أعمال الرسل | 08 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح سفر أعمال الرسل
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح الثامن
١ «وَكَانَ شَاوُلُ رَاضِياً بِقَتْلِهِ. وَحَدَثَ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ ٱضْطِهَادٌ عَظِيمٌ عَلَى ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّتِي فِي أُورُشَلِيمَ، فَتَشَتَّتَ ٱلْجَمِيعُ فِي كُوَرِ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَٱلسَّامِرَةِ، مَا عَدَا ٱلرُّسُلَ».
ص ٧: ٥٨ و٢٢: ٢٠ ص ١١: ١٩
كان الأولى أن تُحسب هذه الآية الأخيرة من الأصحاح السابع لأنها تابعة لموت استفانوس.
فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ على أثر موت استفانوس.
ٱضْطِهَادٌ عَظِيمٌ موت استفانوس لم يشف غيظ قاتليه فظلوا غاضبين على اتباع يسوع الذين هم أمثال استفانوس. ولعل ذلك الاضطهاد كان حبس بعض المؤمنين وسلب أموالهم وجلدهم وفرار غيرهم لما وقع عليهم من الشدة والضيق (ص ١١: ١٩).
فَتَشَتَّتَ ٱلْجَمِيعُ أي أكثرهم. قصد أعداء الكنيسة ملاشاتها بتشتيت أعضائها لكن الله جعل تشتتهم خيراً للكنيسة لأنه آل إلى نشر الإنجيل خارج أورشليم على وفق قضاء الله وأمر المسيح (متّى ٢٨: ١٩).
فِي كُوَرِ ٱلْيَهُودِيَّةِ كحبرون وغزة ولد ويافا (ص ٢٩: ٣٢ و٣٦).
وَٱلسَّامِرَةِ لأنها مجاورة أورشليم والسامريون أعداء اليهود ولذلك أمن الفارون إليهم من اليهود. والأرجح أن بعض أولئك الفارين رجع إلى مساكنهم الأولى خارج اليهودية لأننا نعلم من ص ١١: ١٩ أن بعضهم ذهب إلى فينيقية وقبرس وأنطاكية.
مَا عَدَا ٱلرُّسُلَ لعلهم رأوا أنه يجب عليهم باعتبار كونهم معلمي الكنيسة أن يبقوا هنالك وإن عرّضوا أنفسهم للخطر لئلا يصدق عليهم قول المسيح «ٱلأَجِيرُ يَهْرُبُ لأَنَّهُ أَجِيرٌ، وَلاَ يُبَالِي بِٱلْخِرَافِ» (يوحنا ١٠: ١٣).
٢ «وَحَمَلَ رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ ٱسْتِفَانُوسَ وَعَمِلُوا عَلَيْهِ مَنَاحَةً عَظِيمَةً».
تكوين ٢٣: ٢ و٥٠: ١٠ و١صموئيل ٣: ٢١
حَمَلَ رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ الأرجح أنهم يهود كالمذكورين في (ص ٢: ٥) وكسمعان الشيخ ولو كانوا مسيحيين لسمّاهم لوقا إخوة لأن الإخوة لم يجسروا حينئذ أن يحتفلوا بدفن استفانوس علناً. وأولئك الأتقياء لم يستحسنوا قتل استفانوس فأرادوا دفنه بالكرامة ومعنى «الحمل» هنا يشتمل على إعداد كل لوازم الدفن من أطياب ولفائف الخ.
مَنَاحَةً عَظِيمَةً كعادة اليهود في ندب الموتى (متّى ٩: ٢٣). ويحتمل أنهم زادوا على المعتاد من ذلك ليظهروا كرههم ما ارتكبه الصدوقيون والمتعصبون من الفريسيين من قتل استفانوس.
٣ «وَأَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ يَسْطُو عَلَى ٱلْكَنِيسَةِ، وَهُوَ يَدْخُلُ ٱلْبُيُوتَ وَيَجُرُّ رِجَالاً وَنِسَاءً وَيُسَلِّمُهُمْ إِلَى ٱلسِّجْنِ».
ص ٧: ٥٨ و٩: ١ و١٣ و٢١ و٢٢ و٤٠ و٢٦: ١ و١١ و١كورنثوس ١٥: ٩ وغلاطية ١: ١٣ وفيلبي ٣: ٦ و١تيموثاوس ١: ١٣
وَأَمَّا صدّر الكلام على شاول «بأمّا» إظهاراً للمباينة بين فعله وفعل أولئك الأتقياء فهو لم يوافقهم على دفن استفانوس والمناحة عليه.
شَاوُلُ اسم عبراني لذلك الرجل الذي عُرف بعد ذلك «ببولس» وهو اسم روماني دُعي به باعتبار كونه مولوداً في طرسوس التي كان لها حقوق المدن الرومانية. والأرجح أنه وُلد في أول القرن الأول من التاريخ المسيحي لأنه وصف نفسه في سنة ٦٤ بأنه شيخ (فليمون ٩) وكان عبرانياً من العبرانيين من سبط بنيامين فريسياً ابن فريسي (في ٣: ٥ و٢٣: ٦) وكان له حقوق إنسان روماني (أعمال ٢١: ٣٩) وكان قد تعلم صناعة الخيام (أعمال ١٨: ٣) وهذا حسب عادة اليهود في تعليم أولادهم الصنائع. والأرجح أنه تعلم الفنون اليونانية والفلسفة في مدارس طرسوس المشهورة في تلك الأيام شهرة مدارس أثنيا واسكندرية كما نستنتج من اقتباسه من شعراء اليونان (ص ١٧: ٢٨ و١كورنثوس ١٥: ٣٣ وتيطس ١: ١٢) وأتى أورشليم ليدرس الشريعة اليهودية وتهذب عند قدمي الرباني المشهور غمالائيل (أعمال ٢٢: ٣). وهذا خلاصة ما نعلمه من أمره قبل أن تنصّر.
فَكَانَ يَسْطُو كما تسطو الوحوش المفترسة على الخراف وهذا يصدق عليه بلا مبالغة كما يتضح مما قيل في (ص ٩: ١ و٢ و١٣ و٢٦: ٩ – ١١ و١كورنثوس ١٥: ٩ وغلاطية ١: ١٣ وفيلبي ٣: ٦ و١تيموثاوس ١: ١٣).
يَدْخُلُ ٱلْبُيُوتَ أي بيوت المسيحيين أو البيوت التي ظنهم اختبأوا فيها.
وَيَجُرُّ رِجَالاً وَنِسَاءً أي يأخذهم بالجور والقسوة وجوره على النساء ذُكر ثلاث مرات هنا وفي (ص ٩: ٢ و٢٢: ٤). فدل ذلك على فرط قساوته لأن النساء قلما عوقبوا على عقائدهن الدينية.
وَيُسَلِّمُهُمْ إِلَى ٱلسِّجْنِ وهذا كقوله «حَبَسْتُ فِي سُجُونٍ كَثِيرِينَ مِنَ ٱلْقِدِّيسِينَ، آخِذاً ٱلسُّلْطَانَ مِنْ قِبَلِ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ» (ص ٢٦: ١٠). وما ذُكر هنا ليس سوى قليل من المعاقبات التي أتاها شاول بدليل قوله «وَلَمَّا كَانُوا يُقْتَلُونَ أَلْقَيْتُ قُرْعَةً بِذَلِكَ. وَفِي كُلِّ ٱلْمَجَامِعِ كُنْتُ أُعَاقِبُهُمْ مِرَاراً كَثِيرَةً، وَأَضْطَرُّهُمْ إِلَى ٱلتَّجْدِيفِ» (ص ٢٦: ١٠ و١١ و٢٢: ٤ وغلاطية ١: ٢٣) ولولا وقاية الله لكنيسته كانت تلاشت من شدة ذلك الاضطهاد لأن أعضاءها كانوا قليلين وضعفاء وأعداؤها كثيرين وأشداء.
تبشير السامرة بالإنجيل ع ٤ إلى ع ٢٥
٤ «فَٱلَّذِينَ تَشَتَّتُوا جَالُوا مُبَشِّرِينَ بِٱلْكَلِمَةِ».
متّى ١٠: ٢٣ وص ١١: ١٩
تَشَتَّتُوا بالهرب من شدة الاضطهاد وذكر بعض الأماكن التي تفرقوا فيها في (ص ١١: ١٩).
جَالُوا مُبَشِّرِينَ لم يطلبوا راحتهم واطمئنانهم بسكوتهم بل شهدوا للحق ولا يلزم من هذا أن نحسب جميعهم قسوساً أو مبشرين مرسومين أو أنهم وعظوا مواعظ منظمة أو أنهم عمّدوا الناس وقبلوهم في شركة الكنيسة. والذي نتيقنه أنهم من عامة المسيحيين فشهدوا للمسيح في محاورتهم مع الناس. فنتيجة تشتتهم وتبشيرهم كانت إتماماً لأمر المسيح بقوله «… وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَٱلسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ» (أعمال ١: ٨).
