سفر أيوب | 28 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر أيوب
للقس . وليم مارش
اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّامِنُ وَٱلْعِشْرُونَ
موضوعه أن الإنسان من تلقاء نفسه لا يجد الحكمة فإنك لا تجدها في الأرض كما تجد المعادن والحجارة الكريمة ولا تجدها في أماكن التجارة فتبتاعها بثمن ولا تجدها في البحر ولا في مكان الأخيلة والله وحده يفهم طريقها ويعلم مكانها فمخافة الرب هي الحكمة. وقصد أيوب في كلامه هنا البيان أن الإنسان لا يقدر أن يفهم فهماً تاماً أعمال الله وحكمة الإنسان في أن يسلّم أموره لله الذي يدبر بالحكمة وإن كان الإنسان لا يقدر أن يفهمه. وبعض المفسرين المحدثين لا يرون علاقة بين كلام هذا الأصحاح والكلام السابق في (ص ٢٧) ولا يرون علاقة بينه وبين الكلام التابع في (ص ٢٩) فيظنون أن كلام هذا الأصحاح هو قصيدة منفردة ومستقلة أدرجها جامع السفر في هذا المكان.
١ – ٣ «١ لأَنَّهُ يُوجَدُ لِلْفِضَّةِ مَعْدَنٌ، وَمَوْضِعٌ لِلذَّهَبِ حَيْثُ يُمَحِّصُونَهُ. ٢ ٱلْحَدِيدُ يُسْتَخْرَجُ مِنَ ٱلتُّرَابِ وَٱلْحَجَرُ يَسْكُبُ نُحَاساً. ٣ قَدْ جَعَلَ لِلظُّلْمَةِ نِهَايَةً وَإِلَى كُلِّ طَرَفٍ هُوَ يَفْحَصُ. حَجَرَ ٱلظُّلْمَةِ وَظِلَّ ٱلْمَوْت».
كان للمصريين معادن نحاس وفضة في شبه جزيرة سيناء في بلاد العرب وحتى اليوم تُرى أنفاقها وآلاتها ومسابكها وآثار أدوات العمال كأنها تركوها أمس وليس منذ نحو ٤٠٠٠ سنة.
ٱلْحَجَرُ يَسْكُبُ نُحَاساً كسروه وذوّبوه فسال منه نحاس مسبوك.
جَعَلَ لِلظُّلْمَةِ نِهَايَةً لأن الظلمة لم تمنعه عن الفحص تحت الأرض وكشف المعادن. وحجر الظلمة هو الحجر الموجود في مكان الظلمة. وظل الموت هو الظلمة الدامسة ليس فيها نور مطلقاً بخلاف ما هو على وجه الأرض.
٤ – ٦ «٤ حَفَرَ مَنْجَماً بَعِيداً عَنِ ٱلسُّكَّانِ. بِلاَ مَوْطِئٍ لِلْقَدَمِ. مُتَدَلِّينَ بَعِيدِينَ مِنَ ٱلنَّاسِ يَتَدَلْدَلُونَ. ٥ أَرْضٌ يَخْرُجُ مِنْهَا ٱلْخُبْزُ أَسْفَلُهَا يَنْقَلِبُ كَمَا بِٱلنَّارِ. ٦ حِجَارَتُهَا هِيَ مَوْضِعُ ٱلْيَاقُوتِ ٱلأَزْرَقِ وَفِيهَا تُرَابُ ٱلذَّهَبِ».
بِلاَ مَوْطِئٍ لِلْقَدَمِ كانوا يحفرون حُفراً في الجبال متدلين بحبال من فوق في أماكن غير مسكونة. الحارث يحرث وجه الأرض ويزرع ويحصد ويخرج منها خبزه وأما الصانع في المعادن فيقلب الأرض من أسفلها وحصاده معادن ثمينة وبعدما يستخرج المعادن يترك الأرض مقلوبة كأنها احترقت بالنار. وتراب الذهب هو التراب الذي يُستخرج منه الذهب.
٧ – ١١ «٧ سَبِيلٌ لَمْ يَعْرِفْهُ كَاسِرٌ، وَلَمْ تُبْصِرْهُ عَيْنُ بَاشِقٍ، ٨ وَلَمْ تَدُسْهُ أَجْرَاءُ ٱلسَّبْعِ، وَلَمْ يَسْلُكْهُ ٱلأَسَدُ. ٩ إِلَى ٱلصَّوَّانِ يَمُدُّ يَدَهُ. يَقْلِبُ ٱلْجِبَالَ مِنْ أُصُولِهَا. ١٠ يَنْقُرُ فِي ٱلصُّخُورِ سَرَباً، وَعَيْنُهُ تَرَى كُلَّ ثَمِينٍ. ١١ يَمْنَعُ رَشْحَ ٱلأَنْهَارِ، وَأَبْرَزَ ٱلْخَفِيَّاتِ إِلَى ٱلنُّورِ».
سَبِيلٌ لَمْ يَعْرِفْهُ كَاسِرٌ (ع ٧) أي سبيل المعادن لم تره الطيور وما داسته الوحوش. أو سبيل الحكمة. (انظر ع ٢١) «إِذْ أُخْفِيَتْ عَنْ عُيُونِ كُلِّ حَيٍّ وَسُتِرَتْ عَنْ طَيْرِ ٱلسَّمَاءِ» والقدماء ظنوا أن الطيور والوحوش تعرف بعض أمور لا يقدر الإنسان أن يعرفها.
إِلَى ٱلصَّوَّانِ يَمُدُّ يَدَهُ (ع ٩) إشارة إلى الصعوبات التي يجدها الصانع في المعادن وإلى شجاعته وحذاقته في مقاومة هذه الصعوبات. والسرب (ع ١٠) هي الانفاق يحفرها الصناع للتفتيش عن المعادن الثمينة.
يَمْنَعُ رَشْحَ ٱلأَنْهَارِ (ع ١١) لئلا تجتمع المياه في المعدن فتمنع العمل فيه.
١٢ – ١٩ «١٢ أَمَّا ٱلْحِكْمَةُ فَمِنْ أَيْنَ تُوجَدُ، وَأَيْنَ هُوَ مَكَانُ ٱلْفَهْمِ؟ ١٣ لاَ يَعْرِفُ ٱلإِنْسَانُ قِيمَتَهَا وَلاَ تُوجَدُ فِي أَرْضِ ٱلأَحْيَاءِ. ١٤ ٱلْغَمْرُ يَقُولُ: لَيْسَتْ هِيَ فِيَّ، وَٱلْبَحْرُ يَقُولُ: لَيْسَتْ هِيَ عِنْدِي. ١٥ لاَ يُعْطَى ذَهَبٌ خَالِصٌ بَدَلَهَا وَلاَ تُوزَنُ فِضَّةٌ ثَمَناً لَهَا. ١٦ لاَ تُوزَنُ بِذَهَبِ أُوفِيرَ أَوْ بِٱلْجَزْعِ ٱلْكَرِيمِ أَوِ ٱلْيَاقُوتِ ٱلأَزْرَقِ. ١٧ لاَ يُعَادِلُهَا ٱلذَّهَبُ وَلاَ ٱلزُّجَاجُ، وَلاَ تُبْدَلُ بِإِنَاءِ ذَهَبٍ إِبْرِيزٍ. ١٨ لاَ يُذْكَرُ ٱلْمَرْجَانُ أَوِ ٱلْبَلُّورُ، وَتَحْصِيلُ ٱلْحِكْمَةِ خَيْرٌ مِنَ ٱللآلِئِ. ١٩ لاَ يُعَادِلُهَا يَاقُوتُ كُوشَ ٱلأَصْفَرُ وَلاَ تُوزَنُ بِٱلذَّهَبِ ٱلْخَالِصِ».
ع ٢٣ و٢٨ أمثال ٨: ١٠ و١٦: ١٦ أمثال ٨: ١١ أمثال ٨: ١٩
ٱلْغَمْرُ (ع ١٤) هو البحر المحيط الذي أحاط الأرض حسب اعتقاد القدماء.
لاَ تُوزَنُ (ع ١٦) كان القدماء يتعاملون بالمعادن لعدم وجود نقود (انظر تكوين ٢٣: ١٦).
أُوفِيرَ بلاد على شاطئ البحر الهندي في جنوبي البلاد العربية على الأرجح (٢٢: ٢٤). والزجاج (ع ١٧) لقلة وجوده كان ثميناً والإشارة إلى آنية منه. والمرجان (ع ١٨) مادة كلسية يفرزها نوع من الحيوانات البحرية تجعلها نظير هيكل لوقاية جسمها من عنف الأمواج والمرجان مختلف الألوان بعضه أحمر وبعضه له فروع كفروع النبات ويُصنع من بعض أنواعه خرز يُذكر مع اللآلئ والمعنى هنا كما يُستدل من القرينة أن الحكمة لا تُباع باللآلئ.
٢٠ – ٢٢ «٢٠ فَمِنْ أَيْنَ تَأْتِي ٱلْحِكْمَةُ، وَأَيْنَ هُوَ مَكَانُ ٱلْفَهْمِ. ٢١ إِذْ أُخْفِيَتْ عَنْ عُيُونِ كُلِّ حَيٍّ وَسُتِرَتْ عَنْ طَيْرِ ٱلسَّمَاءِ؟ ٢٢ اَلْهَلاَكُ وَٱلْمَوْتُ يَقُولاَنِ: بِآذَانِنَا قَدْ سَمِعْنَا خَبَرَهَا».
ع ٢٣ و٢٨ ص ٢٦: ٦ وأمثال ٨: ٢٢ – ٣٦
في هذه الآيات ملخص الكلام السابق أي لا توجد الحكمة على الأرض في أماكن البيع ولا تحت الأرض في المعادن ولا في البحر ولا في الهاوية مكان الهلاك والموت فإنهما يقولان «قد سمعنا خبرها» أي خبرها فقط ولكنها ليست عندهما. والنتيجة أن الحكمة لله وحده فإنه خلق الكون ويعتني به.
٢٣ – ٢٨ «٢٣ اَللّٰهُ يَفْهَمُ طَرِيقَهَا وَهُوَ عَالِمٌ بِمَكَانِهَا. ٢٤ لأَنَّهُ هُوَ يَنْظُرُ إِلَى أَقَاصِي ٱلأَرْضِ. تَحْتَ كُلِّ ٱلسَّمَاوَاتِ يَرَى. ٢٥ لِيَجْعَلَ لِلرِّيحِ وَزْناً وَيُعَايِرَ ٱلْمِيَاهَ بِمِقْيَاسٍ. ٢٦ لَمَّا جَعَلَ لِلْمَطَرِ فَرِيضَةً وَسَبِيلاً لِلصَّوَاعِقِ ٢٧ حِينَئِذٍ رَآهَا وَأَخْبَرَ بِهَا، هَيَّأَهَا وَأَيْضاً بَحَثَ عَنْهَا ٢٨ وَقَالَ لِلإِنْسَانِ: هُوَذَا مَخَافَةُ ٱلرَّبِّ هِيَ ٱلْحِكْمَةُ، وَٱلْحَيَدَانُ عَنِ ٱلشَّرِّ هُوَ ٱلْفَهْمُ».
ص ٩: ٤ وأمثال ٨: ٢٢ – ٣٦ مزمور ١١: ٤ و٣٣: ١٣ و١٤ و٦٦: ٧ وأمثال ١٥: ٣ مزمور ١٣٥: ٧ ص ١٢: ١٥ و٣٨: ٨ – ١١ ص ٣٧: ٦ و١١ و١٢ و٣٨: ٢٦ – ٢٨ ص ٣٧: ٣ و٣٨: ٢٥ مزمور ١١١: ١٠ وأمثال ١: ٧ و٩: ١٠
لِلرِّيحِ وَزْناً (ع ٢٥) الله عيّن للريح مقدارها وقوتها «المياه» هي الأمطار التي يحكم الله عليها من جهة أوقاتها ومقدارها.
رَآهَا وَأَخْبَرَ (ع ٢٧) إشارة إلى ما حدث في أفكار الله كما تصوّره المتكلم (تكوين ١: ٣١) «رَأَى ٱللّٰهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً» (ومزمور ١٩: ١) «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ».
هَيَّأَهَا للكون نواميس نسميها نواميس طبيعية وليست هذه النواميس إلا أعمال الله قد نظمها أحسن نظام فيمكن الإنسان أن يستند عليها بكل ثقة. وحياته قائمة عليها كشروق الشمس وغيابها وترتيب المطر والفصول وفعل النار والكهرباء ونمو النباتات والحيوانات الخ. والفلسفة الطبيعية هي علم به يبحث الإنسان عن أعمال الله في الكون وبهذه الأعمال تظهر حكمة الله غير المحدودة. ويعمل الله أيضاً في الروحيات وعندنا نواميس روحية كما عندنا نواميس طبيعية فعامل الله الإنسان بالعدل والحق والمحبة وظهرت حكمته الفائقة ببذل ابنه ليخلص الإنسان من الخطيئة ويعطيه الحياة الأبدية. وحكمة الإنسان (ع ٢٨) هي مخافة الرب أي أن يعرفه من أعماله في الطبيعة وبالفداء. وبما أن الإنسان لا يقدر أن يعرف الله تمام المعرفة عليه أن يؤمن بأنه كل أعماله بغاية الحكمة والعدل والمحبة وإن كان لا يقدر أن يفهم أعماله كلها. ومن حكمة الإنسان أيضاً أن يتقي الله ويطيعه ويسلك بموجب نواميسه المعلنة.
للعلوم قيمة والإنسان يبذل جهده في تحصيلها ولكن الإيمان بالله والاتكال عليه والمحبة والطاعة له أفضل من جميع العلوم. والقول مخافة الرب هي الحكمة لا ينفي قيمة العلوم الطبيعية والفلسفة ومعرفة التاريخ واللغات الخ بل يفيد أن مخافة الرب أفضل الكل وهي رأس الحكمة وبدءها (انظر تثنية ٤: ٦ ومزمور ١١١: ١٠).
السابق |
التالي |