سفر يشوع | 07 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر يشوع
للقس . وليم مارش
اَلأَصْحَاحُ ٱلسَّابِعُ
١ «وَخَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ خِيَانَةً فِي ٱلْحَرَامِ، فَأَخَذَ عَخَانُ بْنُ كَرْمِي بْنُ زَبْدِي بْنُ زَارَحَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا مِنَ ٱلْحَرَامِ، فَحَمِيَ غَضَبُ ٱلرَّبِّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ».
ص ٢٢: ٢٠ و١أيام ٢: ٧ و١أيام ٢: ٦
خَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ خِيَانَةً المصدر هنا مؤكد إذ لم يقيّد فليس هو مبيناً للعدد أي ليس المراد خانوا خيانة واحدة وإن كانت الخيانة هنا واحدة وهي خيانة عخان فالقصد وقوع الخيانة بالحقيقة.
والخيانة نقض العهد وخلاف الأمانة وكلا الأمرين كانا من عخان فإن بني إسرائيل كانوا قد عاهدوا يشوع أن يسمعوا له ويطيعوه كما عُرف من أنهم أنزلوه منزلة موسى ويشوع أوصاهم بأن لا يأخذوا غنيمة من أريحا إذ حرّم كل ما فيها وأمّنهم يشوع على ذلك فلم يقوموا بالأمانة.
وهنا يُقال أن الخائن عخان فلماذا نسب يشوع الخيانة إلى إسرائيل. ويدفع ذلك بأن الشعب كان يُعتبر كشخص واحد فخيانة أحدهم خيانة الجميع إذ الجميع نُهوا عن الغنيمة فكان عليهم أن ينتبهوا للخائن وهم لم ينتبهوا ويدلّك على ذلك أنهم عوقبوا جميعاً إذ غضب الرب عليهم وكسرهم أهل عاي. ولذلك نظائر كثيرة في الكتاب منها أنه جاء في رواية متّى لخبر المرأة التي طيّبت المسيح أنه «لَمَّا رَأَى تَلاَمِيذُهُ ذٰلِكَ ٱغْتَاظُوا قَائِلِينَ: لِمَاذَا هٰذَا ٱلْإِتْلاَفُ» (متّى ٢٦: ٨). وفي ورواية يوحنا لهذا الخبر عينه أن المتذمر من ذلك يهوذا الإسخريوطي (يوحنا ١٢: ٤ و٥).
وفي الكنز الجليل في تفسير الإنجيل ما نصّه في تفسير قول متّى «فَلمَا رَأَى تَلاَمِيذُهُ ذٰلِكَ ٱغْتَاظُوا الخ» «يظهر أن أصل هذا التذمر يهوذا (يوحنا ١٢: ٥)… وتذمره حمل غيره من التلاميذ على تكرير ما قاله هو». والخلاصة أن ما عمله الواحد يُنسب إلى الجماعة التي هو منها لمشاركته في الرأي أو لعدم الانتباه له أو لغير ذلك من الاعتبارات المتعلقة بالنبإ (انظر ص ٢٢: ٢٠).
عَخَانُ بْنُ كَرْمِي بْنُ زَبْدِي… مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا وسُمّي زبدي زمري في (١أيام ٢: ٦). وامتاز سبط يهوذا في التاريخ المقدس بعظائم الأعمال وفظائع الآثام. ومعنى عخان مزعج وسُمي في سفر الأيام الأول عخار (١أيام ٢: ٧). واسمه في العبرانية «عكر» كعكر في العربية أو كدر. ولا ريب في أنه قصد بهذا الاسم الإشارة إلى ما أتاه في هذا النبإ كما قصد بتسميته بيت إيل (أي بيت الله) بيت آون (أي بيت البطل أو بيت الأصنام) لعبادة أهلها الأوثان (انظر هوشع ١٠: ٥ و٨) وتغيير الأسماء في الكتاب المقدس للإشارة إلى الحوادث والأعمال كثير.
٢ «وَأَرْسَلَ يَشُوعُ رِجَالاً مِنْ أَرِيحَا إِلَى عَايَ ٱلَّتِي عِنْدَ بَيْتِ آوِنَ شَرْقِيَّ بَيْتِ إِيلَ، وَقَالَ لَهُمْ: ٱصْعَدُوا تَجَسَّسُوا ٱلأَرْضَ. فَصَعِدَ ٱلرِّجَالُ وَتَجَسَّسُوا عَايَ».
تكوين ١٢: ٨ و١٣: ٣
وَأَرْسَلَ يَشُوعُ رِجَالاً مِنْ أَرِيحَا إِلَى عَايَ معنى عاي طللٌ وسُمّيت أيضاً عيّا (نحميا ١١: ٣١) وعيّاث (إشعياء ١٠: ٢٨) وهي مدينة كانت شرقي بيت إيل على غاية نحو ميلين منها وعلى غاية نحو تسعة أميال من أورشليم وهي خربة اليوم ويُعرف موقعها بخربة حيّان وهي تحريف عيّان. بناها البنيامينّيون بعد أن أخربها يشوع وسكنوها إلى زمن السبي ثم أخربها سنحاريب ثم بُنيت بعد السبي ثم أُخربت وصارت طللاً حتى كادت آثارها تُمحى في القرن الرابع للميلاد. ولم يرسل يشوع الرجال إلى داخل عاي بل إلى جوارها للتجسس والاكتشاف.
بَيْتِ آوِنَ كانت آون مدينة لبنيامين وهي في الشمال من عاي وعلى غاية نحو ثلاثة أميال منها وشرقي بيت إيل وعلى مدة نحو ستة أميال منها.
فإن قيل لماذا اختير الهجوم على عاي دون غيرها على أثر أخذ أريحا قلنا تلك مسئلة لم نعرف علتها معرفة يقينية ولكن نرجّح أن العلة أن توضع الوصايا العشر بعد أخذ عاي على جبل عيبال الذي في وسط البلاد إذ كان منبر الخطبة بالبركات واللعنات فكان مقدس شريعة الله وإن أخذ عاي يمكّن الإسرائيليين من الاستيلاء على الطريق المؤدية إلى شمالي فلسطين وجنوبيها وإلى مركز البلاد رأساً. وبقي أن عاي ذُكرت أولاً في سفر التكوين (تكوين ١٢: ٨) وإنها أول مكان ضرب فيه إبراهيم خيمته بعد رجوعه من مصر إلى كنعان (تكوين ١٣: ٣). إن بيت آون هنا غير بيت إيل لكنهما متجاوران ولا فرق بينهما أيضاً في معنى الاسمين فإنهما متضادان فإن معنى بيت إيل بيت الله ومعنى بيت آون بيت البطل أي بيت الأصنام. نعم إن بيت إيل سُميت بيت آون في نبوءة هوشع لأنها كانت يومئذ مثلها في عبادة الأوثان كما ذُكر آنفاً.
٣ «ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى يَشُوعَ وَقَالُوا لَهُ: لاَ يَصْعَدْ كُلُّ ٱلشَّعْبِ، بَلْ يَصْعَدْ نَحْوُ أَلْفَيْ رَجُلٍ أَوْ ثَلاَثَةُ آلاَفِ رَجُلٍ وَيَضْرِبُوا عَايَ. لاَ تُكَلِّفْ كُلَّ ٱلشَّعْبِ إِلَى هُنَاكَ لأَنَّهُمْ قَلِيلُونَ».
لاَ يَصْعَدْ كُلُّ ٱلشَّعْبِ يظهر من هذا أن الإسرائيليين صاروا على أثر انتصارهم على الأريحيين بسهولة يستخفون بالأعداء ويعتدون بنفوسهم بناء على أن الله يحارب عنهم فلا داعي إلى اتخاذ الوسائل وهذا خطأٌ. نعم يجب أن نتكل على الله لكن يجب أيضاً أن نعمل مع الله على قدر ما وهب لنا من القوة والوسائل. وانظر الفرق بين الجواسيس الذين أرسلهم موسى والجواسيس الذين أرسلهم يشوع فإن الجواسيس الذين أرسلهم موسى جاءوا بما قطّع قلوب الإسرائيليين خوفاً من الكنعانيين. والجواسيس الذين أرسلهم يشوع جاءوا بما يحمل الإسرائيليين على عدم الاكتراث بسكان كنعان والفريقان أخطاءا أولئك بالجبن وهؤلاء بالاستخفاف فكانا مختلفين بالأنباء ومتفقين في الخطاء. على أن يشوع نفسه هنا لم يخلُ من الخطإ إذ سلّم سريعاً بما قال الجواسيس ولم يتأمل ويسأل الله كما هو الواجب. فهذا نتيجة غضب الله عليهم بخيانة عخان ونتيجة هذه النتيجة انتصار الأعداء عليهم. فإن الله إذا غضب على الإنسان قلّ تدبيره ووهنت حكمته فجلب الشر على نفسه بنفسه. وقولهم «لا يصعد» يدل على أن عاي كانت في أرض أرفع منهم وهي الأرض الجبلية.
لاَ تُكَلِّفْ كُلَّ ٱلشَّعْبِ التكليف الأَمر بما يصعب القيام به ويُتعب. والقرينة تدل على أن الصعوبة صعوبة الطريق الجبلية ونقل عدد الحرب ومقتضياتها لا بأس الأعداء لأنهم استهانوا بهم ولأنهم كما قالوا قليلون.
قَلِيلُونَ كان أهل عاي قليلين بالنسبة للإسرائيليين ولكنهم كانوا كثيرين على من صعدوا إليهم فإنه صعد إليهم نحو ثلاثة آلاف وأهل عاي أكثر منهم كثيراً لأنهم اثنا عشر ألفاً (ص ٨: ٢٥) فرجالها لا يقلّون عن ستة آلاف.
٤ «فَصَعِدَ مِنَ ٱلشَّعْبِ إِلَى هُنَاكَ نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ رَجُلٍ. وَهَرَبُوا أَمَامَ أَهْلِ عَايَ».
لاويين ٢٦: ١٧ وتثنية ٢٨: ٢٥
هَرَبُوا أَمَامَ أَهْلِ عَايَ لا لصلاح أهل عاي بل لإثم الإسرائيليين (انظر لاويين ٢٦: ١٧ وتثنية ٢٨: ٢٥).
٥ «فَضَرَبَ مِنْهُمْ أَهْلُ عَايَ نَحْوَ سِتَّةٍ وَثَلاَثِينَ رَجُلاً، وَلَحِقُوهُمْ مِنْ أَمَامِ ٱلْبَابِ إِلَى شَبَارِيمَ وَضَرَبُوهُمْ فِي ٱلْمُنْحَدَرِ. فَذَابَ قَلْبُ ٱلشَّعْبِ وَصَارَ مِثْلَ ٱلْمَاءِ».
لاويين ٢٢: ٣٦ وص ٢: ٩ و١١ ومزمور ٢٢: ١٤
شَبَارِيمَ رسم هذا الاسم في العبرانية «شبريم» وهو جمع شبر فيها ومعناه الخربة أو الشق أو الكسر وهو اسم مكان تحت عاي وعلى مقربة منها ولا يزال موقعه مجهولاً.
ضَرَبُوهُمْ فِي ٱلْمُنْحَدَرِ كانت عاي على تلّ وشباريم على سفحه.
فَذَابَ قَلْبُ ٱلشَّعْبِ وَصَارَ مِثْلَ ٱلْمَاءِ أي فقدوا شجاعتهم وقوتهم فكانوا جبناء وبضعفاء. والكلام كناية عن أنه لم يبق من موضع للشجاعة في صدورهم لأن القلب محلّ الشجاعة وقد ذاب وصار مثل الماء (انظر ص ٥: ١ والتفسير وخروج ١٥: ١٥ والتفسير).
٦ «فَمَزَّقَ يَشُوعُ ثِيَابَهُ وَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى ٱلأَرْضِ أَمَامَ تَابُوتِ ٱلرَّبِّ إِلَى ٱلْمَسَاءِ، هُوَ وَشُيُوخُ إِسْرَائِيلَ، وَوَضَعُوا تُرَاباً عَلَى رُؤُوسِهِمْ».
تكوين ٣٧: ٢٩ و٣٤ و١صموئيل ٤: ١٢ و٢صموئيل ١: ٢ و١٣: ١٩ ونحميا ٩: ١ وأيوب ٢: ١٢
فَمَزَّقَ يَشُوعُ ثِيَابَهُ كان تمزيق الثياب عند القدماء بياناً لشدة الحزن والغم. إن انكسار الإسرائيليين في عاي لم يكن أمراً يستحق كل هذا الحزن والغم فهو في نفسه ليس بالذي أحزن يشوع إلى هذا الحد فلزم من ذلك أن الذي أحزنه علته وهي ذنب مجهول ارتُكب في الشعب فلا يدل على أن يشوع كان جباناً أو ضعيف القلب فإن الشجاع الحكيم يخاف الإثم وإن لم يرهب أبطال البأس والحرب. فإن يشوع كان على يقين من أن الله ينصر شعبه ولا يخذله إلا لذنب أو معصية.
وَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ الخ أي شغل اليوم كله بالصوم والصلاة هو وشيوخ إسرائيل أي نوّاب الشعب فالصوم والصلاة والندامة على الخطيئة وقت المصاب من أحسن أنواع العبادة. ولا ريب في أن يشوع مع ذلك حزن على قتل ٣٦ من رجال إسرائيل لكن حزنه الأعظم كان على الخطيئة المجهولة التي عُلمت بعد أن قتل ٣٦ رجلاً لا يعده القائد في الحرب خسارة عظيمة لكن دم الإسرائيليين كان ثميناً عند يشوع. وكان ليشوع أن يلوم الجواسيس على استخفافهم بأهل عاي ولكنه علم أن يد الرب هي التي ضربت ولا تضرب عبيدها إلا للتأديب على المعصية فما كان له إلا أن يخضع ويتذلل قدام الله. ووضع التراب على الرأس من آيات التذلل في شدة الضيق عند الشرقيين وكذا وضع الرماد عليه. وهذا يدل على أن يشوع شعر بوقوع إثم لم يعلمه وإن لم يصرّح الكتاب بذلك على أن كلام يشوع في صلاته الآتية يُشعر بذلك.
٧ «وَقَالَ يَشُوعُ: آهِ يَا سَيِّدُ ٱلرَّبُّ! لِمَاذَا عَبَّرْتَ هٰذَا ٱلشَّعْبَ ٱلأُرْدُنَّ تَعْبِيراً لِكَيْ تَدْفَعَنَا إِلَى يَدِ ٱلأَمُورِيِّينَ لِيُبِيدُونَا؟ لَيْتَنَا ٱرْتَضَيْنَا وَسَكَنَّا فِي عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ».
خروج ٥: ٢٢ و ٢ملوك ٣: ١٠
وَقَالَ يَشُوعُ آهِ «آه» كلمة توجّع دلّ بها يشوع على ما في نفسه من الألم.
لِمَاذَا عَبَّرْتَ هٰذَا ٱلشَّعْبَ ٱلأُرْدُنَّ تَعْبِيراً أي كيف سمحت بانكسار شعبك وقد عبّرته الأردن حقيقة بمعجزة وقوة عجيبة. وكان المتوقع أن نتيجة هذه العناية العظمى أن تنصره لا أن تخذله فيهرب أمام العدو ويسقط ٣٦ قتيلاً من رجاله فكأنك عبّرتنا الأردن لتمكن الأموريين من إبادتنا من دون أن تكلفهم الزحف علينا فسهلت عليهم إهلاكنا.
ٱلأَمُورِيِّينَ قبيلة من نسل كنعان ومعنى «الأموريون» الجبليين سموا بذلك لأنهم كانوا يسكنون في أول أمرهم وفي وقت هذه الحادثة الأرض الجبلية التي من مدنها عاي. وكانوا طوالاً وشجعاناً أقوياء.
لَيْتَنَا ٱرْتَضَيْنَا وَسَكَنَّا فِي عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ أي ليتنا اكتفينا بالأرض التي ملكناها قبل أن نعبر الأردن وسكنّا فيها فلم نتعرّض للأموريين ولم ننكسر أمامهم.
٨ «أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدُ: مَاذَا أَقُولُ بَعْدَمَا حَوَّلَ إِسْرَائِيلُ قَفَاهُ أَمَامَ أَعْدَائِهِ؟».
مَاذَا أَقُولُ المرجّح أن الاستفهام هنا إنكاري أراد به أنه لم يبق له ما يحتج به دفعاً لتعيير الأعداء.
بَعْدَمَا حَوَّلَ إِسْرَائِيلُ قَفَاهُ أَمَامَ أَعْدَائِهِ أي بعد ما هرب إسرائيل الذي صنعت له المعجزات ووعدته بالنصر والاستيلاء على أرض الميعاد.
٩ «فَيَسْمَعُ ٱلْكَنْعَانِيُّونَ وَجَمِيعُ سُكَّانِ ٱلأَرْضِ وَيُحِيطُونَ بِنَا وَيَقْرِضُونَ ٱسْمَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ. وَمَاذَا تَصْنَعُ لاسْمِكَ ٱلْعَظِيمِ؟».
مزمور ٨٣: ٤ خروج ٣٢: ١٢ وعدد ١٤: ١٣
يَقْرِضُونَ ٱسْمَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ بعد ما جعلت قلوب أهل الأرض تذوب رهبة منّا.
مَاذَا تَصْنَعُ لاسْمِكَ ٱلْعَظِيمِ كيف تصنع لحفظ مجد اسمك الذي كان الأعداء يرهبونه فإنه إن تبيّن لهم بإذلالنا وإبادتنا أنه ليس برهيب ولا عظيم استهزئوا بإله إسرائيل وفضلوا أوثانهم عليه (قابل ما ذُكر من ع ٧ – ٩ بما في خروج ٣٢: ١٢ وعزرا ١٤: ١٣).
إن ظاهر كلام يشوع في الآيات الثلاث (ع ٧ و٨ و٩) عتاب لله وتذمّر عليه والواقع ليس كذلك إنما هو استبعاد لأن يكون من الله السماح بانقراض شعبه وإهانة اسمه تعالى أو حجة لأن يسأل الله نجاة إسرائيل ونصره على الأعداء أو بيان لما يعتري الإنسان في مثل هذه الحال والمرجّح المعنى المتحصّل من الأمرين الأولين وخلاصته أن يشوع ينزه الله عن الإخلاف بوعده وخذلان شعبه ولذلك يرجو من الله أن يشفق على إسرائيل ويغفر له ما أوصله إلى الانكسار من الذنب الذي اعتقده وهو يجهل ما هو. فبيّن له ذلك الذنب وغفر لإسرائيل بصلاته وتذلُله كما سيأتي. فكأنه قال لله حاشا لك يا رب أن تخذل شعبك وتهين اسمك فتحملنا على الندم على ما أتيناه من عبور الأردن وعدم رضانا السكنى في عبره أو شاطئه الأول وإني أعترف بأننا أخطأنا وأرجو من رحمته المغفرة على الخطاء الذي أجهله. وأتى مثل ما أتاه يشوع عدة من رجال الله ومنهم موسى وداود وإرميا لاعتبارات مختلفة بل أيوب البار أتى أعظم من ذلك (انظر أيوب ١٠: ١ الخ).
١٠ «فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِيَشُوعَ: قُمْ! لِمَاذَا أَنْتَ سَاقِطٌ عَلَى وَجْهِكَ؟».
قُمْ وفي العبرانية «قُم لك» واللام للتعليل فالمعنى قُم لأجل نفسك والمراد «ارفق بنفسك».
لِمَاذَا أَنْتَ سَاقِطٌ عَلَى وَجْهِكَ قال أحد المفسرين «لم يُرد الله لوم يشوع على أنه سقط على وجهه وتذلل بل أراد أنه يكفي ما أتاه من ذلك فلا حاجة إلى أكثر منه وإن الله لا يريد أنه يطيل ذلك». فكأنه قال إلى متى أنت ساقط على وجهك. فالاستفهام للاستبطاء عما يجب أن يفعله لإسرائيل على ما سيبينه له وهو الأولى إذ لكل شيء وقت. والأظهر أن الاستفهام إنكاري والمعنى أن لا علة موجبة لسقوطك على وجهك وهذا يوافق ما فسرناه بأرفق بنفسك. وخلاصة المراد «ارفق بنفسك فلا موجب لما أنت عليه» وذلك لأن الذي كسر إسرائيل هو ذنب إسرائيل لا ذنب يشوع. والتفسير الأول أوفق للغاية والثاني أنسب للفظ على أن الثاني يستلزم الأول فتأمل.
١١ «قَدْ أَخْطَأَ إِسْرَائِيلُ، بَلْ تَعَدَّوْا عَهْدِي ٱلَّذِي أَمَرْتُهُمْ بِهِ، بَلْ أَخَذُوا مِنَ ٱلْحَرَامِ، بَلْ سَرِقُوا، بَلْ أَنْكَرُوا، بَلْ وَضَعُوا فِي أَمْتِعَتِهِمْ».
ع ١ ص ٦: ١٧ و ١٨ أعمال ٥: ١ و٢
قَدْ أَخْطَأَ إِسْرَائِيلُ بيان سبب انكسارهم. ونسبة الخطاء إلى الشعب وهو خطاء عخان كما في (ع ١ فارجع إلى تفسيره).
بَلْ تَعَدَّوْا عَهْدِي ٱلَّذِي أَمَرْتُهُمْ بِهِ أي خطئوا عمداً لا سهواً والعهد هنا الوصية وهي قوله لهم حرّموا كل ما في المدينة (ص ٦: ١٧) أو الوصايا العشر كلها لأن مخالفة وصية من الناموس مخالفة لكلّه.
بَلْ أَخَذُوا مِنَ ٱلْحَرَامِ هذا بيان لقوله «بل تعدّوا عهدي».
بَلْ سَرِقُوا أي أخذوا من الحرام وما لخزينة الرب خفيّة فذلك إثمان تعدّي العهد والسرقة.
بَلْ أَنْكَرُوا لم يعترفوا بإثمهم ويطلبوا المغفرة فذلك إثم ثالث. فترى من هنا أن الخطيئة الواحدة تقود إلى غيرها من الخطايا وربما أدّت بالخاطئ إلى آثام يعسر عددها وعواقبها المؤلمة.
بَلْ وَضَعُوا فِي أَمْتِعَتِهِمْ أي أخفوا المسروق فيها لكي لا تُعرف سرقتهم.
ولم يحرّم الله كل غنائم الكنعانيين كما حرّم غنائم أريحا ولعل علة ذلك زيادة فظائع الوثنية في هذه المدينة.
١٢ «فَلَمْ يَتَمَكَّنْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِلثُّبُوتِ أَمَامَ أَعْدَائِهِمْ. يُدِيرُونَ قَفَاهُمْ أَمَامَ أَعْدَائِهِمْ لأَنَّهُمْ مَحْرُومُونَ، وَلاَ أَعُودُ أَكُونُ مَعَكُمْ إِنْ لَمْ تُبِيدُوا ٱلْحَرَامَ مِنْ وَسَطِكُمْ».
عدد ١٤: ٤٥ وقضاة ٢: ١٤ تثنية ٧: ٢٦ وص ٦: ١٨
فَلَمْ يَتَمَكَّنْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِلثُّبُوتِ أَمَامَ أَعْدَائِهِمْ أي لذلك لم يثبت الإسرائيليون في حومة القتال أمام الأموريين فجعلتهم الخيانة شراً من الوثنيين فإن الوثنيين صاروا آلات انتقام الله منهم بدلاً من أن يكونوا آلات انتقامه من الوثنيين.
يُدِيرُونَ قَفَاهُمْ أي يهربون فالعبارة كناية. والقفا مؤخر العُنق.
لأَنَّهُمْ مَحْرُومُونَ أي ملعونون ومُبعدون عن رحمته بمخالفتهم وعصيانهم وقد أنذرهم بذلك قبل أن يقع فلم يكترثوا فأقصاهم عن وقايته وبركاته (انظر ص ٦: ١٨).
إِنْ لَمْ تُبِيدُوا ٱلْحَرَامَ أي الذي فعل الحرام ولهذا جاء في بعض التراجم غير العربية المحروم أو الملعون وهو يعمّ الشخص وماله. ومعنى «الإبادة» هنا القتل والإزالة.
١٣ «قُمْ قَدِّسِ ٱلشَّعْبَ وَقُلْ: تَقَدَّسُوا لِلْغَدِ. لأَنَّهُ هٰكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ: فِي وَسَطِكَ حَرَامٌ يَا إِسْرَائِيلُ، فَلاَ تَتَمَكَّنُ لِلثُّبُوتِ أَمَامَ أَعْدَائِكَ حَتَّى تَنْزِعُوا ٱلْحَرَامَ مِنْ وَسَطِكُمْ».
خروج ١٩: ١٠ ص ٣: ٥
قُمْ ارفع وجهك عن الأرض وانهض وتوجّه إلى العمل.
قَدِّسِ ٱلشَّعْبَ أي مُرهم أن يتقدسوا بغسل ثيابهم وأجسامهم وتنقية قلوبهم وأذهانهم من الإثم والتصورات القبيحة وليحضروا أمام الله وليخضعوا له ويسلموا بفحصه وامتحانه.
فِي وَسَطِكَ حَرَامٌ يَا إِسْرَائِيلُ أي فيك إنسان أحلّ ما حرّمه الله واختلسه. إن الله أعلن لإسرائيل الإثم ولكم لم يصرّح باسم مرتكبه فترك ذلك ليكون إعلانه على أسلوب شديد التأثير في الأمة وجليّ الرحمة للآثم إذ أعدّ له بذلك فرصة ووقتاً للتوبة.
١٤ «فَتَتَقَدَّمُونَ فِي ٱلْغَدِ بِأَسْبَاطِكُمْ، وَيَكُونُ أَنَّ ٱلسِّبْطَ ٱلَّذِي يَأْخُذُهُ ٱلرَّبُّ يَتَقَدَّمُ بِعَشَائِرِهِ، وَٱلْعَشِيرَةُ ٱلَّتِي يَأْخُذُهَا ٱلرَّبُّ تَتَقَدَّمُ بِبُيُوتِهَا، وَٱلْبَيْتُ ٱلَّذِي يَأْخُذُهُ ٱلرَّبُّ يَتَقَدَّمُ بِرِجَالِهِ».
أمثال ١٦: ٣٣
فَتَتَقَدَّمُونَ وفي العبرانية «نقربتم» أي تقتربون والمراد أنهم يقتربون أو يتقدمون إلى الخيمة أو التابوت وهذا الكلمة هي المستعملة لتقديم القرابين في اللغة العبرانية وكانوا يتقدمون إلى الخيمة أو التابوت سبطاً بعد سبط على الترتيب.
ٱلسِّبْطَ ٱلَّذِي يَأْخُذُهُ ٱلرَّبُّ بإعلان الله ليشوع على قول بعض المفسرين وبالقرعة على قول الآخر. وحجّة الأولين أن ليس في الآية ما يشير إلى القرعة. وحجة الآخرين أنه كانت العادة في مثل ذلك أن يعيّن المطلوب بالقرعة وأن تلك القرعة كانت مقترنة بالعناية الإلهية فهي ليست كالقرعة المعتادة (انظر أمثال ١٦: ٣٣ و١صموئيل ١٠: ٢٠ و٢١ و١٤: ٤١ و٤٢ وأعمال ١: ٢٤ و٢٦). ورأى أحد القائلين بعدم القرعة هنا أن الأسباط كانوا يدخلون الخيمة على التوالي ويقتربون من المكان الذي فيه التابوت وكان الله يقول من فوق الكروبيم قدموا سبط فلان وقبيلة فلان وعشيرة فلان إلى أن عُيّن عخان وكان كل الشعب يسمع صوت ذلك القائل العظيم. وهذا مناسب لما في (حزقيال ١٠: ٥).
١٥ «وَيَكُونُ ٱلْمَأْخُوذُ بِٱلْحَرَامِ يُحْرَقُ بِٱلنَّارِ هُوَ وَكُلُّ مَا لَهُ، لأَنَّهُ تَعَدَّى عَهْدَ ٱلرَّبِّ، وَلأَنَّهُ عَمِلَ قَبَاحَةً فِي إِسْرَائِيلَ».
١صموئيل ١٤: ٣٨ و٣٩ ع ١١ تكوين ٣٤: ٧ وقضاة ٢٠: ٦
وَيَكُونُ ٱلْمَأْخُوذُ بِٱلْحَرَامِ أي المأخوذ بالقرعة أو بإعلان الرب وهو الذي سرق بعض الأشياء المحرّمة بدليل قوله «لأنه تعدّى عهد الرب».
يُحْرَقُ بِٱلنَّارِ على ما هو معيّن في الشريعة في المحرمات (انظر تثنية ١٣: ١٥ و١٦).
هُوَ وَكُلُّ مَا لَهُ أي كل أبنائه وبناته ومواشيه وأمتعته. فإن قيل إن عخان هو الآثم فكيف عُوقب أولاده قلنا لا ريب في أنهم كانوا شركاءه في المعصية لسكوتهم على ما عرفوه من أمر أبيهم ولو كانوا لم يعرفوا ذلك لما عاقبهم الله فعقابه إياهم دليل قاطع على إثمهم ودلالة الالتزام تُعتبر كدلالة النصّ.
لأَنَّهُ تَعَدَّى عَهْدَ ٱلرَّبِّ أي لأنه جاوز الحد الذي وضعته شريعة الله أو الوصية المعلنة في (ص ٦: ١٨).
وَلأَنَّهُ عَمِلَ قَبَاحَةً فِي إِسْرَائِيلَ أي لأنه جعل بمعصيته قبحاً لإسرائيل وجلب عليهم عاراً وهواناً (انظر تكوين ٣٤: ٧ وقضاة ٢٠: ٦).
١٦ «فَبَكَّرَ يَشُوعُ فِي ٱلْغَدِ وَقَدَّمَ إِسْرَائِيلَ بِأَسْبَاطِهِ، فَأُخِذَ سِبْطُ يَهُوذَا».
فَأُخِذَ سِبْطُ يَهُوذَا أي الجماعة التي يتصل نسبها بيهوذا بن يعقوب.
١٧ «ثُمَّ قَدَّمَ قَبِيلَةَ يَهُوذَا فَأُخِذَتْ عَشِيرَةُ ٱلزَّارَحِيِّينَ. ثُمَّ قَدَّمَ عَشِيرَةَ ٱلزَّارَحِيِّينَ بِرِجَالِهِمْ فَأُخِذَ زَبْدِي».
قَبِيلَةَ يَهُوذَا أي قبائل يهوذا. استعمل المفرد مكان المجموع لأن قبائل يهوذا جماعة واحدة وهذا الاستعمال لمثل هذه العلاقة كثير في العربية والعبرانية كقولهم قلب الناس متقلب أي قلوبهم متقلبة (انظر إرميا ٢٩: ١٣ وحجي ١: ٥ و٢: ١٥ ولوقا ١٢: ٣٤ و١تسالونيكي ٥: ٢٣) وقُرئ في بعض النسخ «عشائر يهوذا».
فَأُخِذَتْ عَشِيرَةُ ٱلزَّارَحِيِّينَ بيتاً فبيتاً ثم واحداً فواحداً. إن ترتيب ذلك كان هكذا فكان يؤخذ السبط من الأسباط والعشيرة من عشائرها والبيت من العشيرة والشخص من البيت حتى عيّن الفرد الذي تعدّى العهد. وهذا يقتضي زماناً طويلاً رأفة بعخان لكي يندم ويتوب إلى الله (راجع ع ١٤ والتفسير) وعشيرة الزارحيين هم سلالة زارح بن يهوذا (تكوين ٣٨: ٣٠ و٤٦: ١٢ وعدد ٢٦: ٢٠ ويشوع ٧: ١ و١أيام ٢٧: ١١ و١٣).
بِرِجَالِهِمْ أي بيوتهم كما يقتضي الترتيب في (ع ١٤) ولكنه أراد بالرجال هنا رؤساء البيوت ويبيّن ذلك قوله «فَأُخِذَ زَبْدِي فَقَدَّمَ بَيْتَهُ بِرِجَالِهِ فَأُخِذَ عَخَانُ الخ» (عدد ١٧ و١٨). وقُرئ في بعض النسخ «بيوتهم».
فَأُخِذَ زَبْدِي هو ابن زارح (ع ١).
١٨ «فَقَدَّمَ بَيْتَهُ بِرِجَالِهِ فَأُخِذَ عَخَانُ بْنُ كَرْمِي بْنِ زَبْدِي بْنِ زَارَحَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا».
١صموئيل ١٤: ٤٢
فَقَدَّمَ بَيْتَهُ بِرِجَالِهِ أي فقدّم رؤساء البيوت المتفرغة عن بيته.
فَأُخِذَ عَخَانُ هل تستطيع أن تتصور كيف كان وجه عخان قدام أولئك الجموع الكثيرة وما كان في قلوبهم عليه لما نشأ عن معصيته وطمعه ودناءته من المصائب لإسرائيل. لا ريب أنه كان أعظم عبرة لكل من تحمله نفسه على الخيانة فما أذلّ الخائنين وما أقبح آخرتهم.
١٩ «فَقَالَ يَشُوعُ لِعَخَانَ: يَا ٱبْنِي، أَعْطِ ٱلآنَ مَجْداً لِلرَّبِّ إِلٰهِ إِسْرَائِيلَ، وَٱعْتَرِفْ لَهُ وَأَخْبِرْنِي ٱلآنَ مَاذَا عَمِلْتَ. لاَ تُخْفِ عَنِّي».
١صموئيل ٦: ٥ وإرميا ١٣: ١٦ ويوحنا ٩: ٢٤ عدد ٥: ٦ و٧ و٢أيام ٣٠: ٢٢ ومرقس ٥١: ٣ ودانيال ٩: ٤ و١صموئيل ١٤: ٤٣
فَقَالَ يَشُوعُ لِعَخَانَ: يَا ٱبْنِي انظر إلى رقة قلب يشوع بدعوته الخائن ابنه. وهذا دليل على الرحمة والشفقة والأسف عليه وهو أحسن بيان لأن الحكم عليه بمقتضى أمر الله وشريعته لا بحب يشوع الانتقام منه. ولعل الله بمجرد رحمته لو دعا ذلك الخائن لقال له يا ابني لكي يقوده إلى التوبة قبل أن يجري عليه ما يستحقه بمقتضى العهد والشريعة.
أَعْطِ ٱلآنَ مَجْداً لِلرَّبِّ باعترافك بإثمك لأنه لو لم يعترف عخان بإثمه أمام الجماعة ويحتمل العار والقصاص لكان أعطى المجد لنفسه لا لله. ولعلّ في قوله «الآن» يدل على أن إعطاء المجد لله يكون صحيحاً مقبولاً في مثل هذه الحال بخلاف ما سواها (انظر يوحنا ٩: ٢٤ والتفسير).
وَٱعْتَرِفْ لَهُ أي اعترف لله. ولا ريب في أن يشوع قصد توبة عخان وخلاصه من الهلاك الأبدي قبل أن يقتل فلا يبقى وقت للتوبة. إن الله بالاعتراف له الاعتراف الصحيح القلبي يمحو الإثم ولكنه لا يعفو عن عقابه في هذه الدنيا بمقتضى الشريعة. فقد أظهر يشوع هنا أنه كان رمزاً إلى يسوع. قال داود لله «أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ خَطِيَّتِي» (مزمور ٣٢: ٥). وقال يوحنا الرسول «إِنِ ٱعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (١يوحنا ١: ٩).
أَخْبِرْنِي ٱلآنَ مَاذَا عَمِلْتَ الخ هذا تقرير حاكم فلا بد أن يتحقق الذنب ليوقع العقاب على المذنب دون غيره مع ما فيه من العظة ترجيعاً للمذنب إلى الله ليحصل على المغفرة ويخلص من الهلاك الأبدي.
٢٠ «فَأَجَابَ عَاخَانُ يَشُوعَ: حَقّاً إِنِّي قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلرَّبِّ إِلٰهِ إِسْرَائِيلَ وَصَنَعْتُ كَذَا وَكَذَا».
حَقّاً إِنِّي قَدْ أَخْطَأْتُ في هذه العبارة ثلاث مؤكدات «حقاً» و«إن» و«قد» وهذا يدل على أنه اعترف اختياراً مخلصاً الاعتراف لا خوفاً وخداعاً ولم يطلب العفو من العقاب لمعرفته أنه يستحق الحرق لأن العهد الموجب ذلك كان قد أُعلن فأعطى مجداً لله بإعلان الحق. فنأمل ولو أملاً ضعيفاً أن الله خلّص نفسه وإن أهلك جسده.
٢١ «رَأَيْتُ فِي ٱلْغَنِيمَةِ رِدَاءً شِنْعَارِيّاً نَفِيساً، وَمِئَتَيْ شَاقِلِ فِضَّةٍ، وَلِسَانَ ذَهَبٍ وَزْنُهُ خَمْسُونَ شَاقِلاً، فَٱشْتَهَيْتُهَا وَأَخَذْتُهَا. وَهَا هِيَ مَطْمُورَةٌ فِي ٱلأَرْضِ فِي وَسَطِ خَيْمَتِي، وَٱلْفِضَّةُ تَحْتَهَا».
تكوين ١٠: ١٠ و١١: ٢
رِدَاءً شِنْعَارِيّاً نسبة إلى شنعار وهي على ما يرجّح سهل أرام بين الفرات ودجلة. وكانت الأردية الشنعارية يومئذ من أحسن الثياب ولعلها كانت تُصنع في مدينة بابل المشهورة في ذلك العصر بالمنسوجات وبابل مدينة في سهل شنعار. وجاء في بعض ترجمات هذا السفر في غير العربية «رداء بابلياً».
وَمِئَتَيْ شَاقِلِ فِضَّةٍ أي ما قيمته نحو ٢٤٠٠ قرش فإن قيمة شاقل الفضة نحو ١٢ قرشاً.
لِسَانَ ذَهَبٍ وَزْنُهُ خَمْسُونَ شَاقِلاً أي ما قيمته نحو ٩٦٠٠ قرش لأن قيمة شاقل الذهب نحو ١٩٢ قرشاً.
فَٱشْتَهَيْتُهَا وَأَخَذْتُهَا قال في أول الآية «رأيت» وقال هنا «فاشتهيت وأخذت» جرى بذلك على الترتيب الطبيعي فإن العين ترى فيشتهي القلب فتأخذ اليد فكان اعترافه صحيحاً مفصلاً مرتباً.
إن الشهوة حملت عخان على السرقة وعمته عن أن ينظر في العاقبة فالشهوة تمنع من معرفة الحق أبداً. وأظن الذي حمل عخان على الاعتراف بإخلاص خوف الله الذي أعلن خيانته وما نشأ عنها من الشر على إسرائيل. إن الشهوة حبلى بالخطيئة تلد إثماً والإثم يلد شراً وعقاباً وينشأ عن ذلك بلايا متسلسلة.
وَهَا هِيَ مَطْمُورَةٌ فِي ٱلأَرْضِ فِي وَسَطِ خَيْمَتِي، وَٱلْفِضَّةُ تَحْتَهَا ما اكتفى بأن اعترف بإيمه على الترتيب حتى أعلن مخبأ المسروق ووضعه كذلك. رأى بعضهم من هذا أن لسان الذهب كان في الثوب الشنعاري والفضة تحت ذلك الثوب. وقال بعض المفسرين أظن هذه الغنيمة كلها كانت في هيكل بعض الأوثان والله نهى الإسرائيليين عن الغنائم المختصة بالأوثان (انظر تثنية ٧: ٢٥ و٢٦).
٢٢ «فَأَرْسَلَ يَشُوعُ رُسُلاً فَرَكَضُوا إِلَى ٱلْخَيْمَةِ وَإِذَا هِيَ مَطْمُورَةٌ فِي خَيْمَتِهِ وَٱلْفِضَّةُ تَحْتَهَا».
فَرَكَضُوا يشوع أرسلهم ليتحقق اعتراف عخان ولم يأمرهم بالركض لكنهم ركضوا ليسرعوا بتطهير إسرائيل من هذا الحرام.
وَإِذَا هِيَ الخ كما اعترف تماماً (ع ٢١).
٢٣ «فَأَخَذُوهَا مِنْ وَسَطِ ٱلْخَيْمَةِ وَأَتَوْا بِهَا إِلَى يَشُوعَ وَإِلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَسَطُوهَا أَمَامَ ٱلرَّبِّ».
بَسَطُوهَا أَمَامَ ٱلرَّبِّ أي أمام تابوت العهد مظهر حضور الرب وهو المكان الذي كان يشوع والشيوخ يتوقعون خروج الأوامر منه فتكون قد بُسطت أمام الرب. وقد عُلم أن الله أمر بأن يأتوا بالفضة والذهب إلى خزانته (ص ٦: ١٩).
٢٤ «فَأَخَذَ يَشُوعُ عَخَانَ بْنَ زَارَحَ وَٱلْفِضَّةَ وَٱلرِّدَاءَ وَلِسَانَ ٱلذَّهَبِ وَبَنِيهِ وَبَنَاتِهِ وَبَقَرَهُ وَحَمِيرَهُ وَغَنَمَهُ وَخَيْمَتَهُ وَكُلَّ مَا لَهُ، وَجَمِيعُ إِسْرَائِيلَ مَعَهُ، وَصَعِدُوا بِهِمْ إِلَى وَادِي عَخُورَ».
بَنِيهِ وَبَنَاتِهِ هنا سؤالان الأول إنه لم يذكر امرأته فهل كانت قد ماتت أو لم تشارك في هذه الذنب كبنيه وبناته. والثاني أن الكتاب لم يذكر أن البنين والبنات شاركوه. أما السؤال الأول فلا شيء لنا يرجّح أحد الأمرين. وأما الثاني فنرجّح أن البنين والبنات شاركوا أباهم في الذنب إذ سكتوا عن السرقة فإنه يتعذر أن يحفر أرض خيمته ويطمر المسروق ولا يعرف أحد منهم وهم في تلك الخيمة بالأمر والله لا يعاقب الأولاد الأبرار بذنوب والديهم (انظر حزقيال ١٨: ٢٠). وأما قوله «أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ ٱلآبَاءِ فِي ٱلأَبْنَاءِ فِي ٱلْجِيلِ ٱلثَّالِثِ وَٱلرَّابِعِ» (خروج ٢٠: ٥) وقوله «يَجْعَلُ ذَنْبَ ٱلآبَاءِ عَلَى ٱلأَبْنَاءِ الخ» (عدد ١٤: ١٨) ليسا من هذا (فارجع إلى تفسير خروج ٢٠: ٥). ونكتفي هنا بأن نقول إن الميراث الطبيعي جناية الوالدين على الأولاد فهم يحملون الآلام الناشئة عنها في هذا العالم ولا يُعاقبون عليها في يوم الدين وعقاب بني عخان وبناته ليس من باب الميراث الطبيعي. وقال بعض المفسرين «إن أولاد عخان عوقبوا على ذنب غير ذنب أبيهم» وعلى فرض أنهم عوقبوا به ولم يعرفوا خيانته نقول كان عقابهم على غفلتهم عن ذلك وهم معه في خيمة واحدة وقد نبههم الله على ذلك ونهاهم عنه (ص ٦: ١٧).
وَبَقَرَهُ الخ صارت خيمته محرّمة كجزء من أريحا فأُهلك كل ما فيها وكل ما له لأنه هو نفسه صار كواحد من أهل أريحا. وقتل البهائم ليس بظلم إذ كان قتلها للترهيب من الإثم على أنه لو لم تُقتل بهائم عخان كذلك لكانوا قتلوا البقر والغنم وأكلوا لحومها وانتفعوا بخدمة حمير الأثيم وربما قتلوها إجهاراً على أن للإنسان أن يذبح الحمار لنفع يراه ولا يأثم ولا يظلم.
وَادِي عَخُورَ أي وادي عَكَر أو كدَر وهو وادٍ قرب أريحا يُظن أنه وادي كَلت وهو وراء مرتفع من الأرض ولذلك قال «صعدوا بهم إلى وادي عخور» أي صعدوا بعخان ومن له متوجهين إلى وادي عخور. وسُمي هذا الوادي «عخور» من العكر أو الكَدر الذي حصل لإسرائيل من خيانة عخان. على أن عخان نفسه سُمي في سفر الأيام الأول عخار أي عَكَراً (١أيام ٢: ٧). وكان وادي عخور سبيلاً من الجلجال إلى مركز البلاد أو من أريحا إلى أورشليم أي من مدينة الخراب أو الهلاك إلى مدينة الله.
٢٥ «فَقَالَ يَشُوعُ: كَيْفَ كَدَّرْتَنَا؟ يُكَدِّرُكَ ٱلرَّبُّ فِي هٰذَا ٱلْيَوْمِ! فَرَجَمَهُ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ بِٱلْحِجَارَةِ وَأَحْرَقُوهُمْ بِٱلنَّارِ وَرَمَوْهُمْ بِٱلْحِجَارَةِ».
ص ٦: ١٨ و١أيام ٢: ٧ وغلاطية ٥: ١٢ تثنية ١٧: ٥
فَقَالَ يَشُوعُ: كَيْفَ كَدَّرْتَنَا إن يشوع بذل جهده في أن يقود عخان إلى التوبة بإظهار اللطف والشفقة ليخلّص نفسه من الموت الأبدي لكن لم يلطف به ويشفق عليه بإجراء أحكام الشريعة على الأرض فوبخه وقتله بمقتضى العهد أن لا رحمة مع الإثم في هذه الدنيا على ما في شرع الله العادل. لا ريب في أن عخان كدّر غيره بما كدّر به نفسه. ولنا من ذلك هذه القاعدة الأدبية أن الخاطئ يسيء إلى نفسه وإلى غيره.
يُكَدِّرُكَ ٱلرَّبُّ فِي هٰذَا ٱلْيَوْمِ هذه العبارة خبر لا دعاء أي أن الله اليوم يكدّره جزاء على تكديره إسرائيل والقصد بيان أن عقابه كان بمقتضى العدل.
فَرَجَمَهُ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ لأنه كدّر الجميع ولأن الجميع شهود عليه ولا نظن أن كل فرد من أفراد إسرائيل رماه بحجر فالمراد أن الجميع الراجمين فعلاً والراجمين نيّة كانوا متفقين على وجوب رجمه.
٢٦ «وَأَقَامُوا فَوْقَهُ رُجْمَةَ حِجَارَةٍ عَظِيمَةً إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ. فَرَجَعَ ٱلرَّبُّ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِهِ. وَلِذٰلِكَ دُعِيَ ٱسْمُ ذٰلِكَ ٱلْمَكَانِ «وَادِيَ عَخُورَ» إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ».
ص ٨: ٢٩ و٢صموئيل ١٨: ١٧ ومراثي إرميا ٣: ٥٣ تثنية ١٣: ١٧ و٢صموئيل ٢١: ١٤ ع ٢٤ وإشعياء ٦٥: ١٠ وهوشع ٢: ١٥
وَأَقَامُوا فَوْقَهُ رُجْمَةَ حِجَارَةٍ عَظِيمَةً لتبقى زماناً طويلاً تذكاراً لشرّه وعبرة للأشرار ليتعزلوا خيانة عهد الله كما فعل الشعب بأبيشالوم إذ طرحوه في الوعر في الجب وأقاموا عليه جثوة عظيمة جداً من الحجارة تذكاراً لإثمه وعاره وعبرة لمن هو من أشكاله (٢صموئيل ١٨: ١٧).
إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ الخ أي باقية إلى هذا اليوم أي يوم كتابة هذا النبإ. وهنا نص على أن وادي عخور أي الكدر أو التكدير سُمي بها لتكدير عخان شعب الله.
فوائد
- إن الله لا يسمح بترك قصاص متعدي شريعته على الأرض ولو تاب المتعدي وغُفرت خطيئته لكي لا يُدان عليها يوم الدين. فالإثم جزاؤه معه على الأرض ولو غير كامل.
- إن قصاص الإثم في العهد القديم والعهد الجديد لا بد منه.
- إن نبأ الأشرار في العهدين لم يكن إلا بيان قاعدة أدبية وعبرة للمعتبرين وذكرى للمتذكرين.
- إن الخطأ أي الغلظ لا بد له من عاقبة تسوء فإطاعة يشوع للجواسيس دون تروّ أدت على الانكسار ولا عذر له بأن ذلك علته خيانة عخان فكان عليه أن يعمل ما يجب عليه والله يعلم كيف يعاقب الخائن.
- إن الخاطئ يضرّ بخطيئته نفسه وغيره فعخان ضرّ بخيانته نفسه وأهله وشعبه.
- إن المعصية والطمع من مجلبات الأخطار العظيمة.
- إن الخطيئة خادعة فإن الخاطئ يرى فيها حلاوة ولكنه بعد ارتكابها يعرف شدة مرارتها. شوكة الخطيئة أنفذ من لذّتها.
- إن الشهوة تلد إثماً والإثم يلد موتاً.
- إن عخان سرق مال الله لأن الفضة والذهب كانا هنا مما يجب وضعه في خزينة الرب وكل من سلب ما ليس له فهو سارق لله لأنه «لِلرَّبِّ ٱلأَرْضُ وَمِلْؤُهَا» (مزمور ٢٤: ١).
- قد يُعاقب السارق على سرقة ما لم ينتفع به فعخان لم ينتفع شيئاً مما سرقه من الفضة والذهب والرداء الشنعاري.
- إن الخطيئة تبقى تذكار عار دائم لمرتكبها بعد موته.
- كان عخان من سبط يهوذا وهو أشرف أسباط إسرائيل وسمع كلام الله ورأى أعماله العظيمة ومع ذلك أخطأ فلا يخلص الإنسان بواسطة جنسيته أو اسمه ولا بوسائط علمية أو روحية بل الجميع محتاجون إلى نعمة الله.
- أخطأ عخان بأخذه ما ليس له بل للرب ونحن نخطئ تلك الخطيئة لما نفتخر بأنفسنا كأننا لم نأخذ كل شيء من الله أو نقضي أيامنا وننفق أموالنا كأنها لنا وليس للرب.
- عخان احتقر الرب بخطيئته كأنه قال الله لا يعمل أو إنه لم يخف مما يعمل الله به.
- كثيراً ما يقاوم الإنسان التجربة الكبيرة ويسقط في الصغيرة فإن عخان عبر الأردن ودار حول أسوار أريحا ولم يخف من الحرب ولم يعصَ أمر القائد ولكنه سقط في تجربة الرداء والفضة والذهب.
-
كل خطيئة تفصلنا عن الرب فلا يسمع إذ ذاك صلواتنا ولا يعيننا حتى ننزع الخطيئة.
السابق |
التالي |