بِٱلْكَلِمَةِ أي كلام الخلاص بيسوع المسيح.
٥ «فَٱنْحَدَرَ فِيلُبُّسُ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ ٱلسَّامِرَةِ وَكَانَ يَكْرِزُ لَهُمْ بِٱلْمَسِيحِ».
ص ٦: ٥ و٢١: ٨
ذكر لوقا في هذا الفصل أعمال بعض أولئك المتشتتين.
فِيلُبُّسُ أحد الشمامسة السبعة لا فيلبس الرسول فإنه فوق ما كان عليه من الخدمة الشماسية اتخذ وظيفة المبشر (ص ٢١: ٨).
مَدِينَةٍ مِنَ ٱلسَّامِرَةِ انظر الشرح (يوحنا ٤: ٤). والمقصود هنا «بالسامرة» البلاد لا المدينة التي بناها عمري ملك إسرائيل وهي قصبة مملكة إسرائيل. وهذه المدينة هدمها بعض الهدم شلمناصر قبل الميلاد بنحو ٧١٩ سنة ثم هدمها كل الهدم هركانوس سنة ١٠٩ ق. م. ثم جدد بناءها هيرودس الكبير وسماها سيستية إكراماً لأوغسطس قيصر لأن اسمه في اليونانية سيستس. والسامريون نسل الأخلاط الذين أرسلهم ملك أشور وأسكنهم أماكن الإسرائيليين الذين سباهم فمزجوا الوثنية باليهودية وبنوا هيكلاً على جبل جرزيم فوق شكيم (أي نابلس) واعتقدوا وحي أسفار موسى الخمسة وحفظوا الختان وانتظروا المسيح ولم يظهر من الخبر هنا أي مدينة من السامرة دخلها.
وَكَانَ يَكْرِزُ لَهُمْ بِٱلْمَسِيحِ أي أن خلاصة تعليمه أن المسيح قد أتى وأنه علّم وصُلب وقام فادياً ومخلصاً.
٦ «وَكَانَ ٱلْجُمُوعُ يُصْغُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى مَا يَقُولُهُ فِيلُبُّسُ عِنْدَ ٱسْتِمَاعِهِمْ وَنَظَرِهِمُ ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي صَنَعَهَا».
وَكَانَ ٱلْجُمُوعُ هذا يظهر أنه حصل تأثير عظيم من تعليمه ولعل علة ذلك أن المسيح أتى إلى هناك قبلاً وبشر وقال «إن الحقول ابيضت للحصاد» (يوحنا ٤: ٣٥) وهذا استعداد لنجاح المبشرين بعد موته فهم كانوا متوقعين إتيان المسيح (يوحنا ٤: ٢٥) ومسرورين بأن يسمعوا أنه قد أتى ولا ريب في أن روح الله فوق ذلك كله قد أعد قلوبهم لقبول الكلمة. وزارهم بولس بعد سنين وأخبرهم بنجاح الإنجيل بين الأمم فسمعوا الخبر بسرور (ص ١٥: ٣).
ٱسْتِمَاعِهِمْ التبشير بيسوع.
ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي صَنَعَهَا إثباتاً لصحة تعليمه فآمن السامريون بالمسيح أولاً من دون أن يروا منه آية (يوحنا ٤: ٤١).
٧ «لأَنَّ كَثِيرِينَ مِنَ ٱلَّذِينَ بِهِمْ أَرْوَاحٌ نَجِسَةٌ كَانَتْ تَخْرُجُ صَارِخَةً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَكَثِيرُونَ مِنَ ٱلْمَفْلُوجِينَ وَٱلْعُرْجِ شُفُوا».
مرقس ١٦: ١٧
أَرْوَاحٌ نَجِسَةٌ انظر شرح (متّى ٤: ٢٤).
صَارِخَةً انظر الشرح (مرقس ١: ٢٦ ولوقا ٤: ٣٣ و٤١). قد يكون هذا الصراخ مسبباً عن الشياطين لغيظهم من خراجهم. وقد يكون منهم شهادة للمسيح الذي أجبرهم على طاعته.
مَفْلُوجِينَ انظر الشرح (متّى ٤: ٢٤).
٨ «فَكَانَ فَرَحٌ عَظِيمٌ فِي تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ».
علة هذا الفرح أمران، الأول: حصولهم أو حصول أهل بيوتهم على بركات جسدية كالشفاء الجسدي والثاني حصولهم كذلك على بركات روحية كخلاص نفوسهم. فالإنجيل بشارة وينبوع سرور لكل من يقبله والفرح من أثمار الروح القدس (ع ٣٩ وص ١١: ٢٣ و١٦: ٣٤ ورومية ١٤: ١٧ وغلاطية ٥: ٢٢).
٩ «وَكَانَ قَبْلاً فِي ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ ٱسْمُهُ سِيمُونُ، يَسْتَعْمِلُ ٱلسِّحْرَ وَيُدْهِشُ شَعْبَ ٱلسَّامِرَةِ، قَائِلاً: إِنَّهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ!».
ص ١٣: ٦ ص ٥: ٣٦
كَانَ قَبْلاً أي قبل مجيء فيلبس بزمان طويل ع ١١ وهذه أول واقعة بين الإنجيل والسحر وبعد ذلك جرى مثلها في قبرس (ص ١٣: ٨) وفي فيلبي (ص ١٦: ١٦) وفي أفسس (ص ٩: ١٣) وكان الناس في تلك الأيام يعتقدون جهلاً أن للسحر قوة عظيمة.
سِيمُونُ لا نعلم من أمر هذا الإنسان شيئاً قبل النبإ هنا ولا نتحقق شيئاً من أمره بعد ذلك لكن ذهب البعض إلى أنه صار رئيس النورسيسيين وهم من أهل البدع وأنه ادعى أنه ابن الله وروح والفارقليط وأنه تبعه أناس كثيرون.
ٱلسِّحْرَ ادعى كثيرون من الكلدانيين والمصريين قوة السحر ومنهم السحرة الذين قاوموا موسى وهارون أمام فرعون (خروج ٧: ١١ و٢٢ و٨: ٧). وادّعى ذلك اليهود أيضاً وقالوا أنهم يستطيعون ذلك باستعانة أرواح الموتى أو استخدام الأرواح الشريرة وقالوا أنهم يقدرون أن يحملوا الناس بالأحراز والتعاويذ ويعرفون ما في المستقبل ويفسرون الأحلام ويكتشفون الدفائن والمسروقات. والله حرم السحر في العهد القديم (لاويين ١٩: ٣١ وإشعياء ٨: ٦٩). ولا نعلم ماذا كان نوع السحر الذي تعاطاه سيمون ولعله كان يعرف شيئاً من غرائب الفلسفة الطبيعية أو الكيمياء مما تجهله العامة ويفعل بذلك ما لا يستطيعونه وينسب ما يأتيه إلى قوته الذاتية أو إلى قوة الأرواح التي ادعى أنها تطيعه أو لعله كان على جانب عظيم من خفة اليد فيظهر أنه يعمل معجزات والواقع ليس كذلك.
وَيُدْهِشُ شَعْبَ ٱلسَّامِرَةِ أي يعجّبهم ويحيّرهم لأنهم لم يعرفوا الوسائط التي كان يفعل بها ما يدهشهم.
قَائِلاً إِنَّهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ بناء على ما خدعهم به وأدهشهم.
١٠، ١١ «١٠ وَكَانَ ٱلْجَمِيعُ يَتْبَعُونَهُ مِنَ ٱلصَّغِيرِ إِلَى ٱلْكَبِيرِ قَائِلِينَ: هٰذَا هُوَ قُوَّةُ ٱللّٰهِ ٱلْعَظِيمَةُ. ١١ وَكَانُوا يَتْبَعُونَهُ لِكَوْنِهِمْ قَدِ ٱنْدَهَشُوا زَمَاناً طَوِيلاً بِسِحْرِهِ».
قَائِلِينَ هٰذَا هُوَ قُوَّةُ ٱللّٰهِ ٱلْعَظِيمَةُ أي صدقوا ما قاله هو في الآية السابقة وزادوا عليه. فاعتقدوا أن الله أظهر قوته بواسطته وأعطاه ما لم يُعط غيره. والخلاصة أن سطوة سيمون كانت عظيمة جداً وعامة ومستمرة وانخداع الناس زماناً طويلاً بالآيات الكاذبة اقتضى أن تُجرى أمامهم قوات حقيقية ليعدلوا بواسطتها عن تصديق الكذب إلى الإيمان بالحق.
١٢ «وَلٰكِنْ لَمَّا صَدَّقُوا فِيلُبُّسَ وَهُوَ يُبَشِّرُ بِٱلأُمُورِ ٱلْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ وَبِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱعْتَمَدُوا رِجَالاً وَنِسَاءً».
ص ١: ٣
بِٱلأُمُورِ ٱلْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ أي الملكوت الروحي الذي أتى المسيح لينشئه.
وَبِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أي يسوع ذاته وتلك الأمور هي حياته وتعليمه وموته وقيامته الخ.
ٱعْتَمَدُوا إقراراً بإيمانهم بالمسيح وتوبتهم عن خطاياهم وآية لدخولهم في شركة الكنيسة. فإيمانهم بسيمون بُطل بإيمانهم بالمسيح كبطلان ظلام الليل عند طلوع الشمس أبداً وبطلان سحر سحرة مصر أمام إله موسى وهرون (خروج ٨: ١٨ و٧٩ و٩: ١١) وسقط سقوط داجون أمام تابوت الرب (١صموئيل ٤: ٤). وهذا النجاح الإنجيلي في السامرة كان أول نتائج تشتت المؤمنين بالاضطهاد. فكان وسيلة إلى تأسيس كنيسة المسيح في السامرة.
١٣ «وَسِيمُونُ أَيْضاً نَفْسُهُ آمَنَ. وَلَمَّا ٱعْتَمَدَ كَانَ يُلاَزِمُ فِيلُبُّسَ، وَإِذْ رَأَى آيَاتٍ وَقُوَّاتٍ عَظِيمَةً تُجْرَى ٱنْدَهَشَ».
وَسِيمُونُ أَيْضاً نَفْسُهُ آمَنَ أي صدق الآيات والتعليم الذي أيّدته بعض التصديق وأن يسوع يستطيع أن يفعل أعظم مما يفعله هو وأنه هو المسيح وتظاهر أنه أخلص الإيمان اقتداء بغيره آملاً الربح من الديانة الجديدة لكنه لم يؤمن بالمسيح بالإيمان الحق الذي يبرر ويطهّر ويخلّص كما سيظهر في (ع ١٨ و٢١ – ٢٣).
وَلَمَّا ٱعْتَمَدَ بناء على ما أظهر من الإيمان ففيلبس ما قدر أن يعرف قلبه فعمّده بمقضتى إقراره.
كَانَ يُلاَزِمُ فِيلُبُّسَ كسائر التلاميذ الذين طلبوا أن يعرفوا تعليم المسيح حق المعرفة ولكن غايته أن يتعلم بمراقبة معجزات فيلبس أن يفعل مثلها.
ٱنْدَهَشَ لأن تلك الآيات كانت أعظم جداً مما ادعىّ أنه يفعلها.
١٤ «وَلَمَّا سَمِعَ ٱلرُّسُلُ ٱلَّذِينَ فِي أُورُشَلِيمَ أَنَّ ٱلسَّامِرَةَ قَدْ قَبِلَتْ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ، أَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا».
ما قيل هنا في الرسل يُظهر أنهم تشاوروا معاً وفعلوا كلجنة واحدة كل عضو منها مساوياً للآخر في السلطان.
قَبِلَتْ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ لا ريب في أن ذلك من الأمور التي لم يتوقعوا حدوثها فكان ذلك عندهم كما لو سمعنا نحن أن اليهود اليوم آمنوا بأن يسوع هو المسيح. وتسمية البشارة بيسوع المسيح «كلمة الله» تبين أن جوهر كلمة الله هو يسوع المسيح أي «إن الله كان بالمسيح مصالحاً العالم لنفسه».
أَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ لعل ذلك لأربعة أسباب:
- الأول: أن العمل كثير على رجل واحد.
- الثاني: أن أمراً ذا شأن كجمع الحصاد الروحي وتأسيس كنيسة في السامرة يقتضي حضور بعض الرسل ليساعدوا بحكمتهم واختبارهم.
- الثالث: تصديق الرسل لما فعله فيلبس.
- الرابع: منح السامريين مواهب الروح القدس الخاصة ليس بأمر سهل على الذين تربوا في الديانة اليهودية أن يسلموا أن للسامريين حقوقاً كما لليهود في كنيسة المسيح في الأرض والسماء انظر شرح (يوحنا ٤: ٩) على أن الرسل كانوا قد تحرروا من رق التعصب فأرسلوا اثنين منهم ليُظهروا رضاهم ومسرتهم بما حدث في السامرة.
بُطْرُسَ كونه مرسلاً من قبل الرسل يدل على أنه لم يكن ذا سلطان عليهم بل أنه واحد منهم مطيع لما أجمعوا عليه.
وَيُوحَنَّا إرساله مع بطرس كان في غاية المناسبة لما بينهما من الحب الخاص انظر شرح (ص ٣: ١) ولأن أحدهما يكمل نقص الآخر فإن بطرس كان جسوراً متحمساً غيوراً لا يحسب للعواقب ويوحنا كان وديعاً لطيفاً حليماً متأنياً وهذا آخر ذكر ليوحنا في أعمال الرسل.
١٥ «ٱللَّذَيْنِ لَمَّا نَزَلاَ صَلَّيَا لأَجْلِهِمْ لِكَيْ يَقْبَلُوا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ».
ص ٢: ٣٨
نَزَلاَ اعتبر اليهود في الغالب أن أورشليم أعلى سائر البلاد (متّى ٢٠: ١٨ و٥: ٩).
صَلَّيَا لأَجْلِهِمْ لم يذكر الكاتب وعظ هذين الرسولين مع ما لهما من القدرة على الوعظ لأن الصلاة لكونها واسطة إتيان الروح القدس من السماء هي هبة أعظم من سائر الهبات.
لِكَيْ يَقْبَلُوا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ هذا يدل على أنه هو البركة التي سألوها في الصلاة وهما لم يدعيا أن لهما قوة ذاتية على منح الروح القدس. وسميّ الروح القدس في (ع ٢٠) «موهبة الله» والمقصود به تأثير غير التأثير العادي الذي به تتغير قلوب الناس وتتقدس لأن أهل السامرة كانوا قد حصلوا على هذا (ع ٦) فهو كما حصل عليه المؤمنون في أورشليم في عيد الخمسين أي قوة التكلم بألسنة غريبة وصنع الآيات والتنبوء والظاهر أنه كان لذلك التأثير علامات ظاهرة لأنه قيل في ع ١٨ «لَمَّا رَأَى سِيمُونُ أَنَّهُ بِوَضْعِ أَيْدِي ٱلرُّسُلِ يُعْطَى ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ».
ولا دلالة على أن غير الرسل قدر أن يمنح تلك الموهبة أو أنها بقيت في سلطان الكنيسة بعد موت الرسل لأنها مُنحت وقتياً لتثبيت صدق دعوى السامريين بالمسيح بواسطة تلك الآيات لكي يجاهروا بدين المسيح.
١٦ «لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَلَّ بَعْدُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَمِدِينَ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ».
ص ١٩: ٢ متّى ٢٨: ١٩ وص ٢: ٣٨ و١٠: ٤٨ و١٩: ٥
لَمْ يَكُنْ قَدْ حَلَّ عبّر عن تأثيرات الروح غير العادية بالحلول لأنها أتت من السماء بغتة. وعلة عدم حلوله قبلاً عجز غير الرسل عن منحه لا عدم إيمان السامريين.
بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ انظر الشرح (ص ٢: ٣٨ وانظر ص ١٠: ٤٨ و١٩: ٥ و٦).
١٧ «حِينَئِذٍ وَضَعَا ٱلأَيَادِيَ عَلَيْهِمْ فَقَبِلُوا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ».
ص ٦: ٦ و١٩: ٦ وعبرانيين ٦: ٢
وَضَعَا ٱلأَيَادِيَ عَلَيْهِمْ كان هذا العمل مقترناً بالصلاة بغية حلول الروح القدس وبياناً لمن طلبوا تلك البركة له وما ذلك بعادة جديدة لأنه كذا وضع يعقوب يديه على أفرايم ومنسى حين باركهما (تكوين ٤٨: ١٤) وهكذا وضع موسى يديه على يشوع حين أقامه خليفة له (عدد ٢٧: ٢٣ انظر متّى ٩: ١٨ و١٩: ٦ وعبرانيين ٦: ٢). ولم يبيّن الكاتب عدد الذين وضعوا الأيدي عليهم لكن يتضح مما ذُكر أنهم لم يضعوها على الكل بدليل أنهم لم يضعوها على سيمون.
فَقَبِلُوا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ أي قوة التكلم بألسنة غريبة والتنبوء وما شاكل ذلك ودل هذا على أمرين:
الأول: صحة التعليم الذي علمه فيلبس والرسولان.
الثاني: رضى الله بالتبشير في السامرة وبإخلاص السامريين الإيمان.
