سفر القضاة

سفر القضاة | 15 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر القضاة

للقس . وليم مارش

اَلأَصْحَاحُ ٱلْخَامِسُ عَشَرَ

محتويات هذا الأصحاح:

  1. افتقاد شمشون لزوجته ومعرفته أنها صارت لآخر (ع ١ و٢).
  2. انتقامه لنفسه بإحراقه زروع الفلسطينيين (ع ٣ – ٥).
  3. إحراق الفلسطينيين امرأة شمشون وأباها (ع ٦).
  4. انتقام شمشون من الفلسطينيين بالقتل (ع ٧ و٨).
  5. تسليم رجال يهوذا إياه إلى الفلسطينيين (ع ٩ – ١٣).
  6. قطعه الحبلين وقتله ألف فلسطيني بلحي حمار (ع ١٤ – ١٧).
  7. عين هقوري (ع ١٨ و١٩).

انتقام شمشون ع ١ إلى ٨

١، ٢ «١ وَكَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ فِي أَيَّامِ حَصَادِ ٱلْحِنْطَةِ أَنَّ شَمْشُونَ ٱفْتَقَدَ ٱمْرَأَتَهُ بِجَدْيِ مِعْزىً. ٢ وَقَالَ: أَدْخُلُ إِلَى ٱمْرَأَتِي إِلَى حُجْرَتِهَا. وَلٰكِنَّ أَبَاهَا لَمْ يَدَعْهُ أَنْ يَدْخُلَ».

بَعْدَ مُدَّةٍ وفي العبرانية «بعد أيام» والمراد مدة غير معيّنة (ص ١٤: ٨) ولعلها هنا لا تزيد على شهر أو شهرين.

فِي أَيَّامِ حَصَادِ ٱلْحِنْطَةِ أي في نحو منتصف شهر أيار. قال الكاتب هذا توطئة لما في (ع ٤ و٥).

ٱفْتَقَدَ ٱمْرَأَتَهُ بِجَدْيِ مِعْزىً كان ذلك هدية المصالحة فإن غضبه كان قد سكن وعاوده الحب القديم لمن حسنت في عينيه (ص ١٤: ٣). وكان جدي المعزى من الهدايا المألوفة كثيراً (انظر تكوين ٣٨: ١٧ ولوقا ١٥: ٢٩).

أَدْخُلُ إِلَى ٱمْرَأَتِي إِلَى حُجْرَتِهَا أي إلى غرفتها الخاصة. وهذا القصد كان بلاء عليها وعلى بيت أبيها وعلى شمشون أيضاً.

وَلٰكِنَّ أَبَاهَا لَمْ يَدَعْهُ أَنْ يَدْخُلَ هذا يدل على أن امرأة شمشون كانت في بيت أبيها.

٢ «وَقَالَ أَبُوهَا: إِنِّي قُلْتُ إِنَّكَ قَدْ كَرِهْتَهَا فَأَعْطَيْتُهَا لِصَاحِبِكَ. أَلَيْسَتْ أُخْتُهَا ٱلصَّغِيرَةُ أَحْسَنَ مِنْهَا؟ فَلْتَكُنْ لَكَ عِوَضاً عَنْهَا».

ص ١٤: ٢٠

إِنَّكَ قَدْ كَرِهْتَهَا لما ظهر من تركك إياها وغضبك عليها فتيقنت أنك طلقتها وهجرتها إلى الأبد.

فَأَعْطَيْتُهَا لِصَاحِبِكَ (ص ١٤: ٢٠) كان عمله غلطاً (١) لأن طلاقها من حقوق زوجها لا من حقوق غيره. (٢) لأنه لم يعلم أن شمشون قد تركها تماماً. (٣) لأنه عمل بالعجلة. والكبرياء والطمع من دواعي البلاء. والعجلة كثيراً ما تكون مقدمة الندامة.

أَلَيْسَتْ أُخْتُهَا ٱلصَّغِيرَةُ أَحْسَنَ مِنْهَا قال هذا ترغيباً له في أختها وتعويضه من امرأته وتكفيراً لعجلته وحرمان شمشون المرأة التي أحبها. ولكن الحب لا يُرشى بصغر ولا جمال. ولعل هنالك موانع أخرى لم تعلمها ومعظمها أسرار العناية الإلهية.

٣ «فَقَالَ لَهُمْ شَمْشُونُ: إِنِّي بَرِيءٌ ٱلآنَ مِنَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ إِذَا عَمِلْتُ بِهِمْ شَرّاً».

فَقَالَ لَهُمْ أي لحميه وللذين حوله من الفلسطينيين ورأى بعض المفسرين أنه قال ذلك في نفسه للفلسطينيين المرسومين في خياله لا لحميه. أي فقال شمشون في نفسه للفلسطينيين ما رآه أنه عذر له على محاربتهم وأنه بريء من الجور والتعدي كما يأتي.

إِنِّي بَرِيءٌ ٱلآنَ مِنَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ أي قد صحّ عندي الآن إني إذا سفكت دم الفلسطينيين فأنا بريء من دمهم أو من الظلم بسفكه لأنهم استحقوا ذلك وأنا من حقي أن أنتقم منهم وكان يعلم أن الفلسطينيين كلهم كانوا موافقين حماه وصاحبه على ما أتياه على الجميع وإن الفلسطينيين كانوا يومئذ يجورون على الإسرائيليين لأنهم كانوا تحت سلطانهم فإساءة حميه وصاحبه إليه هاج غضبه على كل فلسطيني إذ حسب ما أتياه استخفافاً بالإسرائيليين وبغضاً لهم وهذا كان شأن كل فلسطيني حينئذ.

٤ «وَذَهَبَ شَمْشُونُ وَأَمْسَكَ ثَلاَثَ مِئَةِ ٱبْنِ آوَى، وَأَخَذَ مَشَاعِلَ وَجَعَلَ ذَنَباً إِلَى ذَنَبٍ، وَوَضَعَ مَشْعَلاً بَيْنَ كُلِّ ذَنَبَيْنِ فِي ٱلْوَسَطِ».

ثَلاَثَ مِئَةِ ٱبْنِ آوَى ما كان يصعب الحصول على هذا العدد من بنات آوى لكثرتها في فلسطين وسورية في ذلك العصر ولا تزال كثيرة فيهما إلى هذا العصر. ولكن كانت فيهما يومئذ أكثر منها الآن فإن سكان هذه البلاد اجتهدوا منذ العصور الخالية في قتل الوحوش الضارة حتى قطعوا بعضها كالأسد. ولا ريب في أنه كان لشمشون رجال ساعدوه على ذلك ونُسب الفعل إليه لأنه هو رئيسهم. وابن آوى وحش ضار أكبر من الثعلب وأصغر من الذئب يكثر في بلاد المشرق وفي قرب المدن والقرى ويقصد القبور لأكل جثث الموتى ويتبع الجيوش لأكل جثث القتلى (مزمور ٦٣: ١٠). ويكنى في العربية بأبي أيوب وأبي ذؤيب وأبي كعب وأبي وائل. قال بعضهم وسمي ابن آوى لأنه يأوي إلى عواء أبناء جنسه ولا يعوي إلا ليلاً وصياحه يشبه صياح الصبيان وهو طويل المخالب والأظفار يعدو على غيره ويأكل مما يصيد من الطيور وغيرها. وخوف الدجاج منه أشد من خوفها من الثعلب.

وَجَعَلَ ذَنَباً إِلَى ذَنَبٍ أي ربط أحد الذنبين بالآخر أو عقد أحدهما بالآخر.

وَوَضَعَ مَشْعَلاً بَيْنَ كُلِّ ذَنَبَيْنِ فِي ٱلْوَسَطِ أي مكّن في العقدة بالربط قدراً من عيدان النبات الراتينجي أو خشبه كالصنوبر. والمشعل في اللغة المصباح واستُعير هنا لما ذكرنا.

٥ «ثُمَّ أَضْرَمَ ٱلْمَشَاعِلَ نَاراً وَأَطْلَقَهَا بَيْنَ زُرُوعِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ، فَأَحْرَقَ ٱلأَكْدَاسَ وَٱلزَّرْعَ وَكُرُومَ ٱلزَّيْتُونِ».

ثُمَّ أَضْرَمَ ٱلْمَشَاعِلَ نَاراً أي جعل العيدان أو الخشب ناراً بالإضرام. والإضرام الإيقاد والإشعال.

وَأَطْلَقَهَا أي أطلق بنات آوى.

بَيْنَ زُرُوعِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ المرجّح أنه أتى ذلك ليلاً لئلا يرى الفلسطينيون ذلك فيسرعوا إلى طرد بنات آوى ويطفئوا النار وكانت أكداس الشعير والقمح جافة. وهذا من أشد المضرات بالقوم لأن غلال الأرض كانت معظم قوام الحياة عندهم. ولا ريب في أن ما أتاه شمشون كان نتاج قساوة شديدة ولكنه لم يكن فظيعاً عند أهل أولئك العصر كما هو عند المتمدنين في عصرنا. بل كان في عصر شمشون من الأمور العادية في الانتقام. وشمشون وإن كان قاضياً وحل عليه روح الرب لم يكن معصوماً بل ارتكب غلطات وآثاماً كثيرة إنما كان نقمة من الأمم ومن نفسه بحكم طبيعة العمل.

ٱلأَكْدَاسَ وَٱلزَّرْعَ الأكداس جمع كُدس وهو البيدر أو ما يجمع من الحصيد بعضه فوق بعض. والزرع هنا المزروع.

وَكُرُومَ ٱلزَّيْتُونِ أي الأرضين النابت فيها الزيتون فإن الكرم عند بعضهم يطلق على العنب وعلى الحديقة وعلى الأرض المنقاة. وقال بعضهم الصواب في المعنى الأخير الكَرَم لا الكرم. ويحتمل الأصل العبراني على ما في حاشية الكتاب ذي الشواهد «الكروم والزيتون». ولا ريب في أن شمشون كان يرى حينئذ كأن أرض الأعداء أصيبت بطوفان ناري يحزن مرآه الأتقياء المتمدنين ويسر المنتقمين المتوحشين.

٦ «فَقَالَ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ: مَنْ فَعَلَ هٰذَا؟ فَقَالُوا: شَمْشُونُ صِهْرُ ٱلتِّمْنِيِّ، لأَنَّهُ أَخَذَ ٱمْرَأَتَهُ وَأَعْطَاهَا لِصَاحِبِهِ. فَصَعِدَ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ وَأَحْرَقُوهَا وَأَبَاهَا بِٱلنَّارِ».

ص ١٤: ١٥

مَنْ فَعَلَ هٰذَا… شَمْشُونُ صِهْرُ ٱلتِّمْنِيِّ الذين قالوا شمشون إما استنتجوا مما وقع بين الفلسطينيين وشمشون وإما عرفوه من بعض الإسرائيليين المساعدين لشمشون أو العارفين بأمره.

وَأَحْرَقُوهَا وَأَبَاهَا بِٱلنَّارِ لا يُستغرب هذا من وثنيين متوحشين من عرف ما أتاه شمشون الإسرائيلي في ذلك العصر المظلم ومن العجيب أن ما تخلّصت منه امرأة شمشون بخيانتها لزوجها وقعت فيه بإخلاصها لقومها. إن الخيانة وِزرٌ لا وَزَرٌ أي إثم لا ملجأٌ.

٧ «فَقَالَ لَهُمْ شَمْشُونُ: وَلَوْ فَعَلْتُمْ هٰذَا فَإِنِّي أَنْتَقِمُ مِنْكُمْ، وَبَعْدُ أَكُفُّ».

وَلَوْ فَعَلْتُمْ هٰذَا فَإِنِّي أَنْتَقِمُ مِنْكُمْ أي ولو فعلتم هذا لإرضائي فإني أنتقم منكم لأنه إساءة فوق إساءة فإنكم هددتم زوجتي حتى خانتني وخسّرتني فغضبت عليها وفارقتها فخسرتها. وما كفاكم ذلك حتى أحرقتموها وهي التي أحبها فزدتم على أحزاني حزناً عظيماً ولذلك أنتقم منكم انتقاماً يشفي غيظي ويخفف أحزاني.

ويحتمل الأصل ترجمة أخرى وهي بما أنكم فعلتم هذا فإني أنتقم منكم. والمراد بالترجمة الأولى وهي الواردة في توراتنا أن الفلسطينيين قصدوا إرضاء شمشون ولكنه لم يرض. والمراد بالترجمة الأخرى أن الفلسطينيين قصدوا إساءة فوق إساءة.

وَبَعْدُ أَكُفُّ أي بعد أن أنتقم منكم كل الانتقام أكفّ عن النقمة.

٨ «وَضَرَبَهُمْ سَاقاً عَلَى فَخْذٍ ضَرْباً عَظِيماً. ثُمَّ نَزَلَ وَأَقَامَ فِي شَقِّ صَخْرَةِ عِيطَمَ».

١أيام ٤: ٣ و٣٢ و٢أيام ١١: ٦

وَضَرَبَهُمْ سَاقاً عَلَى فَخْذٍ أي فجعلهم بضرب السيف قطعاً بعضها فوق بعض الساق فوق الفخذ والقدم فوق الرأس وما أشبه ذلك.

وَأَقَامَ فِي شَقِّ صَخْرَةِ عِيطَمَ أي أقام بكهف في صخرة قرب عيطم أو فيها. وعيطم اسم قرية أو بلدة ظنها كندر القرية المعروفة اليوم ببيت عتاب قرب صرعة. وقد مر أن صرعة تُعرف اليوم بسورة وهي غربي القدس وعلى غاية ثلاثة عشر ميلاً منها. فهنالك مغارة في صخر عندها ينبوع ماء وهي مخبأ مناسب للهاربين يتمكن الملتجئ إليها من الدفاع عن نفسه.

تسليم شمشون إلى الفلسطينيين ع ٩ إلى ١٣

٩ «وَصَعِدَ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ وَنَزَلُوا فِي يَهُوذَا وَتَفَرَّقُوا فِي لَحْيٍ».

ع ١٩

وَصَعِدَ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ تقدم أن لفظة «صعد» في إصطلاحهم يومئذ يراد بها السير للحرب أو الانتقام. وكانت أرض يهوذا أعلى من أرض الفلسطينيين. ولا ريب في أن المراد بالفلسطينيين هنا جماعات من أبطالهم أتوا للتفتيش عن شمشون.

وَنَزَلُوا فِي يَهُوذَا أي في أرض سبط يهوذا.

وَتَفَرَّقُوا فِي لَحْيٍ أي ذهبت كل جماعة في جهة في طلب شمشون وسُمي ذلك المكان بلحي من الحادثة المذكورة في (ع ١٧) أو لمشابهة المكان (ولعله ظهر جبل) بلحي حمار. وهذا الموضع لم يُعيّن موقعه إلى الآن.

١٠ «فَسَأَلَهُمْ رِجَالُ يَهُوذَا: لِمَاذَا صَعِدْتُمْ عَلَيْنَا؟ فَقَالُوا: صَعِدْنَا لِنُوثِقَ شَمْشُونَ لِنَفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِنَا».

فَسَأَلَهُمْ رِجَالُ يَهُوذَا: لِمَاذَا صَعِدْتُمْ عَلَيْنَا أي ما علة إتيانكم إلينا للحرب (انظر ع ٨ والتفسير) أي لا سبب لأن تصعدوا علينا فإننا مسلّمون بالعبودية.

صَعِدْنَا لِنُوثِقَ شَمْشُونَ أي لكي نشد شمشون بالوثاق (وهو ما يُشد به من قيد أو حبل) لا لنحاربكم وإنما أتينا إليكم لعلمنا أنه بينكم فيجب أن تسلموه إلينا إن كنتم لا تريدون معاداتنا.

لِنَفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِنَا أي لنجازيه على إضراره بنا فنشهّره ونعذبه فنقتله.

١١ «فَنَزَلَ ثَلاَثَةُ آلاَفِ رَجُلٍ مِنْ يَهُوذَا إِلَى شَقِّ صَخْرَةِ عِيطَمَ، وَقَالُوا لِشَمْشُونَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ مُتَسَلِّطُونَ عَلَيْنَا؟ فَمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا؟ فَقَالَ لَهُمْ: كَمَا فَعَلُوا بِي هٰكَذَا فَعَلْتُ بِهِمْ».

ص ١٤: ٤

فَنَزَلَ ثَلاَثَةُ آلاَفِ رَجُلٍ مِنْ يَهُوذَا جاءوا بهذا العدد الكثير إلى واحد لاعتقادهم قوته وشجاعته وبطشه فخافوا أن يبطش بهم إذا كانوا قليلين.

أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ مُتَسَلِّطُونَ عَلَيْنَا أتوه في طريق المسالمة والمعاتبة وبسط العذر على مرادهم القبض عليه لسلامة إسرائيل لأن الفلسطينيين كانوا يومئذ قادرين على قتلهم إذ كانوا أرباب السلطة والقدرة على الإسرائيليين. وأبانوا بذلك أن شمشون لا يرضى أن يقتل الفلسطينيون قومه أو شعبه.

كَمَا فَعَلُوا بِي هٰكَذَا فَعَلْتُ بِهِمْ أبان عذره لهم على ما فعله بالفلسطينيين ولزم منه أنه لم يقصد إضرار شعب إسرائيل. وإنه لم يعتد على الفلسطينيين بل انتقم لنفسه منهم. ومن العجب أن ذلك البطل لم يوبخهم حينئذ على جبانتهم ويقل لهم كان عليكم أن تتشجعوا أو تقاتلوا الفلسطينيين وتخلصوا من عبوديتهم لا أن تأتوا إلى إمساك بطل منكم يحبكم ويحب تحريركم من الوثنين فأتيتم عليّ بدلاً من أن تأتوا معي لمحاربتهم. لا شك في أن الأسد المفترس كان بين يدي رجال شعبه حملاً وديعاً.

يعلّمنا العهد الجديد أن لا نجازي أحداً عن شرٍّ بشرّ ولا ننتقم لأنفسنا (رومية ١٢: ١٧ و١٩) وهذه الأقوال للناس أفراداً. وأما الولاة فعليهم أن يقاوموا شر الأشرار ويجازوا جميع الناس حسب أفعالهم وينتقموا من فاعلي الشر. وكان شمشون قاضياً ومخلصاً لإسرائيل وفيه روح الرب وإن كان علة غضبه ما فعل الفلسطينيين به.

١٢ «فَقَالُوا لَهُ: نَزَلْنَا لِنُوثِقَكَ وَنُسَلِّمَكَ إِلَى يَدِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ. فَقَالَ لَهُمْ شَمْشُونُ: ٱحْلِفُوا لِي أَنَّكُمْ أَنْتُمْ لاَ تَقَعُونَ عَلَيَّ».

فَقَالُوا لَهُ: نَزَلْنَا لِنُوثِقَكَ وَنُسَلِّمَكَ قالوا هذا بلا حياء ولا خجل لجبانتهم وموت شرفهم وفقدان مروءتهم وعدم إيمانهم.

ٱحْلِفُوا لِي أَنَّكُمْ أَنْتُمْ لاَ تَقَعُونَ عَلَيَّ أصل الوقوع السقوط ثم تجوّزوا به إلى معان كثيرة منها القتل فإن الضارب بالسيف ينحني إلى مضروبه كأنه يقع عليه ومثله وقع بالأعداء أي بالغ في قتالهم. قال أحد المفسرين إن شمشون هنا طلب من رجال يهوذا شروط التسليم كطلب المحاصَرين من المحاصِرين. وطلبه هذا مبني على رجائه إنه إن بقي في الحياة يتفق له أن يخلّص من أعدائه الفلسطينيين. إن شمشون هنا شفق على شعبه فسلّم نفسه إليهم ولم يلوّث يده بدم أحد منهم أو يهرب بما له من القوة ويتركهم لانتقام الفلسطينيين فبذل نفسه من أجلهم وهذا فضل عظيم. فالرجل لم يكن قاسياً إلا على أداء الله الظالمين لشعبه المعتدين عليهم وعليه.

١٣ «فَأَجَابُوهُ: كَلاَّ. وَلٰكِنَّنَا نُوثِقُكَ وَنُسَلِّمُكَ إِلَى يَدِهِمْ، وَقَتْلاً لاَ نَقْتُلُكَ. فَأَوْثَقُوهُ بِحَبْلَيْنِ جَدِيدَيْنِ وَأَصْعَدُوهُ مِنَ ٱلصَّخْرَةِ».

كَلاَّ. وَلٰكِنَّنَا نُوثِقُكَ وَنُسَلِّمُكَ صدقوه ولم يأخذوه بحيلة فسلّم لهم.

فَأَوْثَقُوهُ بِحَبْلَيْنِ جَدِيدَيْنِ خوفاً من أن يقطع الوثاق لأنهم كانوا يعلمون أنه قويّ.

وَأَصْعَدُوهُ مِنَ ٱلصَّخْرَةِ بعد أن شدوا الوثاق لئلا يندم على التسليم فيقتل بعضهم أو يهرب.

قتل شمشون ألفا بلحي حمار ع ١٤ إلى ١٧

١٤ «وَلَمَّا جَاءَ إِلَى لَحْيٍ صَاحَ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ لِلِقَائِهِ. فَحَلَّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلرَّبِّ، فَكَانَ ٱلْحَبْلاَنِ ٱللَّذَانِ عَلَى ذِرَاعَيْهِ كَكَتَّانٍ أُحْرِقَ بِٱلنَّارِ، فَٱنْحَلَّ ٱلْوِثَاقُ عَنْ يَدَيْهِ».

ص ٣: ١٠ و١٤: ٦

وَلَمَّا جَاءَ إِلَى لَحْيٍ (ع ٩) ما سُمي ذلك المكان بلحي إلا بعد ما حدث في (ع ١٧) ولكن الكاتب كتب هذا بعد تلك الحادثة فسمى المكان بما عُرف به على أثرها.

صَاحَ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ لِلِقَائِهِ أي رفعوا أصوات الابتهاج لأجل لقائه أو وهم يتقدمون للقائه.

فَحَلَّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلرَّبِّ اي وهب له الرب قوة عظيمة كأنه أيده بروحه القادر على كل شيء وجعله قدرة له.

فَكَانَ ٱلْحَبْلاَنِ الجديدان (ع ١٣).

كَكَتَّانٍ أُحْرِقَ بِٱلنَّارِ فلم يبق فيهما من قوة فقطعهما بسهولة.

١٥ «وَوَجَدَ فَكَّ حِمَارٍ طَرِيّاً، فَأَخَذَهُ وَضَرَبَ بِهِ أَلْفَ رَجُلٍ».

لاويين ٢٦: ٨ ويشوع ٢٣: ١٠ وص ٣: ٣١

وَوَجَدَ (لحي) فَكَّ حِمَارٍ طَرِيّاً فهو مرن لا ينكسر سريعاً كالجاف. واللحي عظم الحنك الذي عليه الأسنان. وكان على شمشون أن لا يمسه لأنه نذير (عدد ٦: ٦) لكنه اضطر إلى ذلك فرأى أن الضرورات تبيح المحظورات فلم يتوقف عن أخذ ذلك السلاح النجس لقتل أولئك النجسين. فإنه كان أسيراً أعزل أي بلا سلاح.

وَضَرَبَ بِهِ أَلْفَ رَجُلٍ قتلهم بضربه إياهم باللحي كما لو ضربهم بالسيف وذلك لأن الرب كان معه. ولا ريب في أن ساعده على ذلك خوف الفلسطينيين منه لما اشتهر من قوته وشجاعته (انظر لاويين ٢٦: ٨ ويشوع ٢٣: ١٠). ومن علم أن جليات ألقى الرعب في كل جيش إسرائيل فضلاً عن اشتهار شمشون بالشجاعة والقوة اللتين اختبرهما الفلسطينيون منه.

١٦ «فَقَالَ شَمْشُونُ: بِفَكِّ حِمَارٍ كُومَةً كُومَتَيْنِ. بِفَكِّ حِمَارٍ قَتَلْتُ أَلْفَ رَجُلٍ».

بِفَكِّ حِمَارٍ كُومَةً كُومَتَيْنِ في الأصل العبراني جناس وهو «بلحي حومر حومر حومرتيم» فالحومر يعني حمار أو كومة. والمعنى بلحي حمار تركت كومة كومتين من القتلى. والمراد أنه ترك القتلى كوماً لا ثلاث كومات فقط. وقال «كومة كومتين» كأنه يعد الكوم وترك للسامع أن يقول ثلاث كومات الخ لما هو معهود من المقصود بهذا التعبير عندهم. ولعله اختار كلمة كومة للتعبير عن كثرة القتلى لمشابهتها بكلمة حمار بالأصل احتقاراً للفلسطينيين.

بِفَكِّ حِمَارٍ قَتَلْتُ أَلْفَ رَجُلٍ هذا تفسير لقوله «بلحي حمار كومة كومتين» وكانت العبارة السابقة وهذه العبارة أغنية فرح بانتصاره العظيم بذلك السلاح الحقير. و«ألف» عدد كامل أي نحو ألف فمن المحتمل أن القتلى إذا عُدوا تماماً كانوا أكثر أو أقل.

١٧ «وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ ٱلْكَلاَمِ رَمَى ٱلْفَكَّ مِنْ يَدِهِ، وَدَعَا ذٰلِكَ ٱلْمَكَانَ «رَمَتَ لَحْيٍ».

رَمَتَ لَحْيٍ أي رمية الفك أو مرمي الفك أو اللحي (انظر حاشية الكتاب بالشواهد) فيكون هذا الاسم تذكاراً لرميه اللحي هناك. وفسره بعضهم برَيم اللحي والريم الجبل الصغير أو التل.

معجزة في اللحي ع ١٨ إلى ٢٠

١٨ «ثُمَّ عَطِشَ جِدّاً فَدَعَا ٱلرَّبَّ: إِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ بِيَدِ عَبْدِكَ هٰذَا ٱلْخَلاَصَ ٱلْعَظِيمَ، وَٱلآنَ أَمُوتُ مِنَ ٱلْعَطَشِ وَأَسْقُطُ بِيَدِ ٱلْغُلْفِ».

مزمور ٣: ٧

عَطِشَ جِدا لأن الفصل فصل الصيف والحركة حركة حرب استمرت إلى أن قتل ألفاً بفك الحمار.

إِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ بِيَدِ عَبْدِكَ هٰذَا ٱلْخَلاَصَ ٱلْعَظِيمَ كان مقتضى الظاهر أن يقول «إنك جعلت بيدي» الخ لكنه وضع المظهر وهو «عبد» موضع المضمر ليصف نفسه بالعبودية تذللاً أمام الله واستعطافاً له.

وَٱلآنَ أَمُوتُ مِنَ ٱلْعَطَشِ وَأَسْقُطُ بِيَدِ ٱلْغُلْفِ إن شمشون لم يعاتب ربه بهذا الكلام بل يستعبد أو يتعجب من أن الله بعد ما صنع له ما يخلص به شعبه من إذلال الوثنيين الخارجين عن عهد الرب وهو المراد بالغلف ان يتركه يموت عطشاً أو يعيي من شدة العطش فيقوى عليه أولئك ويأسرونه أو يقتلونه.

١٩ «فَشَقَّ ٱللّٰهُ ٱلْجَوْفَ ٱلَّذِي فِي لَحْيٍ، فَخَرَجَ مِنْهَا مَاءٌ، فَشَرِبَ وَرَجَعَتْ رُوحُهُ فَٱنْتَعَشَ. لِذٰلِكَ دَعَا ٱسْمَهُ «عَيْنَ هَقُّورِي» ٱلَّتِي فِي لَحْيٍ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ».

تكوين ٤٥: ٢٧ وإشعياء ٤٠: ٢٩ ع ٢٩ ومزمور ٣٤: ٦

فَشَقَّ ٱللّٰهُ ٱلْجَوْفَ ٱلَّذِي فِي لَحْيٍ استعلم شمشون الجناس في الآية السادسة عشرة وجاء في هذه الآية بالتورية المزدوجة فدل بذلك على أنه كان من أدباء اللغة العبرانية وشعرائها. فإن معنى «الكفة» منبت السن والنقرة التي يجتمع فيها الماء «واللحي» الفك واسم الموضع والمعنى القريب منبت السن وفك الحمار والمعنى البعيد والمراد نقرة الماء والموضع. والنقرة تكون جافة في الصيف فأوجد الله فيها الماء بأن شقّها وأخرج الماء من الأرض إليها. والدليل على هذا قوله على الأثر «التي في لحي إلى هذا اليوم».

رَجَعَتْ رُوحُهُ فَٱنْتَعَشَ أي كاد يموت عطشاً فلما روي وثق بالحياة وقوي. شبه شدة العطش بنزع الموت أو بأخذ الروح في الذهاب والارتواء بأخذ الحياة في العود أو الروح في الرجوع.

عَيْنَ هَقُّورِي أي عين الداعي سماها بذلك تذكاراً لدعائه إلى الله واستجابة الله دعاءه.

ٱلَّتِي فِي لَحْيٍ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ أي صارت النقرة عيناً دائمة الجريان وكانت معروفة في عصر الكاتب.

٢٠ «وَقَضَى لإِسْرَائِيلَ فِي أَيَّامِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ عِشْرِينَ سَنَةً».

ص ١٣: ١

وَقَضَى لإِسْرَائِيلَ فِي أَيَّامِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ أي في أيام تسلُّط الفلسطينيين على الإسرائيليين فإن شمشون لم يخلّص إسرائيل كل الخلاص من الفلسطينيين فبقوا أقوياء على الإسرائيليين إلى زمان داود.

عِشْرِينَ سَنَةً والمرجّح أن قضاءه كان موضعياً فإن القضاة كانوا متعددين في وقت واحد والمرجّح أن قضاء شمشون كان في عصر قضاء عالي. فكانا قاضيين متعاصرَين.

فوائد

  1. قوانين المصالحة:

    أولاً: وجوب المصالحة في البداءة «قَبْلَ أَنْ تَدْفُقَ ٱلْمُخَاصَمَةُ ٱتْرُكْهَا» أمثال ١٧: ١٤).

    ثانياً: على كل من الخصمين أن يترك شيئاً من حقه.

    ثالثاً: يقول الخصم إني أقول كلمة فقط ثم أصالح فيجب أن يترك هذه الكلمة.

  2. إن خطأ المؤمن باقترانه بغير مؤمنة عقابه متصل به.
  3. إن الله لحلمه يظل يعتني بعبده وإن أخطأ ليجري قضائه ويردّه إلى الصواب.
  4. الكثيرون ضعفاء إذا تركوا الله والواحد قويّ إذا كان معه (ع ١١).
  5. الخوف يجر الإنسان إلى الخطاء والخسارة (ع ١١).
  6. تُعمل عظائم بوسائل حقيرة. انتصر شمشون بلحي حمار. استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة (١كورنثوس ١: ٢١).
  7. كان شمشون قوياً في القتال ضعيفاً في الصبر (ع ١٨).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى