سفر المزامير | 106 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر المزامير
للقس . وليم مارش
اَلْمَزْمُورُ ٱلْمِئَةُ وَٱلسَّادِسُ
«١ هَلِّلُويَا. اِحْمَدُوا ٱلرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ. ٢ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِجَبَرُوتِ ٱلرَّبِّ؟ مَنْ يُخْبِرُ بِكُلِّ تَسَابِيحِهِ؟ ٣ طُوبَى لِلْحَافِظِينَ ٱلْحَقَّ وَلِلصَّانِعِ ٱلْبِرَّ فِي كُلِّ حِينٍ. ٤ ٱذْكُرْنِي يَا رَبُّ بِرِضَا شَعْبِكَ. تَعَهَّدْنِي بِخَلاَصِكَ».
يذكر كاتب سفر أخبار الأيام الأول في الأصحاح ١٦: ٨ وما بعده أقساماً من هذا المزمور بل نجده في (الأعداد ٣٤ – ٣٦) يضع العددين الأول والسابع والأربعين من هذا المزمور وأيضاً البركة التي هي ختام هذا المزمور فيختم بها القسم الرابع من المزامير. ونلاحظ أيضاً أن هذا المزمور ١٠٦ مثل مزمور الحمد ١٠٥ وكذلك مزمور آساف ٧٨ كل منها يعطي شيئاً مختصراً عن تاريخ شعب الله إسرائيل. وإن يكن كل واحد مختلفاً في سرده بعض الاختلاف عن الآخر. إنه مزمور اعتراف وطلب التوبة والرجوع إلى الله وكان يقدم بشكل طقسي كما عند تقديم باكورات الأثمار والغلال (راجع تثنية ٢٦) ولدى تدشين هيكل سليمان (راجع ١ملوك ٨).
(١ – ٤) يبدأ المزمور بالتسبحة المعهودة التي استعملت أول مرة في العصر المكابي بشكلها الحالي مع أنها استعملت على ما يظهر في أيام إرميا (راجع إرميا ٣٣: ١١) إن الله صالح ليس فقط بالنسبة لطبيعته في العلاقات البشرية. ورحمته دائمة إلى الأبد. لذلك فحمد اسمه لا يمكن أن يستوفي بالفم واللسان مهما ذكرنا ذلك وأذعناه. هذا الإله الذي يخضع لمشيئته كل الكائنات وهكذا فمن يا ترى يقدر أن يفيه حقه تعالى بالتسبيح. ولكنه يطوب الذين يحفظون الحق ويصنعون البر. إذن هؤلاء هم الذين يذيعون حمد الرب ويقبلهم كأخصاء له ويرضى عنهم. والمرنم يطلب أن ينضم إلى الشعب إجمالاً فيكون خلاصه في جملة من يخلصون. فلا يوجد شعور عنده بالمسؤولية الفردية بل يعتقد يقيناً أن الشعب كله ينال القصاص كما أنه ينال الخلاص إذا عرف أن يتمم وصايا إلهه ويمشي بموجب تعاليمه.
«٥ لأَرَى خَيْرَ مُخْتَارِيكَ. لأَفْرَحَ بِفَرَحِ أُمَّتِكَ. لأَفْتَخِرَ مَعَ مِيرَاثِكَ. ٦ أَخْطَأْنَا مَعَ آبَائِنَا. أَسَأْنَا وَأَذْنَبْنَا. ٧ آبَاؤُنَا فِي مِصْرَ لَمْ يَفْهَمُوا عَجَائِبَكَ. لَمْ يَذْكُرُوا كَثْرَةَ مَرَاحِمِكَ، فَتَمَرَّدُوا عِنْدَ ٱلْبَحْرِ، عِنْدَ بَحْرِ سُوفٍ. ٨ فَخَلَّصَهُمْ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِهِ لِيُعَرِّفَ بِجَبَرُوتِهِ. ٩ وَٱنْتَهَرَ بَحْرَ سُوفٍ فَيَبِسَ، وَسَيَّرَهُمْ فِي ٱللُّجَجِ كَٱلْبَرِّيَّةِ. ١٠ وَخَلَّصَهُمْ مِنْ يَدِ ٱلْمُبْغِضِ، وَفَدَاهُمْ مِنْ يَدِ ٱلْعَدُوِّ».
(٥) فيرى الخير مع أولئك المختارين الذين قد نالوا نعمة الله وعاشوا كما ينبغي على عبيده المقدسين وعندئذ يكون له الفرح الذي لهم. بل ويكون له ذلك الفخر مع المفتخرين الذين يشعرون أنهم ذرية الله وشعب ميراثه ولذلك لهم الحقوق كما عليهم الواجبات والمسؤوليات.
(٦ – ١٠) يرى المرنم أن يتواضع أمام الله لذلك يعترف حالاً بالخطأ الذي ارتكبه مع الآباء الأولين (راجع ١ملوك ٨: ٤٧ وكذلك دانيال ٩: ٥). فما يحتمله الشعب الآن هو نتيجة الشرور التي ارتكبوها لذلك فهو يرى الإساءة وفي الوقت ذاته يشعر بالتأديب الإلهي. فيعود إلى التاريخ القديم ويذكر الآباء في مصر ويرى أنهم لم يفهموا العجائب ولم يقدروا المراحم التي أسبغها عليهم حق قدرها. أولئك الآباء الذين تمردوا وعصوا فبدلاً من أن يكونوا شكورين على أثر ذلك الحدث العظيم إذا بهم قد نسوا حالاً وأخذوا يتذمرون من أمور بسيطة فقدوها. ولكن الله قد خلصهم من يد أعدائهم ليس لأنهم يستحقون بل لأنه يذكر عهوده المقدسة معهم فيعرف بهذه الواسطة جبروته وقدرته حتى يرى الأعداء فلعلهم يعودون إلى الحق والصواب. هوذا البحر ذاته يصبح مكان العجيبة التي جرت وإذا به ييبس حتى يستطيعوا العبور كأنهم على الأرض ذاتها وليس في البحر. وقوله بحر «سوف» كلمة مصرية قديمة معناها عشب البحر. وقد ذهب أحدهم أن كلمة سوف هي في الأصل اسم مدينة على الجهة الشمالية من البحر الأحمر وسمي البحر بها من باب تسمية الكل باسم البعض ولكن هذا الرأي لا تدعمه مستندات تاريخية وعلى كل فهو اسم علم للبحر كان يستعمله المصريون من قديم الزمان فنقله عنهم الإسرائيليون. والمرنم يهتم بأن يرينا كيف أن الله قد خلّص هذا الشعب وافتداهم من العدو المبغض.
«١١ وَغَطَّتِ ٱلْمِيَاهُ مُضَايِقِيهِمْ. وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمْ يَبْقَ. ١٢ فَآمَنُوا بِكَلاَمِهِ. غَنُّوا بِتَسْبِيحِهِ. ١٣ أَسْرَعُوا فَنَسَوْا أَعْمَالَهُ. لَمْ يَنْتَظِرُوا مَشُورَتَهُ. ١٤ بَلِ ٱشْتَهَوْا شَهْوَةً فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، وَجَرَّبُوا ٱللّٰهَ فِي ٱلْقَفْرِ. ١٥ فَأَعْطَاهُمْ سُؤْلَهُمْ وَأَرْسَلَ هُزَالاً فِي أَنْفُسِهِمْ. ١٦ وَحَسَدُوا مُوسَى فِي ٱلْمَحَلَّةِ وَهَارُونَ قُدُّوسَ ٱلرَّبِّ. ١٧ فَتَحَتِ ٱلأَرْضُ وَٱبْتَلَعَتْ دَاثَانَ، وَطَبَقَتْ عَلَى جَمَاعَةِ أَبِيرَامَ».
(١١ – ١٢) لقد كان هذا الخلاص غالياً وثميناً على الأعداء لأنهم خسروا الكثير من عديدهم فماتوا غرقاً حينما ارتدت عليهم المياه (راجع خروج ١٤: ٣١). وإذا بالشعب عندئذ يؤمن بالله الذي خلصهم فيفرحون ويبدأون بالترنيم. لقد آمنوا بالله وبعبده موسى فرنموا فرحين مبتهجين وإن يكن ذلك إلى حين (خروج ١٥) لأنه لم يطل معهم الزمن حتى كانوا من الكنودين لا يعترفون بأي جميل.
(١٣ – ١٧) كان من أهم شرور بني إسرائيل أنهم ينسون أعمال الله وذلك بسرعة كلية كأن لا معرفة لهم بما جرى من قبل فكان الشعب متقلباً غير شكور وغير ذاكر لما فعله الله معه من عظائم. وشر ما في الأمر أنهم فعلوا ذلك دون أن يطلبوا مشورة الرب أو ينتظروا ماذا ينصح وبالطبع لو فعلوا لكانت النصيحة عكس ما يشتهون. ولقد كانت شهوتهم أن يملأوا بطونهم فقط وتمردوا على الله بأن تساءلوا هل يقدر الله أن يعطينا من الخيرات التي كانت لنا في أرض مصر؟ ولكن الله قد أعطاهم ما سألوه وإذا بنفوسهم المتكبرة المتعظمة تنخذل أمام الله القدير. أما سؤلهم فكان متعدد النواحي (راجع خروج ١٥: ٢٢ – ٢٤) وأيضاً (خروج ١٧: ٢) ثم بعد ذلك (خروج ١٦ وقابله مع سفر العدد ١١).
لم يكن كنودهم هو خطيئتهم الوحيدة بل كانت لهم خطيئة أخرى وهي تمردهم على رؤسائهم وحسدهم لهم فلم يطيعوا الأوامر كما ينبغي وقد احتمل موسى وهارون ذلك الأذى منهم صابرين ولكن الله قد قاصهم قصاصاً شديداً إذ فغرت الأرض فاها وابتلعتهم (راجع سفر العدد ١٦: ١٧). ولا يذكر الكاتب قورح وهذا على ما ورد في (العدد ١٦: ٢٥ وما بعده وكذلك تثنية ١١: ٦ وقابله مع العدد ٢٦: ١٠).
«١٨ وَٱشْتَعَلَتْ نَارٌ فِي جَمَاعَتِهِمْ. ٱللَّهِيبُ أَحْرَقَ ٱلأَشْرَارَ. ١٩ صَنَعُوا عِجْلاً فِي حُورِيبَ وَسَجَدُوا لِتِمْثَالٍ مَسْبُوكٍ، ٢٠ وَأَبْدَلُوا مَجْدَهُمْ بِمِثَالِ ثَوْرٍ آكِلِ عُشْبٍ. ٢١ نَسَوْا ٱللّٰهَ مُخَلِّصَهُمُ ٱلصَّانِعَ عَظَائِمَ فِي مِصْرَ، ٢٢ وَعَجَائِبَ فِي أَرْضِ حَامٍ، وَمَخَاوِفَ عَلَى بَحْرِ سُوفٍ، ٢٣ فَقَالَ بِإِهْلاَكِهِمْ. لَوْلاَ مُوسَى مُخْتَارُهُ وَقَفَ فِي ٱلثَّغْرِ قُدَّامَهُ لِيَصْرِفَ غَضَبَهُ عَنْ إِتْلاَفِهِمْ. ٢٤ وَرَذَلُوا ٱلأَرْضَ ٱلشَّهِيَّةَ. لَمْ يُؤْمِنُوا بِكَلِمَتِهِ».
(١٨ – ٢٣) وقد أرسل عليهم الله ناراً ذا لهيب حتى أحرقت الأشرار الذين تمردوا وعصوا على هذه الصورة (راجع العدد ١٦: ٣٢ وأيضاً ٢٦: ١٠).
أما خطيئتهم الثالثة فهي أنهم صنعوا عجلاً من ذهب وخروا له ساجدين وهنا يراجع الكاتب في ذهنه (خروج ٣٢ بل أيضاً تثنية ٩: ٨ – ١٢). وكلمة حوريب مأخوذة من سفر التثنية (راجع تثنية ٤: ١٥ و٥: ٢ وغيرها). ويزيد وصفه لهذا العجل أنه بشكل ثور لا شك فيه لأنه يرعى العشب ويقتات به فهل يصلح أن يكون إلهاً يعبد (راجع تثنية ٤: ٦ – ٨ وقابله مع إرميا ٢: ١١). وهكذا لقد أبدلوا مجدهم بهوان لأنهم يعبدون الحيوانات أو أصنام الحيوانات التي يصنعونها. ومرة أخرى يذكر المرنم أنهم نسوا ما كان يجب أن يفطنوا به. فقد نسوا الرب مخلصهم ذاك الذي صنع عظائم في مصر فأخرجهم منها بيد قديرة وذراع ممدودة. ذلك الإله الذي أجرى عجائبه في مصر فعمل تلك العظائم وضرب تلك الضربات الهائلة بل هو الذي أجرى قدرته على بحر سوف. ويعتمد في (العدد ٢٣ على تثنية ٩: ٢٥ وقابله مع خروج ٣٢: ١٠) لقد غضب الله على الشعب وقصد إهلاكه لولا أن موسى عبد الله وقف في الثغرة لكي يتشفع ويدافع وكانت مهمته أن يصرف الغضب ويعيد الرضا ولو كان في ذلك تعريضاً لحياته نفسها (راجع حزقيال ٢٢: ٣٠ وإرميا ١٨: ٢٠).
(٢٤) في هذا العدد ينتقل الكاتب إلى خطيئة رابعة وهي امتهانهم لما حمله الجواسيس من أخبار عن الأرض التي تجسسوها (راجع سفر العدد ١٣ و١٤). وخطيئتهم هي أنهم لم يؤمنوا بوعد الله وتخوفوا أكثر من اللازم بدلاً من أن يشجعوا إخوانهم.
«٢٥ بَلْ تَمَرْمَرُوا فِي خِيَامِهِمْ. لَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِ ٱلرَّبِّ، ٢٦ فَرَفَعَ يَدَهُ عَلَيْهِمْ لِيُسْقِطَهُمْ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، ٢٧ وَلِيُسْقِطَ نَسْلَهُمْ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، وَلِيُبَدِّدَهُمْ فِي ٱلأَرَاضِي. ٢٨ وَتَعَلَّقُوا بِبَعْلِ فَغُورَ وَأَكَلُوا ذَبَائِحَ ٱلْمَوْتٰى. ٢٩ وَأَغَاظُوهُ بِأَعْمَالِهِمْ فَٱقْتَحَمَهُمُ ٱلْوَبَأُ. ٣٠ فَوَقَفَ فِينَحَاسُ وَدَانَ، فَٱمْتَنَعَ ٱلْوَبَأُ. ٣١ فَحُسِبَ لَهُ ذٰلِكَ بِرّاً إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ، إِلَى ٱلأَبَدِ».
(٢٥ – ٣١) لقد تذكروا وهم في خيامهم سراً إذ لم يجرؤوا أن يتمادوا في تخاذلهم هذا جهراً (راجع تثنية ١: ٢٧). وقوله رفع يده عليهم أي شرع يضربهم في البرية لأجل التأديب فقد أقسم أنه سيكون قصاصهم شديداً (راجع سفر العدد ١٤: ٢٩ و٢٢). لقد هددهم الله بالفناء في البرية (راجع سفر اللاويين ٢٦ وتثنية ٢٨ وقابلهما معاً ولا سيما العدد ٣٣ من اللاويين ٢٦). بل إن الغضب الإلهي قد رافق البعض منهم حتى نسلهم الذي لم يستحق العيش بكرامة فيتبددون في كل مكان.
وأما خطيئتهم الخامسة فهي أنهم تعلقوا أي ارتبطوا كما بسلسلة متينة الحلقات وأكلوا ذبائح الموتى أي أن هذه الأصنام هي بلا حياة ولا تستطيع أن تنقذ أحداً (راجع سفر العدد ٢٥: ٣ و ٥) وكانت عبادة هذا البعل فاسقة شريرة. فكم كانت هذه الإغاظة غبية إذ أنه علاوة على نكرانهم لجميل الله فإن هذا البعل لا يستطيع مساعدتهم أو تنجيتهم. وكانت النتيجة أن هاجمهم الوباء بشدة وأهلك منهم أنفساً كثيرة. ولكن فينحاس تداخل للتشفع بالشعب لئلا يهلك فأظهر حكمة ودراية وأنقذ الموقف وكان له الوعد من الله أن يكون الكهنوت في نسله لدور فدور (راجع سفر العدد ٢٥: ١٠ – ١٣). وقد حسب الله أن عمل فينحاس كان كريماً وباراً. لأنه بواسطة تضحيته بالرجل الإسرائيلي والمرأة المديانية قد خلّص الله الشعب من الوباء. إذن لقد كان فينحاس ذا إيمان وطيد بإلهه فقد عمل ما حسبه الله شيئاً مرضياً ومقبولاً أمامه. لذلك اعتمد الله على هذه الغيرة وقدّرها قدرها وبرهن فينحاس أنه جدير بوظيفة الكهنوت السامية له ولنسله من بعده إلى جيل فجيل.
«٣٢ وَأَسْخَطُوهُ عَلَى مَاءِ مَرِيبَةَ حَتَّى تَأَذَّى مُوسَى بِسَبَبِهِمْ. ٣٣ لأَنَّهُمْ أَمَرُّوا رُوحَهُ حَتَّى فَرَطَ بِشَفَتَيْهِ. ٣٤ لَمْ يَسْتَأْصِلُوا ٱلأُمَمَ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلرَّبُّ عَنْهُمْ، ٣٥ بَلِ ٱخْتَلَطُوا بِٱلأُمَمِ وَتَعَلَّمُوا أَعْمَالَهُمْ ٣٦ وَعَبَدُوا أَصْنَامَهُمْ، فَصَارَتْ لَهُمْ شَرَكاً. ٣٧ وَذَبَحُوا بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمْ لِلأَوْثَانِ ٣٨ وَأَهْرَقُوا دَماً زَكِيّاً، دَمَ بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمِ ٱلَّذِينَ ذَبَحُوهُمْ لأَصْنَامِ كَنْعَانَ، وَتَدَنَّسَتِ ٱلأَرْضُ بِٱلدِّمَاءِ، ٣٩ وَتَنَجَّسُوا بِأَعْمَالِهِمْ وَزَنَوْا بِأَفْعَالِهِمْ».
(٣٢ و٣٣) وينتقل الآن إلى خطيئة أخرى وهي تلك الحادثة على مار مريبة في السنة الأربعين للتيه في البرية حينما منع موسى من الدخول إلى أرض الموعد (راجع سفر العدد ٢٠: ١١ وما بعده وأيضاً تثنية ١: ٣٧ وتثنية ٣٢: ٥١). لقد تمادى موسى معهم في عصيانه روح الله فقد تبع عنادهم ولأنهم قد مرروا روحه إلى تلك الدرجة البعيدة حتى لم يستطع أن يضبط لسانه ففرط به (انظر إشعياء ٦٣: ١٠). فإن ضرب موسى الصخرة بدلاً من التكلم معها كان دليلاً على حنقه وتضجره وبالتالي كان تماديا مع عدم إيمان الشعب بإلهه (راجع سفر العدد ٢٠).
(٣٤ – ٣٩) وينتقل الآن إلى بعض الشرور التي ارتكبها الشعب في أرض كنعان نفسها فإنهم لم يستأصلوا الأمم حولهم – وهذا لأول وهلة يبدو شاذاً وفظيعاً يرتعب الإنسان من تصوره – ولكن القصد من ذلك هو نتيجة هذا الشعب من الانغماس في العبادة الوثنية لئلا ينجروا مع الأمم الوثنية حولهم وينسوا الرب إلههم ويعبدوا الأوثان وتلك الآلهة الباطلة. فلا يكفي أن يربحوا الأرض بل أن يربحوا السكان أيضاً ويخضعوهم للعبادة الحقيقية بدلاً من أن يخضعوا هم لهم وتكون الضلالة الأخيرة شراً من الأولى فيا ليتهم لم يدخلوا أرض كنعان. ويفسر كلامه بعد ذلك بقوله إنهم اختلطوا بالناس وتعودوا عاداتهم الفاسدة وعملوا أعمالهم الشريرة وعبدوا عبادتهم الوثنية وزاغوا عن طريق الحق إلى طريق الضلال ومما هو شر من ذلك أنهم ذبحوا أولادهم ليقدموها قرابين اتباعاً لتلك العبادات الوثنية الفظيعة. لقد أحجموا عن سفك دم غير زكي ولم يحجموا عن أن يسفكوا دماً زكياً هو دم أولادهم وفلذة أكبادهم فيا لها من ضلالة وغواية ما بعدهما شيء. وانتشر حينئذ الزنى بشكل قبيح للغاية إذ خلطوه بما حسب عندئذ عبادة وهذا منتهى العار.
«٤٠ فَحَمِيَ غَضَبُ ٱلرَّبِّ عَلَى شَعْبِهِ وَكَرِهَ مِيرَاثَهُ، ٤١ وَأَسْلَمَهُمْ لِيَدِ ٱلأُمَمِ وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مُبْغِضُوهُمْ. ٤٢ وَضَغَطَهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ فَذَلُّوا تَحْتَ يَدِهِمْ، ٤٣ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً أَنْقَذَهُمْ. أَمَّا هُمْ فَعَصَوْهُ بِمَشُورَتِهِمْ وَٱنْحَطُّوا بِإِثْمِهِمْ. ٤٤ فَنَظَرَ إِلَى ضِيقِهِمْ إِذْ سَمِعَ صُرَاخَهُمْ ٤٥ وَذَكَرَ لَهُمْ عَهْدَهُ، وَنَدِمَ حَسَبَ كَثْرَةِ رَحْمَتِهِ. ٤٦ وَأَعْطَاهُمْ نِعْمَةً قُدَّامَ كُلِّ ٱلَّذِينَ سَبَوْهُمْ. ٤٧ خَلِّصْنَا أَيُّهَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا وَٱجْمَعْنَا مِنْ بَيْنِ ٱلأُمَمِ، لِنَحْمَدَ ٱسْمَ قُدْسِكَ وَنَتَفَاخَرَ بِتَسْبِيحِكَ. ٤٨ مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ مِنَ ٱلأَزَلِ وَإِلَى ٱلأَبَدِ. وَيَقُولُ كُلُّ ٱلشَّعْبِ: آمِينَ. هَلِّلُويَا».
(٤٠ – ٤٨) ويسرد الكاتب هنا عدداً كبيراً من الخطايا بالتتابع فقد ارتدوا عن الله لذلك أسلمهم للأمم وأصبحوا تحت سيطرتهم عبيداً بدلاً من أن يكونوا أسياداً. وقد تطاول عليهم أولئك الذين سمحوا لهم بالسكنى بينهم وشددوا أيديهم حتى ذلوا ولم يستطيعوا النهوض؟ لقد أراد الله لهم الرفعة والسؤدد ولكنهم لم يتبعوا طرقها فضلوا سبيلاً وتاهوا في خيلائهم يعمهون (راجع لاويين ٢٦: ٣٩ وحزقيال ٢٤: ٢٣ وحزقيال ٣٣: ١٠).
ولكن الله لم ينس وإن هم نسوا فقد ذكرهم مرات كثيرة وأنقذهم ولكنهم عادوا فعصوا فعاد للتأديب لكي يرجعوا. ولكنهم انحطوا في الإثم إلى أسفل الدركات ولم يستطيعوا النهوض. نظر إليهم وسمع واستجاب وأعان ولكنهم لم يثبتوا طويلاً. والشيء المؤثر أنه ذكر عهده لهم ورحمهم برحمته الواسعة وهكذا لم يرض أن يبقوا ساقطين بل أنهضهم بنعمته ليقفوا أشداء أقوياء بعد. شددهم تجاه اولئك الذين أذلوهم وحررهم من الذين استعبدوهم.
لا يستبعد أن يكون العددان ٤٧ و٤٨ من الإضافات التي زيدت على هذا المزمور. فيصلي المرنم بحرارة لكي يخلّص الرب ويرحم ويجمع الشتات من بين الأمم لكي يحمدوا اسم الرب ويفاخروا هم جميعاً بهذا التسبيح. ويختم المزمور بهذه التسبيحة الجميلة التي تنهي هذا المزمور وتنهي معه القسم الرابع من كتاب المزامير. ونجد في الآخر جملة ملحقة هي قوله «ويقول كل الشعب آمين هللويا». وهذا دليل أنها زيدت لأجل إجراء مراسيم العبادة (راجع ١أخبار ٢٥: ٣ و٢ أخبار ٥: ١٣).
السابق |
التالي |