١٨، ١٩ «١٨ وَلَمَّا رَأَى سِيمُونُ أَنَّهُ بِوَضْعِ أَيْدِي ٱلرُّسُلِ يُعْطَى ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ قَدَّمَ لَهُمَا دَرَاهِمَ ١٩ قَائِلاً: أَعْطِيَانِي أَنَا أَيْضاً هٰذَا ٱلسُّلْطَانَ، حَتَّى أَيُّ مَنْ وَضَعْتُ عَلَيْهِ يَدَيَّ يَقْبَلُ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ».
وَلَمَّا رَأَى سِيمُونُ ما رآه سيمون هو علامات قوة الروح القدس وهي أنه قدر المؤمنين على التكلم بالألسنة الغريبة وصنع المعجزات وقد شاهد مثل هذه القوة من فيلبس غير أنه لم يرَ بعد أن تلك القوة وُهبت من واحد لآخر فتحقق أنه كان للرسولين قوة أعظم من قوته وقوة فيلبس وتيقن أنه إذا حصل على مثل تلك القوة كان له سلطان عظيم ووسيلة إلى ربح لا يقدر.
قَدَّمَ لَهُمَا دَرَاهِمَ ظن أن الرسل كانوا يحبون الدراهم كما يحبها هو فينيلونه المطلوب بها فكان يعتقد أن للمال سلطاناً على كل شيء.
أَعْطِيَانِي أَنَا أَيْضاً هٰذَا ٱلسُّلْطَانَ أي سلطان المنح كما للرسولين لا كما للسامريين. أراد أن السلطة التي كانت له على الناس تبقى له وتزيد لنفع نفسه وتحقق أن قوة مثل قوة الرسل أحسن الوسائل إلى إدراك بغيته.
٢٠ «فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ: لِتَكُنْ فِضَّتُكَ مَعَكَ لِلْهَلاَكِ، لأَنَّكَ ظَنَنْتَ أَنْ تَقْتَنِيَ مَوْهِبَةَ ٱللّٰهِ بِدَرَاهِمَ».
٢ملوك ٥: ١٦ ومتّى ١٠: ٨ وص ٢: ٣٨ و١٠: ٤٥ و١١: ١٧
لِتَكُنْ فِضَّتُكَ مَعَكَ لِلْهَلاَكِ قصد بطرس بهذا الكلام إعلان كرهه لطلب سيمون فهو ليس له بلعنة أو طلب هلاكه لأنه أرشده في ع ٣٢ إلى طريق النجاة من الهلاك ويعني أنه رأى سيمون مشرفاً على الهلاك وأنه يستخف كل الاستخفاف بالدراهم التي قدمها سيمون ولا يرى لها أدنى قيمة تميل به إلى بيع الروح القدس وهو أيضاً نبوءة بما يحدث له إذا لم يتب وليس عليه وحده بل لكل محب للمال لأن الفضة والذهب يتلفان وهكذا كل من يتكل عليهما (١بطرس ٧: ١٨).
مَوْهِبَةَ ٱللّٰهِ أي الروح القدس والمراد بهذا الروح مواهبه غير المعتادة. فالذي ظنه يُشترى بالمال إنما هو موهبة يهبها الله لمن يريد متى أراد (ص ١٠: ٤٥ و١١: ١٧). فالله باعتبار كونه ملكاً يمنح روحه القدوس مجاناً والظن أنه تعالى يبيع مواهبه بالمال إهانة لله وجهل وإلحاد. ويلزم من كون هبات الله لا تقتني بالمال أنها لا تقتنى بطريق أخرى تشبه ذلك كالتصدق على الفقراء والوقف للكنائس ولا بالصلوات والصوم وغيره من التقشفات والدموع والأعمال الصالحة. فعطية الروح القدس التي لا يُحصل عليها بكل أموال الأرض الله مستعد أن يمنحها لنا بلا فضة وبلا ثمن.
٢١ «لَيْسَ لَكَ نَصِيبٌ وَلاَ قُرْعَةٌ فِي هٰذَا ٱلأَمْرِ، لأَنَّ قَلْبَكَ لَيْسَ مُسْتَقِيماً أَمَامَ ٱللّٰهِ».
لَيْسَ لَكَ نَصِيبٌ وَلاَ قُرْعَةٌ هذا مجاز مبني على أخذ بني إسرائيل أنصبتهم في أرض الميعاد بالقرعة ثم أخذ أنسالهم إيّاها بالميراث وشعبه الآن ينال البركات الروحية بالإيمان بالمسيح لا بالميراث عن الآباء. فأبان بطرس أنه ليس لسيمون نصيب في المواهب الروحية وهو أن الله لا يعرفه ابناً له ولا يسرّ به.
فِي هٰذَا ٱلأَمْرِ أي في دين المسيح أو بركات الإنجيل. هذا مع تظاهره بالإيمان ومع تعمّده ويظهر من ذلك أن ليس في أسرار الكنيسة نفع ذاتي فعمل واحد من أعماله أبان أن قلبه لم يتغيّر وأن مقاصده دنيوية وأنه لم يدرك روحانية الإنجيل.
لأَنَّ قَلْبَكَ لَيْسَ مُسْتَقِيماً أي لست مخلصاً ولا متجدداً إنما أنت دنيوي تحت سلطة الخطيئة والشيطان بدليل أنك طلبت الموهبة الروحية لغايات عالمية وأظهرت أن قلبك مولع بالذهب والشهرة والسلطان على الناس ولا رغبة له في الإنجيل ولا الخلاص بواسطته من الخطيئة.
أَمَامَ ٱللّٰهِ الذي يعرف خفايا القلب وينظر إلى الغايات الحاملة على الفعل ويدين كل إنسان بها الآن وسوف يدينه بها أيضاً في اليوم الأخير.
٢٢ «فَتُبْ مِنْ شَرِّكَ هٰذَا، وَٱطْلُبْ إِلَى ٱللّٰهِ عَسَى أَنْ يُغْفَرَ لَكَ فِكْرُ قَلْبِكَ».
دانيال ٤: ٢٧ و٢تيموثاوس ٢: ٢٥
غاية بطرس من توبيخه لسيمون نفع نفسه.
فَتُبْ حكم بطرس بأن سيمون لم يتب بعد عن خطاياه ولم يتجدّد قلبه وبأنه لم تمض عليه الفرصة لنوال المغفرة بواسطة التوبة وأنه يجب عليه أن يتوب حالاً. ولم يأمره أولاً أن يصلي أو يدرس كتاب الله أو أن يفعل شيئاً آخر قبل التوبة لأن الخاطئ لا تُقبل صلواته قبل أن يكره الخطيئة ويتركها ويرجع إلى الله (مزمور ٦٦: ٨ وأمثال ١: ٢٨ وإشعياء ١: ١٥ وميخا ٣: ٤).
وَٱطْلُبْ إِلَى ٱللّٰهِ إن الصلاة بعد التوبة هي الصلاة المقبولة فمن العبث أن نسأل الله مغفرة الخطايا ونحن لم نندم عليها ونتركها كما أنه من العبث أن يعالج الطبيب مسموماً وهو لا يفتأ يشرب السم. ونستدل من كلام بطرس هذا أنه لم يكن له سلطان على غفران الخطايا بناء على قول يسوع لرسله «مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ» (يوحنا ٢٠: ٢٣) وإلا قال له سلني اغفر لك. ونستدل منه أيضاً أن صلاة البار من أجل الخاطئ لا تفيده ما لم يتب هو ويصلي.
عَسَى أَنْ يُغْفَرَ لَكَ هذا الكلام يحمل على رجاء نوال المغفرة لا على تيقّنه لأن بطرس لم يستطع أن يعلم أن سيمون يتوب توبة حقيقية ويطلب المغفرة بلجاجة. أو لعل بطرس لم يعلم هل ارتكب سيمون إثم التجديف على الروح القدس الذي لا مغفرة له أو لا (متّى ١٢: ٣١). وبيّن له أن المغفرة مرجوة لا متيقنة ليحذره من الخطر ويرغبه في طلب الغفران. فلو كان لبطرس السلطان الذي نسبه البعض إليه من إعطاء المسيح إيّاه مفاتيح ملكوت السماء لم يشك في ذلك بل كان قال غفرت لك أو لا مغفرة لك.
فِكْرُ قَلْبِكَ أي ظنك أن موهبة الروح القدس تُشترى بدراهم وقصدك أن تتجر بها فأصل كل الشر في أفكار القلب والأفكار الشريرة تقود إلى الأقوال والأعمال الشريرة والذي لا يخطئ إلا في الفكر يحتاج إلى التوبة والمغفرة لأن الله يرى خفايا القلوب ويدين الناس بمقتضاها. وسيمون لم يرتكب هنا سوى إثم الفكر فطلبه الروح القدس ليس بإثم إنما الإثم طلبه إياه لغاية دنيوية بوسائط مهينة له تعالى.
٢٣ «لأَنِّي أَرَاكَ فِي مَرَارَةِ ٱلْمُرِّ وَرِبَاطِ ٱلظُّلْمِ».
عبرانيين ١٢: ١٥
لأَنِّي أَرَاكَ أي عرفت من قولك. فإن قول سيمون أظهر أنه لم يعرف حقيقة دين المسيح ولم يتجدد قلبه لأن غاياته كلها كانت عالمية. وما رآه بطرس من تقيد سيمون بقيود الإثم حمله على الشك هل يطلب المغفرة في الطريق التي تُنال فيها أو لا.
فِي مَرَارَةِ ٱلْمُرِّ أي غاية المرارة والكلام مجاز أشير به إلى فظاعة أهواء القلب التي أظهرها سيمون من البخل والطمع والرياء. وهذا مثل قول موسى لبني إسرائيل في عبادة الأوثان «لِئَلاَّ يَكُونَ فِيكُمْ أَصْلٌ يُثْمِرُ عَلْقَماً وَأَفْسَنْتِيناً» (تثنية ٢٩: ١٨). وقول الرسول «لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ وَيَصْنَعَ ٱنْزِعَاجاً، فَيَتَنَجَّسَ بِهِ كَثِيرُونَ» (عبرانيين ١٢: ١٥ انظر أيضاً إرميا ٢: ١٩ و٤: ٨ ورومية ٣: ١٤ وأفسس ٤: ٣١) والمعنى أن قلب سيمون مملوءٌ من أفكار الإثم المكروهة.
وَرِبَاطِ ٱلظُّلْمِ كنى هنا عن الخطيئة أنها عبودية لتسلّط على الخاطئ تسلط السيد على العبد وأن الخاطئ كأنه مقيّد بسلاسل. وجاء مثل هذا في (مزمور ١١٦: ١٦ وأمثال ٥: ٢٢ ورومية ٧: ٢٣ و٢٤). فرأى بطرس أن سيمون مرتبط بقوة الشر وأنه هو عبد للخطيئة فهو ليس بابن لله.
٢٤ «فَأَجَابَ سِيمُونُ: ٱطْلُبَا أَنْتُمَا إِلَى ٱلرَّبِّ مِنْ أَجْلِي لِكَيْ لاَ يَأْتِيَ عَلَيَّ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْتُمَا».
تكوين ٢٠: ٧ و١٧ وخروج ٨: ٨ وعدد ٦١: ٧ و١ملوك ١٣: ٦ وأيوب ٤٢: ٨ ويعقوب ٥: ١٦
ٱطْلُبَا أَنْتُمَا إِلَى أمره بطرس أن يتوب ويصلي هو عن نفسه والظاهر أنه لم يرد ذلك بل استحسن أن بطرس ويوحنا يصليان من أجله فآثر الطلب إلى الناس على الطلب إلى الله فتبيّن من ذلك أنه لم يشعر بفظاعة إثمه وخطره كما هما وأنه أحبّ الخطيئة إلى حد لم يرد عنده أن يقلع عنها. فإن أبينا نحن أنفسنا أن نسأل البركات الروحية من الله فلا حق لنا أن نتوقعها بطلبات غيرنا من أجلنا.
لاَ يَأْتِيَ عَلَيَّ الخ أمره بطرس أن يصلي ليخلص من رباط الخطيئة أما هو فلم يسأل سوى الخلاص من العقاب وأمره بطرس أن ينجو بتوبته وصلاته وأما هو فأراد أن ينجو بصلاة بطرس ويوحنا. كذلك كان فرعون حين وقوع المصاب فخاف وسأل موسى وهارون أن يصليا من أجله (خروج ٨: ٢٨ و٢٩ و٣٢ و٩: ٢٨ و١٠: ١٧) ثم قسا قلبه. وكذلك كان يربعام (١ملوك ١٣: ٦) والخلاصة أن سيمون رغب في المغفرة والنجاة بلا توبة ولا صلاة. وهذا كل ما ذكره لوقا في تاريخه من أمر سيمون ولكن نستنتج من سكوته عنه أنه بقي كما كان. والمرجح من تاريخ الكنيسة أنه بقي عبداً للخطيئة والشيطان واشتهر بالابتداع ومقاومة الإنجيل (انظر شرح ع ٩).
٢٥ «ثُمَّ إِنَّهُمَا بَعْدَ مَا شَهِدَا وَتَكَلَّمَا بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ، رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ وَبَشَّرَا قُرىً كَثِيرَةً لِلسَّامِرِيِّينَ».
بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ يسوع لا بكلمتهما.
رَجَعَا أي بطرس ويوحنا والأرجح أنهما بقيا في السامرة مدة كافية لتعليم الشعب وتثبيت المؤمنين وانتظام كنيسة وأنهما تركا فيلبس ليتمّم عمله.
وَبَشَّرَا قُرىً الخ وهما راجعان إلى أورشليم. كان أحدهما وهو يوحنا الذي أتى السامريين ببشرى الخلاص قد طلب إلى يسوع أن يُنزل ناراً من السماء وتهلكهم فأتى الآن بنار أخرى أن نار الروح القدس لتنويرهم وتقديسهم وإنقاذهم من نار جهنم. فدين المسيح أزال البغض القديم بين اليهود والسامريين الذي أُشير إليه بقوله «إن اليهود لا يعاملون السامريين» (يوحنا ٤: ٩).
والمؤمنون في السامرة قلما ذُكروا بعد ذلك. زارهم بولس وبرنابا بعد جولانهما الأول للتبشير في آسيا (ص ١٥: ٣) ففرحوا بإيمانهم وبزوال الحاجز بينهم وبين اليهود. وبعض هؤلاء الناس بقي على اعتقاده القديم والعبادة في جبل جرزيم إلى وقت خراب أورشليم ثم خُربت بلادهم وهُدم هيكلهم وأما شكيم فبُنيت في محلها مدينة جديدة سميت نابلس أي مدينة جديدة ولم تزل تسمّى بذلك إلى اليوم.
اهتداء الوزير الحبشي ع ٢٦ إلى ٤٠
٢٦ «ثُمَّ إِنَّ مَلاَكَ ٱلرَّبِّ قَالَ لِفِيلُبُّسَ: قُمْ وَٱذْهَبْ نَحْوَ ٱلْجَنُوبِ، عَلَى ٱلطَّرِيقِ ٱلْمُنْحَدِرَةِ مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى غَزَّةَ ٱلَّتِي هِيَ بَرِّيَّةٌ».
تكوين ١٠: ١٩ ويشوع ١٥: ٤٧ و١صموئيل ٦: ١٧ و٢ملوك ١٨: ٨ وعاموس ١: ٦ إلى ٨ وزكريا ٩: ٥
مَلاَكَ ٱلرَّبِّ أحد الجنود السماوية ممن يرسلهم الله لإجراء مقاصده (عبرانيين ١: ١٤ وتكوين ١٩: ١ و٢٢: ١١ وقضاة ٦: ١٢ ومتّى ٢: ١٣). وكثيراً ما استخدم الله الملائكة في بدء تأسيس كنيسته (ص ١: ١٠ و٥: ١٩ و١٠: ٣ و١٢: ٧ و٢٧: ٢٣) والأرجح أن ما ذُكر هنا حدث بعد قليل من ذهاب بطرس ويوحنا.
قُمْ من السامرة.
ٱذْهَبْ نَحْوَ ٱلْجَنُوبِ أي جنوبي السامرة حيث كان يبشر. قصد الله خلاص الخصي وذلك بوسائط بشرية نعم أنه غير مفتقر إليها ولكنه اختار أن يكون بواسطة فيلبس فلذلك أمره بالذهاب وأمال قلبه إلى الطاعة.
إِلَى غَزَّةَ هي من أقدم مدن العالم وهي مذكورة في (تكوين ١٠: ١٩) وكانت تابعة للفلسطينيين وأعطاها يشوع سبط يهوذا يوم قسم الأرض للأسباط (يشوع ١٥: ٤٧) فأخذها (قضاة ١: ١٨) لكنهم ما قدروا أن يملكوها زماناً طويلاً فرجعت للفلسطينيين وكانت من مدنهم الخمسة الكبار (١صموئيل ١٦: ١٧). وأخذ شمشون مصراعي باب المدينة وما يتعلق بهما وحملها على كتفيه إلى رأس الجبل تجاه حبرون وهناك هدم البيت الذي كان أسيراً فيه وقتل نفسه مع ثلاثة آلاف من الفلسطينيين. واستولى عليها سليمان (١ملوك ٤: ٢٤) وهي على أمد ستين ميلاً في الجنوب الغربي من أورشليم ولا تزال قائمة إلى الآن معروفة بهذا الاسم.
ٱلَّتِي هِيَ بَرِّيَّةٌ الأرجح أن هذا نعت للطريق لأنه لها طريقان إحداهما مستقيمة عامرة بالقرى والضياع والأخرى أبعد لكنها أكثر موافقة للمركبات وهي خالية من السكان ولذلك نعتها بكونها «برية» فأمر الملاك فيلبس أن يمر بهذه الطريق دون غيرها لكي يلاقي الحبشي (ع ٢٨).
٢٧ «فَقَامَ وَذَهَبَ. وَإِذَا رَجُلٌ حَبَشِيٌّ خَصِيٌّ، وَزِيرٌ لِكَنْدَاكَةَ مَلِكَةِ ٱلْحَبَشَةِ، كَانَ عَلَى جَمِيعِ خَزَائِنِهَا فَهٰذَا كَانَ قَدْ جَاءَ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيَسْجُدَ».
صفنيا ٣: ١٠ يوحنا ١٢: ٢٠
حَبَشِيٌّ الحبش إحدى ممالك إفريقية جنوبي مصر مجاورة أحد فروع النيل وشرقيها البحر الأحمر وكانت قديماً مملكة كبيرة تشتمل على ما يسمى اليوم ببلاد الحبش وعلى جزء من مصر ونوبة وشنعار وكردوفان وقصبتها القديمة ميرو MEPOE وسكانها من نسل حام (تكوين ١٠: ٦). وسمي العبرانيون بلاد الحبش كوشاً وكانت أحياناً تستقل وأحياناً تتبع مصر وكانت قبل ميلاد المسيح وما بعده مستقلة تملكها ملكات على التوالي واسم كل منها كنداكة كما سمي كل من ملوك مصر فرعون.
خَصِيٌّ انظر الشرح (متّى ١٩: ١٢). وكثيراً ما ذُكر الخصيان في الكتاب المقدس من خدمة الملوك ولا سيما في بيوتهم وكانوا أحياناً يرتقون إلى المناصب العالية فيكونون مشيرين وولاة.
كَنْدَاكَةَ علم جنسي لملكات الحبش كما أبان المؤرخان بليني وسترابو.
كَانَ عَلَى جَمِيعِ خَزَائِنِهَا فكان ذا رتبة سامية وسلطان شامل وعمدة للملكة.
قَدْ جَاءَ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيَسْجُدَ يتبين من ذلك إما أنه يهودي أصلاً خدم كنداكة كما خدم يوسف في مصر ودانيال في بابل وإما أنه حبشي الأصل تعلم الدين اليهودي وهاد وأتى أورشليم ليحضر العيد لأنه ما كان على اليهود في الشريعة كان على الدخلاء (يوحنا ١٢: ٢٠).
٢٨ «وَكَانَ رَاجِعاً وَجَالِساً عَلَى مَرْكَبَتِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ ٱلنَّبِيَّ إِشَعْيَاءَ».
عَلَى مَرْكَبَتِهِ أُستعملت المركبات قديماً في الحرب وفي السفر وغلب في الأول. وكانت ذوات دولابين تسع اثنين أو ثلاثة (ع ٣٨ و١ملوك ٢٢: ٣٤ و٢ملوك ٩: ٢٠ و٢٤) ولم تُذكر في العهد الجديد في سوى هذا الموضع وفي (رؤيا ٩: ٩).
وَهُوَ يَقْرَأُ ٱلنَّبِيَّ إِشَعْيَاءَ الأرجح أنه كان يقرأ ذلك في ترجمة السبعين التي تُرجمت في مصر منذ ٢٨٠ سنة ق. م. وهي التي شاع استعمالها يومئذ. ويظهر من ع ٣٠ أنه كان يقرأ بصوت مسموع. ولم يتضح ماذا حمله على قراءة تلك النبوءة ولعله سمع في أورشليم نبأ موت يسوع وقيامته ودعواه أنه هو المسيح ودعوى تلاميذه أن كل ما أصابه موافق النبوءات المتلعقة بالمسيح فأخذ يراجع تلك النبوءات للفحص عن تلك الدعوى وكان الجزء الذي يقرأه أنباء بالمسيح بالتفصيل كأنه تاريخ ما وقع لا أنباء بما سيقع.
يُعرف الإنسان من الكتب التي يقرأها كما يُعرف ممن يعاشرهم فكانت مطالعة ذلك الحبشي كتاب الله دليلاً على أطواره الحسنة إذ لم يشغل وقته بالكسل أو مطالعة الكتب القبيحة. ولنا من هذه القصة أن الإنسان الذي يستعمل المعرفة التي له ينال من الله معرفة أكمل منها وأن الاجتهاد في الدين لا يذهب سدى. فإن هذا الإنسان سافر مئات من الأميال وقاسى أتعاباً وأخطاراً كثيرة فأثابه الله على ذلك أن كشف له طريق الخلاص الأوضح وقاده فيه فوجد في البرية ما لم يجده في الهيكل وهو المسيح مخلصاً له.
٢٩ «فَقَالَ ٱلرُّوحُ لِفِيلُبُّسَ: تَقَدَّمْ وَرَافِقْ هٰذِهِ ٱلْمَرْكَبَةَ».
فَقَالَ ٱلرُّوحُ لِفِيلُبُّسَ أي ألهمه بتأثيره في قلبه. وهذه الآية من الآيات التي تبرهن أن الروح القدس أقنوم لا صفة كما في (ص ١: ١٦ و١٠: ١٩ و٢٠ و١٣: ٢ و٢١: ١١) فإن الصفة لا تتكلم.
تَقَدَّمْ الخ أي استعمل الوسائط المؤدية إلى أن يدعوك صاحب المركبة للجلوس معه وهي أن تتقدم إليه وتسلم عليه وما أشبه ذلك.
٣٠ «فَبَادَرَ إِلَيْهِ فِيلُبُّسُ، وَسَمِعَهُ يَقْرَأُ ٱلنَّبِيَّ إِشَعْيَاءَ، فَسَأَلَهُ: أَلَعَلَّكَ تَفْهَمُ مَا أَنْتَ تَقْرَأُ؟».
فَبَادَرَ إِلَيْهِ أي أسرع وأظهر بذلك رغبته في الطاعة لأمر الروح فكان يمكنه أن يعتذر بأن الحبشي غريب وأنه أسمى منه رتبة وأنه كان مهتماً بالقراءة. ولعله يغضب على من يخاطبه في تلك الحال. ولعل فيلبس سرّ بأن يبشر إنساناً واحداً بأمر الله كما لو سر بتبشير جماهير الناس في السامرة.
سَمِعَهُ يَقْرَأُ هذا يدل على أنه كان يجهر في القراءة. بعض الناس يذكر ما يقرأه بصوت عال أكثر مما يذكر ما يقرأه ساكتاً. فطوبى للإنسان الذي يتخذ الكتاب المقدس رفيقاً في الطريق كما يتخذه عشيراً في البيت فإنه نافع للمبشيرين والعبيد والعلماء والبسطاء. وخير مرشد في العمل وخير معزّ في الضيق.
ولا ريب أن روح الله أعدّ قلب الحبشي لقبول الحق كما أعد له مرشداً إليه وهو الذي أرشده إلى قراءة الموضوع الذي هو أحسن مقدمة للتبشير بالإنجيل.
أَلَعَلَّكَ تَفْهَمُ الخ هذا سؤال يحسن أن يُسأله كل قارئ لأن مجرد القراءة بدون إدراك المعنى لا يفيد شيئاً كما أن الجوهرة لا تفيد صاحبها ما لم يعرف قيمتها.
٣١ «فَأَجَابَ: كَيْفَ يُمْكِنُنِي إِنْ لَمْ يُرْشِدْنِي أَحَدٌ؟ وَطَلَبَ إِلَى فِيلُبُّسَ أَنْ يَصْعَدَ وَيَجْلِسَ مَعَهُ».
معنى جوابه النفي فكأنه قال لا أفهم وهذا الجواب يدل على أنه متواضع لا يستحي أن يعترف بجهله واحتياجه إلى التعليم وهذه الصفة نادرة بين أرباب المناصب إذ هم يأبون أن يقروا بجهلهم ولا سيما في الأمور الدينية فأظهر ذلك الوزير روح الولد الذي أشار إليه المسيح بقوله «إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات». فالموضوع الذي كان يقرأه كان أسهل فهماً على الذين تربوا في دين اليهود لأن ظاهره يشير إلى المسيح ولكنه يذكر بعض ما لا يليق بشأن المسيح الملك المجيد المظفر على اعتقادهم لأنه تكلم على اتضاعه ومحاكمته وآلامه فيعسر جمع الوصفين المتضادين في شخص واحد.
وَطَلَبَ إِلَى فِيلُبُّسَ الخ رضي أن يتعلم من الغريب الذي هو أدنى منه في الرتبة كما هو ظاهر.
٣٢ «وَأَمَّا فَصْلُ ٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي كَانَ يَقْرَأُهُ فَكَانَ هٰذَا: مِثْلَ شَاةٍ سِيقَ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَمِثْلَ خَرُوفٍ صَامِتٍ أَمَامَ ٱلَّذِي يَجُزُّهُ هٰكَذَا لَمْ يَفْتَحْ فَاهُ».
إشعياء ٥٣: ٧ و٨
هذا مأخوذ من (إشعياء ٥٣: ٧ و٨) على ما في ترجمة السبعين والفرق بينه وبين الأصل العبراني في اللفظ. واعتاد اليهود أن ينسبوا هذه النبوءة إلى المسيح وما عدلوا عن ذلك إلا بعد جدالهم للمسيحيين وعجزهم عن دفع بيانها أن يسوع هو المسيح.
مِثْلَ شَاةٍ أي غنمة وكان المسيح مثلها في البراءة والصبر والحلم.
سِيقَ إِلَى ٱلذَّبْحِ هذا إشارة إلى قتله ظلماً بلا شفقة.
صَامِتٍ اختياراً للصبر والحلم.
٣٣ «فِي تَوَاضُعِهِ ٱنْتَزَعَ قَضَاؤُهُ، وَجِيلُهُ مَنْ يُخْبِرُ بِهِ، لأَنَّ حَيَاتَهُ تُنْتَزَعُ مِنَ ٱلأَرْضِ؟».
ما في هذه الآية دليل على الإهانة والجور والقساوة التي وقعت على المسيح عند المحاكمة.
فِي تَوَاضُعِهِ هذا على ما في ترجمة السبعين وفي العبراني «من الضغطة» وكل من الأمرين إشارة إلى ما وقع على المسيح حين قُبض عليه وقُيّد وأُسر وأُخذ من محكمة إلى محكمة ومن دار الحكومة إلى الجلجثة أي محل الصلب.
ٱنْتَزَعَ قَضَاؤُهُ أي امتنع القضاء الحق الذي له لأنه وقف للقضاء أمام حنّان وقيافا وهيرودس وبيلاطس فلم يحكموا عليه حكماً بالحق ولو جروا على سنن العدل لأطلقوه.
وَجِيلُهُ مَنْ يُخْبِرُ بِهِ معنى «الجيل» هنا أهل ذلك العصر. والاستفهام للتعجب من شر أولئك الناس الذين قتلوا مسيحهم ابن الله فكأنه قال لا أحد يستطيع أن يصف فظاعة إثم معاصري المسيح إذ ليس في اللغات كلام كاف لبيانها.
لأَنَّ حَيَاتَهُ تُنْتَزَعُ مِنَ ٱلأَرْضِ أي يقتل ظلماً كما أنبأ دانيال النبي بقوله «وَبَعْدَ ٱثْنَيْنِ وَسِتِّينَ أُسْبُوعاً يُقْطَعُ ٱلْمَسِيحُ» (دانيال ٩: ٢٦). فهذا هو الإثم الفظيع الذي لا يستطيع أحد أن يصفه وهو نزع حياة المسيح أشرف رسل السماء وأصل ذلك في العبراني ما نصه «وفي جيله من كان يظن أنه قُطع من أرض الأحياء» والمعنى أن قليلين من أهل عصره عرفوا غاية موته أنه ضُرب وقُطع فداء عن خطايا شعبه.
٣٤ «فَسَأَلَ ٱلْخَصِيُّ فِيلُبُّسَ: أَطْلُبُ إِلَيْكَ: عَنْ مَنْ يَقُولُ ٱلنَّبِيُّ هٰذَا؟ عَنْ نَفْسِهِ أَمْ عَنْ وَاحِدٍ آخَرَ؟».
عَنْ مَنْ يَقُولُ ٱلنَّبِيُّ هٰذَا كان هذا السؤال في محله لأن إشعياء لم يذكر اسم الذي يتكلم فيه. نعم أن قدماء اليهود قالوا هو المسيح ولكن الحبشي لم تكن له فرصة لسمع تفسيرهم وصعب عليه أن يوفق بين ما سمعه من عظمة المسيح ومجده وما قيل هنا من نبإ إهانته وآلامه ويقرب للعقل أنه سمع في أورشليم أنباء يسوع الناصري وأن بعض تلاميذ يسوع أخبره أنه المسيح المشار إليه في هذه النبوءة وأن بعض اليهود قال أنه إشعياء أو إرميا دفعاً لحجة المسيحيين كما لا يزالون يقولون إلى اليوم. وإذ قرأ ذلك الوزير الكتاب الإلهي واجتهد في البحث عن الحق وهو يتردّد في معنى النبوءة أرسل الله إليه مرشداً يعلمه ولا بد من أن الله يفعل كذلك دائماً على وفق وعده بأن «من له يُعطى ويزداد» (متّى ٢٥: ٢٩).
٣٥ «فَٱبْتَدَأَ فِيلُبُّسُ مِنْ هٰذَا ٱلْكِتَابِ يُبَشِّرَهُ بِيَسُوعَ».
لوقا ٢٤: ٢٧ وص ١٨: ٢٨
فَٱبْتَدَأَ فِيلُبُّسُ انظر شرح (متّى ٥: ٢).
مِنْ هٰذَا ٱلْكِتَابِ أي الذي كان يقرأه وهو نبوءة إشعياء (ص ٥٣) وجعل ذلك موضوع كلامه.
يُبَشِّرَهُ بِيَسُوعَ مبيناً أن النبي لم يتكلم في نفسه ولا في غيره من البشر إنما تكلم في من كان إنساناً وإلهاً معاً وأبان له كيف تمت النبوءة في أعمال يسوع وتعليمه وموته وقيامته وأنه رُفع ليكون رئيساً ومخلصاً فإذاً يسوع هذا هو المسيح.
جعل روح الله تعليم فيلبس مؤثراً في قلب الحبشي فقبل التعليم بالإيمان والتواضع كما يتضح من سؤاله في الآية التالية.
٣٦ «وَفِيمَا هُمَا سَائِرَانِ فِي ٱلطَّرِيقِ أَقْبَلاَ عَلَى مَاءٍ، فَقَالَ ٱلْخَصِيُّ: هُوَذَا مَاءٌ. مَاذَا يَمْنَعُ أَنْ أَعْتَمِدَ؟».
ص ١٩: ٤٧
سَائِرَانِ فِي ٱلطَّرِيقِ إلى جهة الجنوب حيث كان وزير ملكة الحبشة متوجهاً.
هُوَذَا مَاءٌ لا شيء في النبإ هنا يدل على أن ذلك الماء كان ماء بئراً أو عيناً أو بركة ومن المعلوم أنه ليس عند تلك الطريق نهر فإذاً لا دليل مما ذُكر هنا على كيفية المعمودية أبالتغطيس كانت أم بالصب أم بالرش إنما نعلم أن الماء كان كافياً للمعمودية. فلو كانت كيفية المعمودية إشارة إلى غسل النفس من الخطيئة بالروح القدس وتلك الإشارة قائمة بصفة الماء التطهيرية لا بكميته.
مَاذَا يَمْنَعُ أَنْ أَعْتَمِدَ يلزم من هذا السؤال أن فيلبس كان قد علمه في أثناء الحديث معنى المعمودية ووجوبها على من يعترف بإيمانه بالمسيح ويدخل عضواً في كنيسته. ويلزم من السؤال نفسه أن الوزير آمن بأن يسوع هو المسيح وأراد أن يعترف بإيمانه ويطيع أمر المسيح ويقف حياته لخدمته فأظهر بسؤاله تواضعه لأنه لم يطلب المعمودية كأنه مستحق لها بل ترك حكم ذلك لفيلبس. وقد مر الكلام على المعمودية بالتفصيل في الشرح (متّى ٢٨: ١٩ ومرقس ١٦: ١٦).
٣٧ « فَقَالَ فِيلُبُّسُ: إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ يَجُوزُ. فَأَجَابَ: أَنَا أُومِنُ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ».
متّى ٢: ١٩ ومرقس ١٦: ١٦ متّى ١٦: ١٦ ويوحنا ٦: ٦٩ و٩: ٣٥ و٣٨ و١١: ٢٧ وص ٩: ٢٠ و١يوحنا ٤: ١٥ و٥: ٥ و١٣
أظهر فيلبس في هذا الجواب شرط المعمودية على البالغين كما عيّنها المسيح في (مرقس ١٦: ١٦) وهي الإيمان أي قبول المسيح مخلصاً وأن يكون الإيمان من كل القلب أي من العواطف والإرادة لا من الذهن فقط. نعم أن سيمون آمن (ع ١٣) ولكنه لم يؤمن من كل قلبه (ع ٢١). ولم يحكم فيلبس بصحة إيمان ذلك الوزير واستعداده للمعمودية بل ترك الحكم لضميره لأنه لم تكن من وسيلة لمعرفة خلوص إيمانه.
أَنَا أُومِنُ الخ هذا قاعدة إيمان مختصرة تشتمل على أمرين فقط وهما أن يسوع هو المسيح الموعود به وأنه إله وكلاهما جوهريان في الدين لأن كل مواعيد الكتاب تمت بالأول وأنه بالثاني تحققنا أن دم يسوع المسيح كاف لأن يكون كفارة عن خطايا العالم كله وأن حكمته وافية بإرشاد جميع البشر وأن قوته تكفي أن تحميهم وتخلصهم. ولم يكتف ذلك الحبشي أن يعترف باعتقاده أن المسيح كذلك بل اتخذه رباً وإلهاً إلى الأبد.
٣٨ «فَأَمَرَ أَنْ تَقِفَ ٱلْمَرْكَبَةُ، فَنَزَلاَ كِلاَهُمَا إِلَى ٱلْمَاءِ، فِيلُبُّسُ وَٱلْخَصِيُّ، فَعَمَّدَهُ».
يظهر مما فعله فيلبس أنه تحقق إخلاص الوزير من جوابه ومن أنه لا داعي إلى الرياء وأنه لم يره باقياً في حاجة إلى تعليم ديني قبل المعمودية لأنه تعلم من كتاب الله ومن فيلبس ومن الروح القدس فلم ير مانعاً من أن يعمده بل رأى موجباً لذلك لأنه ذاهب إلى بلاد بعيدة لا وسائط فيها إلى المعمودية وأن فيلبس على وشك أن يفارقه.
ِفَنَزَلاَ كِلاَهُمَا إِلَى ٱلْمَاء لا دليل هنا على كيفية المعمودية لاحتمال المعنى أنهما نزلا إلى الماء نفسه أو إلى حافته ولكن نستنتج أن الماء كان منخفضاً عن الطريق بئراً كان أم بركة أم عيناً ولو عرفنا أنه بركة لا يقتضي الكلام أن فيلبس غطّس الوزير فيها ويحتمل أنه وقف على جانبه وصب الماء عليه. وعدم وجود أمر إلهي بكيفية المعمودية دليل على أن الكيفية ليست بجوهرية.
٣٩ «وَلَمَّا صَعِدَا مِنَ ٱلْمَاءِ خَطَفَ رُوحُ ٱلرَّبِّ فِيلُبُّسَ، فَلَمْ يُبْصِرْهُ ٱلْخَصِيُّ أَيْضاً، وَذَهَبَ فِي طَرِيقِهِ فَرِحاً».
١ملوك ١٨: و٢ملوك ٢: ١٦ وحزقيال ٣: ١٢ و١٤
مِنَ ٱلْمَاءِ أي من الماء نفسه أو من جانبه إلى حيث وقفت المركبة.
خَطَفَ رُوحُ ٱلرَّبِّ فِيلُبُّسَ أمر الروح القدس فيلبس بالمجيء إلى ذلك المكان (ع ٢٩) وهنا أمره بالذهاب عنه ليمارس عملاً آخر فلم يترك الحبشي بلا مرشد إذ كتاب الله وروحه لا يزالان يرشدانه. وقوله «خطف» لا يلزم منه أنه حدثت معجزة لأن لوقا ذكر ذلك على ما ظهر للوزير فإنه كما حضر بغتة غاب كذلك وأنه لم يحدث ذلك باختياره بل على رغمه والأرجح أن الوزير كان مسروراً بمرافقة فيلبس ورغب في أن يأخذه معه إلى بلاد الحبش ليعلمه. ولعل فيلبس أراد أن يبقى معه زماناً ولكن روح الله ألزمه بالمفارقة. فالمراد «بالخطف» هنا كالمراد «بالإصعاد» في (متّى ٤: ١). وذهب بعضهم أن معنى ما قيل هنا أن الروح القدس حمل فيلبس حقيقة.
وَذَهَبَ فِي طَرِيقِهِ فَرِحاً أي الوزير. والفرح نتيجة تأثير الإنجيل أبداً في مدينة كان (ع ٨) أم في قلب شخص واحدٍ. وموضوع فرحه أنه قد وجد المسيح الموعود به ونال منه مغفرة خطاياه ومصالحة الله ورجاء الحياة الأبدية وفرح أيضاً من مدح ضميره له على تكميله واجباته بالإقرار بإيمانه ولعله فرح أيضاً بتوقعه أن يخبر أصدقاءه بالكنز المخفي الذي وجده في البريّة (متّى ١٣: ٢٤). وكان حقه أن يفرح لأن الإنجيل «بشارة بفرح عظيم» (لوقا ٢: ١٠). فأتى أورشليم حاملاً أثقال الخطيئة ورجع عنها وهي عليه ووجد المسيح في الطريق فحملها عنه. ولا بد من أن ذلك الفرح زاد فيه على توالي الأيام وتم عند بلوغه السماء ومشاهدة المسيح ودخول السعادة الأبدية. ومثل هذا الفرح معد لكل من يؤمن من أولاد آدم الإيمان الذي آمنه ذلك الوزير. ولم نسمع بعدئذ شيئاً من أمر ذلك الشريف لكن ترجح مما أظهره من الإيمان والطاعة أنه كان شاهداً أميناً للمسيح في الحبشة وذلك موافق لنبوءة داود في قوله «كُوشُ تُسْرِعُ بِيَدَيْهَا إِلَى ٱللّٰهِ» (مزمور ٦٨: ٣١). ولكن التاريخ لم يذكر قبول أمة الحبش الدين المسيحي إلا نحو سنة ٣٣٣ ب. م. حين ذهب إليها فرومنشيوس مبشراً.
٤٠ «وَأَمَّا فِيلُبُّسُ فَوُجِدَ فِي أَشْدُودَ. وَبَيْنَمَا هُوَ مُجْتَازٌ كَانَ يُبَشِّرُ جَمِيعَ ٱلْمُدُنِ حَتَّى جَاءَ إِلَى قَيْصَرِيَّةَ».
بشوع ١٣: ٣ و١صموئيل ٥: ٥ وإشعياء ٢٠: ١ وإرميا ٢٥: ٢٠ ص ٢١: ٨
فَوُجِدَ فِي أَشْدُودَ أي لم يُسمع من أمره شيء قبل بلوغه أشدود. وهذا لا يتقضي أنه معجزة. وأشدود مدينة أعطاها يشوع سبط يهوذا لكنهم لم يملكوها (يشوع ١٥: ٢٧) وهي إحدى مدن الفلسطينيين الخمسة الكبيرة (١صموئيل ٦: ١٧). وهنالك وضع الفلسطينيون تابوت الرب في هيكل داجون حين أخذوه من الإسرائيليين (١صموئيل ٥: ١ – ٣) وهدم أسوارها عزيّا ملك يهوذا وبنى مدناً في أرضها (٢أيام ٢٦: ٦). وموقعها على أمد نحو ثلاثة أميال من البحر المتوسط وعلى أمد نحو أربعة وعشرين ميلاً شمال غزة ونحو ٢٤ ميلاً نحو الجنوب من يافا وهي قرية حقيرة لم تزل تُسمى أشدود. ولعله تم بتشبير فيلبس فيها نبوءة داود في (مزمور ٨٧: ٤).
جَمِيعَ ٱلْمُدُنِ على شاطئ البحر وما جاوره كيافا ولد وغيرها. وذُكرت نتيجة هذا التبشير في (ص ٩: ٣٢ و٣٦) وما أنبأ به لوقا من فعله في السامرة ومع الوزير الحبشي ما كان يفعله حيث كان وليس هو وحده بل سائر المؤمنين المتشتتين.
قَيْصَرِيَّةَ مدينة كبيرة على شاطئ البحر على الطريق من صور إلى مصر وعلى أمد ستة وثلاثين ميلاً من عكاء جنوباً بناها هيرودس الكبير وعظمها بقصور من المرمر والهياكل الفاخرة والملاعب الواسعة وأنشأ فيها مرفأ للسفن وسماها «قيصرية» إكراماً لأوغسطس قيصر. وكانت مركز ولاة سورية الرومانيين كفيلكس وفستوس وغيرهما (ص ٢٣: ٣٣ و٢٥: ٦ و١٣). وكانت وطن أوريجانوس اللاهوتي وأوسابيوس المؤرخ المسيحي. واتخذها فيلبس وطناً وهناك وجده بولس حين أتى إليها بعد مرور خمس وعشرين سنة (ص ٢١: ٨). وكان بولس أسيراً فيها نحو سنتين وهي الآن خربة ونُقل أكثر حجارها إلى أماكن شتى للبناء.
السابق |
التالي |