إشعياء

سفر إشعياء | 34 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر إشعياء

للقس . وليم مارش

اَلأَصْحَاحُ ٱلرَّابِعُ وَٱلثَّلاَثُونَ

من الأصحاح الثالث عشر إلى الأصحاح الثالث والثلاثين نبوءات مضمونها أحكام الله على الأمم واليهود ومواعيده لليهود والأصحاحان الرابع والثلاثون والخامس والثلاثون هما نبوءة واحدة وخاتمة النبوءات المذكورة. وصف النبي في الأصحاح الرابع والثلاثين سخط الرب على كل الأمم ولا سيما أدوم وفي الأصحاح الخامس والثلاثين وصف البركات التي سيمنح شعبه إياها بعد انتقامه من أعدائه. وهذان الأصحاحان ممتازان عن غيرهما لما فيهما من المبالغة والتشخيص والاصطلاحات الشعرية وعظمة الأحكام في الأصحاح الواحد وعظمة البركات في الآخر.

١ «اِقْتَرِبُوا أَيُّهَا ٱلأُمَمُ لِتَسْمَعُوا، وَأَيُّهَا ٱلشُّعُوبُ ٱصْغُوا. لِتَسْمَعِ ٱلأَرْضُ وَمِلْؤُهَا. ٱلْمَسْكُونَةُ وَكُلُّ نَتَائِجِهَا».

مزمور ٤٩: ١ تثنية ٣٢: ١

يدعو النبي كل المسكونة وسكانها الناطقة وغير الناطقة كالبهائم والأشجار لتسمع كلامه وهذا مما يدل على أهميته (ص ١: ٢).

٢ «لأَنَّ لِلرَّبِّ سَخَطاً عَلَى كُلِّ ٱلأُمَمِ، وَحُمُوّاً عَلَى كُلِّ جَيْشِهِمْ. قَدْ حَرَّمَهُمْ، دَفَعَهُمْ إِلَى ٱلذَّبْحِ».

في تفسير هذه النبوءة نتذكر ما يأتي:

  1. إنها كلام الله وهو الخالق والحاكم العادل وله حق أن يُحيي ويُميت.
  2. إنها تبيّن لنا شر الخطية وتعلمنا أن نكرهها ونخاف منها ولا نستخف بها ولا ننظر إلى محبة الله ورحمته فقط بغض النظر عن عدله وحقه.
  3. إن الرب لا يسرّ بذبح الناس وسفك الدماء لأن الكتاب بأسره يعلّمنا أنه لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع إلى التوبة.
  4. إنه أحياناً يتألم واحد عبرة للآخرين لعلهم ينتبهون ويخلصون فيكون خراب المملكة الواحدة رحمة لغيرها وخيراً من خراب الممالك جميعها.

وقال «كل الأمم» لأن النبوءة التي في هذا الأصحاح خاتمة كل النبوءات السابقة وخلاصتها ومنها النبوءات على أشور وبابل وموآب ودمشق ومصر وصور وبلاد العرب.

٣ «فَقَتْلاَهُمْ تُطْرَحُ، وَجِيَفُهُمْ تَصْعَدُ نَتَانَتُهَا، وَتَسِيلُ ٱلْجِبَالُ بِدِمَائِهِمْ».

يوئيل ٢: ٢٠

من كثرة قتلاهم تُطرح ولا يمكن دفنها. وتسيل الجبال بدمائهم كما تسيل بالمياه في وقت المطر الغزير.

٤ «وَيَفْنَى كُلُّ جُنْدِ ٱلسَّمَاوَاتِ، وَتَلْتَفُّ ٱلسَّمَاوَاتُ كَدَرْجٍ، وَكُلُّ جُنْدِهَا يَنْتَثِرُ كَٱنْتِثَارِ ٱلْوَرَقِ مِنَ ٱلْكَرْمَةِ وَٱلسُّقَاطِ مِنَ ٱلتِّينَةِ».

مزمور ١٠٢: ٢٦ وحزقيال ٣٢: ٧و ٨ ويوئيل ٢: ٣١ و٣: ١٥ ومتّى ٢٤: ٢٩ و٢بطرس ٣: ١٠ رؤيا ٦: ١٤ ص ١٤: ١٢ رؤيا ٦: ١٣

جُنْدِ ٱلسَّمَاوَاتِ النجوم.

كَدَرْجٍ الله في البدء بسط السموات كخيمة وفي الآخر يلفها كدرج وهذه المبالغة جائزة بالشعر ومعناها بلايا عظيمة.

وَكُلُّ جُنْدِهَا يَنْتَثِرُ تسقط النجوم كما تسقط أوراق الأشجار.

٥ «لأَنَّهُ قَدْ رَوِيَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ سَيْفِي. هُوَذَا عَلَى أَدُومَ يَنْزِلُ، وَعَلَى شَعْبٍ حَرَّمْتُهُ لِلدَّيْنُونَةِ».

إرميا ٤٦: ١٠ إرميا ٤٩: ٧ الخ وملاخي ١: ٤

قَدْ رَوِيَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ سَيْفِي قضاء الله الأزلي بوقوع هذه الضربات كأنها كانت وقعت سابقاً في السماء أي في قضاء الله.

عَلَى أَدُومَ بلاد أدوم امتدت من البحر الميت شمالاً إلى البحر الأحمر جنوباً وكلها جبال والأدوميون من نسل عيسو وكان بينهم وبين اليهود عداوة قديمة وشديدة وفي الكتاب المقدس كثير من التهديد والتعيير والدعاء عليهم (مزمور ١٣٧: ٧ وإرميا ٤٩: ٧ – ٢٢ وحزقيال ٢٥: ١٢ – ١٤ ونبوءة عوبديا). وسبب هذه التهديدات اتحاد الأدوميين بأعداء اليهود مع أنهم إخوة اليهود من نسل إبراهيم وإسحاق وافتخارهم على اليهود يوم سقوط أورشليم بيد الكلدانيين (انظر قاموس الكتاب المقدس «أدوم»). وسخط الله هو على كل الأمم وأما أدوم فذُكرت خصوصاً كنائبة عن الجميع لأنها العدو القريب والقديم والحقود وظهرت عداوتها أكثر ظهور في زمان بلايا اليهود.

٦ «لِلرَّبِّ سَيْفٌ قَدِ ٱمْتَلأَ دَماً، ٱطَّلَى بِشَحْمٍ، بِدَمِ خِرَافٍ وَتُيُوسٍ، بِشَحْمِ كُلَى كِبَاشٍ. لأَنَّ لِلرَّبِّ ذَبِيحَةً فِي بُصْرَةَ وَذَبْحاً عَظِيماً فِي أَرْضِ أَدُومَ».

ص ٦٣: ١ وإرميا ٤٩: ١٣ وصفنيا ١: ٧

ٱمْتَلأَ دَماً إشارة إلى ذبح عظيم كأن السيف كوحش مفترس شرب دم القتلى حتى شبع منه.

خِرَافٍ وَتُيُوسٍ كناية عن الأدوميين من كل رتبهم.

بُصْرَةَ يُطلق هذا الاسم على مدينتين إحداهما في موآب (إرميا ٤٨: ٢٤) ويُظن أنها بصرة حوران والثانية بصرة أدوم واسمها اليوم بصيرة تبعد عن سالع أي بترى أو وادي موسى نحو ٣٥ ميلاً إلى الشمال منها. وكانت بصرة من أعظم مدن أدوم وهي مذكورة في (تكوين ٣٦: ٣٣) وتنبأ بعاقبتها إرميا (إرميا ٤٩: ١٣) قال «بصرة تكون دهشاً وعاراً وخراباً ولعنة».

٧ «وَيَسْقُطُ ٱلْبَقَرُ ٱلْوَحْشِيُّ مَعَهَا وَٱلْعُجُولُ مَعَ ٱلثِّيرَانِ، وَتُرْوَى أَرْضُهُمْ مِنَ ٱلدَّمِ، وَتُرَابُهُمْ مِنَ ٱلشَّحْمِ يُسَمَّنُ».

ٱلْبَقَرُ ٱلْوَحْشِيُّ… ٱلْعُجُولُ… ٱلثِّيرَانِ كناية عن الأدوميين.

وَتُرَابُهُمْ مِنَ ٱلشَّحْمِ يُسَمَّنُ الجثث غير المدفونة من كثرتها تخصب الأرض كأنها الزبل الذي تُدمن به التربة للخصب. قيل إن سهل واترلو في البلجيك أخصب كثيراً بعد المعركة المشهورة التي فيها انكسر نابوليون الأول.

٨ «لأَنَّ لِلرَّبِّ يَوْمَ ٱنْتِقَامٍ، سَنَةَ جَزَاءٍ مِنْ أَجْلِ دَعْوَى صِهْيَوْنَ».

ص ٦٣: ٤

الرب يؤخر قصاص أعدائه لغايات (١) أن يعطيهم فرصة للتوبة فيصفح عنهم. (٢) أن يكمل تأديب شعبه بواسطتهم. ولكنه عيّن يوماً للانتقام فيكون الانتقام في الوقت المعيّن.

مِنْ أَجْلِ دَعْوَى صِهْيَوْنَ (انظر سفر عوبديا) يظهر من هذه النبوءة المخيفة محبة الله لشعبه لأن غضبه على أعدائهم المعتدين عليهم هو بمقدار محبته لهم (زكريا ٢: ٨ «مَنْ يَمَسُّكُمْ يَمَسُّ حَدَقَةَ عَيْنِهِ»).

يَوْمَ… سَنَةَ (انظر ص ٦١: ٢ و٦٣: ٤) فيظهر من مقابلة هذه الآيات الثلاث أن للانتقام يوماً وأما الرحمة فلها سنة أي الرب يسرّ بخلاص الناس لا بهلاكهم فيغفر لنا خطايانا ولا يذكرها أيضاً ورحمته إلى الأبد. انظر الوصية الرابعة حيث قيل أن الرب يفتقد الذنوب إلى الجيل الثالث والرابع ويصنع إحساناً إلى ألوف أي إلى ألوف من الأجيال.

٩ «وَتَتَحَوَّلُ أَنْهَارُهَا زِفْتاً، وَتُرَابُهَا كِبْرِيتاً، وَتَصِيرُ أَرْضُهَا زِفْتاً مُشْتَعِلاً».

تثنية ٢٩: ٢٣

إشارة إلى خراب سدوم وعمورة. ليس في أدوم أنهار دائمة مدة السنة ولكن توجد أودية كثيرة تجري فيها سيول فصل الشتاء والمراد بالقول الخراب الدائم والكامل.

١٠ «لَيْلاً وَنَهَاراً لاَ تَنْطَفِئُ. إِلَى ٱلأَبَدِ يَصْعَدُ دُخَانُهَا. مِنْ دَوْرٍ إِلَى دَوْرٍ تُخْرَبُ. إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ لاَ يَكُونُ مَنْ يَجْتَازُ فِيهَا».

رؤيا ١٤: ١١ و١٨: ١٨ و١٩: ٣ ملاخي ١: ٤

قال ملاخي وهو بعد زمان إشعياء بنحو ٣٠٠ سنة «أَبْغَضْتُ عِيسُوَ، وَجَعَلْتُ جِبَالَهُ خَرَاباً… لأَنَّ أَدُومَ قَالَ قَدْ: هُدِمْنَا» وتحسّنت أدوم قليلاً في زمان المكابيين ثم تأخرت أيضاً حتى سقطت سقوطها النهائي في القرن السابع بعد المسيح. وإلى اليوم أدوم خربة (انظر كتاب البينة الجلية ف ٨).

١١ «وَيَرِثُهَا ٱلْقُوقُ وَٱلْقُنْفُذُ، وَٱلْكَرْكِيُّ وَٱلْغُرَابُ يَسْكُنَانِ فِيهَا، وَيُمَدُّ عَلَيْهَا خَيْطُ ٱلْخَرَابِ وَمِطْمَارُ ٱلْخَلاَءِ».

ص ١٤: ٢٣ وصفنيا ٢: ١٤ ورؤيا ١٨: ٢ و٢ملوك ٢١: ١٣ ومراثي ٢: ٨

انظر قاموس الكتاب لوصف الطيور والحيوانات. والأجناس المذكورة هي التي تحب الخلوة والأماكن الخربة.

وَيُمَدُّ عَلَيْهَا خَيْطُ ٱلْخَرَابِ الخيط مستعمل غالباً للبناء وأحياناً للخراب كأن مهندساً يمد خيطه ليعمل طريقاً فيخرب بعض البيوت للتمهيد.

١٢ «أَشْرَافُهَا لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يَدْعُونَهُ لِلْمُلْكِ، وَكُلُّ رُؤَسَائِهَا يَكُونُونَ عَدَماً».

أَشْرَافُهَا هذه الجملة غير كاملة. والظاهر أن النبي ابتدأ يقول شيئاً في أشراف أدوم وبعدما لفظ لفظة أشراف وقف وتذكر أنه ليس ملك في أدوم ولا أشراف.

١٣ – ١٥ «١٣ وَيَطْلَعُ فِي قُصُورِهَا ٱلشَّوْكُ. ٱلْقَرِيصُ وَٱلْعَوْسَجُ فِي حُصُونِهَا فَتَكُونُ مَسْكَناً لِلذِّئَابِ وَدَاراً لِبَنَاتِ ٱلنَّعَامِ. ١٤ وَتُلاَقِي وُحُوشُ ٱلْقَفْرِ بَنَاتِ آوَى، وَمَعْزُ ٱلْوَحْشِ يَدْعُو صَاحِبَهُ. هُنَاكَ يَسْتَقِرُّ ٱللَّيْلُ وَيَجِدُ لِنَفْسِهِ مَحَلاً. ١٥ هُنَاكَ تُحْجِرُ ٱلنَّكَّازَةُ وَتَبِيضُ وَتُفْرِخُ وَتُرَبِّي تَحْتَ ظِلِّهَا. وَهُنَاكَ تَجْتَمِعُ ٱلشَّوَاهِينُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ».

ص ٣٢: ١٣ وهوشع ٩: ٦ ص ١٣: ٢١ الخ

تُلاَقِي وُحُوشُ ٱلْقَفْرِ أي لا يكون أناس هناك فالوحوش لا تلاقي إلا وحوشاً وبأصواتها تدعو بعضها.

يَسْتَقِرُّ ٱللَّيْلُ الليل كناية عن الحزن والخوف والخراب. وقيل في السماء (رؤيا ٢٢: ٥) «لا يكون ليل هناك».

ٱلنَّكَّازَةُ هي حية خبيثة جداً ذات رأس رفيع قفازة مثل الحية الطيارة.

وَتَبِيضُ بعض أجناس من الحيّات تضع صغارها أحياء وأكثرها يبيض وبعضها يحضن البيض مثل الطيور «تحت ظلها».

١٦ «فَتِّشُوا فِي سِفْرِ ٱلرَّبِّ وَٱقْرَأُوا. وَاحِدَةٌ مِنْ هٰذِهِ لاَ تُفْقَدُ. لاَ يُغَادِرُ شَيْءٌ صَاحِبَهُ، لأَنَّ فَمَهُ هُوَ قَدْ أَمَرَ، وَرُوحَهُ هُوَ جَمَعَهَا».

ملاخي ٣: ١٦

سِفْرِ ٱلرَّبِّ أي الأسفار المقدسة التي كانت في أيام إشعياء ولا سيما نبوءة إشعياء هذه من جهة أدوم. ويظهر من هذا القول وجود سفر في أيام إشعياء معروف ومعتبر أنه سفر الرب وموحى به ويظهر أيضاً أن إشعياء عرف أنه تكلم بالوحي وكلامه سيُحفظ لإرشاد الأجيال الآتية.

وَاحِدَةٌ مِنْ هٰذِهِ ظن بعضهم أن كلمة «هذه» ترجع إلى النبوءات في سفر الرب والمعنى أن كل نبوءة ستتم. والأرجح أن «هذه» ترجع إلى الحيوانات المذكورة والمعنى أنها جميعها تكون في أدوم كما قيل ولا يغادر أحدهم رفيقه لأن الكل يكون هناك وهذا أمر الرب وهو الذي جمع في أدوم هذه الأجناس من الحيوانات والطيور والحيات.

١٧ «وَهُوَ قَدْ أَلْقَى لَهَا قُرْعَةً، وَيَدُهُ قَسَمَتْهَا لَهَا بِٱلْخَيْطِ. إِلَى ٱلأَبَدِ تَرِثُهَا. إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ تَسْكُنُ فِيهَا».

أَلْقَى لَهَا قُرْعَةً قسم بلاد أدوم لهذه الحيوانات كما قسم بلاداً أخرى لبني آدم.

فوائد للوعاظ

للرب سخط (ع ٢) نتعلم

  1. إن الانتقام أمر ضروري فلا يجوز أن الخطية تكون بلا عقاب.
  2. إنه لا يجوز للإنسان أن ينتقم لنفسه لأنه خاطئ وضعيف وعرضة للكبرياء والقساوة والغلط.
  3. إن الانتقام للرب لأنه خلق جميع الناس والجميع له وهو يعرف كل شيء وهو العادل والقدوس والمحب فلا يمكن أنه يغلط في أحكامه أو يجازي أحداً بأكثر مما يستحقه.

شهادة البلاد الخربة كأدوم وبابل وغيرهما ع ١٣ إلى ١٥

  1. إنها تشهد لله بأنه عادل في أحكامه وصادق في أقواله وقدير في إجراء قصده. فإن هذه البلاد لم تسقط لأسباب طبيعية فقط.
  2. إنها تشهد بمنافع الدين. كان لبعضهم أرض مخصبة ومياه كثيرة كسدوم وعمورة وبابل وكان للآخر حصون متينة كأدوم ولغيره مال كثير كصور وسقط جميعها لعدم الدين الحق.
  3. إنها تشهد على الخطية. فإن أجرتها موت الخاطئ وخراب البلاد فلا يضل أحد. الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً.
السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى