سفر المزامير

سفر المزامير | 49 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر المزامير

للقس . وليم مارش

اَلْمَزْمُورُ ٱلتَّاسِعُ وَٱلأَرْبَعُونَ

لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِبَنِي قُورَحَ. مَزْمُورٌ

«١ اِسْمَعُوا هٰذَا يَا جَمِيعَ ٱلشُّعُوبِ. أَصْغُوا يَا جَمِيعَ سُكَّانِ ٱلدُّنْيَا ٢ عَالٍ وَدُونٍ، أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ، سَوَاءً. ٣ فَمِي يَتَكَلَّمُ بِٱلْحِكَمِ، وَلَهَجُ قَلْبِي فَهْمٌ. ٤ أُمِيلُ أُذُنِي إِلَى مَثَلٍ، وَأُوَضِّحُ بِعُودٍ لُغْزِي».

هذا المزمور مملوء بالحكمة فهو يظهر لنا أن هذه الحياة الدنيا باطلة وخداعة وهي كذلك لجميع البشر لذلك فالناظم يدعو الناس أن يترووا في أمورهم ويأخذوا الحكمة عنه بالنسبة لسعة اختباره ومعرفته بأساليب الحياة. وهو يخاطب جميع الشعوب لذلك نضعه مع المزمورين (٤٧ و٤٨) وليس مع ما سبقه من المزامير الوطنية والتاريخية. هو واعظ يريد أن يستخرج دروساً وعبراً من الحياة تهدي الناس وتسدد خطاهم. وهو ينقسم إلى الأقسام التالية من (عدد ٢ – ٥) ويذكرنا هنا بأقوال أليهو في سفر أيوب. ثم القسم (٦ – ١٣ وبعده ١٤ – ٢١) يكاد يكونان متشابهين وفيهما قرار واحد يميزهما ويختلفان اختلافاً طفيفاً. والأرجح أن ناظمه ليس داود لأنه يتفق مع مزامير مشابهة مثل المزمورين (٤٢ و٤٣) وقد يكون ناظمها واحد يتفق بروحه مع داود.

(١) يبدأ خطابه بالتعميم لأن موضوع كلامه يتناول كل إنسان على السواء وبهذا الصدد (راجع ما خاطب به ميخا ١ملوك ٢٢: ٢٨ وميخا النبي ١: ٢). إن الحياة زائلة وأهلها يجب أن يغتنموا الفرصة لكي يستفيدوا.

(٢) وفي ترجمة أخرى «يا بني آدم. يا بني الإنسان». وتكرار النداء لأجل التوكيد واسترعاء الانتباه من الجميع. وهو يلفت نظر الأغنياء أولاً ثم الفقراء لأن الأولين يحتاجون لمثل هذا الالتفات أكثر من الجميع. لأن الغني يغتر بهذه الدنيا ويضع عليها قلبه ولا يحسب للآخرة حساباً لذلك يجب أن ينادى أولاً قبل فوات الآوان. وقوله بني الإنسان أي ذوي الوجاهة والنسب لذلك فإن الترجمة عالٍ ودون هي في محلها. لأن بني آدم هم كل الناس على السواء بلا تمييز ولكنه يخصص بعد ذلك ببني القوم المعتبرين. وهم جميعاً يجب أن يصغوا وينتبهوا.

(٣) إن الفم يتكلم بالحكم ولكن بعد أن يمتلئ القلب بالفهم لا قبل ذلك. وأما الذين يدعون الحكمة بلسانهم فقط فليسوا حكماء حقيقة. ويمكننا أن نقول لأن قلبي يلهج بالفهم لذلك فها لساني يتكلم بالحكم. والحكم يقصد بها أي أنواع التعليم بل هو ذاك التعليم الذي يجعلنا أن نعرف كيف نتصرف في الحياة. وكلمة فهم العبرانية هي قريبة للبينة في العربية أي الذي نتبينه صواباً وحقاً.

(٤) والناظم يسر بالمثل الذي هو اختبار السنين على حد القول «ألسنة الخلق أقلام الحق». بل يسر أيضاً بالألغاز التي تثير اهتمام العقل لحلها. وكان السائل على ما يظهر يضعها بقالب شعري ويغنيها على إحدى آلات الطرب.

«٥ لِمَاذَا أَخَافُ فِي أَيَّامِ ٱلشَّرِّ عِنْدَمَا يُحِيطُ بِي إِثْمُ مُتَعَقِّبِيَّ؟ ٦ ٱلَّذِينَ يَتَّكِلُونَ عَلَى ثَرْوَتِهِمْ، وَبِكَثْرَةِ غِنَاهُمْ يَفْتَخِرُونَ. ٧ ٱلأَخُ لَنْ يَفْدِيَ ٱلإِنْسَانَ فِدَاءً، وَلاَ يُعْطِيَ ٱللّٰهَ كَفَّارَةً عَنْهُ. ٨ وَكَرِيمَةٌ هِيَ فِدْيَةُ نُفُوسِهِمْ، فَغَلِقَتْ إِلَى ٱلدَّهْرِ ٩ حَتَّى يَحْيَا إِلَى ٱلأَبَدِ فَلاَ يَرَى ٱلْقَبْرَ. ١٠ بَلْ يَرَاهُ! ٱلْحُكَمَاءُ يَمُوتُونَ. كَذٰلِكَ ٱلْجَاهِلُ وَٱلْبَلِيدُ يَهْلِكَانِ، وَيَتْرُكَانِ ثَرْوَتَهُمَا لآخَرِينَ».

(٥) يسأل نفسه لماذا يخاف وهنا للإنكار أي لا يجوز الخوف مطلقاً. ولو كان أعداؤه قوماً أشراراً يريدون الإيقاع به وأذيته. وقوله «يحيط بي» أي يطوّقه من كل جانب فلا يدري أين يتقي. ثم أن هؤلاء الأعداء يتعقبونه ويطاردونه هم وراءه أينما ذهب فلا يهدأ له بال ولا يستقر عل حال حتى يجد نفسه طريداً وكل شيء شر حواليه.

(٦) هؤلاء الأعداء ليسوا من عامة القوم ولا من الفقراء وإلا لهان الأمر وإنما هم أعداء أقوياء لهم مكانتهم الاجتماعية ويستعملون نفوذهم وغناهم في سبيل نيل مآربهم الشخصية. يرون في الثروة سبيلاً للعزة والكرامة وهم يعبدون الرب الثاني المال. ويفاخرون الآخرين بما لديهم من أموال طائلة.

(٧) كان من المنتظر أن يقول المرنم أن المال لا يفدي الإنسان فما باله يقول إن الأخ لا يفدي ولا يكفر. وفي الترجمة اليسوعية يقول «لا يفتدي أحد أخاه أصلاً ولا يعطي لله كفارة عنه». والقصد في الآية بالفدية والكفارة أن يتخلص الإنسان من الموت. وقد يكون المعنى أن الإنسان بكل ماله لا يستطيع أن يفدي أحداً حتى أيضاً لا يستطيع أن يكفر عن نفسه أو يفديها. أو يكون المعنى أن الإنسان لا يستطيع أن يفدي آخر ولكن الله وحده هو الذي يفدي.

(٨) ونجد تفسير ذلك في قوله «كريمة هي فدية نفوسهم…» أي أنها ثمينة بهذا المقدار حتى لا فدية لها قط. وإنها من نوع لا يمكن افتداؤه مهما كان الثمن المادي عظيماً. ذلك لأنها روح ولا شيء في الدنيا كلها يوازيها.

(٩) هنا يبين الغرض من الفدية أي أن يخلص نفسه من الموت ويحيا إلى الأبد وهنا يتصور المرنم أن الحياة إلى الأبد تعني أن الإنسان لا يموت موت الجسد ولم تكن أية فكرة من جهة الخلود للنفس التي تبقى مع الله. لذلك فمن الجهالة المطبقة أن يحسب الغني أن بغناه يستطيع أن يحوّل الموت عنه وهذا مستحيل المنال.

(١٠) وهنا يؤكد حالاً بقوله بل يراه ثم يستوي في هذا المصير المحتوم كل الناس الفهماء والجهلاء لا فرق كما الغني والفقير العظيم والحقير. وبعد الأراضي الواسعة يأتي القبر الضيق كما بعد الادعاء بالحياة والتلذذ بخيراتها يأتي الموت بأصابعه الباردة وعريه وفقره وتعاسته. ثم أن هذه الثروة يتركها وارءه الآخرين ولا يستطيع أن يأخذ منها شيئاً معه.

«١١ بَاطِنُهُمْ أَنَّ بُيُوتَهُمْ إِلَى ٱلأَبَدِ، مَسَاكِنَهُمْ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. يُنَادُونَ بِأَسْمَائِهِمْ فِي ٱلأَرَاضِي. ١٢ وَٱلإِنْسَانُ فِي كَرَامَةٍ لاَ يَبِيتُ يُشْبِهُ ٱلْبَهَائِمَ ٱلَّتِي تُبَادُ. ١٣ هٰذَا طَرِيقُهُمُ ٱعْتِمَادُهُمْ، وَخُلَفَاؤُهُمْ يَرْتَضُونَ بِأَقْوَالِهِمْ. سِلاَهْ. ١٤ مِثْلُ ٱلْغَنَمِ لِلْهَاوِيَةِ يُسَاقُونَ. ٱلْمَوْتُ يَرْعَاهُمْ، وَيَسُودُهُمُ ٱلْمُسْتَقِيمُونَ. غَدَاةً وَصُورَتُهُمْ تَبْلَى. ٱلْهَاوِيَةُ مَسْكَنٌ لَهُمْ. ١٥ إِنَّمَا ٱللّٰهُ يَفْدِي نَفْسِي مِنْ يَدِ ٱلْهَاوِيَةِ لأَنَّهُ يَأْخُذُنِي. سِلاَهْ».

(١١) إذا لم يقولوا جهراً أمام الناس فلا شك يقولونه سراً أن بيوتهم هي لهم إلى الأبد. من يستطيع أن يأخذها من أيديهم؟ هي باسمهم مطوبة ومسجلة في دفاتر الحكومة لا أحد في الدنيا ينازعهم السيادة عليها (راجع ٢صموئيل ١٢: ٢٨ و١ملوك ٨: ٤٣ وعاموس ٩: ١٢). إن هذا الجاه العالمي العريض سوف يزول كما يزول أصحابه ولا يبقى منه سوى القبر الضيق.

(١٢) أرى أن الترجمة هنا حرفية أكثر من اللازم ويا ليته قال «الإنسان لا يبيت في كرامة». أي أن مصيره لغير الكرامة والمجد بل للزوال والاضمحلال. ومصير جسده مثل مصير أجساد الحيوانات التي تباد ولا تبقى (انظر أيوب ٣٠: ١٩). وهؤلاء الناس المعتمدون على غناهم ومجدهم يشبهون البهائم من جهة اهتمامهم بالدنيا ما هو للدنيا لذلك فلا عجب أن يصيبهم ما يصيب البهائم.

(١٣) إن هؤلاء سيكون ذهابهم للهاوية حيثما يضمحلون بينما الصالحون فلهم البقاء مع الله. في قوله هذا طريقهم رجوع للعدد ١٢ في كلامه إن حياة الناس الذين بلا كرامة حقيقية (انظر حجي ١: ٥) هم أناس مغرورون بأنفسهم لا يقبلون نصيحة من أحد ولا يرعوون عن غيهم. إن الاتكال على النفس فضيلة إذا لم يخرج عن حده أما إذا زاد فهو العصيان والتمرد على الله. والذين يأتون بعدهم ويسيرون سيرتهم ويمشون في خطواتهم يقبلون أقوالهم ويثقون بها (انظر قضاة ٩: ٣٨). والموسيقى سلاه تضرب بقوة لأنها تنعي حماقة هؤلاء الناس الذين ما لهم في الحياة سوى القشور.

(١٤) ينزل هؤلاء للهاوية كما تساق الغنم للذبح. والراعي هنا لا يقودهم لأرض الأحياء حيث المراعي الخضر ومياه الراحة بل يقودهم للموت والفناء. حينئذ يبدأون بالخسارة والخذلان وهكذا يبدأ المستقيمون بالفوز والسيادة. إذا بالصباح يشرق عليهم للهلاك والدمار. فهو ليس الصباح للذهاب للمراعي والحياة بعد بل للمسلخ والموت. وأخيراً يسكنون في الهاوية.

(١٥) يعود فيقابل نفسه مع هؤلاء الهالكين فيجد أن الله لا يرضى بهلاك المؤمن بل ينجيه من يد الهاوية ويأخذه من بينهم ويفديه ويخلصه. نعم هذا هو نصيب المؤمن وهذا هو جزاء إيمانه بالله مخلصه. هو لا يرى خلاصه بماله ولا بكل تقدمة هذه الدنيا الفانية الزائلة بل بما يتناوله من يد الله القدير.

«١٦ لاَ تَخْشَ إِذَا ٱسْتَغْنَى إِنْسَانٌ، إِذَا زَادَ مَجْدُ بَيْتِهِ. ١٧ لأَنَّهُ عِنْدَ مَوْتِهِ كُلُّهُ لاَ يَأْخُذُ. لاَ يَنْزِلُ وَرَاءَهُ مَجْدُهُ. ١٨ لأَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ يُبَارِكُ نَفْسَهُ. وَيَحْمَدُونَكَ إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى نَفْسِكَ. ١٩ تَدْخُلُ إِلَى جِيلِ آبَائِهِ ٱلَّذِينَ لاَ يُعَايِنُونَ ٱلنُّورَ إِلَى ٱلأَبَدِ. ٢٠ إِنْسَانٌ فِي كَرَامَةٍ وَلاَ يَفْهَمُ يُشْبِهُ ٱلْبَهَائِمَ ٱلَّتِي تُبَادُ».

(١٦) يلتفت الناظم الآن من الشعر الغنائي إلى الموعظة والعبر. فيقدم نصيحة عن عدم الاهتمام بالغنى. أما عدم الخشية من غنيّ على هذه الصورة فذلك لأنه عادة يحاول أن يستعبد الفقير ويستغله لمنفعته الخاصة بل أنه يعامله بالقسوة والغلظة ويدوس حقه ولا يوصله يوماً إلى الواجبات المفروضة نحوه كأخ في البشرية. ولكن المؤمن لا يجوز أن يخشى منه مهما كان الأمر لأن فوق العالي عالياً هو الرب العظيم خالق السموات والأرض. وقوله «مجد بيته» أي كل مظاهر العز الأرضي وبسطة العيش والبحبوحة.

(١٧) هذا هو سبب عدم الاعتداد بالنفس لئلا نكون مثل ذلك الغني الغبي (لوقا ١٢: ١٩). أو مثل ذلك الغني في مثل أليعازر الذي استوفى خيراته على الأرض ولم يهتم بما للسماء (لوقا ١٩: ٢٥). إن الإنسان لا شك سيترك كل شيء وراءه ويذهب وإنما أعماله تتبعه لكي تقف أمام الله لأجل الدينونة (انظر وقابل رؤيا ١٤: ١٣). وإن مجد الإنسان لا يمكن أن ينزل معه للحفرة مهما حاول المشيعون للجنازة أن يفعلوا ذلك.

(١٨) وإنما البركة والكرامة ينالهما الإنسان طالما هو في الحياة الدنيا. وما يصنعه من خير مع الآخرين يعود إلى نفسه أولاً فليطمئن إذاً كل من يفعل المعروف ولا ينال جزاءه حالاً فليس المعنى أن لا جزاء له قط وأن الناس ينكرون الجميل ويجحدونه. ويكفي الإنسان راحة ضميره وشعوره بأنه قد أتم الواجب عليه أشكره الناس أم لم يشكروه. ولا شك أن الناس يحمدون ذلك الشخص المحسن إلى نفسه. لأن الخير الحقيقي أول شخص يُكافأ عليه هو فاعله.

(١٩) ولكن هذا الإنسان المحب لذاته المتمتع بغناه الذي ينال المديح والإطراء طالما هو في مجد وكرامة لا شك سيأتيه يوم يفارق فيه هذه الحياة وينضم لجماعة الأموات الراحلين إلى الآباء والجدود وسيصيبه ما أصابهم. ولن يرى عندئذ نوراً ولا مجداً ولا كرامة بعد الموت. إذاً حينئذ يعرف ذاته أنه قد أساء ولم يعش كما ينبغي كإنسان عاقل متعبد لله سامع لوصاياه بل حسب أن كل شيء له ويخضع لإرادته وسلطانه.

(٢٠) وهوذا يأتيه القصاص العادل ويحسب كالبهائم فلم يفهم كيف يربح الحياة الأبدية فعاش لهذه الدنيا ومات في سبيلها فقط «ولكن ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العلم كله وخسر نفسه…». وعندئذ أي فرق يا ترى بين إنسان على هذه الصورة والحيوان الأعجم الذي لا يفهم. هوذا هو قد باد لأنه عاش للتراب ولم يعش للروح فكان كأنما بدون روح كالبهائم التي تباد ولا تذكر فيما بعد.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى