنْ فِي بَيْتِهِ من أهله وخدمه ويحتمل أن المسجونين كانوا من السامعين أيضاً. فما أغرب محل هذا الوعظ أنه دار السجن وما أغرب وقته فإنه كان بين منتصف الليل والصبح.
بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ أي بما يشرح ما قاله سابقاً من ان الخلاص بالإيمان بالرب يسوع المسيح فبينا أن اسم يسوع وأعماله وأقواله تُعلن أنه هو المخلص. ولا بد من أنهم أنبآه بذوات الشأن من حوادث حياته وموته وقيامته وأعلماه كيف أوجد المغفرة للمؤمنين وما يجب على من آمن به لله وللناس. ولا بد من أنهما ذكرا من جملة تلك الواجبات المعمودية والعشاء الرباني.
٣٣ «فَأَخَذَهُمَا فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مِنَ ٱللَّيْلِ وَغَسَّلَهُمَا مِنَ ٱلْجِرَاحَاتِ، وَٱعْتَمَدَ فِي ٱلْحَالِ هُوَ وَٱلَّذِينَ لَهُ أَجْمَعُونَ».
فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مِنَ ٱللَّيْلِ ذكر لوقا الوقت ليبيّن أن السجان أتى تلك الخدمة في وقت لم يعتد أن تكون في مثله.
وَغَسَّلَهُمَا مِنَ ٱلْجِرَاحَاتِ أي من دم الجراح التي أنشأها الضرب ومن الوسخ الذي تراكم على تلك الجراح من طرحهما على الظهرين في السجن الداخلي وهما في المقطرة. وهذا أول أثمار إيمانه فإنه رحمة للمتألمين المحتاجين. وقد أتت الديانة المسيحية بمثل تلك الأثمار في كل مكان بلغته فبنت المستشفيات العامة وملاجئ العمي والبكم والعاجزين واليتامى.
كان لبولس قوة على شفاء غيره كما كان لسائر الرسل ولكنه لم ينفع نفسه بتلك القوة.
وَٱعْتَمَدَ بموجب أمر المسيح (متّى ٢٨: ١٩) وضرورة الحال تشير إلى أن تلك المعمودية بالرش.
فِي ٱلْحَالِ حذراً من فوات الفرصة مع تحقق الرسولين صحة إيمانه ووجوب المعمودية التي هي علامة المغفرة وختمها.
وَٱلَّذِينَ لَهُ أَجْمَعُونَ هذا مما يسند القول بمعمودية الأطفال لأنه إن كان لذلك السجان من صغار فالعبارة تشملهم.
٣٤ «وَلَمَّا أَصْعَدَهُمَا إِلَى بَيْتِهِ قَدَّمَ لَهُمَا مَائِدَةً، وَتَهَلَّلَ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ إِذْ كَانَ قَدْ آمَنَ بِٱللّٰهِ».
لوقا ٥: ٢٩ و١٩: ٦
أَصْعَدَهُمَا إِلَى بَيْتِهِ من السجن تحت إلى منزله فوق.
قَدَّمَ لَهُمَا مَائِدَةً كان من أثمار إيمانه أيضاً أن لان قلبه بعد القسوة وقام بضيافة من لم يلتفت إلى طعامهما حين سجنهما. ولا بد من أن الرسولين كانا محتاجين إلى الغذاء حينئذ لأنهما على ما يرجح لم يذوقا طعاماً منذ أمسكا وهما ذاهبان إلى الصلاة في الساعة الثالثة من النهار وهي إحدى أوقات الصلاة المفروضة عند اليهود. ولا يبعد عن الظن أن بولس وسيلا اتخذا فرصة تناول الطعام مع السجان وأهله للغذاء فرصة «لوليمة المحبة التي اعتاد المسيحيون الأولون أن يتخذوها علامة أخوتهم بيسوع المسيح» (ص ٢: ٤٢ و٤٦).
وَتَهَلَّلَ الخ أي فرح. وعلة فرحه وفرح بيته اتكالهم على رحمة الله بيسوع المسيح للخلاص. والحق أنه كان له ما يوجب الفرح لأنه حين اضطجع في مرقده كان وثنياً يجهل المسيح وطريق الخلاص عرضة لغضب الله والهلاك الأبدي واستيقظ نصف الليل خائفاً يؤنبه ضميره وقد عزم على الانتحار هرباً من الأخطار المحيطة به ولكنه لم يطلع النهار إلا وهو مسيحي مستريح الضمير يعرف طريق الخلاص وقد شرع في السير فيه وأهل بيته وكما أنشأ الإنجيل الفرح لهؤلاء أنشأه لأهل السامرة (ص ٨: ٨) وللحبشي (ص ٨: ٣٩) ولكل من آمن به على هذه الأرض.
٣٥ «وَلَمَّا صَارَ ٱلنَّهَارُ أَرْسَلَ ٱلْوُلاَةُ ٱلْجَلاَّدِينَ قَائِلِينَ: أَطْلِقْ ذَيْنِكَ ٱلرَّجُلَيْنِ».
ٱلْجَلاَّدِينَ الذين ضربوا الرسولين قبلاً.
قَائِلِينَ الخ على خلاف ما قصدوه حين أمروا بسجنهما فإنهم قصدوا أن يأتوا بهما إلى المحاكمة ويحكموا عليهما بالعقاب أو الموت بحسب الشريعة الرومانية فإنها تأمر بقتل كل مبتدع ديناً جديداً لا تأذن في نشره أرباب الحكومة. ولا نعلم ماذا ثناهم عن عزمهم ولعله تأثير الزلزلة (ويؤيد ذلك أنهم أرسلوا الجلادين في أول الصباح) أو ندمهم على مخالفة الشريعة بأمرهم بضربهما وحبسهما بلا محاكمة أو سؤال عما سبق منهما فأرادوا أن يتخلصوا من ذلك بإطلاقهما خفية.
٣٦ «فَأَخْبَرَ حَافِظُ ٱلسِّجْنِ بُولُسَ أَنَّ ٱلْوُلاَةَ قَدْ أَرْسَلُوا أَنْ تُطْلَقَا، فَٱخْرُجَا ٱلآنَ وَٱذْهَبَا بِسَلاَمٍ».
فَأَخْبَرَ حَافِظُ ٱلسِّجْنِ بُولُسَ لا بد من أنه فرح بإطلاق صديقيه الجديدين وبنجاتهما مما خاف من أن يصيبهما بعد المحاكمة وسره أنه نجا بذلك من الارتباك في ما يجب عليه للولاة في أمرهما وما يجب عليه لله في ذلك ولا ريب في أنه حسب إطلاق الولاة لهما تنازلاً ولطفاً منهم يقبله بولس وسيلا بفرح وشكر.
فَٱخْرُجَا ٱلآنَ لأن الولاة أذنوا في ذلك فلم يبق من مانع لخروجكما.
ٱذْهَبَا بِسَلاَمٍ حيّاهم تحية الأصدقاء عند المفارقة (ص ١٥: ٣٣) ظاناً أنهما يغتنمان فرصة الذهاب في الحال.
٣٧ «فَقَالَ لَهُمْ بُولُسُ: ضَرَبُونَا جَهْراً غَيْرَ مَقْضِيٍّ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ رَجُلاَنِ رُومَانِيَّانِ، وَأَلْقَوْنَا فِي ٱلسِّجْنِ أَفَٱلآنَ يَطْرُدُونَنَا سِرّاً؟ كَلاَّ! بَلْ لِيَأْتُوا هُمْ أَنْفُسُهُمْ وَيُخْرِجُونَا».
ص ٢٢: ٢٥
فَقَالَ لَهُمْ بُولُسُ أي للجلادين. كانت كل كلمة مما قاله بولس دعوة على الولاة لو أراد أن يقيمها فمفاد الأولى أن ضربهم كان شديداً فوق المعتاد فإن ما تُرجم «بالضرب» هنا هو السلخ في الأصل اليوناني. والثانية أنهم أتوا ذلك جهراً أمام كل الجمهور فزاد ذلك الرسولين عاراً فوق الألم الشديد. الثالثة أنهم أتوا ذلك بلا فحص أو محاكمة. والرابعة أنهم فعلوا بهما ذلك وهما ممن حكمت الشريعة الرومانية بمنع ضربهم مطلقاً وسجنهم قبل المحاكمة وإثبات الذنب. وحصل بولس على هذا الحق (مع أنه يهودي) بالإرث (ص ٢٢: ٢٩) ولا نعلم بأي وسيلة حصل سيلا عليه لكنا علمنا أنه كان يسمى بسلوانس (٢كورنثوس ١: ١٩ و١تسالونيكي ١: ١) وهو اسم روماني فلعل أحد أسلافه كأبيه أو جده خدم الدولة الرومانية بالحرب فحصل على ذلك الحق له ولنسله. فالذين اشتكوا عليهم قالوا أنهم هم رومانيون (ع ٢١) ليثبتوا أن الرسولين تعديا على حقوقهم وقالوا أنهما يهوديان ليعيروهما فقال بولس أنهما رومانيان مثلهم ليثبت إنهم تعدوا على حقوقهما وأنهما مستحقان تبرئة الولاة إياهما.
أَفَٱلآنَ أي أبعد هذا الظلم.
يَطْرُدُونَنَا حسب الرسول إطلاقهما على هذا الأسلوب طرداً.
لِيَأْتُوا هُمْ أَنْفُسُهُمْ وَيُخْرِجُونَا أي ضربونا جهراً فيجب أن يطلقونا جهراً. وغاية بولس من كل هذا ليس بغية الشرف له ولسيلا ولا تخجيل الولاة وتخويفهم انتقاماً بل إكرام الديانة التي ناديا بها وأُهينت بإهانتهما والحصول على الأمن لسائر مؤمني فيلبي بعد ذلك ولتشجيع قلوبهم ولعله أراد أن يعلم الولاة أن يحكموا في الدعاوي بمقتضى الشريعة لا بمجرد صراخ المشتكين.
يحق للمسيحيين أن يطلبوا حماية الشريعة المدنية كغيرهم وأن يطلبوا منها الإنصاف. فالدين المسيحي لا يجبر أهله على ترك حقوقهم.
٣٨ «فَأَخْبَرَ ٱلْجَلاَّدُونَ ٱلْوُلاَةَ بِهٰذَا ٱلْكَلاَمِ، فَٱخْتَشَوْا لَمَّا سَمِعُوا أَنَّهُمَا رُومَانِيَّانِ».
فَٱخْتَشَوْا كان اختشاؤهم في محله لأنهم بمعامتلهم بولس وسيلا على خلاف ما اقتضته الشريعة الرومانية (Lex Porcia) كانت أموالهم وحياتهم عرضة للفقدان لأنهم كانوا بذلك التعدي كأنهم تعدوا على حقوق كل الشعب الروماني. فلو أراد بولس وسيلا رفع دعواهما لصار المشكو عليهما شاكين والولاة مشكوّا عليهم. ولا حجة لهم لأنهم إن لم يعرفوا أنهما رومانيان كان عليهم أن يسألوهما قبل ضربهما.
٣٩ «فَجَاءُوا وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِمَا وَأَخْرَجُوهُمَا، وَسَأَلُوهُمَا أَنْ يَخْرُجَا مِنَ ٱلْمَدِينَةِ».
متّى ٨: ٣٤
فَجَاءُوا لا ريب في أن هذا التنازل كان صعباً عليهم لكنهم سروا بأن يخلصوا به من نتائج ما ارتكبوه من الخطإ.
وَسَأَلُوهُمَا أَنْ يَخْرُجَا مِنَ ٱلْمَدِينَةِ وقاية لهما وحفظاً لراحة المدينة.
٤٠ «فَخَرَجَا مِنَ ٱلسِّجْنِ وَدَخَلاَ عِنْدَ لِيدِيَّةَ، فَأَبْصَرَا ٱلإِخْوَةَ وَعَزَّيَاهُمْ ثُمَّ خَرَجَا».
ع ١٤
عِنْدَ لِيدِيَّةَ أي بيتها الذي نزلوه ضيوفاً وكان يجتمع فيه الإخوة على ما يرجّح.
فَأَبْصَرَا ٱلإِخْوَةَ وَعَزَّيَاهُمْ لم يذهبا من المدينة على أثر خروجهما من السجن بل بقيا وقتاً ليقويا قلوب الإخوة المضطربة بما أصابهما ومما خافوا أن يقع عليهما من أمثاله فعزياهم بذكر حوادث الليل وأقوال الإنجيل. ولم نعرف من أمور الإخوة هنا سوى أمر السجان لكن بولس في رسالته إلى أهل هذه المدينة ذكر شدة محبتهم إياه ومحبته إياهم وليس في تلك الرسالة كلمة لوم لأحد منهم بل فيها كثير من المدح وخص فيها بالذكر أبفروديتوس في (ص ٢: ٢٥). وتلك الكنيسة الوحيدة التي رضي بولس قبول مساعدتها إياه. وهم لم يقتصروا على مساعدته مرة بل ساعدوه مراراً (٢كورنثوس ١١: ٧ – ١٢ وفيلبي ٤: ١٤ – ١٩).
ثُمَّ خَرَجَا من المدينة لأنهما أكملا معظم ما قصداه فيها فإنهما بشرا بالإنجيل وأسسا كنيسة وكانا على أهبة السفر إلى غيرها على أنهما لم يريدا أن يمكثا لأن بقاءهما هنالك ينشأ عنه خطر عليهما وعلى الإخوة. والظاهر أن لوقا لم يخرج معهما بل بقي هنالك للتبشير لأنه عدل عن صيغة التكلم إلى صيغة الغيبة إلى أن رجع الرسولان إلى فيلبي (ص ٢٠: ٥).
السابق |
التالي |