سفر المزامير

سفر المزامير | 107 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلسَّابِعُ

«١ اِحْمَدُوا ٱلرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢ لِيَقُلْ مَفْدِيُّو ٱلرَّبِّ ٱلَّذِينَ فَدَاهُمْ مِنْ يَدِ ٱلْعَدُوِّ، ٣ وَمِنَ ٱلْبُلْدَانِ جَمَعَهُمْ، مِنَ ٱلْمَشْرِقِ وَمِنَ ٱلْمَغْرِبِ مِنَ ٱلشِّمَالِ وَمِنَ ٱلْبَحْرِ. ٤ تَاهُوا فِي ٱلْبَرِّيَّةِ فِي قَفْرٍ بِلاَ طَرِيقٍ. لَمْ يَجِدُوا مَدِينَةَ سَكَنٍ».

هو مزمور شكر لله لأجل تنجيته لشعبه من شرور وويلات كان بالإمكان أن تكون أعظم وأشد هولاً ولكن الله برحمته التي لا تستقصى وبإحسانه الذي لا يحد قد أوجد خلاصاً وفداء. وهو المزمور الأول من الكتاب الخامس من سفر المزامير وهو القسم الأخير من تلك الترانيم الروحية المملوءة بالاختبار العميق لأعمال الله ومراحمه نحو بني البشر. وقد ذهب بعضهم إلى حسبان المزامير (١٠٤ – ١٠٧) كأنها رباع من المزامير قائم بنفسه. فإن المزمور ١٠٤ يعتمد في كلامه على حوادث الخليقة. والمزمور ١٠٥ يعتمد على حالة الشعب الإسرائيلي الإعدادية وحياته البدائية. والمزمور ١٠٦ يتناول تاريخ الشعب في أرض مصر وخروجه منها وتيهانه في البرية وأما هذا المزمور ١٠٧ فيتناول ما بعد الرجوع من السبي ومما لا شك فيه أن المزامير الثلاثة ١٠٥ – ١٠٧ تظهر تشابهاً كثيراً فيما بينها حتى حسبها بعضهم أنها لمؤلف واحد وإن تكن مجهولة التأليف. وهو مزمور مملوء بالحمد والتسبيح لاسم ذاك الإله المحب الذي وإن سمح في الماضي بتلك الويلات والضربات فما كان القصد منها إلا إنقاذ الشعب وإرجاعه إلى سابق مجده وعهوده معه.

(١ – ٣) يوجه المرنم كلامه لأولئك المسبيين العائدين ويستعمل هذا التعبير «مفديو الرب». كما استعمله إشعياء وكما هو وارد بعد عصر كتابة سفر التثنية مما يدل على أن المرنم مطلع على ما ورد هناك (انظر إشعياء ٦٢: ١٢ و٦٣: ٤ و ٣٥: ٩ وما بعده). هؤلاء المفديون الذين جمعهم الرب من مختلف الأمكنة عليهم أن يقدموا الحمد والشكر للرب لأجل هذا الخلاص الذي منحه وقد دخلت هذه العبارة احمدوا الرب لأنه صالح… بشكل طقسي في العبادة (راجع إرميا ٣٣: ١١).

(٤) يبدأ في هذا العدد بأن يصف بعض المشقات والمتاعب التي صادفها أولئك المسبيون فيذكر أولاً كل شيء التيه في القفر حيث لم يكن مدينة سكن وكانت النتيجة أن كثيرين هلكوا ظماً وجوعاً.

«٥ جِيَاعٌ عِطَاشٌ أَيْضاً أَعْيَتْ أَنْفُسُهُمْ فِيهِمْ. ٦ فَصَرَخُوا إِلَى ٱلرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ فَأَنْقَذَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ، ٧ وَهَدَاهُمْ طَرِيقاً مُسْتَقِيماً لِيَذْهَبُوا إِلَى مَدِينَةِ سَكَنٍ. ٨ فَلْيَحْمَدُوا ٱلرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ. ٩ لأَنَّهُ أَشْبَعَ نَفْساً مُشْتَهِيَةً وَمَلأَ نَفْساً جَائِعَةً خُبْزاً، ١٠ ٱلْجُلُوسَ فِي ٱلظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ ٱلْمَوْتِ، مُوثَقِينَ بِٱلذُّلِّ وَٱلْحَدِيدِ. ١١ لأَنَّهُمْ عَصَوْا كَلاَمَ ٱللّٰهِ وَأَهَانُوا مَشُورَةَ ٱلْعَلِيِّ».

(٥ – ٩) والحق يقال إن خطر العطش في التيه هو أعظم جميع المخاطر على الإطلاق فهو يفوق خطر الجوع أضعافاً كثيرة بالنسبة لانقطاع المياه في البراري. لقد كانوا على شفير الهاوية وفي أشد الساعات ظلاماً ولكنهم عندئذ صرخوا إلى الرب مستنجدين فأنجدهم واستعانوا به مؤمنين فأعانهم. وكان لهم عندئذ نوراً يشرق عليهم في الظلمات وهكذا استقام سبيلهم واهتدوا ليتمتعوا ببركة العمران بعد ذل التيهان في البراري. لقد كانوا في خطر الاضمحلال بتاتاً ولكنهم أنقذوا إنقاذاً تاماً لذلك عليهم أن يحمدوا الرب ويشكروه فقد أظهر عجيبة في إنقاذهم بعد ان كانوا في خطر محقق أكيد. هذا الإله الرحيم الذي يشبع الإنسان الجائع بل يمنحه سؤل قلبه ويحقق ما يشتهيه من الخير. ونستطيع أن نتصور عظم الحاجة التي كانوا فيها فقد اشتهوا كل شيء فإذا كان الماء مفقوداً فماذا يوجد يا ترى؟ كانت أشباح المخاوف مائلة أمامهم تريهم الموت أشكالاً وألواناً ولكن الله قد ملأ نفوسهم بالطمأنينة فلا خوف عليهم.

(١٠ – ١١) وفي بلاد غربتهم كان البعض منهم مكبلين بالأصفاد والحديد والسبب في ذلك واضح أنهم عصو أمر الله ولم يتمموا شريعته في حياتهم فنالهم هذا الأذى العظيم. مرة أخرى نلاحظ قوله «الظلمة وظلال الموت» وهي من تعابير إشعياء (راجع إشعياء ٩: ١ وأيضاً إشعياء ٤٢: ٧) وقوله «موثقين بالذل والحديد» مأخوذ من (أيوب ٣٦: ٨). أي هم موثقون بالذل قبل أن يوثقوا بالحديد والسبب هو عصيانهم وعدم طاعتهم لما يأمر به الله العلي. هذا هو الشيء الذي جعلهم في حالتهم السيئة هذه.

«١٢ فَأَذَلَّ قُلُوبَهُمْ بِتَعَبٍ. عَثَرُوا وَلاَ مَعِينَ. ١٣ ثُمَّ صَرَخُوا إِلَى ٱلرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ فَخَلَّصَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ. ١٤ أَخْرَجَهُمْ مِنَ ٱلظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ ٱلْمَوْتِ وَقَطَّعَ قُيُودَهُمْ. ١٥ فَلْيَحْمَدُوا ٱلرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ. ١٦ لأَنَّهُ كَسَّرَ مَصَارِيعَ نُحَاسٍ وَقَطَّعَ عَوَارِضَ حَدِيدٍ. ١٧ وَٱلْجُهَّالُ مِنْ طَرِيقِ مَعْصِيَتِهِمْ وَمِنْ آثَامِهِمْ يُذَلُّونَ. ١٨ كَرِهَتْ أَنْفُسُهُمْ كُلَّ طَعَامٍ، وَٱقْتَرَبُوا إِلَى أَبْوَابِ ٱلْمَوْتِ».

(١٢ – ١٦) يأتي الآن إلى ضيقة أخرى فهم قد تعبوا في الطريق حتى سقطوا ولا من يسندهم. وكم يحدث أن بعض المسافرين يسقطون في الطريق حتى لا يستطيع رفاقهم أن يساعدوهم لانهماك كل واحد بنفسه وهكذا يتركون على قارعة الطريق ليموتوا عطشاً وجوعاً وإذا كانوا في أماكن باردة يهلكون من قرّ الليل كما قد يهلكون من الوحوش الضارية التي تجدهم في طريقها غنيمة لا يقوون على الحركة ولا يستطيعون أي دفاع عن أنفسهم. ولكن هؤلاء الذين اتخذوا غنيمة لا يقوون على الحركة ولا يستطيعون أي دفاع عن أنفسهم. ولكن هؤلاء الذين اتخذوا الرب رفيقهم فقد صرخوا إليه في حالتهم هذه فأنقذهم ولم يتركهم في شدائدهم بل أسرع لمعونتهم. حتى ولو كانوا في الظلمة وظلال الموت أو كانوا مكبلين بالسلاسل والقيود فإن الله يفكهم من كل أسر وعذاب ويرسلهم أحراراً مكرمين مرة أخرى. وعليه يعيد المرنم القرار الذي ذكره من قبل فيقول «فليحمدوا الرب على رحمته». إذ أن هذه البركات جميعها تستحق أن يذكرها الإنسان بالشكران ولا ينسى المنعم الذي أعطاها. وهؤلاء المسجونون وراء مصاريع النحاس وعوارض الحديد لم يعودوا أسرى فيما بعد لذلك فليباركوا اسم الرب وليذيعوا حمده وتمجيده على الدوام.

(١٧ – ١٨) ويلتفت المرنم الآن لكي يصف حالة بعض المرضى الذين لا يستطيعون أن يأكلوا ويظهر أنهم قد اقتربوا إلى أبواب الموت ومتى فقد الإنسان القابلية فهو يقترب للموت والاضمحلال خطوة بعد أخرى ولا أمل للنجاة. وينسب المرنم هذه الحالة المؤسفة لأن أصحابها جهال يسيرون في طريق المعاصي لذلك يقاصهم الله بهذه الضربة وهذا الذل فلا يستطيعون أن يأكلوا مع أن الطعام متوفر لديهم.

«١٩ فَصَرَخُوا إِلَى ٱلرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ فَخَلَّصَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ. ٢٠ أَرْسَلَ كَلِمَتَهُ فَشَفَاهُمْ وَنَجَّاهُمْ مِنْ تَهْلُكَاتِهِمْ. ٢١ فَلْيَحْمَدُوا ٱلرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ، ٢٢ وَلْيَذْبَحُوا لَهُ ذَبَائِحَ ٱلْحَمْدِ، وَلْيَعُدُّوا أَعْمَالَهُ بِتَرَنُّمٍ. ٢٣ اَلنَّازِلُونَ إِلَى ٱلْبَحْرِ فِي ٱلسُّفُنِ، ٱلْعَامِلُونَ عَمَلاً فِي ٱلْمِيَاهِ ٱلْكَثِيرَةِ، ٢٤ هُمْ رَأَوْا أَعْمَالَ ٱلرَّبِّ وَعَجَائِبَهُ فِي ٱلْعُمْقِ. ٢٥ أَمَرَ فَأَهَاجَ رِيحاً عَاصِفَةً فَرَفَعَتْ أَمْوَاجَهُ».

(١٩ – ٢٢) ولكن الله في حالة الضيق لا يترك خائفيه بل يأتي للنجدة والإنقاذ. الإله الذي يتداخل في شؤون البشر ولا يترك الأمور تلقى على عواهنها بل أن عنايته الأبوية الحنونة هي التي لا ترضى أن يبقى أتقياؤه في ضيقاتهم وآلامهم ومتاعبهم. لذلك نجده كل شيء يشفي أمراضهم وينقذهم من التهلكات فبعد أن يكون الإنسان في الضيق الشديد يكاد يعدم الرجاء والعون ويدلهم كل حوله إذا به يتأكد أن الطبيب السماوي لا يتخلى بل يسرع بالشفاء وينجي. ومرة أخرى يكرر هذه العبارة «فليحمدوا الرب على رحمته». على الناس أن يحمدوا الله بتقديم ذبائح خاصة فعلينا أن نبذل كل شيء في سبيله لأن الدين الذي لا يكلف شيئاً قلما يفيد شيئاً. وعلينا أن ذاك عربون شكر والترنم على شفاهنا فرحين مبتهجين.

(٢٣ – ٢٥) ويلتفت الآن إلى بعض المتاعب والشدائد الأخرى التي يعانيها البشر. فكما للبر أهواله كذلك للبحر إن لم يكن أهواله أشد وأعظم بما لا يقاس. وقوله «العاملون عملاً في المياه» أي الذين دأبهم العمل في البحار كالبحارة مثلاً فهم مع اعتيادهم ركوب متن البحار لا شك تأتيهم ساعات الخطر والشدة ولكن هؤلاء أيضاً يرون أعمال الرب وعجائبه حتى في وسط هذه المياه وفوق هذه اللجج فهو إله موجود في كل مكان يمد يده وينتشل الغريق كما يمد يده ويخلص الهالك من الظمأ والجوع في البراري. ولكي يبرهن هذا الإله عن قدرته فهو الذي أهاج البحر بكلمة فيه وإذا بالعاصفة الشديدة تهتاج وتزيد الأمواج وتعلو فيجد البحارة أنفسهم في تهلكة أكيدة لولا لطف الله الذي ينجيهم ويعينهم.

«٢٦ يَصْعَدُونَ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ، يَهْبِطُونَ إِلَى ٱلأَعْمَاقِ. ذَابَتْ أَنْفُسُهُمْ بِٱلشَّقَاءِ. ٢٧ يَتَمَايَلُونَ وَيَتَرَنَّحُونَ مِثْلَ ٱلسَّكْرَانِ، وَكُلُّ حِكْمَتِهِمِ ٱبْتُلِعَتْ. ٢٨ فَيَصْرُخُونَ إِلَى ٱلرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ، وَمِنْ شَدَائِدِهِمْ يُخَلِّصُهُمْ. ٢٩ يُهَدِّئُ ٱلْعَاصِفَةَ فَتَسْكُنُ، وَتَسْكُتُ أَمْوَاجُهَا. ٣٠ فَيَفْرَحُونَ لأَنَّهُمْ هَدَأُوا، فَيَهْدِيهِمْ إِلَى ٱلْمَرْفَإِ ٱلَّذِي يُرِيدُونَهُ. ٣١ فَلْيَحْمَدُوا ٱلرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ. ٣٢ وَلْيَرْفَعُوهُ فِي مَجْمَعِ ٱلشَّعْبِ، وَلْيُسَبِّحُوهُ فِي مَجْلِسِ ٱلْمَشَايِخِ».

(٢٦ – ٣٢) يصف لنا بشكل رائع حالة تلك السفينة التي تتقاذفها الأمواج فتعلو بها علواً عظيماً كإنما تصعد إلى السماء ثم تهبط حتى إلى الأعماق وبين هذا العلو وذاك الانحدار هلعت نفوسهم من الخوف وذابت من الشقاء. رأوا الموت ماثلاً أمام أعينهم وهكذا أصبحوا في حالتهم هذه مثل السكارى يتمايلون ويترنحون فلا يستطيعون تحريك المجاذيف كما لا يستطيعون أن ينشروا الشراع فقد غلبهم النوء وسطت عليهم الأمواج ولم يروا أي حكمة يستعملون ولا أي سبيل يسلكون. لقد تحققوا الآن الخطر المداهم ومثل الموت بصورته القبيحة أمام أعينهم لا يبرح عنهم دقيقة واحدة. ولكنهم في ساعة الشدة هذه إذا بهم يصرخون إلى الرب وإذا العجيبة تتم فينقذهم الرب ويخلصهم. وحينئذ تهدأ العاصفة وتسكت الأمواج بل قد تتحول الرياح إلى هواء خفيف لطيف ينعشهم ويشددهم على النجاة. وهكذا يجدون طريقهم واضحاً إلى ميناء أمين يقصدونه ولا يضيعون عنه بعد ذلك. هو المكان الذي قصدوه سوف يصلون إليه أخيراً. وهكذا يكرر المرنم القرار ذاته الذي كرره من قبل «فليحمدوا الرب على رحمته» بل عليهم أن يذيعوا هذا الحمد أمام الناس جميعاً. لا فرق أكان في المجتمع حيث يحضر كل أنواع البشر على مختلف طبقاتهم وأفهامهم أم في غيره بل عليهم أن يسبحوه في محضر المشايخ أي أكابر الناس الفاهمين الأمور المملوئين بالحنكة والمعرفة والاختبار. هذا هو الإله المنعم الجواد الذي يستحق أن يحمد على كل إحساناته بعد الاختبارات المريرة التي اختبرها الشعب العائد من السبي. فقد قاسى أهوالاً ولكن الله قد أعانه ليتغلب عليها جميعها فليحمده إذن كل من اختبر هذه العظائم شيوخاً وجهالاً.

«٣٣ يَجْعَلُ ٱلأَنْهَارَ قِفَاراً، وَمَجَارِيَ ٱلْمِيَاهِ مَعْطَشَةً، ٣٤ وَٱلأَرْضَ ٱلْمُثْمِرَةَ سَبِخَةً مِنْ شَرِّ ٱلسَّاكِنِينَ فِيهَا. ٣٥ يَجْعَلُ ٱلْقَفْرَ غَدِيرَ مِيَاهٍ، وَأَرْضاً يَبَساً يَنَابِيعَ مِيَاهٍ. ٣٦ وَيُسْكِنُ هُنَاكَ ٱلْجِيَاعَ فَيُهَيِّئُونَ مَدِينَةَ سَكَنٍ. ٣٧ وَيَزْرَعُونَ حُقُولاً وَيَغْرِسُونَ كُرُوماً فَتَصْنَعُ ثَمَرَ غَلَّةٍ. ٣٨ وَيُبَارِكُهُمْ فَيَكْثُرُونَ جِدّاً، وَلاَ يُقَلِّلُ بَهَائِمَهُمْ. ٣٩ ثُمَّ يَقِلُّونَ وَيَنْحَنُونَ مِنْ ضَغْطِ ٱلشَّرِّ وَٱلْحُزْنِ».

(٣٣ – ٣٨) يعود مرة أخرى لذكر الشدائد في البراري وحالاً نلاحظ الشبه الموجود مع إشعياء (راجع إشعياء ٥٠: ٢ و٣٥: ٧ وأيضاً تثنية ٨: ١٥ وإشعياء ٦١: ٣). تلك الأرض القاحلة الجرداء التي لم يكن يرى فيها سوى آثار الموت تصبح ملأى بمصدر الخير والحياة فيها أنهار ومجاري مياه. وبالتالي فتلك الأرض تصبح سبباً للخصب والغنى والبحبوحة. كما أن الله لكي يظهر قدرته يعكس الأمر فيجعل من الأرض المثمرة أرضاً تنز بالمياه والملح غير عامرة ولا مأهولة قد يعشش فيها البرغش بالنسبة لكثرة المستنقعات. ولكن الله يعود فيقول أنه يجعل القفر مملوءاً بالمياه تنبع فيه وتحييه فلا يكون فيه يبس وجفاف فيما بعد. وحينئذ فأولئك الجياع يشبعون ويعمرون الأرض التي يسكنونها وتتحول الأراضي إلى حقول مزروعة وإلى كروم تعطي غلة وخيرات كثيرة فيأكل كل إنسان ويشبع ناعماً سعيداً. وهكذا ينالون بركة الرب ويتزايد عددهم ويكثر مواشيهم وأغنامهم على نسبة كثرة خيراتهم (راجع ٢ملوك ٤: ٣).

(٣٩) ولكن هذه الحالة الخيرة السعيدة لا تدوم لهم بل تصيبهم القلة والعوز فيذبلون من الهموم وينحنون من الضيقات المتكررة. إذن فحياتهم ليست في يسرٍ دائم كما أنها ليست في عسرٍ دائم بل حالة الانتقال والتغير. وجودة لكي تظهر قدرة الله فيهم على أعظم وأكمل وجه. فلو كانوا في فقر دائم أو غنى دائم لما كان لهم ذلك الاختبار المستمر الذي ينير سبلهم ويرجعهم إلى الله.

«٤٠ يَسْكُبُ هَوَاناً عَلَى رُؤَسَاءَ وَيُضِلُّهُمْ فِي تِيهٍ بِلاَ طَرِيقٍ، ٤١ وَيُعَلِّي ٱلْمِسْكِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ وَيَجْعَلُ ٱلْقَبَائِلَ مِثْلَ قُطْعَانِ ٱلْغَنَمِ. ٤٢ يَرَى ذٰلِكَ ٱلْمُسْتَقِيمُونَ فَيَفْرَحُونَ، وَكُلُّ إِثْمٍ يَسُدُّ فَاهُ. ٤٣ مَنْ كَانَ حَكِيماً يَحْفَظُ هٰذَا وَيَتَعَقَّلُ مَرَاحِمَ ٱلرَّبِّ».

(٤٠ – ٤٣) نجد العدد ٤٠ مأخوذاً من (أيوب ١٢: ٢١ و٢٤). أما هوان الرؤساء فمعناه هوان كل إنسان لأنه إذا وصلت مياه الطوفان إلى أعالي الأشجار فمعنى ذلك أيضاً أنها وصلت إلى الجذع والأغصان. وحيئنذ فإن أولئك الذين شأنهم الرفعة يصبحون في هوان وضعة وأولئك الذين يطلب منهم أن يقودوا في الطريق المستقيم إذا بهم هم أنفسهم في ضلال مبين. ولكن الله يرفع المسكين ويشدده ويزيد عدد القبائل كما يزيد قطعان الغنم على التلال وهذا دليل الرفاهية والخير. ومرة أخرى يقتبس من أيوب (راجع أيوب ٢١: ١١ وأيضاً ٢٢: ١٩ و١٦).

وهكذا فإن المستقيمين هم الذين ينالهم هذا الخير فلا يكون إثم فيما بعد بل يبتعد عنهم ويهرب ويسد فاه عن أي كلام المعصية والأذى (راجع هوشع ١٤: ١٠ و٩). والحكيم هو ذاك الذي ينتبه لهذه المراحم ويأخذ منها عبراً ودروساً لحياته. هو ذاك الذي يفهم ويتذكر وحينئذ فجميع ما مر عليه يزيده إيماناً بالله وثقة برحمته.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى