سفر المزامير

سفر المزامير | 73 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّالِثُ وَٱلسَّبْعُونَ

مَزْمُورٌ. لآسَافَ

«١ إِنَّمَا صَالِحٌ ٱللّٰهُ لإِسْرَائِيلَ، لأَنْقِيَاءِ ٱلْقَلْبِ. ٢ أَمَّا أَنَا فَكَادَتْ تَزِلُّ قَدَمَايَ. لَوْلاَ قَلِيلٌ لَزَلِقَتْ خُطُوَاتِي، ٣ لأَنِّي غِرْتُ مِنَ ٱلْمُتَكَبِّرِينَ، إِذْ رَأَيْتُ سَلاَمَةَ ٱلأَشْرَارِ».

يذكر المرنم في هذا المزمور كيف أنه تغلب على تجربة ارتدادٍ عن الإيمان وهكذا استطاع أن يتمسك بإلهه مرة أخرى بصورة أرسخ وأثبت. لقد كان من قبل متردداً ضعيف العزم والإرادة يذهب مع كل ريح لأن إيمانه كان اسمياً ظاهرياً وأما الآن فقد أصبح اختبارياً حقيقياً. نعم لقد ولد في دين آبائه وجدوده ولكنه لم يكن له أية صلة به سوى مظاهر العبادة الخارجية لذلك حينما جاءته التجربة بأن رأى سلامة الأشرار والخير الذي يتمتعون به صدمته التجربة صدمة شديدة ولكنه لم يعتم أن تغلب عليها وعاد إلى الإيمان بصورة أثبت وأقوى. ومن الشر كان له خير عظيم. وهذا المزمور ينقسم إلى قسمين الأول حتى العدد ١٤ والثاني من العدد ١٥ إلى الآخر. ولا يوجد أي داع للشك أن الناظم هو آساف كما هو العنوان. والموضوع الذي يبحثه المزمور لا يتناول البحث عن عدل الله الكلي وإن الأشرار لا بد أن ينالوا جزاءهم إن عاجلاً أو آجلاً وهكذا فهو لا ينظر إلى المستقبل البعيد حينما يدان الناس جميعاً بل نظره إلى هذا العالم وهذا الزمان فقط.

(١) يفتتح كلامه «إنما» ومعناها هنا هكذا أو لذلك حسب الأصل العبراني ويقصد الاستنتاج من أمور سابقة. وهو يؤكد أن الله صالح بار في كل طرقه وأعماله وهو كذلك للأنقياء القلب خصوصاً (راجع مزمور ٢٤: ٤ ومتّى ٥: ٨). ولا يقصد هنا بإسرائيل الذين هم من نسل يعقوب بل كل المؤمنين الحقيقيين الذين يعيشون عيشة التقوى والفضيلة والصلاح.

(٢) الأرجح أن المرنم هنا يتكلم عن اختبار شخصي فيذكر أنه كان على شفير السقوط ولولا قليل لكان قد سقط وانتهى أمره (راجع مزمور ١٨: ٣٥ وقابله مع تثنية ٢١: ٧ وأيوب ١٦: ١٦). لقد كان هنا صريحاً يتكلم عن نفسه بكل تواضع وخجل ولا يخفي أنه كان في خطر الخطيئة والاضمحلال من جراء آثامه وبعده عن الله.

(٣) وسبب التجربة هو أنه رأى بعض المتكبرين الأشرار في خير وبحبوحة وربما كان هو عكس ذلك فلم يتمالك أن يغار منهم بعد أن قاس نفسه عليهم وكانوا له قدوة شريرة وسبب عثرة وهكذا زلت قدمه ولولا قليل لزلق ساقطاً إلى الحضيض. والغيرة هي تلك العاطفة المشتعلة بنار الحسد في كثير الأحيان فنحسد الناس حتى الأشرار منهم على أمور لا يجوز أن نحسدهم عليها.

«٤ لأَنَّهُ لَيْسَتْ فِي مَوْتِهِمْ شَدَائِدُ، وَجِسْمُهُمْ سَمِينٌ. ٥ لَيْسُوا فِي تَعَبِ ٱلنَّاسِ، وَمَعَ ٱلْبَشَرِ لاَ يُصَابُونَ. ٦ لِذٰلِكَ تَقَلَّدُوا ٱلْكِبْرِيَاءَ. لَبِسُوا كَثَوْبٍ ظُلْمَهُمْ. ٧ جَحَظَتْ عُيُونُهُمْ مِنَ ٱلشَّحْمِ. جَاوَزُوا تَصَوُّرَاتِ ٱلْقَلْبِ. ٨ يَسْتَهْزِئُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ بِٱلشَّرِّ ظُلْماً. مِنَ ٱلْعَلاَءِ يَتَكَلَّمُونَ».

(٤) هؤلاء الأشرار لهم عيش مريح ولهم موت مريح أيضاً. فالراحة تكتنفهم من أول العمر إلى آخره وحينما يأتيهم الموت لا يتلوون معه من الآلام المضنية ولا يشعرون بأي نوع من الشدائد لأنهم أقوياء وجسمهم نشيط سمين فلا يستسلمون حسب الظاهر لضعف الجسد فإذا ماتوا يكون موتهم بهدوء تام مطمئنين. ولكن يذهب بعض المفسرين أن لا علاقة للموت هنا بل قد تكون الكلمة محرفة فيكون المعنى هكذا ليس عليهم شدائد وجسمهم سمين. أي هم لأنفسهم ولا يبالون بأي إنسان.

(٥) وفي هذا العدد نجد توضيحاً لهذا المعنى الأخير. أي أن هؤلاء الأشرار لا يهمهم مصائب الناس إذ يتعامون عن مرأى المصائب ويصمون آذانهم عن صراخ المساكين والمحتاجين. هم محبو الذات ويعيشون في دوائرهم الضيقة الصغيرة. ويظهر أنه لن تصيبهم المصائب. وهنا لا يريد المرنم مدحهم قط بل يصور قساوة قلوبهم وعماوة أذهانهم إذ هم بعيدون عن الناس ولا يهمهم أمرهم إلا على نسبة مصالحهم الشخصية.

(٦) لقد وضعوا الكبرياء قلادة على أعناقهم متفاخرين بما كان يجب أن يخجلوا به. وهم يلبسون الظلم كثوب فلا يفارقهم بل هو كجزء من حياتهم الخاصة. هم قساة عنيفون لا يرحمون ولا يشفقون (راجع إشعياء ٥٩: ١٧) ولذلك يتظاهرون بكبريائهم بكل وقاحة ويظلمون الناس ولا يرعون عن غيهم ولا ينتصحون من أحد فهم بالإضافة إلى شرهم يجدفون على أقدس الأشياء.

(٧) هذا شحم الاستهتار إذ يسمنون من عدم اكتراثهم بالناس. وقد تكون الترجمة أن قلوبهم غليظة إلى درجة أنها جاوزت الداخل إلى الخارج. فهم لا يستحون من شرٍ هم فيه. والقلب في نظره هو مركز كل العواطف (راجع متى ١٥: ١٨ وما بعده).

(٨) يتابع المعنى ذاته وهو أن هؤلاء الأشرار يستهزئون غير مهتمين بشيء. كلامه شرير كما أن نواياهم شريرة أيضاً. وهم يتكلمون من العلاء بالنسبة إلى كبريائهم إذ يحسبون أنهم من طينة غير طينة البشر (راجع إرميا ٥: ٢٨). وقد ذهب لوثيروس في ترجمته أنهم يهدمون كل شيء ويحوّلون كل مظاهر العمران قفراً يباباً. دأبهم الأذى بلسانهم ولا يتورعون عن أن يصرحوا بذلك أمام الجميع حاسبين أن ما يفعلونه كأنه ضمن سلطانهم لأنهم في مقام أعلى من الآخرين.

«٩ جَعَلُوا أَفْوَاهَهُمْ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَأَلْسِنَتُهُمْ تَتَمَشَّى فِي ٱلأَرْضِ. ١٠ لِذٰلِكَ يَرْجِعُ شَعْبُهُ إِلَى هُنَا، وَكَمِيَاهٍ مُرْوِيَةٍ يُمْتَصُّونَ مِنْهُمْ. ١١ وَقَالُوا: كَيْفَ يَعْلَمُ ٱللّٰهُ، وَهَلْ عِنْدَ ٱلْعَلِيِّ مَعْرِفَةٌ؟ ١٢ هُوَذَا هٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلأَشْرَارُ، وَمُسْتَرِيحِينَ إِلَى ٱلدَّهْرِ يُكْثِرُونَ ثَرْوَةً. ١٣ حَقّاً قَدْ زَكَّيْتُ قَلْبِي بَاطِلاً وَغَسَلْتُ بِٱلنَّقَاوَةِ يَدَيَّ».

(٩) هم يصرّحون أمام الجميع بما ينوونه من أمور شريرة خبيثة. لذلك فهم لا يكتفون بأن يضمروا الشر في قلوبهم ولا أن يتحينوا الفرص السانحة لكي يضربوا ضربتهم بل هم لا يبالون بأحد إذ يصيحون صاخبين بأصوات مرتفعة كأنها تبلغ عنان السماء ولكنها في الوقت ذاته تعم سكان الأرض. فهي إذاً مرتفعة فقط من جهة كبريائها وصنعها ولكنها ليست بعيدة بأذاها وضررها عن أي الناس (انظر حزقيال ٢٢: ١٢). فظلمهم ليس شيئاً يندمون عليه أو يخجلون منه أو من ذكره بل يتباهون به كأنهم يلعبون في حياة الناس كما يشاؤون وتشاء أهواؤهم وشرورهم.

(١٠) ولهؤلاء الأشرار جماعة من الناس يقتفون آثارهم ويلوذون بهم. وكان المرنم نفسه في خطر عظيم أن يكون أحدهم لو زلت به القدم وسقط. هم أتباع أشرار مثل سادتهم يخضعون للأوامر الصادرة إليهم ويعيشون لأجل إنالتهم مآربهم الخاصة. وهؤلاء الأتباع كانوا من قبل اتباعاً لله وقد تركوه راجعين للإثم والفساد. وهم مثل المياه التي لا تنضب إذ يستمر أولئك السادة على تغذيتهم بما يريدون فهم كالأرض فقط التي تمتص المياه. وهذه المياه هي ما يخضعون له من أوامر.

(١١) وهؤلاء الأتباع يتوغلون في حمأة الإثم والتجديف ويقولون في أنفسهم على الأقل وهل يعلم الله؟ إذ يحسبون أن الله الذي تركوه قد تغاضى عن سيئاتهم ويكرر السؤال مرة أخرى وهل عند العلي معرفة؟ (راجع أمثال ٣: ٢٨ وملاخي ١: ١٤ وقضاة ٦: ١٣).

(١٢) هم أشرار أقوياء أغنياء لهم سطوتهم ونفوذهم ولا يحتاجون أن يتستروا في الآثام التي يرتكبونها ولا يهابون الله ولا الناس إذ هم يحسبون أنفسهم أرفع من أن يحاسبهم أحد. يتظاهرون بتمام الراحة فيما يقترفونه فلا ضمير يبكتهم ولا قوة مادية تستطيع أن تقف في وجوههم (انظر إرميا ١٢: ١). إذاً فهؤلاء الأشرار يتمتعون حسب الظاهر بكل خير وتوفيق بينما هوذا الصالحون الأبرار ليس لهم ذلك.

(١٣) ويرى المرنم أنه قد زكى وطهر قلبه باطلاً بدون نفع يرتجى. لقد انتظر من الله خلاصاً فلم يجد لقد غسل بالنقاوة يديه ولكن على غير طائل. فإلى متى يستمر الأشرار في غيهم ولا يحاسبهم أحد وحتى متى يبطرون على هذه الصورة وفي بطرهم يدوسون الضعيف والبريء بل يسوقون معهم أتباعاً مثلهم يستخدمونهم في اقتراف المحرمات وعمل الشر والفساد. لقد سعى للطهارة (راجع أمثال ٢٠: ٩) وحاول أن لا يتدنس ولا يقترف أي الشرور (راجع أمثال ٢٦: ٦) ولكن عبثاً كان ذلك كله.

«١٤ وَكُنْتُ مُصَاباً ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ وَتَأَدَّبْتُ كُلَّ صَبَاحٍ. ١٥ لَوْ قُلْتُ أُحَدِّثُ هٰكَذَا لَغَدَرْتُ بِجِيلِ بَنِيكَ. ١٦ فَلَمَّا قَصَدْتُ مَعْرِفَةَ هٰذَا إِذَا هُوَ تَعَبٌ فِي عَيْنَيَّ. ١٧ حَتَّى دَخَلْتُ مَقَادِسَ ٱللّٰهِ وَٱنْتَبَهْتُ إِلَى آخِرَتِهِمْ. ١٨ حَقّاً فِي مَزَالِقَ جَعَلْتَهُمْ. أَسْقَطْتَهُمْ إِلَى ٱلْبَوَارِ.

(١٤) ولم يكن تزكيته أو امتناعه هذا بدون آلام نفسية تحملها على صورة مستديمة. فقد كان مصاباً كإنما بكارثة شديدة تحرمه لذة العيش إلى درجة بعيدة ولكن لم يذهب ذلك فيه عبثاً بل وصل إلى الضالة المنشودة وهو أنه أدب نفسه (راجع مزمور ١٠١: ٨ وقابله أيوب ٧: ١٨) وإذا راجعنا العدد العاشر وقارناه مع هذا العدد لوجدناه اعترافاً من المرنم بما فعله سابقاً من اشتراكه مع هؤلاء الأشرار ولكن تاب وندم وأصبح مؤدباً بالحق الذي من عند الله.

(١٥) ويقول أنه لو استمر على غيه السابق ولم يرجع إلى الله بالتوبة لكان قد خسر إيمانه بالله وصحبته لأولاده معاً على الذين هم جيل الرب بل كان غادراً بأقدس الأشياء بدلاً من أن يكون وفياً أميناً إلى المنتهى. وبالتالي يخسر البركات التي يسكبها الله على المؤمنين به. وعلينا أن لا ننسى أن العلاقة هي بين الله وشعب إسرائيل وليس بينه وبين الأفراد فقط إذ لم يتجرأوا أن يدعوا أنفسهم أولاداً لله فهم بنو جيل الله أو شعب الله ليس إلا.

(١٦) لقد قصد من قبل أن يستسلم للأوهام التي ذهب إليها أولئك الأشرار ولكنه عاد إلى نفسه وقصد أن يعرف الحقيقة ولا يتمادى في غواية الغاوين أولئك. وقد أتعبه تفكيره في الأمر تعباً كثيراً ولم يستطع حل المعضلة (جامعة ٨: ١٧). لم يصل إلى النتيجة التي وصل إليها بالاتفاق بدون تقدير للأمور وعواقبها بل قد أجهد نفسه وتأمل تأملات بعيدة المعنى والغور حتى انتهى إلى شيء.

(١٧) هذا الشيء الذي انتهى إليه لم يقده العقل فيه بل روح الدين القويم. فقد دخل مقادس الله بالورع والتقوى يطلب الإرشاد بالصلاة. وهو في تعبده هذا أخذ يقيس ما يحدث لهؤلاء الأشرار أخيراً وماذا تكون نتيجة حياتهم. لأن المهم في نظره ليس ما هم فيه الآن بل ما هم قادمون عليه بعد حين. وهنا انكشفت له الحقيقة كما هي. لقد كان في ظلمة وحيرة لا يدري ماذا يجيب نفسه أو بماذا يقنع هؤلاء الأشرار المستهزئين وإذا بالنور يشع عليه ويرى معاني جديدة للحياة الحقة.

(١٨) هنا يجد كما الحقيقة بأن هؤلاء إنما قد زلقوا إلى الأعماق ولا نجاة لهم إلا بالنهضة من سقطتهم والرجوع بالتوبة كما فعل هو. وإذا لم يفعلوا ذلك فهم إلى البوار والاضمحلال. وليس في نظر المرنم أي دينونة للحياة بعد الموت إذا لم يكن هذا الأمر قد وضح بعد وما يعنيه إنما هو هذا فإن الأشرار لا شك هالكون في هذه الحياة ولا يستطيعون أن يستمروا على زهوهم وعزهم طالما في شرور كهذه.

«١٩ كَيْفَ صَارُوا لِلْخَرَابِ بَغْتَةً! ٱضْمَحَلُّوا، فَنُوا مِنَ ٱلدَّوَاهِي. ٢٠ كَحُلْمٍ عِنْدَ ٱلتَّيَقُّظِ يَا رَبُّ، عِنْدَ ٱلتَّيَقُّظِ تَحْتَقِرُ خَيَالَهُمْ. ٢١ لأَنَّهُ تَمَرْمَرَ قَلْبِي وَٱنْتَخَسْتُ فِي كُلْيَتَيَّ. ٢٢ وَأَنَا بَلِيدٌ وَلاَ أَعْرِفُ. صِرْتُ كَبَهِيمٍ عِنْدَكَ. ٢٣ وَلٰكِنِّي دَائِماً مَعَكَ. أَمْسَكْتَ بِيَدِي ٱلْيُمْنَى».

(١٩) وهوذا هم قد لحقهم الخراب منذ الآن فلا يستطيعون أن يستمروا على ارتفاعهم دون حساب قريب. وهنا يؤكد لنفسه ولا يسمح لأحد أن يغشه فيما بعد إذ أن الخراب سيصيبهم بغتة ولن يكونوا. وخرابهم هذا سيأتي عليهم في وقت لا يعرفونه وبشكل لم يتحققه أحد قبلهم على مثل هذه الصورة الفظيعة (راجع مزمور ١٨: ٤ و٣٠: ٤ و٢صموئيل ٢٢: ١٤).

(٢٠) وهكذا يضمحلون كما تضمحل الأحلام. إذاً هم أضغاث أحلام لا يوجدون إلا في خيال النائم. فهؤلاء الأتباع كانوا متوهمين ليس إلا ولم يقدروا نهاية الأشرار. ولكن بعد النوم لا بد أن تأتي اليقظة وحينئذ يذهب الخيال ويضمحل تجاه شمس الحقيقة المشرقة. فالشرير خيال فقط لا أهمية له إذ هو محتقر ومرذول من جميع الناس لأن الله قد رذله وحقره في الوقت المناسب. إذاً فإن كل من هو في غفلة عن هذه الحقيقة هو يحلم أحلاماً لا شيء من الصحة فيها قط.

(٢١) هنا يلتفت المرنم مسبقاً لتجربة أخرى قد تأتيه فإنه ربما يسقط فيها وحينئذ يتمرمر قلبه وينتخس في داخله. ذلك لأن فكرة الرجوع إلى تلك الحالة السيئة يقض عليه مضجعه منذ الآن ويحرمه لذة العيش ولا يطمئن باله قط. عليه أن يتعلم درساً قاسياً مما مضى وأن يتعظ بحالة الأشرار السيئة التي قد يصلون إليها فهم يزهرون كالعشب ثم يضمحلون.

(٢٢) وحينئذ فإنه إذ لم يتعلم فهو بليد قليل الفهم والإدراك. بل هو بهيم لا يستطيذع أن يعقل هذا الشيء البسيط. إن قيمة الدرس في الحياة لا تقوم فائدته على نسبة البيان الذي فيه ولا على البلاغة التي يعبر بها بل هو بالنسبة للوعي والإدراك. فمن فهم واتعظ كان أهلاً للحياة الإنسانية العالية ومن لا يفهم بعد كل الدروس التي تلقى عليه فهو أقل من بهيم (أيوب ٩: ٢).

(٢٣) ولكنه يعود إلى نفسه لينهض بها مرة آخرى فهو لا يرضى أن ينزل هذه المنزلة الدنيئة ولا أن يحسب مع تلك الجماعة التي توغلت في شرها واستهترت في إثمها. بل كان له أن درس الحياة وتأمل معانيها السامية وإذا به يتوب ويرجع إلى الله. وهوذا شعوره الآن إنه مع الله رفيقه الدائم وإذا بالتنازل الإلهي يشجعه ويقويه إذ أن الله قد أمسك يده وشد بها مقوياً ومطمئناً كما يفعل الأب مع ولده الصغير. واليد اليمنى أي اليد القوية التي تمسك أفضل من الأخرى.

«٢٤ بِرَأْيِكَ تَهْدِينِي وَبَعْدُ إِلَى مَجْدٍ تَأْخُذُنِي. ٢٥ مَنْ لِي فِي ٱلسَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئاً فِي ٱلأَرْضِ. ٢٦ قَدْ فَنِيَ لَحْمِي وَقَلْبِي. صَخْرَةُ قَلْبِي وَنَصِيبِي ٱللّٰهُ إِلَى ٱلدَّهْرِ. ٢٧ لأَنَّهُ هُوَذَا ٱلْبُعَدَاءُ عَنْكَ يَبِيدُونَ. تُهْلِكُ كُلَّ مَنْ يَزْنِي عَنْكَ. ٢٨ أَمَّا أَنَا فَٱلٱقْتِرَابُ إِلَى ٱللّٰهِ حَسَنٌ لِي. جَعَلْتُ بِٱلسَّيِّدِ ٱلرَّبِّ مَلْجَإِي لِأُخْبِرَ بِكُلِّ صَنَائِعِكَ».

(٢٤) والرأي الآن ليس منه بل من الله ذاته. فقد دخل مقادس الله مصلياً مسترشداً فلم يُترك وحده. ولأنه برأي الله وإرشاده فهو سينال الكرامة والمجد. وبالعكس عن أولئك الأشرار الذين كانت نهايتهم الخراب والبوار مع أنهم بدأوا في كرامة وعزة حتى استهانوا بكل الناس حولهم ولم يعتبروا حتى أحكام القدير. وما أجمل هذه المقابلة المقنعة بين بدائتين ونهايتين مما يجعل كل إنسان يسمع بها أن يقتنع ويعود إلى الصواب والهداية.

(٢٥) يتطلع نحو السماء فلا يرى سوى مجد الله. وأي إنسان يصل للسماء بدونه تعالى. إذاً فمطلبه السماء لكي يكون مع الله. وأما هذه الأرض التي حسبها قبلاً ملكاً للأشرار والظالمين يعود مقتنعاً بفساد هذا الحسبان ويؤكد أن «للرب الأرض وملؤها» ولذلك فهو يمشي مع الله في الأرض وليس في السماء فقط. وحينئذ فلا شيء في السماء أو في الأرض يجديه نفعاً بدون الله الذي به وحده ملء الكفاية لجميع المؤمنين باسمه.

(٢٦) قد يفنى الإنسان ويتحطم إلى قطع كثيرة ولكن الله هو صخرة الخلاص إلى الدهر. إذاً فقد يفنى الإنسان داخلاً وخارجاً أي قد يضيع عقله وقد تفنى قوته كلها ولكن الله يظل السند الدائم إلى المنتهى. فمن يبدأ حياته الحقة بالله فهو يستمر به يحيا كل حين بل تكون حياته مقدسة جديدة تترك الإنسان العتيق مع أعماله وتلبس الجديد الذي يتجدد – بقول العهد الجديد – بفعل الروح القدس.

(٢٧) يكرر مرة أخرى أهمية الاقتراب لله والالتصاق به. هو الغذاء للنفس أفلا يقع اللوم على تلك النفس إذا لم تتغذّ. وهو ماء الحياة وعلينا أن نشرب ونروي نفوسنا. لئلا نبيد ومن لم يرحم نفسه فلا ينتظر من الناس أن يرحموه. إيانا إذاً أن نبتعد مغتربين عن الوطن الحقيقي ذلك لأن الهلاك ينتظرنا ولا من يشفق.

(٢٨) وأخيراً يشدد نفسه ويصمم على الاقتراب. فقد اختبر صواب ذلك وتحققه بنفسه ويرى أن الواجب يدعوه أن يفعل ذلك لكي يخبر بعظائم الله ويحدث الآخرين بكم قد صنع لنفسه. فما استفاده لا يريد أن يحصره بذاته بل يوزعه على الناس الآخرين. وهنا مقابلة جميلة بين هدايته هو وبين إفساد أولئك الأشرار لاتباعهم فبدلاً من أن يظلم ويسبب تعاسة يريد الهداية والنور لنفسه وللناس.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى