سفر إشعياء | 32 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر إشعياء
للقس . وليم مارش
اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي وَٱلثَّلاَثُونَ
مضمونه:
نبوءة بامتداد العدل والحق (ع ١ – ٨). وضربات ثقيلة على أورشليم حتى يُسكب روح من العلاء.
١ «هُوَذَا بِٱلْعَدْلِ يَمْلِكُ مَلِكٌ، وَرُؤَسَاءُ بِٱلْحَقِّ يَتَرَأَّسُونَ».
مزمور ٤٥: ١ الخ وإرميا ٢٣: ٥ وهوشع ٣: ٥ وزكريا ٩: ٩
قال بعضهم إن الملك هنا هو حزقيا بناء على ذكر «رؤساء» في هذه الآية و«إنسان» في الآية الثانية وعلى موافقة النبوءة لزمان حزقيا بعد هلاك جيش سنحاريب. وقال آخر إن الملك هنا هو المسيح بناء على أن الصفات المذكورة ليست على إطلاقها في أحد من ملوك الناس. والبركات الموعود بها لم تأت بتمامها في زمان حزقيا. والأرجح أن النبي يصور ملكاً في حال الكمال وتمت النبوءة جزئياً بحزقيا وكلياً بالمسيح. والأرجح أن تاريخ هذه النبوءة قبل هلاك جيش أشور بقليل بدليل قوله في ع ١٠ «أيام على سنة» والظاهر أن حزقيا قبل إنذار إشعياء وعدل عن محالفة مصر واتكل على الرب فعزاه النبي بالمواعيد التي في هذا الأصحاح.
رُؤَسَاءُ لا يقدر الملك وحده أن يجري العدل والحق فللملك المشار إليه إن كان حزقيا وإن كان المسيح أناس فيهم روحه فيترأسون بالحق. إن للرحمة مكاناً وللعدل مكاناً وأما العدل فهو الأساس لكل حكم صالح وهو كالنواميس الطبيعية للكون فإن الشمس تشرق والمطر ينزل ويأتي البرد والحر في أوقاتهما ولو نشأ عن ذلك أحياناً تعب وخسارة لبعض الناس. ورأى بعضهم أن «الرؤساء» إشارة إلى رسل المسيح.
٢ «وَيَكُونُ إِنْسَانٌ كَمَخْبَإٍ مِنَ ٱلرِّيحِ وَسِتَارَةٍ مِنَ ٱلسَّيْلِ، كَسَوَاقِي مَاءٍ فِي مَكَانٍ يَابِسٍ، كَظِلِّ صَخْرَةٍ عَظِيمَةٍ فِي أَرْضٍ مُعْيِيَةٍ».
ص ٤: ٦ و٢٥: ٤
كَمَخْبَإٍ مِنَ ٱلرِّيحِ يلتجئ المسافر إلى المخبإ فيستريح من الريح التي تارة تكون باردة وتارة تكون حارة. و«الإنسان» هو الملك المذكور في الآية الأولى فإن الملك العادل يكون كمخبأ لجميع المظلومين.
كَسَوَاقِي مَاءٍ في أواسط أميركا الشمالية أرض واسعة صالحة للمزروعات من كل وحه ولكن لا يقع عليها مطر وليس فيها ماء ولكن الحكومة أجرت إليها حديثاً سواقي عظيمة فصارت مخصبة وسكنها كثيرون. فهذه الخيرات أجرتها الحكومة على الرعية. وهكذا يجري العدل والحق من الملك المذكور ورؤسائه. وهكذا تكون نعمة المسيح على القلوب القاسية العقيمة.
كَصَخْرَةٍ عَظِيمَةٍ أحياناً الصخرة العظيمة تمنع الرمل الذي تحمله الريح فيتساقط ويتراكم وراء الصخرة فتسلم الأرض التي أمامها من أضرار الرمل. كان إبراهيم كصخرة فمنع ميل أهل الأرض إلى عبادة الأصنام وبظله نبت شعب اليهود. وكان النبي إشعياء كصخرة منع ميل اليهود إلى الاتكال على مصر. وكان حزقيا بإيمانه ورجوعه إلى الله كذلك فأخر خراب مملكته. والمسيح صخرة بالأولى لأنه عرض نفسه لرياح الاضطهاد من الناس وتجارب إبليس وغضب الله على الخطاء فالمؤمنون به يستريحون بظله ويُثمرون.
٣ «وَلاَ تَحْسِرُ عُيُونُ ٱلنَّاظِرِينَ، وَآذَانُ ٱلسَّامِعِينَ تَصْغَى».
ص ٢٩: ١٨ و٣٥: ٥ و٦
إن معاصري إشعياء طمّسوا أعينهم وثقلوا آذانهم فكان ذلك سبب حزن شديد للنبي. وكل راعي نفوس يعدّ عدم الاستماع من أعظم تجاربه ويراه أثقل من المقاومة والاضطهاد. والوعد هنا أنه في ملكوت المسيح سيسمع الناس كلام الله ويفهمون.
٤ «وَقُلُوبُ ٱلْمُتَسَرِّعِينَ تَفْهَمُ عِلْماً، وَأَلْسِنَةُ ٱلْعَيِيِّينَ تُبَادِرُ إِلَى ٱلتَّكَلُّمِ فَصِيحاً».
المتسرعون هم الذين يتكلمون وليس لهم معرفة والمعيون لهم معرفة ولكنهم لا يقدرون أن يتكلموا. والوعد هنا هو أنه في ملكوت المسيح يتجدد القلب واللسان معاً فيتكلم الجميع بمحبة المسيح.
٥ – ٨ «٥ وَلاَ يُدْعَى ٱللَّئِيمُ بَعْدُ كَرِيماً، وَلاَ ٱلْمَاكِرُ يُقَالُ لَهُ نَبِيلٌ. ٦ لأَنَّ ٱللَّئِيمَ يَتَكَلَّمُ بِٱللُّؤْمِ، وَقَلْبُهُ يَعْمَلُ إِثْماً لِيَصْنَعَ نِفَاقاً، وَيَتَكَلَّمَ عَلَى ٱلرَّبِّ بِٱفْتِرَاءٍ، وَيُفْرِغَ نَفْسَ ٱلْجَائِعِ وَيَقْطَعَ شُرْبَ ٱلْعَطْشَانِ. ٧ وَٱلْمَاكِرُ آلاَتُهُ رَدِيئَةٌ. هُوَ يَتَآمَرُ بِٱلْخَبَائِثِ لِيُهْلِكَ ٱلْبَائِسِينَ بِأَقْوَالِ ٱلْكَذِبِ، حَتَّى فِي تَكَلُّمِ ٱلْمِسْكِينِ بِٱلْحَقِّ. ٨ وَأَمَّا ٱلْكَرِيمُ فَبِٱلْكَرَائِمِ يَتَآمَرُ، وَهُوَ بِٱلْكَرَائِمِ يَقُومُ».
إن أبناء هذا الدهر يعتبرون الناس بالنظر إلى أموالهم ورتبهم فالغني والحاكم وابن الأسرة الأصلية يُدعى كريماً ولو كان لئيماً ويدعى نبيلاً ولو كان ماكراً لكن الاسم لا يغير طبع الإنسان فإن اللئيم يتكلم باللؤم ولو دعاه العالم كريماً والماكر يتكلم بالخبائث ولو سماه أهل الأرض نبيلاً. ولكن في ملكوت المسيح يحكم الناس بالصدق ويعتبرون كل إنسان بالنظر إلى ما هو عليه من الصفات الأدبية والروحية لا بالنظر إلى ما هو فيه كالغنى والمجد. يأتي ملكوت المسيح في هذا العالم بالتدريج وهكذا تأتي هذه البركات بالتدريج كالعدل والحق والصدق والغيرة والإصغاء إلى كلام الله. وتزداد هذه البركات بازدياد الملكوت.
٩ – ١٥ «٩ أَيَّتُهَا ٱلنِّسَاءُ ٱلْمُطْمَئِنَّاتُ، قُمْنَ ٱسْمَعْنَ صَوْتِي. أَيَّتُهَا ٱلْبَنَاتُ ٱلْوَاثِقَاتُ، ٱصْغِينَ لِقَوْلِي. ١٠ أَيَّاماً عَلَى سَنَةٍ تَرْتَعِدْنَ أَيَّتُهَا ٱلْوَاثِقَاتُ، لأَنَّهُ قَدْ مَضَى ٱلْقِطَافُ. ٱلاجْتِنَاءُ لاَ يَأْتِي. ١١ اِرْتَجِفْنَ أَيَّتُهَا ٱلْمُطْمَئِنَّاتُ. ٱرْتَعِدْنَ أَيَّتُهَا ٱلْوَاثِقَاتُ. تَجَرَّدْنَ وَتَعَرَّيْنَ وَتَنَطَّقْنَ عَلَى ٱلأَحْقَاءِ ١٢ لاَطِمَاتٍ عَلَى ٱلثُّدِيِّ مِنْ أَجْلِ ٱلْحُقُولِ ٱلْمُشْتَهَاةِ وَمِنْ أَجْلِ ٱلْكَرْمَةِ ٱلْمُثْمِرَةِ. ١٣ عَلَى أَرْضِ شَعْبِي يَطْلَعُ شَوْكٌ وَحَسَكٌ حَتَّى فِي كُلِّ بُيُوتِ ٱلْفَرَحِ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُبْتَهِجَةِ. ١٤ لأَنَّ ٱلْقَصْرَ قَدْ هُدِمَ. جُمْهُورُ ٱلْمَدِينَةِ قَدْ تُرِكَ. ٱلأَكَمَةُ وَٱلْبُرْجُ صَارَا مَغَايِرَ إِلَى ٱلأَبَدِ، مَرَحاً لِحَمِيرِ ٱلْوَحْشِ، مَرْعىً لِلْقُطْعَانِ. ١٥ إِلَى أَنْ يُسْكَبَ عَلَيْنَا رُوحٌ مِنَ ٱلْعَلاَءِ، فَتَصِيرَ ٱلْبَرِّيَّةُ بُسْتَاناً، وَيُحْسَبَ ٱلْبُسْتَانُ وَعْراً».
عاموس ٦: ١ ص ٣٤: ١٣ وهوشع ٩: ٦ ص ٢٢: ٢ ص ٢٧: ١٠ و٢أيام ٢٧: ٣ مزمور ١٠٤: ٣٠ ويوئيل ٢: ٢٨ ص ٢٩: ١٧ و٣٥: ٢
يكلم النبي هنا نساء أورشليم ويوبخهن على خطيئتهن وهي غفلتهن أو عدم انتباههن. والمرأة عرضة لهذه الخطيئة أكثر من سواها لأنها من طبعها أن تثق بغيرها. وهذه الثقة تارة تكون فضيلة كثقتها برجلها المعيّن لها من الله ليعتني بها وتارة تكون خطية كثقة حواء بالحية وثقة سفيرة برجلها حنانيا. والظاهر من هذا الأصحاح والأصحاح الثالث من هذا السفر أن نساء أورشليم كنّ مهتمات بلباسهن وراحتهن وثقلن على رجالهن بإسرافهن فأجبرنهم على الظلم والرشوة وهن لم ينتبهن فكان عدم انتباههن خطيئة.
أَيَّاماً عَلَى سَنَةٍ أي سنة وكسوراً والمعنى إما أن الضيقات تدوم سنة وكسوراً أو أنها تبتدئ بعد سنة وكسور وهذا هو الأرجح. وكانت هذه الضيقات بواسطة سنحاريب وبعد هلاك جيشه كان لليهود راحة وسلام تحت حكم حزقيا الملك العادل (٢أيام ٣٢: ٢٧ – ٣٠).
قَدْ مَضَى ٱلْقِطَافُ يصف النبي الضيق الآتي كأنه قد أتى.
تَجَرَّدْنَ وَتَعَرَّيْنَ أي أنهن يخلعن ثيابهن الفاخرة ويلبسن المسح. قال أحد المفسرين إن الموت سوف يجردنا من أموالنا فالأولى أن نجرد أنفسنا قبل الموت بوقف أموالنا للرب فلا نخاف من الموت.
عَلَى أَرْضِ شَعْبِي يَطْلَعُ شَوْكٌ قال سنحاريب في الكتابات الأشورية أنه سبى مئتي ألف من اليهود ولا ريب في أن نتيجة ذلك أن تُركت أرض كثيرة بلا فلاحة وبيوت كثيرة بلا سكان. ابتدأ الخراب الموصوف بواسطة سنحاريب وكُمل في مدة السبي.
ٱلأَكَمَةُ وَٱلْبُرْجُ صَارَا مَغَايِرَ إِلَى ٱلأَبَدِ الأكمة قسم من أورشليم جنوبي الهيكل والبرج كذلك قسم من أورشليم. والقول «إلى الأبد» يشير إلى زمان طويل لا إلى غير النهاية لأن نبوءات أخرى تشير إلى الرجوع (ص ٣٥) «تفرح البرية الأرض اليابسة» الخ.
رُوحٌ مِنَ ٱلْعَلاَءِ إن الروح القدس يعمل في قلوب الناس في كل عصر. فإن الإصلاح في أيام حزقيا وفي أيام يوشيا أيضاً وإيمان بعض اليهود في مدة السبي وبعد السبي كانا من الروح القدس ولكن النبي يشير هنا إلى حلول الروح القدس بغزارة كما في يوم الخمسين. والبركات الموعود بها أعطيت جزئياً في أيام حزقيا وبعد السبي وستُعطى بغزارة كما يُعطى الروح القدس بغزارة في أيام العهد الجديد. كانت علة مصائب اليهود الجسدية فسادهم الأدبي والروحي ولما صلحت أحوالهم الروحية صلحت أحوالهم الجسدية أيضاً.
فَتَصِيرَ ٱلْبَرِّيَّةُ بُسْتَاناً إشارة إلى التحسين في كل شيء.
وَيُحْسَبَ ٱلْبُسْتَانُ وَعْراً هذا التشبيه غير ما أتى في (ص ٢٩: ١٧) فإن المراد هنا أن الأرض المخصبة تزداد خصباً وتصير الأشجار المثمرة كأشجار الوعر كثرة وعظمة.
١٦ – ١٩ «١٦ فَيَسْكُنُ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ ٱلْحَقُّ، وَٱلْعَدْلُ فِي ٱلْبُسْتَانِ يُقِيمُ. ١٧ وَيَكُونُ صُنْعُ ٱلْعَدْلِ سَلاَماً، وَعَمَلُ ٱلْعَدْلِ سُكُوناً وَطُمَأْنِينَةً إِلَى ٱلأَبَدِ. ١٨ وَيَسْكُنُ شَعْبِي فِي مَسْكَنِ ٱلسَّلاَمِ، وَفِي مَسَاكِنَ مُطْمَئِنَّةٍ وَفِي مَحَلاَّتٍ أَمِينَةٍ. ١٩ وَيَنْزِلُ بَرَدٌ بِهُبُوطِ ٱلْوَعْرِ، وَإِلَى ٱلْحَضِيضِ تُوضَعُ ٱلْمَدِينَةُ».
يعقوب ٣: ١٨ ص ٣٠: ٣٠ زكريا ١١: ٢
فِي ٱلْبَرِّيَّةِ… فِي ٱلْبُسْتَانِ أي في كل مكان يكون العدل والحق فتعم هذه البركات جميع الناس كالساكن في البرية أي الفقير وصاحب البستان أي الغني. ونتيجة العدل هي السلام.
وَيَنْزِلُ بَرَدٌ الأرجح أن النبي يشير إلى أحكام الله على أورشليم كما تكلم في (ع ١٣ و١٤) فلا بد من حدوث هذا التأديب قبل وفاء المواعيد والتأديب هو غزو سنحاريب وبموجب هذا التفسير يكون الوعر إشارة إلى جيش اليهود وأكابرهم والمدينة المذكورة هي أورشليم. ورأى بعضهم أن الوعر هو جيش الأشوريين وأن المدينة هي نينوى. وقال غيرهم إن الوعر يشير إلى أعداء الله بالإجمال والمدينة هي كل مدينة تقاوم الله في كل زمان.
٢٠ «طُوبَاكُمْ أَيُّهَا ٱلزَّارِعُونَ عَلَى كُلِّ ٱلْمِيَاهِ، ٱلْمُسَرِّحُونَ أَرْجُلَ ٱلثَّوْرِ وَٱلْحِمَارِ».
ص ٣٠: ٢٤
نظر النبي إلى المستقبل وغبط الذين سيسكنون في الأرض بكل راحة وطمأنينة ولهم مياه كثيرة ويزرعون في كل موضع بلا خوف ويسرّحون بهائمهم أي يخرجونها لترعى في كل مكان بالأمان. فلا نغبط الذين يقضون حياتهم بلا عمل بل الذين يعملون ويتعبون ويتمتعون بأثمار أتعابهم.
فوائد للوعاظ
مَن هو اللئيم ومَن هو الكريم (ع ٥)
- الناس يعتبرون الذكي فيسمعون كلامه ونكته ومن المحتمل أنه يكون كافراً في الدين وفاسداً في الأدب.
- الناس يعتبرون الغني ومن المحتمل أنه يكون طماعاً وظالماً.
- الناس يعتبرون ابن أسرة شريفة ومن المحتمل أنه يكون متكبراً وغير نافع.
- الله يعتبر أولاً الصفات الأدبية والروحية ومن المحتمل أن البسيط يكون أفضل من الذكي والفقير أفضل من الغني والصغير في العالم أفضل من الكبير. فيكون الكريم الحقيقي من لا يطلب ما لنفسه بل يضع نفسه لأجل غيره ولا يسود على الناس بل يخدمهم اقتداء بالمسيح ولا يفتخر بل يعترف بخطاياه.
السابق |
التالي |