أعمال الرسل

أعمال الرسل | 02 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح سفر أعمال الرسل 

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الثاني

حلول الروح القدس ع ١ إلى ١٣

١ «وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ ٱلْخَمْسِينَ كَانَ ٱلْجَمِيعُ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ».

خروج ٢٣: ١٧ ولاويين ٢٣: ١٥ وتثنية ١٦: ٩ و١٠ و١٦ وص ٢٠: ١٦ ص ١: ١٤

يَوْمُ ٱلْخَمْسِينَ أحد أعياد اليهود الثلاثة العظمى التي يجب أن يحضر فيها كل الذكور في أورشليم (خروج ٢٣: ١٦). وسُمّي «يوم الخمسين» لأنه كان حسب أمر موسى بعد سبعة أيام من ثاني الفصح (لاويين ٢٣: ١١ – ١٦ وتثنية ١٦: ٩) وسُمّي أيضاً عيد الجمع وعيد الحصاد لأنه كان في أيام حصاد الحنطة يقدم فيه كل إنسان رغيفين من باكورة حصاده مع تقدمات أُخر معينة (لاويين ٢٣: ١٣ وعدد ٢٨: ٢٦) وكان العيد يوماً واحداً.

واعتبر اليهود أن ذلك اليوم هو اليوم الذي أنزل الله فيه الشريعة وهذا لم يُذكر في التوراة. ولا ريب في أن الله اختار ذلك اليوم لإرسال الروح القدس ليشاهد الذين كانوا يجتمعون فيه في أورشليم من جمع اليهود الكثيرة في كل قطر (ع ٩ – ١١) الغرائب التي تعلقت بحلول الروح القدس في ذلك اليوم ويسمعوا وعظ الرسل وتبشيرهم بقيامة المسيح بعد صلبه وموته لنفع نفوسهم ولكي يوزعوا البشرى في كل البلاد التي يرجعون إليها. وذلك اليوم كان يوم ميلاد الكنيسة المسيحية أي جماعة المؤمنين بالمسيح. وفيه كانت الحادثة العظمى الثانية في تاريخ العالم وهي مجيء الأقنوم الثالث ليمكث هنا ويخولنا فوائد عمل الفداء وكانت الأولى مجيء الأقنوم الثاني لعمل الفداء.

ٱلْجَمِيعُ أي كل المؤمنين في أورشليم وهم يشتملون على المئة والعشرين المذكورين آنفاً (ص ١: ١٥) والرسل.

مَعاً الأرجح أن ذلك كان في العلية حيث اجتمعوا حين انتخبوا متياس (ص ١: ١٣) ولو أنهم اجتمعوا في الهيكل لذكر الكاتب ذلك. وكان اجتماعهم في الصباح باكراً (ع ١٥). وذهب كثيرون أن ذلك اليوم كان يوم الأحد بدليل قوله «تَحْسُبُونَ لَكُمْ مِنْ غَدِ ٱلسَّبْتِ مِنْ يَوْمِ إِتْيَانِكُمْ بِحُزْمَةِ ٱلتَّرْدِيدِ سَبْعَةَ أَسَابِيعَ تَكُونُ كَامِلَةً» (لاويين ٢٣: ١٥) لكن ذهب بعض المفسرين أن معنى السبت عيد الفصح لا يوم السبت الواقع في أيام الفطير.

بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ كما ذُكر في (ص ١: ١٤) والمعنى أنهم كانوا متحدين في الشوق إلى حلول الروح القدس وفي رجاء ذلك والصلاة لأجل إتيانه وذلك الاتحاد شرط دائم على المسيحيين ليحل فيهم الروح القدس.

٢ «وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ ٱلْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِين».

ص ٤: ٣١

بَغْتَةً أي بدون توقع لأن المسيح لم يعيّن لهم اليوم ولا الساعة ولا كيفية الحلول بل أمرهم أن يتوقعوا حلول الروح دائماً.

مِنَ ٱلسَّمَاءِ أي الجو فوق الرأس خلافاً للعادة لأن صوت الريح يأتي من جهة هبوبها أي جهة الأفق.

صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ لم يقل أنه صوت الريح بل كالصوت المنبعث عن الريح وهذا هو الأمر الغريب إذ لم يكن من ريح ولا مطر ولا رعد ولا زلزلة. كذلك أظهر الله حلوله في طور سينا (خروج ١٩: ١٩) بدليل قوله «فَكَانَ صَوْتُ ٱلْبُوقِ يَزْدَادُ ٱشْتِدَاداً جِدّاً، وَمُوسَى يَتَكَلَّمُ وَٱللّٰهُ يُجِيبُهُ بِصَوْتٍ» (انظر أيضاً عبرانيين ١٢: ١٩). وأُشير إلى فعل الروح بهبوب الريح في (يوحنا ٣: ٨) ووجه الشبه أن الريح شديدة الفعل مع أنها غير منظورة. وأشار المسيح إلى منح الروح القدس بالنفخ (يوحنا ٢٠: ٢٢). والمقصود بذلك الصوت التنبيه وبيان قوة الروح القدس العجيبة.

وَمَلأَ كُلَّ ٱلْبَيْتِ أتى الصوت من السماء واتخذ البيت مستقراً ليهتدي إليه السامعون.

٣ «وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَٱسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ».

أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ هذه المعجزة الثانية مما دل على حلول الروح القدس وهي ليست ناراً حقيقية بل شبه النار على هيئة الألسنة كعادة اللهب وقد كثر هذا التشبيه في الكتاب المقدس «كلسان ذهب» (يشوع ٧: ٢١) «ولسان البحر» (يشوع ١٥: ٥ و١٨: ١٩) ومعنى قوله «منقسمة» أنها متفرقة كل منها مستقل لا منتشرة باتصال عن لهب واحد أو أن كل لسان منها منقسم أي ذو شعبتين. وكون علامة ظهور الروح القدس ناراً موافق لما قيل في المسيح أنه «يعمدنا بالروح القدس وبالنار» والنار رمز إلى التطهير والهدى والغيرة والقوة. وكثيراً ما أعلن الله ظهوره بالنار كما في أمر العليقة الملتهبة (خروج ٣: ٢ و٣) وكما ترآى في طور سينا (خروج ١٩: ١٦ – ٢٠ انظر أيضاً خروج ١٥: ١٧ وتثنية ٤: ٢٤ ومزمور ١٨: ١٢ – ١٤ وحزقيال ١: ٤ وعبرانيين ١٢: ٢٩).

وَٱسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أي على رؤوسهم كما يرجح. ونستنتج من قوله أولاً «ظهرت» وقوله ثانياً «استقرت» أنها كانت دائرة في فضاء المكان ثم هبطت على كل منهم. ولم يعيّن الكاتب هل كان ذلك للرسل دون غيرهم أو كان لكل المؤمنين إنما بيّن أن الذين استقرت عليهم الألسنة النارية هم الذين حل عليهم الروح.

٤ «وَٱمْتَلأَ ٱلْجَمِيعُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَٱبْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ ٱلرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا».

ص ١: ٥ مرقس ١٦: ١٧ وص ١٠: ٤٦ و١٩: ٦ و١كورنثوس ١٢: ١٠ و٢٨ و٣٠ و١٣: ١ و١٤: ٢ الخ

وَٱمْتَلأَ ٱلْجَمِيعُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ أي من تأثيراته الداخلية وهذا إنجاز لوعد المسيح في قوله «لٰكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ» (ص ١: ٨). وكان الرسل قد حصلوا على شيء من تأثير الروح القدس لكنهم لم يمتلئوا منه إلا حينئذ.

وَٱبْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى هذه المعجزة الثالثة للدلالة على حلول الروح القدس عليهم وكانت المعجزات الثلاث برهاناً للرسل على إنجاز المسيح وعده لهم بإرسال الروح وبياناً لأهمية تلك الهبة وكانت تنبيهاً لغيرهم وآية لإقناعهم بصحة تعاليم الرسل. وقصد بقوله «ألسنة أخرى» لغات غير لغتهم وكانت لغتهم الآرامية أي السريانية الكلدانية فإنهم أخذوا يتكلمون بلغات لم يتعلموها وبعض هذه اللغات ذُكر في (ع ٩ – ١١) وكانت تلك المعجزة بألسنة المتكلمين لا في آذان السامعين كما يظهر من (ص ١٠: ١٤ و١٩: ٦ و١كورنثوس ١٢: ١٠).

وفي هذه المعجزة خمس ملاحظات:

  • الأولى: أنها معجزة عظيمة جداً لأن أولئك الرسل كانوا أميين لا فرصة لهم لأن يتعلموا اللغات الغريبة ولم يكن لهم ما يدعوهم إلى ذلك قبل حلول الروح وفي لحظة صاروا يعرفون مفردات تلك اللغات الكثيرة ومركّباتها وألفاظها المختلفة والتمكن من أحكام التلفظ بها حتى كأنهم من أهلها.
  • الثانية: أنها كانت إنجازاً لمواعيد العهد القديم إذ قيل «إِنَّهُ بِشَفَةٍ لَكْنَاءَ وَبِلِسَانٍ آخَرَ يُكَلِّمُ هٰذَا ٱلشَّعْبَ» (إشعياء ٢٨: ١١). ونعلم أن النبي أشار إلى ذلك من قول بولس الرسول في (١كورنثوس ١٤: ٢١).
  • الثالثة: أنها إنجاز لما أنبأ به يسوع بقوله «إنهم يتكلمون بألسنة أخرى» (مرقس ١٦: ١٧).
  • الرابعة: أنه لا يلزم مما ذُكر هنا أن كل رسول كان يحسن التكلم بكل من اللغات المذكورة بعد ذلك بل أن بعضهم تكلم ببعض اللغات وبعضهم بلغة أو بلغات أخرى.
  • الخامسة: أن الغاية من إعطاء هذه الآية للرسل كالغاية من إعطاء سائر المعجزات وهي البرهان على صدق الإنجيل وكون الرسل هم رسل الله. وتلك المعجزات كانت ضرورية في بداءة التبشير بالإنجيل. وليس من دليل على أن الرسل استعملوا تلك اللغات في تبشيرهم وتعليمهم إلا على سبيل المعجزة ليقنعوا الشعب بصحة تعاليمهم والبرهان على ذلك قول الرسل «مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ يَبْنِي نَفْسَهُ، وَأَمَّا مَنْ يَتَنَبَّأُ فَيَبْنِي ٱلْكَنِيسَةَ» (١كورنثوس ١٤: ٤). وقوله أيضاً «إِذاً ٱلأَلْسِنَةُ آيَةٌ لاَ لِلْمُؤْمِنِينَ، بَلْ لِغَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ» (١كورنثوس ١٤: ٢٢) وقوله «لٰكِنْ فِي كَنِيسَةٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَكَلَّمَ خَمْسَ كَلِمَاتٍ بِذِهْنِي لِكَيْ أُعَلِّمَ آخَرِينَ أَيْضاً، أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلاَفِ كَلِمَةٍ بِلِسَانٍ» (١كورنثوس ١٤: ١٩). وكان بولس يحسن التكلم بلغات مختلفة أكثر من غيره ومع ذلك لم يفهم لغة أهل ليكأونيّة (ص ١٤: ١١) ولم يحتج في كل البلاد التي بشر فيها إلا إلى التكلم باللغة اليونانية كما احتاج إليها في كتابته رسائله. ومع ذلك ظن بعض الناس أن الرسل تكلموا في جولانهم في البلدان بألسنة أهل البلاد الخاصة بالقوة التي حصلوا عليها يوم حلول الروح القدس ونسبوا النجاح العظيم الذي كان على أيدهم إلى نوالهم تلك القوة.

٥ «وَكَانَ يَهُودٌ رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ سَاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ».

رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ أي يخافون الله ويجتهدون في سبيل الديانة اليهودية على قدر معرفتهم.

مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ أي من بلاد كثيرة مختلفة انتشرت فيها الديانة اليهودية.

سَاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ لعل بعض هؤلاء أتوا من الخارج وسكنوا في أورشليم دائماً متوقعين مجيء المسيح المنتظر في ذلك الوقت ولكن أكثره أتى إلى تلك المدينة رغبة في حضور عيد الفصح وعيد الخمسين. وكان لليهود المتغربين رغبة شديدة في مثل ذلك الحضور. قيل أنه حين أتى إليها تيطس وحاصرها وقت العيد كان فيها نحو ثلاثة آلاف نفس.

٦ «فَلَمَّا صَارَ هٰذَا ٱلصَّوْتُ، ٱجْتَمَعَ ٱلْجُمْهُورُ وَتَحَيَّرُوا، لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَانَ يَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَتِهِ».

هٰذَا ٱلصَّوْتُ الأرجح أن هذا الصوت هو الصوت الذي كان كمن هبوب ريح عاصفة ع ٢ وأنه سمعه الذين في المدينة على اختلاف أبعادهم من مصدره. وظن بعضهم أن المراد «بالصوت» هنا الخبر المنتشر في المدينة بتلك المعجزة.

ٱجْتَمَعَ ٱلْجُمْهُورُ لا يلزم من ذلك أن هذا الجمهور اجتمع في البيت بل أنه اجتمع حوله. والأرجح أن الرسل خرجوا حينئذ ليخاطبوه.

كُلَّ وَاحِدٍ كَانَ يَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَتِهِ كان أولئك الناس مختلفي اللغات ومع ذلك سمع كل منهم بعض الرسل يخاطبه بلغته وتكلم الرسل إما بالدور وإما كل واحد مع جماعة من الجمهور منفردة عن غيرها.

٧ «فَبُهِتَ ٱلْجَمِيعُ وَتَعَجَّبُوا قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتُرَى لَيْسَ جَمِيعُ هٰؤُلاَءِ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ جَلِيلِيِّينَ؟».

ص ١: ١١

فَبُهِتَ ٱلْجَمِيعُ وَتَعَجَّبُوا قيل في العدد السابق أنهم تحيروا وكل هذه الكلمات تشير إلى عظمة تأثير العجيبة في المشاهدين.

قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ هذا مجموع أقوال كثيرين.

أَتُرَى لَيْسَ جَمِيعُ هٰؤُلاَءِ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ جَلِيلِيِّينَ لو كان التلاميذ من بلدان مختلفة لم يكن من عجب من تكلمهم بلغات مختلفة لكنهم كانوا من بلاد واحدة. وعرفوا أنهم جليليون من هيئتهم وأثوابهم إن كان المخاطبون هم الرسل دون غيرهم. وإن كان الرسل وغيرهم من المؤمنين فاعتبروهم جليليين لاتباعهم يسوع نبي الجليل.

٨ «فَكَيْفَ نَسْمَعُ نَحْنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا لُغَتَهُ ٱلَّتِي وُلِدَ فِيهَا».

هذا الاستفهام للتعجب. والمراد باللغة التي وُلد فيها المتكلم اللغة التي ينشأ عليها منذ الطفولية لا التي يحصلها بالدرس.

٩ «فَرْتِيُّونَ وَمَادِيُّونَ وَعِيلاَمِيُّونَ، وَٱلسَّاكِنُونَ مَا بَيْنَ ٱلنَّهْرَيْنِ، وَٱلْيَهُودِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وَبُنْتُسَ وَأَسِيَّا».

تكوين ١٠: ٢٢ و١٤: ١ وإشعياء ٢١: ٢ وإرميا ٢٥: ٢٥ وحزقيال ٣٢: ٢٤ ودانيال ٨: ٢ تكوين ٢٤: ١ و١بطرس ١: ١

ذكر لوقا البلاد التي أتى منها اليهود بيان عدد اللغات التي تكلم بها المخاطبون وعظمة المعجزة. ولم يذكر تلك البلاد بلا ترتيب بل ذكرها على نسق دل على معرفته البلاد والسكان إذ ذكر أولاً أولاد سام ثم أولاد يافث ثم أولاد حام وابتدأ بذكر البلاد في آسيا شرقاً ثم البلاد غرباً على ترتيب مواقعها حتى بلغ أوربا ثم أفريقية ثم رجع أخيراً إلى آسيا.

فَرْتِيُّونَ أي أهل فرتيا وهي قسم من مملكة الفرس في جوار خليج العجم سُبي كثيرون من اليهود إليها سنة ٦٠٠ قبل الميلاد وبقي كثيرون منهم هنالك.

وَمَادِيُّونَ أي أهل مادي وهي بلاد في الشمال الغربي من بلاد فارس وجنوبي بحر الخزر ولعلها نُسبت إلى ماداي بن يافث (تكوين ١٠: ٢). وكثيراً ما ذُكرت مادي في الكتاب المقدس مع فارس لاتحاد المملكتين مراراً (٢ملوك ١٧: ٦ و١٨: ١١ وأستير ١: ٣ و٤ و١٨ و١٩ وإرميا ٢٥: ٢٥ ودانيال ٥: ٢٨ و٦: ٨ و٨: ٢٠ و٩: ١).

عِيلاَمِيُّونَ ذُكروا مراراً في العهد القديم وهم سلالة عيلام بن سام (تكوين ١٠: ٢٢ و١٤: ١ وعزرا ٢: ٧ و٨: ٧ ونحميا ٧: ٢٢ و٣٤ وإشعياء ١١: ١١ و٢١: ٢ و٢٢: ٦) وكانت بلادهم في عصر دانيال ولاية من مملكة فارس (دانيال ٨: ٢) وتسمى اليوم كردستان وهي على تخم بلاد العجم الغربي وكانت قاعدتها قديماً شوشان واشتهرت بعظمتها لأن محيطها كان خمسة عشر ميلاً وبنفاسة القصر الذي بناه فيها أحشويروش.

مَا بَيْنَ ٱلنَّهْرَيْنِ أي بين دجلة والفرات وسُميت هذه البلاد أيضاً فدان آرام (أي حراثة النجد لأن معنى فدان حراثة ومعنى آرام نجد أي أرض مرتفعة) (تكوين ٢٥: ٢٠) وفي هذه الأرض أور الكلدانيين مولد إبراهيم (تكوين ١١: ٣١).

وَٱلْيَهُودِيَّةَ ذكرها هنا تكملة للأماكن التي كان السامعون منها. وكانت لهجة سكان اليهودية تمتاز عن لهجة سكان الجليل. ولا بد من أنه كان أكثر السامعين من اليهودية.

كَبَّدُوكِيَّةَ ولاية من ولايات آسيا الصغرى الشرقية كانت قاعدتها في أيام الرومانيين قيصرية حدها من الجنوب والشرق جبل طورس ومخرج الفرات وحدودها شمالاً وغرباً كانت تختلف كثيراً في أزمنة مختلفة.

وَبُنْتُسَ ولاية في شمالي آسيا الصغرى على شاطئ البحر الأسود ولذلك سُميت بنتس وهي لفظة لاتينية معناها البحر.

وَأَسِيَّا المراد بآسيا هنا الجزء الغربي من آسيا الصغرى أي بر الأناضول وكانت قاعدتها أفسس.

١٠ «وَفَرِيجِيَّةَ وَبَمْفِيلِيَّةَ وَمِصْرَ، وَنَوَاحِيَ لِيبِيَّةَ ٱلَّتِي نَحْوَ ٱلْقَيْرَوَانِ، وَٱلرُّومَانِيُّونَ ٱلْمُسْتَوْطِنُونَ يَهُودٌ وَدُخَلاَء».

ص ١٦: ٦ و١٨: ٢٣ ص ٣: ١٣ و١٤: ٢٤ و١٦: ٦ متّى ٢٧: ٣٢ وص ١١: ٢٠ و١٣: ١

فَرِيجِيَّةَ ولاية في آسيا الصغرى تحدها شمالاً بيثينية وجنوباً بيسيدية وشرقاً غلاطية وكبدوكية وغرباً ليديا وميسيا.

بَمْفِيلِيَّةَ ولاية من آسيا الصغرى على شاطئ البحر المتوسط يحدها شمالاً بيسيدية وجنوباً البحر وشرقاً جبل طورس وغرباً فريجية.

وَمِصْرَ هي البلاد المعروفة شمالي أفريقيا تُسقى أراضيها بمياه النيل. وكانت لغتها قديماً القبطية سكنها في العصور الخالية كثيرون من اليهود. وهناك تُرجمت أسفار العهد القديم أولاً إلى اليونانية في عهد بطليموس وتُعرف بترجمة السبعين.

لِيبِيَّةَ بلاد شمالي أفريقية وغبربي مصر.

ٱلْقَيْرَوَانِ مدينة في ليبية غربي اسكندرية وعلى أمد خمس مئة ميل منها وهي من مدن طرابلس الغرب اليوم وكان فيها يومئذ عدد وافر من اليهود وكان من أهلها سمعان القيرواني الذي سُخر بحمل صليب المسيح (متّى ٢٧: ٣٢ ولوقا ٢٣: ٢٦) وذُكر بعض القيروانيين بين المسيحيين الأقدمين (أعمال ١١: ٢٠ و١٣: ١).

وَٱلرُّومَانِيُّونَ ٱلْمُسْتَوْطِنُونَ أي اليهود الذين اتخذوا إيطاليا وطناً لهم وأتوا أورشليم ليحتفلوا بالعيد فتكون لغتهم اللاتينية فإن بمبيوس لما استولى على اليهودية نحو السنة الستين قبل الميلاد ألوفاً من أهلها وأخذهم إلى رومية فكانوا بمنزلة عبيد للرومانيين ثم حُرروا وبقوا هنالك ساكنين في قسم من المدينة على نهر تيبر.

يَهُودٌ أي إسرائيلون أصلاً.

وَدُخَلاَءُ هم الذين هادوا من الأمم.

١١ «كِرِيتِيُّونَ وَعَرَبٌ، نَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا بِعَظَائِمِ ٱللّٰهِ؟».

ص ٢٧: ٧ و١٢ و١٣

كِرِيتِيُّونَ من جزيرة كريت وتُسمى أحياناً كندية وهي في بحر الروم طولها نحو مئتي ميل وعرضها نحو خمسين ميلاً وهي غربي سورية وعلى أمد نحو خمس مئة ميل منها وهي التي ترك فيها بولس تيطس لخدمة الإنجيل (تيطس ١: ٥).

عَرَبٌ هم سكان بلاد العرب ولغتهم العربية.

نَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا لم تكن اللغات التي تكلم الرسل بها أقل من سبع أو ثمانٍ ما عدا لهجاتها المختلفة ولم يكن من سبيل إلى الخداع أو الانخداع لأن كل واحد من السامعين حكم بمعرفتهم لغته وشهد بذلك لغيره. والذي حيرهم أن المتكلمين بتلك اللغات جليليون (ع ٧) ولا سبيل لأهل الجليل في جليلهم أن يسمعوا تلك اللغات وليسوا بعلماء لكي يتعلموها.

بِعَظَائِمِ ٱللّٰهِ هذا يعم التسابيح والتشكرات لله على ما صنع من العظائم بإرساله ابنه إلى العالم وفي إقامته إياه من الموت وبإصعاده إياه إلى السماء وبإجرائه المعجزات باسمه.

١٢ «فَتَحَيَّرَ ٱلْجَمِيعُ وَٱرْتَابُوا قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هٰذَا؟».

فَتَحَيَّرَ ٱلْجَمِيعُ وَٱرْتَابُوا أي عجبوا من غرابة الأمر عجباً عظيماً وشكوا في تعيين العلة فما استطاعوا أن يحكموا أمن الله هي أم من غيره.

١٣ «وَكَانَ آخَرُونَ يَسْتَهْزِئُونَ قَائِلِينَ: إِنَّهُمْ قَدِ ٱمْتَلأُوا سُلاَفَةً».

آخَرُونَ يَسْتَهْزِئُونَ لعل هؤلاء من سكان أورشليم لم يفهموا شيئاً من اللغات الأجنبية فحكموا أن كلام الرسل لا معنى له.

ٱمْتَلأُوا سُلاَفَةً أي سكروا كثيراً حتى لم يستطيعوا أن يتلفظوا بما له معنى وهذا أسهل طريق للتخلص من تأثير تلك المعجزة. ويغلب أن يكون في كل جمع فريقان من الناس الفريق الواحد تقي كالذين سألوا «ما عسى أن يكون هذا» والآخر شقي كالذين قالوا «امتلأوا سلافة». ومثل هذا الجمع كان الجمع في أثينا يوم تكلم بولس «كَانَ ٱلْبَعْضُ يَسْتَهْزِئُونَ، وَٱلْبَعْضُ يَقُولُونَ: سَنَسْمَعُ مِنْكَ عَنْ هٰذَا أَيْضاً» (ص ١٧: ٣٢ انظر أيضاً متّى ١١: ١٩ ويوحنا ٧: ٢٠ و٨: ٤٨ وأعمال ٢٦: ٢٤).

موعظة بطرس ع ١٤ إلى ٣٦

١٤ « فَوَقَفَ بُطْرُسُ مَعَ ٱلأَحَدَ عَشَرَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ وَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْيَهُودُ وَٱلسَّاكِنُونَ فِي أُورُشَلِيمَ أَجْمَعُونَ، لِيَكُنْ هٰذَا مَعْلُوماً عِنْدَكُمْ وَأَصْغُوا إِلَى كَلاَمِي».

تقسم هذه الموعظة إلى أربعة أقسام:

  • الأول: تبرئة الرسل ع ١٤ و١٥.
  • الثاني: بيان أن الحادثة إتمام نبوءة (ع ١٦ – ٢١).
  • الثالث: إيضاح أن يسوع المصلوب قد قام وأن ذلك تمام نبوءات.
  • الرابع: أن الرسل شهود بذلك والروح القدس شاهد به أيضاً فإذاً يسوع رب ومسيح (ع ٢٢ – ٣٦).

بُطْرُسُ انظر ما أعظم التغير الذي طرأ على هذا الرسول منذ نحو اثنين وخمسين يوماً فإنه كان يومئذ جباناً أنكر المسيح وصار اليوم شجاعاً يشهد بجراءة غريبة بقيامة يسوع وصحة دعواه وما ذلك إلا نتيجة فعل الروح القدس وهذا من عظائم معجزات ذلك اليوم.

مَعَ ٱلأَحَدَ عَشَرَ أي الرسل العشرة ومتياس الذي انتخبوه حديثاً (ص ١: ٢٦). وكان وقوف الأحد عشر مع بطرس بياناً أنهم رضوه نائباً عنهم وصدقوا كلامه ولعلهم زادوا على كلام بطرس شيئاً. والأرجح أنه تكلم حينئذ بالآرامية العامية المعروفة بالسريانية وكانت شائعة يومئذ في اليهودية.

أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْيَهُودُ أي اليهود أصلاً.

وَٱلسَّاكِنُونَ فِي أُورُشَلِيمَ أصلاء ودخلاء.

١٥ «لأَنَّ هٰؤُلاَءِ لَيْسُوا سُكَارَى كَمَا أَنْتُمْ تَظُنُّونَ، لأَنَّهَا ٱلسَّاعَةُ ٱلثَّالِثَةُ مِنَ ٱلنَّهَارِ».

١تسالونيكي ٥: ٧

لأَنَّ هٰؤُلاَءِ هو وسائر الرسل.

لَيْسُوا سُكَارَى هذا نفي لقولهم «امتلأوا سلافة».

لأَنَّهَا ٱلسَّاعَةُ ٱلثَّالِثَةُ مِنَ ٱلنَّهَارِ أي قبل الظهر بثلاث ساعات وهي ساعة صلاة الصبح عند اليهود وذكر ذلك دليلاً على صحة نفيه السكر عنه وعن سائر التلاميذ لأنه لا أحد من اليهود يشرب الخمر قبل تلك الصلاة ولو من أكبر المدمنين ويؤيد ذلك قول الرسول «ٱلَّذِينَ يَسْكَرُونَ فَبِٱللَّيْلِ يَسْكَرُونَ» (١تسالونيكي ٥: ٧). وكان من عوائد اليهود في الأعياد أنهم لا يأكلون ولا يشربون شيئاً قبل صلاة الصبح كما تشهد به كتبهم وهذا برهان بطرس الأول.

١٦ «بَلْ هٰذَا مَا قِيلَ بِيُوئِيلَ ٱلنَّبِيِّ».

في هذا العدد برهان بطرس الثاني على نفي السكر المذكور وهو أن ما حسبوه سكراً هو فعل الروح القدس إتماماً لنبوءة يوئيل بما يحدث في أيام المسيح وهو فوق كونه دليلاً على نفي تهمة برهان على إتيان المسيح الموعود به.

١٧ « يَقُولُ ٱللّٰهُ: وَيَكُونُ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ أَنِّي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ، وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤىً وَيَحْلُمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَماً».

إشعياء ٤٤: ٣ وحزقيال ١١: ١٩ و٣٦: ٢٧ ويوئيل ٢: ٢٨ و٢٩ وزكريا ١٢: ١٠ ويوحنا ٧: ٣٨ و٢ ١٥: ٤٥ و٢١: ٩

هذا مقتبس من (يوئيل ٢: ٢٨ – ٣٢) ومعناه على وفق ما في الأصل العبراني وألفاظه تقرب مما في ترجمة السبعين.

فِي ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ قصد اليهود بهذه العبارة الوقت منذ مجيء المسيح إلى نهاية العالم أي كل زمن ملكوته ومجده وسموه بالأيام الأخيرة مقابلة بأيام الآباء والملوك والأنبياء التي هي الأيام الأولى (إشعياء ٢: ٢). ولا يدل ذلك على أنهم توقعوا نهاية العالم على أثر مجيء المسيح لأنهم توقعوا أن يملك مدة طويلة على الأرض. وقصد كتبة العهد الجديد بها زمان الإنجيل الذي بداءته يوم الخمسين (عبرانيين ١: ٢ و١بطرس ١: ٢٠ و٢بطرس ٣: ٣ و١يوحنا ٢: ١٨).

أَسْكُبُ هذا مجاز والحقيقة أنه يهب الروح القدس بكثرة كالماء الوافر وذلك مثل قول بولس في (تيطس ٣: ٦ انظر أيضاً أيوب ٣٦: ٢٧ وإشعياء ٤٤: ٣ و٤٥: ٨ وزكريا ١٢: ١٠ وملاخي ٣: ١٠) وغاية ذلك السكب تقديس النفس.

رُوحِي هو الأقنوم الثالث من اللاهوت وأرسله الله لإكمال عمل الفداء لأنه يقود الناس إلى المسيح لينالوا فوائد الخلاص وعمله الخاص تجديد قلوب الناس (يوحنا ٣: ٥ و٦) وإنماء الفضائل الروحية (غلاطية ٥: ٢٢ – ٢٥ وتيطس ٣: ٥ – ٧) فنجاح الإنجيل متوقف على عمله (إشعياء ٣٢: ١٥ و١٦). وبواسطته فعل الرسل المعجزات شهادة ليسوع (١كورنثوس ٤: ١٠) وظهر تأثيره يوم عيد الخمسين بتقويته الرسل على الوعظ وبتجديد قلوب ثلاثة آلاف من الناس.

كُلِّ بَشَرٍ أي كل صنف من الناس يهوداً وأمماً وصغاراً وكباراً. وما فهم بطرس أن ذلك معنى النبوءة إلى بعد إعلان خاص في يافا (ص ١٠).

فَيَتَنَبَّأُ أي يتكلم بقوة الروح القدس كما تكلم شاول الملك في الأيام القديمة (١صموئيل ١٠: ١٠ و١٩: ٢٠ – ٢٤) وإتمام هذا الوعد بُيّن في (ص ١١: ٢٨ و١٩: ٦ و٢١: ٩ و١٠ و١كورنثوس ١٤: ٣٤).

وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤىً نظر صور الأشياء وهي غير موجودة كأنها موجودة حقيقة. هذا من الطرق التي أعلن الله إرادته فيها (أيوب ٣٣: ١٥) وهذا لم يكن في يوم الخمسين بل كان بعده كما كان من أمر استفانوس (ص ٧: ٥٥) وأمر بولس وحنانيا (ص ٩: ٣ و١٠) وكرنيليوس (ص ١٠: ٣) وبطرس (ص ١٠: ١٠ و١١) ويوحنا (رؤيا ص ١ – ص ٢٢).

وَيَحْلُمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَماً وهذا طريق آخر من طرق إعلان الله للناس وكان ذلك كثيراً في العهد القديم (تكوين ٢٠: ٣ و٣١: ١١ و٢٤ و٣٧: ٥ وعدد ١٢: ٦) وجرى ذلك في العهد الجديد مراراً (متّى ١: ٢٠ و٢: ١٢ و١٣ و١٩ و٢٢) ولا نعلم كيف كانوا يميّزون وقتئذ بين أحلام الإعلان والأحلام العادية. ولا دليل لنا على أن الله يكلم الناس اليوم بأحلام فإذاً لا اعتبار لها في هذه الأيام.

١٨ «وَعَلَى عَبِيدِي أَيْضاً وَإِمَائِي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ فَيَتَنَبَّأُونَ».

ص ٢١: ٤ و٩ و٢٠ و١كورنثوس ١٢: ١٠ و٢٨ و١٤: ١ الخ

عَبِيدِي أَيْضاً وَإِمَائِي مراده تعالى بذلك منح المواهب الروحية لكل رتبة من الناس للأدنين كما للأعلين (غلاطية ٣: ٢٨) وتم ذلك بإعطائه القوة لصيادي الجليل على أن يكونوا معلمي العالم ولطابيثا وليدية وبريسكلا أن يكنّ أمثلة التقوى. ولعل المراد «بالعبيد والإماء» محبو الله بقطع النظر عن رتبهم لا المماليك لأنهم أضيفوا إلى الله وذلك على وفق ما جاء في (مزمور ٨٦: ١٦ و١١٦: ١٦ ولوقا ١: ٣٨).

فَيَتَنَبَّأُونَ لا يلزم من هذا أنهم يعلمون ما في المستقبل لأن التنبوء جاء في الكتاب لثلاثة معان غير علم الغيب وهي التسبيح لله (لوقا ١: ٢٧) والتعليم الروحي بإرشاد روح الله (متّى ٧: ٢٢) والتكلم بألسنة غريبة كما كان في يوم الخمسين وهذه كلها من آيات الرحمة.

١٩ «وَأُعْطِي عَجَائِبَ فِي ٱلسَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَآيَاتٍ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ: دَماً وَنَاراً وَبُخَارَ دُخَان».

يوئيل ٢: ٣٠ و٣١

عَجَائِبَ معجزات وغرائب. وذكرت في الإنجيل غالباً مع الآيات (متّى ٢٤: ٢٤ ومرقس ١٣: ٢٢ ويوحنا ٤: ٤٨ ورومية ١٥: ١٩). وبعض هذه العجائب من متعلقات الجو والكواكب وبعضها من متعلقات الأرض وهذه كلها من آيات النقمة. وهذا مثل نبوءة المسيح في (لوقا ١٩: ٤٤) وهي أن يوم الافتقاد يكون يوم رحمة للذين يقبلون الرحمة ويوم نقمة للذين يرفضونها.

دَماً الخ أي فتنة وحرياً وقتلاً وتخريب المدن وإحراقها. تم أول هذه النبوءة بخلاص ألوف من أهل اليهودية يوم الخمسين وبعده وتم آخرها بخراب أورشليم وما حدث في وقته من البلايا.

٢٠ «تَتَحَوَّلُ ٱلشَّمْسُ إِلَى ظُلْمَةٍ وَٱلْقَمَرُ إِلَى دَمٍ، قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ يَوْمُ ٱلرَّبِّ ٱلْعَظِيمُ ٱلشَّهِيرُ».

متّى ٢٤: ٢٩ ومرقس ١٣: ٢٤ ولوقا ٢١: ٢٥

انظر الشرح (متّى ٢٤: ٢٩ وانظر أيضاً إشعياء ١٢: ١٠ وحزقيال ٣٢: ٧ ومرقس ١٣: ٢٤ و٢بطرس ٣: ٧ – ١٠). ولا يلزم من الكلام أن ذلك التحول سيكون حقيقياً بل المعنى أنه يظهر كذلك للناظر فالكلام مجاز وتمثيل للنوازل التي تقع على الأرض من الحروب والأوبئة والزلازل كما يمثل بشروق الشمس على الإنسان بالنجاح والبركة (إشعياء ٦٠: ٢٠ وإرميا ١٥: ٩ وعاموس ٨: ٩ ورؤيا ٦: ١٢ و٨: ١٢ و٩: ٢ و١٦: ٨). ولعل خراب أورشليم ليس سوى واحد من تلك النوازل وسيأتي غيرها حين يشاء الله.

قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ يَوْمُ ٱلرَّبِّ أي أن هذه النبوءة بكل ما تتضمنه من الوعد في (ع ١٧ و١٨) والوعيد في (ع ١٩ و٢٠) تتم قبل إتيان يوم الرب أي يوم الدين الذي لا يعرف وقته إلا الله. ولا تنحصر بركة نبوءة يوئيل في يوم الخمسين بل ما كان فيه منها عربون نجاح الإنجيل في القرون التالية وكذلك لعنة تلك النبوءة لم تنحصر في يوم خراب أورشليم بل ذلك الخراب مقدمة الأهوال في يوم الدينونة الرهيبة.

ٱلْعَظِيمُ ٱلشَّهِيرُ وُصف بذلك لوفرة بركاته لشعب الله ولشدة هوله لأعدائه.

٢١ «وَيَكُونُ كُلُّ مَنْ يَدْعُو بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَخْلُصُ».

رومية ١٠: ١٣

هذه الآية وعد بالرحمة لكل من يسأل الله بالإيمان في أثناء تلك الضيقات فهي رجاء الوعد مع أهوال الوعيد لكي لا ييأس أحد.

بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ أي بالرب نفسه (مزمور ٧٩: ٦ وزكريا ١٣: ٩) والأرجح أن بطرس أراد بالرب هنا يسوع المسيح كما عنى بولس في (رومية ١٠: ١٣ و١٤ و١كورنثوس ١: ٢).

يَخْلُصُ من كل أهوال الوعيد. وهذا الوعد يصح في كل الأحوال وهو وعد بالنجاة الجسدية والنجاة الروحية. ومما يستحق الاعتبار هنا أن لا أحد من المسيحيين هلك في خراب أورشليم لأنهم هربوا من أورشليم إلى شرقي الأردن ونجوا وكذلك يكون المسيح ملجأ للمؤمنين في يوم الدين.

اتخذ بطرس كلام يوئيل بياناً لأن الله في الأيام الأخيرة من تاريخ العالم يظهر عظمة رحمته بهبته الروح وشدة نقمته لكي يقبل الناس الخلاص وينجوا من النقمة وفي كلامه هنا خمس فوائد:

  1. الإنذار بالخطر.
  2. وجوب الاستعداد لتوقيّه.
  3. أن الله مستعد لمنح الخلاص.
  4. أن الشرط الوحيد الدعاء ولا شرط أهم من هذا.
  5. أنه من يهلك فهو على هلاك نفسه.

٢٢ «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِسْرَائِيلِيُّونَ ٱسْمَعُوا هٰذِهِ ٱلأَقْوَالَ: يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ رَجُلٌ قَدْ تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ بِقُوَّاتٍ وَعَجَائِبَ وَآيَاتٍ صَنَعَهَا ٱللّٰهُ بِيَدِهِ فِي وَسَطِكُمْ، كَمَا أَنْتُمْ أَيْضاً تَعْلَمُونَ».

يوحنا ٣: ٢ و١٤: ١٠ و١١ وص ١٠: ٣٨ وعبرانيين ٢: ٤

هذه الآية بداءة القسم الثالث من موعظة بطرس وهو إيضاح أن يسوع المصلوب قد قام وارتفع إلى السماء وتمجّد على وفق المواعيد المتعلقة بالمسيح فكان عليهم أن يتوبوا عن خطيئتهم في قتله ويؤمنوا به فيخلصوا.

يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ كان اسم يسوع شائعاً بين اليهود فنعته بالناصري على ما اشتهر به تمييز له عن يسوع آخر. ولا ريب في أن بطرس كان وقتئذ على جانب عظيم من الشجاعة حتى استطاع أن يعترف هكذا بمن صُلب بأمر الحاكم كمذنب (منذ خمسين يوماً وكان هو نفسه قد أنكر أنه يعرفه) لما كان يترتب من العار والخطر على الاعتراف به.

تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ أي ثبت بالدليل القاطع أن الله أحبه وأرسله. وهذا مثل قول نيقوديموس ليسوع «نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ ٱللّٰهِ مُعَلِّماً، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هٰذِهِ ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ ٱللّٰهُ مَعَهُ» (يوحنا ٣: ٢).

بِقُوَّاتٍ وَعَجَائِبَ وَآيَاتٍ ثلاث كلمات مترادفات والفرق بينهما اعتباري فالقوات المعجزات بالنظر إلى قوة الفاعل ومنها شفاء المرضى وإقامة الموتى. والعجائب المعجزات بالنظر إلى تأثيرها في المشاهد ومنها الغرائب المتعلقة بميلاد المسيح وموته وقيامته. والآيات المعجزات باعتبار أنها أدلة على صحة التعليم المقترن بها ومنها جودة تعليمه وأفعاله وعمله ما في الغيب.

صَنَعَهَا ٱللّٰهُ بِيَدِهِ الضمير في يده يرجع إلى يسوع وهذا موافق لشهادة يسوع نفسه حين كان يصنع المعجزات (يوحنا ٥: ١٩ و٣٠) فهي تصديق الله لصحة دعوى ابنه (يوحنا ٥: ٣٦).

فِي وَسَطِكُمْ أي في بلادكم وأرضكم أورشليم وسائر اليهودية. والأرجح أن كثيرين من السامعين كانوا قد شاهدوا كثيراً من تلك المعجزات.

كَمَا أَنْتُمْ أَيْضاً تَعْلَمُونَ بالمشاهدة البصرية أو بشهادة من شاهد بعينيه فإن أنباء أعمال المسيح كانت منتشرة في كل تلك الأرض (متّى ٤: ٢٤ و٢٥ ومرقس ٣: ٨). واليهود لم ينكروا يومئذ أنه صنع المعجزات بل نسبوا إليه أنه كان يصنعها بقوة بعلزبول (متّى ٩: ٣٤ ومرقس ٣: ٢٢ ويوحنا ١٥: ٢٤).

٢٣ «هٰذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوه».

متّى ٢٦: ٢٤ ويوحنا ٢٢: ٢٢ و٢٤: ٤٤ وص ٣: ١٨ و٤: ٢٨ و٥: ٣٠

قال الرسول ذلك دفعاً لاعتراض يخطر على بال السامعين مما جرى على يسوع وهو أن من صُلب ومات موت الهوان ليس هو بالمسيح وإثباتاً لضرورة موته إتماماً لمقاصد الله وأنه قام من الموت وهم شهود لذلك وأنه ارتفع إلى يمين الله ولذلك أرسل روحه القدوس بآيات قوته في يوم الخمسين.

مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ الذي شاهده الناس من أمور موت المسيح كان من أعمال البشر والواقع أن علة موته الأصلية قضاء الله وقصده كما يتبين من النبوءات في العهد القديم (إشعياء ٥٢: ١٣ و١٥: ٥٣: ١ – ١٢ وزكريا ١١: ١٢ و١٢: ١٠ و١٣: ٧) وما قيل هنا قيل في (ص ٤: ٢٧ و٢٨) وهو قوله «ٱجْتَمَعَ عَلَى فَتَاكَ ٱلْقُدُّوسِ يَسُوعَ، ٱلَّذِي مَسَحْتَهُ، هِيرُودُسُ وَبِيلاَطُسُ ٱلْبُنْطِيُّ مَعَ أُمَمٍ وَشُعُوبِ إِسْرَائِيلَ، لِيَفْعَلُوا كُلَّ مَا سَبَقَتْ فَعَيَّنَتْ يَدُكَ وَمَشُورَتُكَ أَنْ يَكُونَ». والمراد بالمشورة هنا الرأي المبني على الحكمة. وغاية بطرس من هذا بيان أن موت المسيح كان بمقتضى تلك المشورة لا على رغمه بدليل قوله هو أيضاً (متّى ٢٦: ٥٣ ويوحنا ١٩: ١٠ و١١) ولو كان على رغمه لبطلت دعواه أنه المسيح ابن الله.

وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ هذا يؤكد حدوث الأمر لعلة ما. وما سبق من هذه الآية أعلن أن تلك العلة كانت قضاء الله (رومية ٨: ٢٩).

وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ أي بواسطة بيلاطس والجند الروماني لأنه لم يكن لليهود يومئذ من سلطان على قتل أحد والصلب ليس من معاقبات اليهود بل من معاقبات الرومانيين.

صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ أي أنتم أيها اليهود فالذنب ذنبكم لأنه لو لم يرد الشعب قتله ويصرخ طالباً ذلك لم يحكم عليه بيلاطس بل أطلقه (لوقا ٢٣: ١٨ – ٢١) فنسب بطرس إلى المخاطبين أفظع الخطايا وهو أنهم رفضوا مسيحهم وقتلوه وهو رجاء آبائهم الذين وُعدوا به منذ زمن طويل وملكهم ومخلصهم فعظمة مقامه زادت فظاعة إثمهم.

وفي ما قيل هنا برهان على أن قضاء الله لا ينفي اختيار الإنسان فإن الله قضى بموت المسيح وأما اليهود والرومانيين ففعلوا ما فعلوه باختيارهم. فسبق العلم بحادثة لا ينفي اختيار محدثها كما أن ذكرها بعد وقوعها لا ينفي ذلك الاختيار. فلله حق أن يعاقب اليهود على بغضهم ليسوع وقتلهم إياه لكنه لا يعاقبهم على إتمام مقاصده.

٢٤ «اَلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ نَاقِضاً أَوْجَاعَ ٱلْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِناً أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ».

ع ٣٢ وص ٣: ١٥ و٤: ١٠ و١٠: ٤٠ و١٣: ٣٠ و٣٤ و١٧: ٣١ ورومية ٤: ٢٤ و٨: ١١ و١كورنثوس ٦: ١٤ و١٥: ١٥ و٢كورنثوس ٤: ١٤ وغلاطية ١: ١ وأفسس ١: ٢٠ وكولوسي ٢: ١٢ و١تسالونيكي ١: ١٠ وعبرانيين ١٣: ٢٠ و١بطرس ١: ٢١

هذه المناداة الأولى علناً بقيامة المسيح على أنه لا بد من أن أنباءها قد شاعت قبلاً على غير هذا السبيل.

اَلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ أي من الموت وهذا عين ما أراد بطرس إثباته وبإقامة الله ليسوع براءة من تهمة اليهود وشهادة بصحة دعواه وهو مما أنبأ به المسيح قبل موته.

نَاقِضاً أَوْجَاعَ ٱلْمَوْتِ هذا مجاز وهو استعارة مكنية فإن المتكلم شبه آلام الموت في نفسه بقيود وأثبت لها النقض دلالة على التشبيه المضمر في النفس أو هو استعارة تبعية شُبهت بها الإقامة من الموت بحل قيود الأسير ومثل هذا جاء في (مزمور ١٨: ٥ و١١٩: ٦١ وإشعياء ٦٦: ٧ وإرميا ٢٢: ٢٣ وهوشع ١٣: ١٣). ويغلب أن يسبق الموت أوجاع ولذلك أضاف الأوجاع إليه. ولا يلزم من هذا أن المسيح أُلم بعد الموت إنما المراد أن حال موته كانت حال الاتضاع والأسر فرفعه الله وأطلقه من تلك الحال حين أقامه.

إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِناً الخ نظراً للواقع فإنه لم يمكن نظراً إلى مقام شخص المسيح لأنه رئيس الحياة (ص ٣: ١٥) ولأن له حياة في نفسه (يوحنا ١: ٤ و٥: ٦٢) ولأن له سلطاناً أن يضع حياته وأن يأخذها أيضاً (يوحنا ١٠: ١٨). ولم يكن نظراً إلى ما يقتضيه عمل الفداء الذي تعهد المسيح به لكي يُخضع الشيطان ويهدم ملكه ويخلص شعبه (عبرانيين ٢: ١٤) ولم يمكن نظراً إلى قضاء الله ومواعيد الكتاب المقدس كما سيبيّنه.

٢٥ «لأَنَّ دَاوُدَ يَقُولُ فِيهِ: كُنْتُ أَرَى ٱلرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ، أَنَّهُ عَنْ يَمِينِي، لِكَيْ لاَ أَتَزَعْزَعَ».

مزمور ١٦: ٨ الخ

لأَنَّ دَاوُدَ يَقُولُ بإلهام الروح القدس.

فِيهِ أي في المسيح الذي هو المتكلم كما يتضح من (ع ٢٩ – ٣١ و١٣: ٣٦) واقتبس بطرس هنا من (مزمور ١٦: ٨ – ١١) جرياً على ترجمة السبعين وهو يفرق عن الأصل العبرانية بكلمة واحدة لفظاً لا معنىً وما قاله بفم داود في ذلك المزمور أنباء الروح القدس بما يشعر به المسيح وهو على الأرض.

أَرَى ٱلرَّبَّ أي أنظر إليه معيناً ومعتمداً فاتخذ هنا الله بمنزلة جبار بأس متسلح بسيف وترس.

أَمَامِي أي قريباً منى ليعينني عند الحاجة حالاً. .

عَنْ يَمِينِي هنا المسيح على يسار الله لأن اليسار موضع الوقاية فلا منافاة بين قوله هنا وقوله في (متّى ٢٦: ٦٤) ففيه أن الله كملك جالس على كرسيه وابنه على يمينه أي موضع الشرف وكلا الأمرين كناية.

لِكَيْ لاَ أَتَزَعْزَعَ أي لا تغلبني شدة المصائب ولا قوة الأعداء.

٢٦ «لِذٰلِكَ سُرَّ قَلْبِي وَتَهَلَّلَ لِسَانِي. حَتَّى جَسَدِي أَيْضاً سَيَسْكُنُ عَلَى رَجَاءٍ».

لِذٰلِكَ سُرَّ قَلْبِي فرح المسيح لما كان على الأرض بالنظر إلى اتحاده بالآب وبأنه عمل بمقتضى إرادته (لوقا ٢١: ١٠ ويوحنا ١١: ٤٢) وبتيقنه أن أباه ينجيه من كل ضيقاته وينصره على أعدائه. وهذا كقول الرسول «ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِ ٱلسُّرُورِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ ٱحْتَمَلَ ٱلصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِٱلْخِزْيِ» (عبرانيين ١٢: ٢).

وَتَهَلَّلَ لِسَانِي وفي الأصل العبراني ابتهجت روحي وترجمها السبعون بما في المتن لأن اللسان آلة الروح في إظهار الابتهاج.

جَسَدِي أَيْضاً سَيَسْكُنُ عَلَى رَجَاءٍ جعل القبر بمنزلة مسكن وقتي لتوقعه القيامة سريعاً وفي الأصل العبراني يسكن مطمئناً وترجمة السبعون بلفظتي «على الرجاء» لأن الرجاء علة الاطمئنان.

٢٧ «لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَلاَ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَاداً».

تكوين ٤٢: ٣٨ و٢صموئيل ٢٢: ٦ وأيوب ١٠: ٢١ و٢٢ ومزمور ٣٠: ٣ و٨٦: ١٣ و٨٩: ٤٨ وإشعياء ١٤: ٩ وحزقيال ٣١: ١٦ ومتّى ١١: ٢٣ و١كورنثوس ١٥: ٥٥

لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي أي لن تتركني.

فِي ٱلْهَاوِيَةِ أي في محل الأرواح مع سائر الموتى تحت سلطان الموت إلى يوم القيامة العامة. وكانت ثقة المسيح كذلك كل مدة حياته وفي ساعة موته حين استودع الآب نفسه.

قُدُّوسَكَ هذا أحد نعوت المسيح يشير إلى كونه موقوفاً لعبادة الله كما مر في التفسير (يوحنا ١٧: ١٩). ونُعت أيضاً «بالقدوس» لأنه أقدس من كل من سواه في الطهارة والتقوى (لوقا ٤: ٣٤ وأعمال ٣: ١٤ وعبرانيين ٧: ٢٦ ورؤيا ١٥: ١٤ و١٦: ٥).

يَرَى فَسَاداً أي لا يبقى زمناً طويلاً في القبر حتى يعتريه البلى كما يعتري سائر الموتى على وفق قوله «إلى التراب تعود» (تكوين ٣: ١٩). ومعنى الآية كلها أن المسيح متيقن أن الله يقيمه سريعاً من بين الأموات فلا يبقى جسده ولا نفسه تحت سلطان الموت.

٢٨ «عَرَّفْتَنِي سُبُلَ ٱلْحَيَاةِ وَسَتَمْلأُنِي سُرُوراً مَعَ وَجْهِكَ».

عبرانيين ١٢: ٢

هذه الأية كالتي قبلها في بيان اطمئنان المسيح وهو على الأرض.

عَرَّفْتَنِي سُبُلَ ٱلْحَيَاةِ أي ما يتوصل به من الموت إلى الحياة. والمعنى أن المسيح وثق بأن الله يعيده إلى الحياة نفساً وجسداً وهذا يتضمن صعوده إلى السماء أيضاً وتكليله هناك بالمجد والكرامة.

سَتَمْلأُنِي سُرُوراً مَعَ وَجْهِكَ أي تكمل فرحي حين أقوم بمشاهدتك في السماء حيث تمجدني وهذا كما جاء في (أفسس ١: ٢٠ – ٢٢ وعبرانيين ٩: ٢٤ و١٢: ٢).

٢٩ «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ لَكُمْ جِهَاراً عَنْ رَئِيسِ ٱلآبَاءِ دَاوُدَ إِنَّهُ مَاتَ وَدُفِنَ، وَقَبْرُهُ عِنْدَنَا حَتَّى هٰذَا ٱلْيَوْمِ».

١ملوك ٢: ١٠ وص ١٣: ٣٦

غاية بطرس في هذه الآية وما بعدها حتى الآية الحادية والثلاثين بيان أن داود تنبأ بذلك بقيامة المسيح ولم يتكلم به على نفسه.

أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ خاطبهم في (ع ١٤) بقوله «أيها اليهود» إشارة إلى أرض سكنهم وفي (ع ٢٢) بقوله «أيها الإسرائيليون» إشارة إلى كونهم ورثة مواعيد الله لإسرائيل.

يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ لأنه معلوم ومسلم أن داود مات وفني وأن ذلك لم يحط مقامه وشرفه باعتبار أنه ملك مقتدر ونبي تقي.

رَئِيسِ ٱلآبَاءِ نُعت بهذا لأنه أول البيت الملكي في يهوذا الذي توقع اليهود إتيان المسيح من نسله.

إِنَّهُ مَاتَ وَدُفِنَ كما كُتب عنه في العهد القديم ولم يدع أحدٌ أنه قام فلذلك لا يصدق عليه ما تقدم من كلام المزمور.

قَبْرُهُ عِنْدَنَا في مدينة أورشليم في الجزء الذي بناه منها وعُرف بمدينة داود (١ملوك ٢: ١٠) وكان على جبل صهيون وهنالك دُفن أكثر ملوك يهوذا. فتح قبره أولاً يوحنا هركانوس المكابي وهو رئيس الأحبار ثم فتحه هيرودس الكبير وأخذ ما بقي فيه من النفائس ووجود ذلك القبر عندهم إلى ذلك اليوم واعتقادهم أن داود لم يقم منه دليل قاطع على أن كلام النبوءة يصدق على غيره لا عليه.

٣٠ «فَإِذْ كَانَ نَبِيّاً، وَعَلِمَ أَنَّ ٱللّٰهَ حَلَفَ لَهُ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مِنْ ثَمَرَةِ صُلْبِهِ يُقِيمُ ٱلْمَسِيحَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ لِيَجْلِسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ».

٢صموئيل ٧: ١٢ و١٣ ومزمور ١٣٢: ١١ ولوقا ١: ٣٢ و٦٩ ورومية ١: ٣ و٢تيموثاوس ٢: ٨

فَإِذْ كَانَ نَبِيّاً أي ملهماً من الله قادراً على الأنباء بالأمور المستقبلة (٢صموئيل ٢٣: ٢) تكلم بنبوءات كثيرة على المسيح (قابل مزمور ٢٢: ١ مع متّى ٢٦: ٤٦ ولوقا ٢٤: ٤٤ وقابل مزمور ٢٢: ١٨ مع متّى ٢٧: ٣٥ وقابل مزمور ٦٩: ٢١ مع متّى ٢٧: ٣٤ و٣٨ وقابل مزمور ٦٩: ٢٥ مع أعمال ١: ٢٠).

عَلِمَ لأن الله عرفه ذلك بواسطة ناثان النبي (٢صموئيل ٧: ١٢ و١٦ ومزمور ١٣٢: ١١). وذُكر أيضاً مثل ذلك في مزمور ٨٩: ٣ و٤ و٣٥ – ٣٧).

حَلَفَ لَهُ بِقَسَمٍ (مزمور ٨٩: ٣ و٣٥).

مِنْ ثَمَرَةِ صُلْبِهِ أي من نسله.

يُقِيمُ ٱلْمَسِيحَ قصد بالوعد سليمان أولاً ثم نسله وأتمه أخيراً بالمسيح وهكذا اعتقد اليهود وفسره كتبة الإنجيل (متّى ١٢: ٢٣ و٢١: ٩ و٢٢: ٤٢ و٤٥ ومرقس ١١: ١٠ ويوحنا ٧: ٤٢). وعلم داود أن تلك النبوءة كانت تشير إلى المسيح ولا تنحصر في أحد قبله لأن من جملة الوعد هو أن «كرسي مملكته يكون إلى الأبد» (٢صموئيل ٧: ١٣). وصرح بطرس أن داود هكذا فهم الوعد.

حَسَبَ ٱلْجَسَدِ أي أن المسيح من نسل داود حسب طبيعته البشرية فلو كان يسوع مجرد إنسان لم يكن من داع إلى هذا القيد فهو دليل على أن بطرس اعتقد أن للمسيح طبيعة أخرى غير الطبيعة البشرية وهي طبيعته الإلهية.

لِيَجْلِسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ أي ليخلفه في الملك مسيحاً (مرقس ١١: ١٠ ولوقا ١: ٣٢ وص ١٥: ١٠). فالنبوءة من جهة المسيح تتضمن أمرين الأول أنه يُقام من الموت. والثاني أنه يملك إلى الأبد مُلكاً يعم كل ممالك الأرض. وكون مُلك المسيح روحياً لا يمنع كونه حقيقياً فيشبه ملك داود في مجده وشموله كل شعب الله.

٣١ «سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ قِيَامَةِ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ لَمْ تُتْرَكْ نَفْسُهُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَلاَ رَأَى جَسَدُهُ فَسَاداً».

مزمور ١٠٦: ١٠ وص ١٣: ٣٥

سَبَقَ فَرَأَى علم ذلك قبل حدوثه بالوحي وعلمه أيضاً من نبوءة ناثان ولذلك استطاع أن يتكلم بيقين وزاده يقيناً قسم الله المذكور في الآية السابقة.

وَتَكَلَّمَ في المزمور ١٦ ويلزم من ذلك أن داود كتب هذا المزمور بعد ذلك الإعلان أي بيان أن نفس المسيح لم تُترك في الهاوية الخ فذلك التكلم نبوءة.

عَنْ قِيَامَةِ ٱلْمَسِيحِ صرّح بطرس بالوحي بأن داود قال ذلك في قيامة المسيح. وهذا يتضح أيضاً من أن داود رأى جسده فساداً ولم يقم.

أَنَّهُ لَمْ تُتْرَكْ نَفْسُهُ الخ انظر شرح ع ٢٧.

٣٢ «فَيَسُوعُ هٰذَا أَقَامَهُ ٱللّٰهُ، وَنَحْنُ جَمِيعاً شُهُودٌ لِذٰلِكَ».

ع ٢٤ ص ١: ٨

أبان بطرس في ما مرّ أنّ قيامة يسوع مضمون نبوءة وصرّح هنا أن هذه النبوءة قد تمّت وأن المسيح قد قام والبرهان على ذلك شهادة الرسل وغيرهم من التلاميذ الذين شاهدوه حياً بعد موته. انظر شرح الكلام على القيامة في (متّى ٢٨: ١٦).

٣٣ «وَإِذِ ٱرْتَفَعَ بِيَمِينِ ٱللّٰهِ، وَأَخَذَ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مِنَ ٱلآبِ، سَكَبَ هٰذَا ٱلَّذِي أَنْتُمُ ٱلآنَ تُبْصِرُونَهُ وَتَسْمَعُونَهُ».

ع ٣٤ وص ٥: ٣١ وفيلبي ٢: ٩ وعبرانيين ١٠: ١٢ يوحنا ١٤: ٢٦ و١٥: ٢٦ و١٦: ٧ و١٣ وص ١: ٤ ص ١٠: ٤٥ وأفسس ٤: ٨

ٱرْتَفَعَ بإقامته من الموت وارتقائه من الاتضاع الذي تنازل إليه لعمل الفداء وعاد إلى المجد الذي كان له قبل إنشاء العالم (يوحنا ١٧: ٥) واستولى على السلطان المطلق باعتبار أنه ملك ومسيح (متّى ١٨: ١٨).

أَخَذَ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُس (ص ١: ٤ ويوحنا ١٤: ٢٦) أي الروح القدس الموعود به من الآب للابن ليرسله إلى تلاميذه والموعود به من الآب وهذا الوعد يتضمن أمرين الأول أن الروح القدس لا يأتي إلا بعد رجوع المسيح إلى السماء. والثاني أنه هبة الآب والابن (يوحنا ١٤: ٢٦ و١٥: ٢٦ و١٦: ٧).

سَكَبَ هٰذَا ٱلَّذِي أَنْتُمُ ٱلآنَ الخ أي الروح القدس الذي أنتم شاهدتم تأثيره أي معجزاته. وما سمعوه تكلّمهم بلغات غريبة. فنسب بطرس إلى المسيح ما نسبه إلى الآب في ع ١٧ وذاك دليل على قيامته فضلاً عن شهادة التلاميذ بها.

٣٤ «لأَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَصْعَدْ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ. وَهُوَ نَفْسُهُ يَقُولُ: قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي، ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي».

برهن بطرس في هذه الآية والتي تليها من مزمور آخر أن داود لم يتنبأ بشأن نفسه.

لأَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَصْعَدْ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ أي بجسده ليأخذ المجد والكرامة على يمين الآب كما يتضح مما قيل في ع ٢٩ وعلى ذلك لا تصدق تلك النبوءة على داود بل تصدق على المسيح بالضرورة.

قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي أي الآب للابن (مزمور ١١٠: ١). أبان بطرس في ما سبق أن النبوءة لا تصدق على داود لأنه لم يقم من الموت ولم يصعد بجسده إلى السماء ولم يجلس على يمين الله فهي تصدق بالضرورة على غيره وهو المسيح. وزاد على ذلك هنا أن داود دعا الذي صعد ربه فإذاً يستحيل أن يقصد نفسه بتلك النبوءة فالذي أخبر به أبان أنه ذريته وربه. وأورد المسيح هذه الآية نفسها إفحاماً للكتبة (متّى ٢٢: ٢٤) فإذاً المسيح رب داود ورب الجميع.

ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي أي أن الآب دعا الابن إلى المساواة له في المجد والسلطان وهذا ليس هو المجد الأصلي الذي يستحقه باعتبار كونه إلهاً بل المجد الذي ناله باعتبار كونه فادياً ووسيطاً جزاء لاتضاعه لأجل خلاص البشر وهذا على وفق ما قيل في (فيلبي ٢: ١ – ١١ وأفسس ١: ٢١ وعبرانيين ١: ٣ و٨ و١٣ و١٠: ١٢ و١٢: ٢٠ و١بطرس ٣: ٢).

٣٥ «حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ».

مزمور ١١٠: ١ ومتّى ٢٢: ٤٤ و١كورنثوس ١٥: ٢٥ وأفسس ١: ٢٠ و٢٢ وعبرانيين ١: ١٣

أي حتى تتم غاية أعمال الفداء إلى النهاية (١كورنثوس ١٥: ٢٤ – ٢٨).

٣٦ «فَلْيَعْلَمْ يَقِيناً جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ ٱللّٰهَ جَعَلَ يَسُوعَ هٰذَا، ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبّاً وَمَسِيحاً».

ص ٥: ٣١

فَلْيَعْلَمْ يَقِيناً أي ليقتنع الجميع بدون ريب بناء على النبوءات وشهادتنا والعجائب التي شاهدتموها أن المسيح قد أتى وأنه الآن في السماء.

جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الذي كان برهاناً لبيت إسرائيل هو برهان لسائر الناس إنما وجه الخطاب إلى الإسرائيليين لأنهم أول المدعوين.

أَنَّ ٱللّٰهَ جَعَلَ أي أظهر أنه جعل الخ. هذا غاية خطابه ونتيجته.

يَسُوعَ هٰذَا الذي جال في هذه الأرض وتكلم معكم وصنع المعجزات قدامكم ومات على الصليب نفسه.

ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ بأن طلبتم من بيلاطس قتله.

رَبّاً أي إلهاً على الجميع (رومية ٩: ٥) ورأساً فوق كل شيء للكنيسة (أفسس ١: ٢٢ و يوحنا ١٧: ٢).

وعلى هذه الصفة يملك الآن في السماء وسوف يأتي ليدين العالم. وجعله حينئذ إلهاً لا ينافي كونه كذلك منذ الأزل لكن استتر مجده وهو في حال الاتضاع إجراء لعمل الفداء.

وَمَسِيحاً (ع ٣١) أي ممسوحاً من الله ليخلص العالم (يوحنا ٤: ٤٢) وهو الموعود به بالأنبياء. وحكم بطرس عليهم بأنهم هم صلبوا ربهم ومسيحهم مما يحملهم على أن يخجلوا ويلوموا أنفسهم ويخافوا.

تأثير وعظ بطرس وحلول الروح القدس ع٣٧ إلى ع ٤٧

٣٧ «فَلَمَّا سَمِعُوا نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ، وَسَأَلُوا بُطْرُسَ وَسَائِرَ ٱلرُّسُلِ: مَاذَا نَصْنَعُ أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ؟».

زكريا ١٢: ١٠ ولوقا ٣: ١٠ وص ٩: ٦ و١٦: ٣٠

فَلَمَّا سَمِعُوا هذا البرهان الصريح أن يسوع الذي صلبوه هو المسيح.

نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ هذا يدل على ألم نفساني شديد وحزن عظيم لشعورهم بإثمهم بما فعلوا والخطر الذي عرضوا أنفسهم له وهي نتيجة طبيعيّة من تأثير الحق ومن تأثير الروح القدس أيضاً.

مَاذَا نَصْنَعُ لننجو من نتيجة خطيئتنا أي لنزيل غضب الله عنا ونُنقذ من العقاب الذي نستحقه. وهذا السؤال يدل على اجتهادهم في النجاة ورغبتهم في التعلم واستعدادهم للخضوع لإرادة الله. فسؤالهم كسؤال بولس للمسيح (أعمال ٩: ٦) وسؤال السجان لبولس وسيلا (أعمال ١٦: ٣٠). والشعور بالخطيئة والندامة والخوف أفضل استعداد لقبول بشارة الإنجيل. ومما يبين قوة الحق وشدة تأثير الروح فإن اليهود الذين رفضوه وقتلوه لم يستطيعوا أن يعتذروا عن إثمهم بل اعترفوا به وسألوا الإرشاد للنجاة من العقاب.

٣٨ «فَقَالَ لَهُمْ بُطْرُسُ: تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى ٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».

لوقا ٢٤: ٤٧ وص ٣: ١٩

فَقَالَ لَهُمْ بُطْرُسُ بالنيابة عن سائر الرسل على وفق أمر المسيح بأن «يُكْرَزَ بِٱسْمِهِ بِٱلتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا» (لوقا ٢٤: ٤٧).

تُوبُوا انظر شرح (متّى ٣: ٢). التوبة تتضمن الحزن على الخطيئة والعزم على تركها والاعتراف بها جهاراً والرجوع عنها إلى الله بالطاعة والقداسة. هذا فوق الخوف من العقاب لأنهم خافوا قبل أن سألوا عن طريق الخلاص فذلك الخوف علة ذلك السؤال.

وكانت دعوة بطرس للتوبة في موعظته الأولى الإنجيليّة كدعوة يوحنا المعمدان في أول تبشيره. والتوبة هي الشرط الضروري للمغفرة ولا خلاص بدونها.

وَلْيَعْتَمِدْ انظر شرح (متّى ٣: ٦). أمر المسيح تلاميذه أن يعمدوا المؤمنين (متّى ٢٨: ١٩ ومرقس ١٦: ١٦) فقبول المعمودية إقرار المعتمد علناً بإيمانه أن يسوع هو المسيح وربه ومخلصه وهي رمز إلى تطهير القلب بالروح القدس وختم العهد الجديد وعلامة الاشتراك في كنيسة المسيح.

عَلَى ٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لا يلزم من ذلك أن لا يعتمدوا باسم الآب والروح القدس كما أمر المسيح في (متّى ٢٨: ١٩) واقتصر بولس على طلب اعتمادهم باسم يسوع لأنهم نظراً لكونهم يهوداً كانوا يعترفون دائماً بالآب وروحه فكان إيمانهم ناقصاً من جهة كون يسوع هو المسيح ابن الله. ولما سلموا بذلك واعترفوا بخطاياهم وقصدوا أن يتركوها وأن يتخذوا المسيح فادياً ومبرراً ورباً ودياناً في اليوم الأخير كانوا أهلاً لقبول المعمودية المسيحية دلالة على اتحادهم بالمسيح وكنيسته وهذا على وفق ما ذُكر في (ص ١٩: ٥).

وذكر بطرس المعمودية كأمر معلوم لأن يوحنا المعمدان مارسها منذ سنين وكذلك يسوع وتلاميذه.

لِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا كلها لا خطيئة صلب المسيح فقط. ونوال هذا الغفران غاية التوبة والمعمودية فالتوبة شرط ضروري للمغفرة والمعمودية واجبة لأن المسيح أمر بها فلا قوة لها في نفسها على إزالة الخطيئة.

فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ إضافة العطية إلى الروح بيانيّة والمعنى فتأخذوا عطية هي الروح القدس. والذي ينالونه هو الذي يلزمه لتجديد قلوبهم وتقديسها والتعزية وراحة الضمير فلا يقتضي ذلك أن ينالوا موهبة المعجزات كالتكلم بألسنة غريبة وما شاكل ذلك لأن تلك كانت تُعطى أحياناً لا دائماً. فالوعد بذلك الروح لا ينفي أنهم قبلوا بعض تأثيراته قبلاً لأن إتيانهم إلى ذلك المكان وإصغاءهم إلى الوعظ ونخس قلوبهم وسؤالهم عن الخلاص من تأثيراته فتكون تلك العطية مكملة لفعل الله في قلوبهم لكي يأتوا بأثمار الروح التي هي «مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ» (غلاطية ٥: ٢٢ و٢٣).

٣٩ «لأَنَّ ٱلْمَوْعِدَ هُوَ لَكُمْ وَلأَوْلاَدِكُمْ وَلِكُلِّ ٱلَّذِينَ عَلَى بُعْدٍ، كُلِّ مَنْ يَدْعُوهُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا».

يوئيل ٢: ٢٨ وص ٣: ٢٥ ص ١٠: ٤٥ و١١: ١٥ و١٨: و١٤: ٢٧ و١٥: ٣ و٨ و١٤ وأفسس ٢: ١٣ و١٧

لأَنَّ ٱلْمَوْعِدَ بالروح القدس.

هُوَ لَكُمْ وَلأَوْلاَدِكُمْ أي لكم أنتم اليهود جميعاً بناء على كونكم شعب الله المختار وإن كنتم قد صلبتم المسيح. وهذا كقول يوئيل الذي سبق الكلام عليه (يوئيل ٢: ٢٨) وهو أيضاً مثل ما في (إشعياء ٤٤: ٣ و٥٩: ٢١).

لِكُلِّ ٱلَّذِينَ عَلَى بُعْدٍ أي الأمم الذين سُموا أيضاً «أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ ٱلْمَوْعِدِ» (أفسس ٢: ١٢). وما قيل هنا موافق للنبوءات في (إشعياء ٢: ٢ و٤٠: ٥ و٥٤: ٤ وميخا ٤: ١ و٢ وعاموس ٩: ١٢) وما في العهد الجديد (ص ١٠: ٤٥ و١١: ١٥ – ١٨ و١٤: ٢٧). ولم يكن بطرس وسائر الرسل يعرفون أن الأمم يستطيعون أن يكونوا مسيحيين ما لم يقبلوا أولاً الرسوم اليهودية وعسر عليهم أن يسلموا باستغناء الأمم عن الختان وحفظ سنن موسى لكي يُقبَلوا في الكنيسة المسيحية.

كُلِّ مَنْ يَدْعُوهُ ٱلرَّبُّ دعوة الله للإنسان أصل حصوله على الإيمان والخلاص لا الاتفاق ولا إرادته البشرية. وتلك الدعوة نعمة منه تعالى وهي ظاهرة للحواس وباطنة للقلب وتُعرض على الإنسان بواسطة الإنجيل والمبشرين الذين ينادون به وبواسطة الروح القدس. ولا بد أن يتم قصد الله في كل نفس اختارها ودعاها.

٤٠ «وَبِأَقْوَالٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ كَانَ يَشْهَدُ لَهُمْ وَيَعِظُهُمْ قَائِلاً: ٱخْلُصُوا مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ ٱلْمُلْتَوِي».

وَبِأَقْوَالٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ يتضح من هذا أن ما ذُكر هنا ليس سوى جزء مما وعظ به الرسل ذلك اليوم وأنه هو الأهم.

كَانَ يَشْهَدُ لَهُمْ بصحة الحوادث التي ذكرها والمواعيد التي أوردها والخطر من إهمال الإنذار والترحيب بالذين يتوبون ويؤمنون.

وَيَعِظُهُمْ أي يحثهم على قبول دعوة الله للخلاص.

ٱخْلُصُوا الخ هذا غاية وعظه. فهم مطالبون بأن يستعملوا الوسائط التي أعدها الله للنجاة باستفراغ المجهود وباعتزالهم الأشرار كما يأتي.

مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ ٱلْمُلْتَوِي أي من مشاكله يهود هذا العصر. وهذا إنذار بالخطر من الاقتداء بغير المؤمنين في الآراء والإعمال لأن الذي يشاركهم في الرأي والعمل يشاركهم في النقمة والعقاب. وكان يهود ذلك العصر موصوفين بكثرة ارتكاب الآثام (متّى ١١: ١٦ – ١٩ و١٢: ٣٩ – ٤٢ و١٦: ٤ ومرقس ٨: ٣٨) وأعلنوا شرهم برفضهم المسيح وصلبهم إيّاه وصعب على الموعوظين أن يخلصوا من ذلك الجيل لأن رؤساء الفريسيين كانوا كثيرين الهيبة والسلطة على الشعب. ووصف ذلك الجيل بالالتواء لأنه أبى الرشد إلى طريق الحق والاستقامة. ولنا مما مر ثلاث فوائد:

  • الأولى: أنه من أراد أن يخلص فعليه أن يجتهد في خلاص نفسه.
  • الثاني: أن الإنسان في خطر شديد من غرور العالم والاقتداء بالرفاق الأشرار لئلا يقودوه إلى الهلاك إما بالهزء أو التملق أو التهديد ولعل الخطر من ذلك لم يكن يومئذ أعظم من الخطر منه اليوم.
  • الثالثة: أنه على من يرغب في الخلاص أن يحترز من مشاكلة العالم ويرضى أن يكون مبغضاً ومهاناً ومضطهداً بغية المجد الأبدي والسعادة السرمدية.

٤١ «فَقَبِلُوا كَلاَمَهُ بِفَرَحٍ، وَٱعْتَمَدُوا، وَٱنْضَمَّ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ نَفْسٍ».

كَلاَمَهُ في مغفرة الخطايا بيسوع المسيح.

بِفَرَحٍ قبلوا كلامه بفرح لأنهم وجدوا به طريق النجاة من الخطر الذي أحزنهم وراحة الضمير من أثقاله.

وَٱعْتَمَدُوا طوعاً لأمر المخلص (متّى ٢٨: ١٩) وبياناً لتوبتهم وإيمانهم بالمسيح وختماً لتعهدهم ودخولهم في الكنيسة المنظورة.

وَٱنْضَمَّ إلى جماعة المؤمنين بالمسيح بالمعمودية كما تدل القرينة.

فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ أي يوم الخمسين. وكان ابتداء الوعظ في الساعة الثالثة من صباحه. ولم يذكر هنا شيئاً من كيفيّة المعمودية أبالرش كانت أم بالتغطيس والأرجح أنها كانت بالرش لأن الوقت يضيق بتغطيس ثلاثة آلاف والأحوال لا توافق ذلك. وأدخل الرسل أولئك الناس حالاً في الكنيسة إذ لم يكن ما يحملهم على الرياء أو ما يلقي الشك في إخلاصهم.

ثَلاَثَةِ آلاَفِ نَفْسٍ كان انضمام هؤلاء إلى الكنيسة باكورة الزرع الذي زرعه المسيح على ما في قوله «إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير» ونتيجة انسكاب الروح القدس في يوم واحد مع التبشير بالإنجيل وهو عربون ما يتوقع في العصور الآتية على وفق مواعيد الكتاب. وهذا تاريخ مختصر لنشوء الكنيسة المسيحيّة.

٤٢ «وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ ٱلرُّسُلِ، وَٱلشَّرِكَةِ، وَكَسْرِ ٱلْخُبْزِ، وَٱلصَّلوَاتِ».

ع ٤٤ ص ٢٠: ٧ و١١ و١كورنثوس ١٠: ١٦ ص ١: ١٤ وع ٤٦ ورومية ١٢: ١٢ وأفسس ٦: ١٨ وكولوسي ٤: ٢ وعبرانيين ١٠: ٢٥

وَكَانُوا يُواظِبُونَ هذا يدلّنا على أنهم بعد ما آمنوا واعتمدوا وأُهينوا واضطُهدوا بقوا ثابتين على الإيمان (مع علمنا من سرعة انضمامهم إلى الكنيسة) وثبوتهم أصح برهان على صحة إيمانهم وتجددّهم.

عَلَى تَعْلِيمِ ٱلرُّسُلِ لم تغنهم موهبة الروح القدس عن استعمال وسائط النعمة فكانوا يصغون إلى مواعظ الرسل.

وَٱلشَّرِكَةِ أي مشاركة الرسل وسائر التلاميذ في آمالهم وأهوالهم وأفراحهم وأحزانهم واحتمال الإهانات والأخطار والخسائر المالية وغير ذلك من الخارجيّات ومشاركتهم أيضاً في مواضيع الصلاة والتسبيح والمحادثة. وبُنيت هذه المشاركة على اتحادهم برأس واحد هو المسيح.

وَكَسْرِ ٱلْخُبْزِ الأرجح أن معنى ذلك أنهم كانوا يأكلون الطعام العادي جماعات كعائلة واحدة ويختموا تناول الطعام بتناول العشاء الرباني كما أن المسيح أكل مع الرسل الفصح أولاً ثم ختم ذلك بتناول العشاء الرباني. وكانت المدد بين مرات تناول ذلك العشاء قصيرة وكان تكراره كذلك وسيلة إلى تمثيل موت المسيح أمامهم ذبيحة عن خطاياهم (ص ٢٠: ٧ و١١ و١كورنثوس ١٠: ١٦). ولا يلزم مما ذُكر أنهم لم يشربوا يومئذ الكأس وأنه لا يجوز تقديمها للعامة لأن كسر الخبز عبارة اصطلاحية يراد بها تناول الشكلين.

وَٱلصَّلَوَاتِ الرغبة في الصلاة نتيجة انسكاب الروح القدس بدليل قوله تعالى بلسان نبيّه «وَأُفِيضُ عَلَى بَيْتِ دَاوُدَ وَعَلَى سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ رُوحَ ٱلنِّعْمَةِ وَٱلتَّضَرُّعَاتِ» (زكريا ١٢: ١٠) والاتحاد في الحس الباطن يحمل على الاتحاد في التضرع لله. وأتوا ذلك أيضاً امتثالاً لأمر الرب في بشارة متّى (متّى ١٨: ١٩). ومثل هذا الاتحاد في الصلاة لا ينفك أبداً علامة حياة الكنيسة ونموها ورغبتها وهي آية حضور الروح القدس فيها. وإهمال الصلاة الجمهورية علامة الفتور في الدين وانفصال الروح القدس عن البيعة. والأمور الأربعة المذكورة في هذه الآية هي الأعمال الأولى في بدء كنيسة المسيح الأولى بعد الاعتراف بالإيمان بواسطة المعمودية كما مرّ في (ع ٤١).

٤٣ «وَصَارَ خَوْفٌ فِي كُلِّ نَفْسٍ. وَكَانَتْ عَجَائِبُ وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ تُجْرَى عَلَى أَيْدِي ٱلرُّسُلِ».

مرقس ١٦: ١٧ وص ٤: ٢٣ و٥: ١٢

خَوْفٌ من الله الناتج عن الشعور بحضوره بينهم. وهذا الخوف منع الأعداء من أن يضطهدوا الكنيسة يومئذ وكان ذلك ضرورياً لها في طفوليتها.

فِي كُلِّ نَفْسٍ كان ذلك الخوف عامّاً للتلاميذ ولأعدائهم وعلته معرفتهم الحوادث المتعلقة بموت المسيح وقيامته والمعجزات التي صنعها الرسل باسمه وعجائب يوم الخمسين واتباع ألوف لذلك المذهب الحديث فضلاً عن تأثير روح الله في قلوب الجميع.

عَجَائِبُ وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ الخ انظر شرح (ع ٢٢) وهذا على وفق وعد المسيح للرسل (مرقس ١٦: ١٧). والأصحاح الثالث شرح لهذه الآية إذ فيه ذكر إحدى تلك العجائب بالتفصيل.

٤٤ «وَجَمِيعُ ٱلَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا مَعاً، وَكَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكاً».

ص ٤: ٣٢ و٣٤

ٱلَّذِينَ آمَنُوا بأن يسوع هو المسيح وكان ذلك جوهر الفرق بينهم وبين غيرهم.

مَعاً في الفكر والحس فضلا عن كونهم جماعة واحدة ممتازة. ومع أنهم كانوا من أماكن مختلفة (ع ٥) اتفقوا في الصلاة والتسبيح وسمع التعليم. وهذا الاتحاد من أعظم وسائط النمو الروحي. وتأثير الإنجيل الحق هو جمع المتفرقين إلى واحد.

وَكَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكاً كما كان بين المسيح وهو على الأرض والاثني عشر فإنهم كانوا كأهل بيت واحد. ولم يحسب أحد منهم ما له لنفعه الخاص بل حسبه كأمانة ينفقها عند الحاجة على إخوته في الكنيسة وأُشير إلى هذه الشركة المالية في (ص ٤: ١٢ و٥: ١ – ١١). ولم نجد من دليل على أن المسيح أو أحداً من الرسل أمر بذلك بل كان هو دليلاً على حب بعضهم لبعض وعلى أنه تبرع وكانت مقتضيات الأحوال يومئذ تُلجئ إليه.

٤٥ «وَٱلأَمْلاَكُ وَٱلْمُقْتَنَيَاتُ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ ٱلْجَمِيعِ، كَمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ ٱحْتِيَاجٌ».

إشعياء ٥٨: ٧

وَٱلأَمْلاَكُ وَٱلْمُقْتَنَيَاتُ كالأرضين والبيوت.

كَانُوا يَبِيعُونَهَا أي كان يبيعها الأغنياء لإفادة إخوتهم الفقراء. ولا بيّنة على أنهم باعوا كل أملاكهم بل كانو يبيعون ما تدعو إليه الحاجة.

وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ ٱلْجَمِيعِ أي الفقراء والمحتاجين بينهم ولنا في هذا التقسيم خمس ملاحظات:

  • الأولى: أنه لم يكن في غير أورشليم.
  • الثانية: أنه تبرّع (ص ٥: ٤).
  • الثالثة: أن المسيح لم يأمر به ولا الرسل في شيء من رسائلهم.
  • الرابعة: أن الموزّع لم يكن إلا بعض المال (يوحنا ١٩: ٢٧ وأعمال ١٢: ١٢).
  • الخامسة: أنه كان وقتياً نظراً لمقتضيات الأحوال. فإنه كان بينهم كثيرون من مؤمني اليهود الغرباء الذين أتوا إلى أورشليم للاحتفال بالفصح ولم يعزموا على الإقامة هنالك. ولكنهم بعدما آمنوا بالمسيح بغية التعليم الروحي ولم يقبلهم أقاربهم وأصحابهم من اليهود وكان سكان أورشليم الذين آمنوا بالمسيح ممنوعين من وسائل المعاش العادية. فإذاً ليس ذلك بدليل على أن من واجبات المسيحيين في كل مكان وزمان أن تكون الأملاك والمقتنيات مشتركة بينهم. فكانت الكنيسة في أول أمرها ممتازة بالسخاء على فقرائها وذلك من نتائج انسكاب الروح القدس في قلوبهم وبرهان على صحة ديانتهم أعظم من التكلم بالألسنة الغريبة والتنبوء لأن حب المال طبيعي لا يغلبه إلا النعمة. فعلى الكنيسة في كل عصر أن تعتني بفقرائها (متّى ٢٦: ١١).

كَمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ ٱحْتِيَاج هذا دليل على أنه لم يكن المبيع والتوزيع دفعة واحدة بل كان عند الحاجة على توالي الأوقات وكان الذين يقسمون الثمن هم الرسل (ص ٤: ٣٤ و٣٥).

٤٦ «وَكَانُوا كُلَّ يَوْمٍ يُواظِبُونَ فِي ٱلْهَيْكَلِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَإِذْ هُمْ يَكْسِرُونَ ٱلْخُبْزَ فِي ٱلْبُيُوتِ، كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ ٱلطَّعَامَ بِٱبْتِهَاجٍ وَبَسَاطَةِ قَلْبٍ».

لوقا ٢٤: ٥٣ وص ٥: ٤٢ ص ١: ١٤ ع ٤٢

كَانُوا أي المؤمنين بأن يسوع هو المسيح.

يُواظِبُونَ في أوقات الصلاة المعيّنة في الساعة الثالثة والساعة التاسعة من النهار.

فِي ٱلْهَيْكَلِ لأنه محل العبادة لآبائهم ولهم ولأنهم كانوا لا يزالون يمارسون الفروض والسنن اليهودية اقتداء بالمسيح وبناء على أن الديانة المسيحية تكملة للديانة الموسوية وزادوا على ذلك صلوات وترانيم جديدة وبعض الرسوم كالمعمودية والعشاء الرباني وذكر تعاليم المسيح. وكان الرسل يذهبون كذلك إلى الهيكل رغبة في تبشير الجموع هنالك بالمسيح وبياناً أن ديانة المسيح لا تنافي شريعة موسى. وما عرفت الكنيسة استغناءها عن الطقوس اليهودية وأنها أُكملت بالمسيح إلا شيئاً فشيئاً. وعرفوا ذلك من تعليم الروح القدس إيّاهم ومن الاختبار وتعاليم الرسل كما هي في رسائلهم.

يَكْسِرُونَ ٱلْخُبْزَ انظر شرح (ع ٤٢).

فِي ٱلْبُيُوتِ لأنه لم يكن في أورشليم بيت واحد يسع كل جماعة المسيح فيه والظاهر أنهم اجتمعوا فرقاَ في بيوت مختلفة لأجل التعليم والصلاة والترنم وكانوا يختمون الاجتماع بالأكل معاً كأهل بيت واحد ثم بتناول العشاء الرباني.

بِٱبْتِهَاجٍ من الجميع أغنياء وفقراء فالأغنياء فرحوا بالعطاء والفقراء بشكر المحسنين على إحسانهم. فديانة المسيح تهب لأتباعها من الابتهاج ما لا تهبه ديانة غيرها لتابعيها ونالت الكنيسة في أيامها الأولى ذلك مع أنها كانت محتقرة ومبغضة من الناس. وذلك على وفق ما أنبأ به المسيح (متّى ٥: ١٢ ويوحنا ١٦: ٢٢).

بَسَاطَةِ قَلْبٍ أي إخلاص لخلوّهم من الحسد والكبرياء وحب الذات ولقناعتهم وشكرهم. ولنا مما ذُكر أن الكنيسة المسيحية امتازت في أول أمرها بخمسة أمور:

  • الأول: المواظبة على سمع كلام الله.
  • الثاني: المحبة الأخوية.
  • الثالث: السخاء الحامل على إنكار الذات.
  • الرابع: الصلاة الجمهوريّة.
  • الخامس: تناول الطعام وعشاء الرب معاً.

٤٧ «مُسَبِّحِينَ ٱللّٰهَ، وَلَهُمْ نِعْمَةٌ لَدَى جَمِيعِ ٱلشَّعْبِ. وَكَانَ ٱلرَّبُّ كُلَّ يَوْمٍ يَضُمُّ إِلَى ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّذِينَ يَخْلُصُونَ».

لوقا ٢: ٥٢ وص ٤: ٣٣ ورومية ١٤: ١٨ ص ٥: ١٤ و١١: ٢٤

مُسَبِّحِينَ لوقا ٢٤: ٥٣.

وَلَهُمْ نِعْمَةٌ لوقا ٢: ٥٢ (انظر الشرح).

لَدَى جَمِيعِ ٱلشَّعْبِ أي أكثر اليهود ولا بد أن الصدوقيين ورؤساء الكهنة مستثنون من ذلك لأنهم هيّجوا الشعب بعد قليل على المسيحيين كما هيّجوه قبلاً على المسيح وكانت علة تلك النعمة عند الشعب طهارة سيرتهم ووفرة إحسانهم إلى الفقراء. ولا ريب في أن الله وهبها لهم وسيلة إلى نمو الكنيسة في أول نشوئها.

وَكَانَ ٱلرَّبُّ كُلَّ يَوْمٍ يَضُمُّ يجب الإقرار بأن نجاح الكنيسة من عمل الله لا من الوسائط البشرية مع لزومها إذ ليس هو مما في طاقة البشر. وهذا كقول الرسول «أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى، لٰكِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ يُنْمِي. إِذاً لَيْسَ ٱلْغَارِسُ شَيْئاً وَلاَ ٱلسَّاقِي، بَلِ ٱللّٰهُ ٱلَّذِي يُنْمِي» (١كورنثوس ٣: ٦ و٧ انظر أيضاً أعمال ٥: ١٤ و١١: ٣٤) وهذا تاريخ الكنيسة الأولى أياماً كثيرة.

ٱلْكَنِيسَةِ أصل معناها الجماعة المدعوة لله الموقوفة له ثم أُطلقت على كل أهل محفل ومن ثم أُطلقت على المحفل نفسه (أعمال ١٩: ٣٩ و٤١) في الأصل اليوناني (١كورنثوس ١١: ١٨). والمراد بها هنا جماعة المؤمنين بالمسيح رجالاً ونساء ممن اعتمدوا اعترافاً بإيمانهم. وكانوا يجتمعون في مكان واحد للعبادة من صلاة وسجود وتسبيح ولسمع تعليم الرسل. والأمر الجوهري الذي جعل الجماعة كنيسة هو الإيمان بالمسيح ولا دليل على أنه كان للكنيسة نظام معيّن فتنظمت على حسب اقتضاء الأحوال.

ٱلَّذِينَ يَخْلُصُونَ نُعتوا بذلك لأن غاية دعوة الله إيّاهم وتوبتهم وإيمانهم وانضمامهم إلى الكنيسة نوال الخلاص وهؤلاء ممن خلصوا من هذا الجيل الملتوي (ع ٤٠) ومن سلطان الخطيئة وعاقبتها.

وما صدق على الكنيسة في أول أمرها صدق عليها منذ ذلك العهد إلى هذه الساعة وسيصدق عليها إلى النهاية وهو أن يضم إليها كل يوم الذين دعاهم الله وتابوا وآمنوا بالمسيح واعترفوا باسمه على الأرض حتى لا يبقى أحدٌ لم ينل الخلاص. والوسائل الأولى لم تزل هي الوسائل الكافية المؤثرة اليوم وهي الصلاة والتعليم الإنجيلي وفعل الروح القدس.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى