سفر المزامير | 109 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلتَّاسِعُ
لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ
«١ يَا إِلٰهَ تَسْبِيحِي لاَ تَسْكُتْ، ٢ لأَنَّهُ قَدِ ٱنْفَتَحَ عَلَيَّ فَمُ ٱلشِّرِّيرِ وَفَمُ ٱلْغِشِّ. تَكَلَّمُوا مَعِي بِلِسَانِ كَذِبٍ، ٣ بِكَلاَمِ بُغْضٍ أَحَاطُوا بِي وَقَاتَلُونِي بِلاَ سَبَبٍ. ٤ بَدَلَ مَحَبَّتِي يُخَاصِمُونَنِي. أَمَّا أَنَا فَصَلاَةً. ٥ وَضَعُوا عَلَيَّ شَرّاً بَدَلَ خَيْرٍ، وَبُغْضاً بَدَلَ حُبِّي».
هذا المزمور شبيه جداً بالمزمور التاسع والستين من حيث نقمته على الأشرار المتكلمين بالكذب الذين لا يعبدون الله ولا يرعون حرمة إنسان بل يحولون الحق باطلاً والباطل حقاً ويقابلون الجميل بالنكران والبركة باللعنة والمعروف بالإساءة. أولئك هم الذين يضطهدون البريء ويلتذون بسفك الدماء ولا يجدون لشيء أية قيمة. فهذا المزمور صورة طبق الأصل لحالة مجتمع مسرف في البغضاء مقل في المحبة وهكذا يصفه عن اختبار شخصي أليم. وهو مزمور لداود كما هو عنوانه ينطبق على بعض حالاته وقت الاضهاد وحينما هجره أصحابه وخلانه بل هو مزمور نبوي لأنه يشير بطرف خفي إلى المسيح الذي من نسل داود سيحتمل الاضطهاد والعار وخيانة أهله وبني أمته وهكذا يرينا عظم الآلام التي سيحتملها المخلص من أجلنا ولكنه لا يرينا ناحية العهد الجديد من جهة المحبة والمسامحة ومع ذلك فالنبوة التي فيه تنطبق على يهوذا ابن الهلاك (راجع يوحنا ١٧: ١٢) بل إن هذا المزمور سيصور على الدوام مضطهدي ابن الله وأعداء كنيسته (راجع أعمال ١: ٢٠).
(١ – ٥) إله التسبيح أي الإله الذي يستحق التسبيح (راجع إرميا ١٧: ١٤ وقابله تثنية ١٠: ٣٢) ويتقدم حالاً بالشكوى من المتكلمين بالغش والكذب من المبغضين والقتلة بدون سبب سوى لذة سفك الدماء. هم ناكرون للفضل والجميل إذ لا داعي لفعل ما يفعلون مطلقاً إذ هم يقابلون المحبة بالخصومة لا سيما لشخص لا عمل له سوى التضرع لله والصلاة. لذلك فاعتذارهم صريح وجحودهم يؤكد سوء أخلاقهم ولا مبرر لذلك مطلقاً. لا سيما فقد مارسوا الشر والبغضاء نحو إنسان لم يقابلهم بسوى المحبة والحنان وهذا مما يزيد ذنبهم ومسؤوليتهم أضعافاً كثيرة.
«٦ فَأَقِمْ أَنْتَ عَلَيْهِ شِرِّيراً، وَلْيَقِفْ شَيْطَانٌ عَنْ يَمِينِهِ. ٧ إِذَا حُوكِمَ فَلْيَخْرُجْ مُذْنِباً، وَصَلاَتُهُ فَلْتَكُنْ خَطِيَّةً. ٨ لِتَكُنْ أَيَّامُهُ قَلِيلَةً وَوَظِيفَتُهُ لِيَأْخُذْهَا آخَرُ. ٩ لِيَكُنْ بَنُوهُ أَيْتَاماً وَٱمْرَأَتُهُ أَرْمَلَةً. ١٠ لِيَتِهْ بَنُوهُ تَيَهَاناً وَيَسْتَعْطُوا وَيَلْتَمِسُوا خَيْراً مِنْ خِرَبِهِمْ. ١١ لِيَصْطَدِ ٱلْمُرَابِي كُلَّ مَا لَهُ، وَلْيَنْهَبِ ٱلْغُرَبَاءُ تَعَبَهُ. ١٢ لاَ يَكُنْ لَهُ بَاسِطٌ رَحْمَةً، وَلاَ يَكُنْ مُتَرَئِّفٌ عَلَى يَتَامَاهُ».
(٦ – ١٠) هنا يلتفت إلى واحدٍ من هؤلاء الأعداء المبغضين وبغضب يمازجه الغيرة لله وللفضيلة يريد أن يصب عليهم جاماً من ويلات الله مقابل كل شرورهم. وقوله «اقم عليه» أي ضده لأجل القصاص والتعذيب (راجع إرميا ١٥: ٣ ولاويين ٢٦: ١٦). فهذا الذي اضطهد الأبرياء سيحتمل الآن من يضطهده وهو أقوى منه بل هو شيطان أخبر منه في طرق الرذائل والتعذيب والأذية. وحينئذ هذا القوي الجبار سيحاكمه ويذنبه بل إن أفضل ما يفعله سيكون في عينيه كلا شيء حتى الصلاة نفسها تصبح خطية بدلاً من أن تكون تسبيحاً لله. بل هو يدعو عليه بقصر العمر والتوقف عن العمل النافع المنتج فيكون بدون وظيفة يخدم بها الناس. بل يزيد الدعاء ضده بأن يتمنى له الموت ولأولاده اليتم من بعده ولإمرأته الترمل والمذلة وحيئنذ يذهب هؤلاء البنون ضاربين في الأرض على غير هدف لكي يستعطوا من الناس ويفتشوا في خربهم لعلهم يجدون ما يسدون به الرمق ولا يهلكون جوعاً. وإذا هلكوا جميعاً فلا يهمه أمرهم شيئاً.
(١١ و١٢) ويتحول الآن لكي ينتزع من هذا الإنسان كل خيراته فيتمنى له أن يأخذ المرابي أمواله بالفائدة التي يستغلها منه سنة بعد سنة إذ لا يستطيع أن يفي ديونه فيضطر للتأجيل بالدفع كما اضطر أن يقترض من قبل وهكذا تكون النتيجة أن كل أتعابه تذهب للغريب بدلاً من أن يستفيد هو وعائلته منها.
وفي حالته السيئة هذه يتمنى له أن لا يرحمه أحد لأنه لم يرحم أحداً من قبل. ولا يكون له أي مترأف عطوف عليه لأنه لم يظهر أي عطف على أحد بل تحوّل للعداوة بدلاً من الصداقة وهكذا يجني الآن ما جنته يداه وما ظالم إلا سيبلى بأظلم.
«١٣ لِتَنْقَرِضْ ذُرِّيَّتُهُ. فِي ٱلْجِيلِ ٱلْقَادِمِ لِيُمْحَ ٱسْمُهُمْ. ١٤ لِيُذْكَرْ إِثْمُ آبَائِهِ لَدَى ٱلرَّبِّ، وَلاَ تُمْحَ خَطِيَّةُ أُمِّهِ. ١٥ لِتَكُنْ أَمَامَ ٱلرَّبِّ دَائِماً وَلْيَقْرِضْ مِنَ ٱلأَرْضِ ذِكْرَهُمْ. ١٦ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنْ يَصْنَعَ رَحْمَةً، بَلْ طَرَدَ إِنْسَاناً مِسْكِيناً وَفَقِيراً وَٱلْمُنْسَحِقَ ٱلْقَلْبِ لِيُمِيتَهُ. ١٧ وَأَحَبَّ ٱللَّعْنَةَ فَأَتَتْهُ، وَلَمْ يُسَرَّ بِٱلْبَرَكَةِ فَتَبَاعَدَتْ عَنْهُ. ١٨ وَلَبِسَ ٱللَّعْنَةَ مِثْلَ ثَوْبِهِ فَدَخَلَتْ كَمِيَاهٍ فِي حَشَاهُ وَكَزَيْتٍ فِي عِظَامِهِ».
(١٣ – ١٥) بل يتمنى أن لا يبقى أحد من ذراريه حتى لا يبقى اسمه بل ينقرض إلى الأبد. هو ملعون من ناحيتين من ناحية الأبناء والذراري كما أنه ملعون من ناحية الآباء أيضاً وهكذا يذكر الله لهم ذنوبهم ولا يسامحهم عن معاصيهم بل تبقى عليهم للدينونة جيلاً بعد جيل. وهذا هو غاية ما يدعو عليهم إذ هذه الذنوب تبقى أمام الرب ليحاسبهم عليها ويدينهم بموجبها وهكذا ليس لهم أي ذكر في الأرض فقد مروا عليها منسيين ملعونين.
(١٦ – ١٨) وهنا يذكر لماذا استحق هذه اللعنات كلها فيذكر أولاً لأنه لم يكن رحوماً بل عامل الناس بالقسوة والظلم وحينما كان واجبه أن يساعد إذا به يطرد مسكيناً من باب داره ويحاول أن يميت المنسحق الروح غير مبال بأحد كأن دأبه سفك الدماء وامتهان حقوق الناس الآخرين فلا أحد عزيز في عينيه ولا شيء ذو قيمة طالما لا يعنيه مباشرة. وثانياً هو إنسان أناني منكمش على نفسه فكانت له اللعنة بدل البركة. بل يصور لنا تلبسه باللعنة في مراحلها الثلاث فقد لبسها أولاً كثوب بل قد شربها وتغلغلت إلى أحشائه فلم يعد حسب الظاهر فقط بل ملعوناً في باطنه أيضاً بل إن هذه قد وصلت إلى عظامه ذاتها وأصبحت جزءاً من كيانه (راجع أيوب ١٥: ١٦ و٣٤: ٧). ولكنه هو المسؤول وحده عن كل ذلك فقد اختار طريقاً سلكها وتلبس برذيلة هي منه وفيه وعادى الناس وظلمهم فلا عجب أن يصيبه مما أصباهم به أولاً لأن البادئ بالشر أظلم فليكن له جزاء الظالمين.
«١٩ لِتَكُنْ لَهُ كَثَوْبٍ يَتَعَطَّفُ بِهِ، وَكَمِنْطَقَةٍ يَتَنَطَّقُ بِهَا دَائِماً. ٢٠ هٰذِهِ أُجْرَةُ مُبْغِضِيَّ مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ، وَأُجْرَةُ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ شَرّاً عَلَى نَفْسِي. ٢١ أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ ٱلسَّيِّدُ فَٱصْنَعْ مَعِي مِنْ أَجْلِ ٱسْمِكَ. لأَنَّ رَحْمَتَكَ طَيِّبَةٌ نَجِّنِي. ٢٢ فَإِنِّي فَقِيرٌ وَمِسْكِينٌ أَنَا، وَقَلْبِي مَجْرُوحٌ فِي دَاخِلِي. ٢٣ كَظِلٍّ عِنْدَ مَيْلِهِ ذَهَبْتُ. ٱنْتَفَضْتُ كَجَرَادَةٍ. ٢٤ رُكْبَتَايَ ٱرْتَعَشَتَا مِنَ ٱلصَّوْمِ، وَلَحْمِي هُزِلَ عَنْ سِمَنٍ. ٢٥ وَأَنَا صِرْتُ عَاراً عِنْدَهُمْ. يَنْظُرُونَ إِلَيَّ وَيُنْغِضُونَ رُؤُوسَهُمْ».
(١٩ – ٢٠) وفي العدد التاسع عشر يراجع الفكرة نفسها بأنه تكون اللعنة لابسة له ويتعطف بها فلا تفارقه ولا يفارقها أبداً ولا تتحول عنه مهما سعى. بل لتكن له كمنطقة تشد على وسطه ولا تتركه ما دام نهار. وحينما ينتقل للعدد العشرين ينهي هذا الموضوع بما يستنتجه من أن هذا الويل هو ما يصيب مبغضي الرب الذين يستحقون مثل هذه الأجرة. فمن العمل تكون ثمرته أيضاً ولا حق لهم بالتذمر أو الاعتراض.
(٢١ – ٢٥) هنا يلتفت إلى الرب ليس للعنة هذه المرة لأنه يلمس جزاء على تقواه ولكنه يفعل ذلك بتواضع حقيقي لأنه يلتمسه باسم إلهه وليس باسمه ولأن هذا الإله حنان رحوم وهو لا يستحق. وهذه الرحمة طيبة لأنها كريمة وفي موضعها فإن صاحبها يقدرها قدرها. وهو يتناوله بالضعة والشعور أنه فقير مسكين وأن قلبه مجروح في داخله من جراء الآلام والمتاعب التي تحملها ولا سيما بسبب ذلك الإنسان الظالم الذي أضر به وآذاه إلى أبعد الدرجات. يصف نفسه بأنه كالخيال من الضعف وفي حقارته كالجرادة التي تداس بالقدم. هوذا ركبتاه ترتعشان وهو ضعيف هزيل بسبب طول الصيام وهو قد فعل ذلك عن تقوى حقيقية وخلوص قلبي لله. حتى أنه قد حُسب عاراً بين الأشرار ينظرون إليه شزراً ويهربون منه احتقاراً وازدراء وإذا نظروا إليه هزوا رؤوسهم دليل التحقير والامتهان. ولكن هذه المظاهر كانت سبباً لانتشاله من حالته السيئة بينما كبرياء الخاطئ كانت سبب هلاكه.
«٢٦ أَعِنِّي يَا رَبُّ إِلٰهِي. خَلِّصْنِي حَسَبَ رَحْمَتِكَ. ٢٧ وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ هٰذِهِ هِيَ يَدُكَ. أَنْتَ يَا رَبُّ فَعَلْتَ هٰذَا. ٢٨ أَمَّا هُمْ فَيَلْعَنُونَ، وَأَمَّا أَنْتَ فَتُبَارِكُ. قَامُوا وَخَزُوا، أَمَّا عَبْدُكَ فَيَفْرَحُ. ٢٩ لِيَلْبِسْ خُصَمَائِي خَجَلاً وَلْيَتَعَطَّفُوا بِخِزْيِهِمْ كَٱلرِّدَاءِ. ٣٠ أَحْمَدُ ٱلرَّبَّ جِدّاً بِفَمِي، وَفِي وَسَطِ كَثِيرِينَ أُسَبِّحُهُ. ٣١ لأَنَّهُ يَقُومُ عَنْ يَمِينِ ٱلْمِسْكِينِ، لِيُخَلِّصَهُ مِنَ ٱلْقَاضِينَ عَلَى نَفْسِهِ».
(٢٦ – ٣١) وفي هذه الأعداد صرخة الاستنجاد وطلب المعونة هو يطلب الخلاص مما هو فيه. نجد أن هذا المزمور ينتهي على شكل قريب جداً من (المزمورين ٩٩ و٢٢). ونجد هنا فرحاً وسروراً في نهاية حياة المؤمن بالعكس عن نهاية الأشرار البعيدين عن الله. يهتم المرنم أن يرينا أن هذه هي يد الله القديرة وإن هذه الأمور مسيّرة بمشيئته السرمدية. سيرى الأشرار أن الله يتداخل في شؤون عبده لإنصافه فلا يترك الحبل على الغارب بل سيكون وقت الجزاء وحينئذ يقف كل مذنب عند حده فلا يتعداه. أولئك الذين لعنوه من قبل ولكن الله قد باركه. أولئك الذين قاموا من قبل وأما الآن فقد خزوا وهوذا عبده يفرح وينتصر متهللاً. وفي العدد ٢٩ يعود فيصور لنا هؤلاء الخصماء الذين يلبسون الخجل كالرداء ويتعطفون بالعار والشنار. لقد ساء فألهم ورجعوا عن قصدهم السيء مندحرين (راجع مزمور ٢٢: ٢٥ و٦٩: ٣٤) وهكذا فإنه يحمد الرب بفمه مهللاً لأن قلبه مبتهج سعيد وحيئنذ فإنه يسبح الرب وسط الجماعة العظيمة ولا يخجل بذلك بل يفتخر ولا يتراجع عن إيمانه بل يتشدد ويتقدم. ذلك التسبيح الذي يتطلب رخامة الصوت وعذوبة الإيمان ووطيد الثقة برحمة الله التي لا تترك المؤمنين. والكنيسة المسيحية تستعمل هذه المزامير الثلاثة أي (٢٢ و٦٩ و١٠٨) لأجل إنشادها في الجمعة الحزينة لأن داود المرنم يصور آلام المسيح من أجل خلاصنا أكمل تصوير وأعظمه. هو إلهنا الحي القدير الذي لا يترك المسكين قط بل يقوم عن يمينه لينجيه بل يقف في وقف الذين يقضون عليه بالهلاك فيمنحه كمال النجاة والخلاص (راجع ١تيموثاوس ٣: ١٦).
السابق |
التالي |