سفر يشوع | 05 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر يشوع
للقس . وليم مارش
اَلأَصْحَاحُ ٱلْخَامِسُ
١ «وَعِنْدَمَا سَمِعَ جَمِيعُ مُلُوكِ ٱلأَمُورِيِّينَ ٱلَّذِينَ فِي عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ غَرْباً، وَجَمِيعُ مُلُوكِ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ ٱلَّذِينَ عَلَى ٱلْبَحْرِ، أَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ يَبَّسَ مِيَاهَ ٱلأُرْدُنِّ مِنْ أَمَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى عَبَرْنَا، ذَابَتْ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ تَبْقَ فِيهِمْ رُوحٌ بَعْدُ مِنْ جَرَّاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ».
عدد ١٣: ٢٩ خروج ١٥: ١٤ و١٥ وص ٢: ٩ و١٠ و١١ ومزمور ٤٨: ٦ وحزقيال ٢١: ٧ و١ملوك ١٠: ٥
جَمِيعُ مُلُوكِ ٱلأَمُورِيِّينَ الملوك هنا رؤساء بلاد صغيرة كمشايخ قبائل البادية اليوم. و «الأموريون» قبيلة سورية كنعانية اشتهر رجالها بالقوة والشجاعة (عاموس ٢: ٩) سكنوا في أول أمرهم في جنوبي أورشليم الأرض الكثيرة الهضاب. ثم استولوا على أحسن أرض من أروض الخصب على جانبي نهر الأردن. ومن ملوكها سيحون وعود اللذان قُتلا على الجانب الشرقي (تثنية ٤: ٤٦ و٤٧).
وَجَمِيعُ مُلُوكِ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ الناس الذين نُسلوا من كنعان وهم أهل أرض الميعاد فعطف «جميع ملوك الكنعانيين» على «جميع ملوك الأموريين» من عطف العام على الخاصّ لأن الأموريين من الكنعانيين وإنما خُصصوا بالذكر لاشتهارهم بالبسالة والبأس أو من عطف قسم على قسم تميزاً باختلاف المسكن وأراد الكاتب كل سكان كنعان فاكتفى بذكر أشهرهم.
ٱلَّذِينَ عَلَى ٱلْبَحْرِ أي البحر المتوسط فإن الكنعانيين كانوا متفرقين على شطوطه. وعُرفت أرض مسكنهم بعد ذلك بفينيقية ومن مدنها صور وصيداء عاصمتا الفينيقيين وعلى هذا دُعيت المرأة الواحدة في متّى «كنعانية» وفي مرقس «فينيقية سورية» (متّى ١٥: ٢٢ ومرقس ٧: ٢٦).
ٱلرَّبَّ قَدْ يَبَّسَ مِيَاهَ ٱلأُرْدُنِّ أي جفف مقر مياه الأردن. وكان الكنعانيون يرون الأردن سوراً طبيعياً لبلادهم لا يقوى الأعداء على اجتيازه بسهولة ولا سيما اجتيازه زمن فيضانه السنوي. قال بعضهم لو راعى الكنعانيون قواعد الرب لقابلوا الإسرائيليون عند عبورهم الأردن لكن هلاك المصريين جنود فرعون في البحر الأحمر وانتصار الإسرائيليين على سيحون وعوج جعل الخوف في قلوبهم فلم يتعرضوا للإسرائيليين لئلا يُلحقوا بمن أُهلكوا. وهذه الحادثة بينت أن الأمة إذا تمّ إثمها لم تستطع أن تنجو من نقمة الله مهما كانت الموانع دون تلك النقمة ومهما كان لها من وسائل الدفاع العالمية. إن الله يمهّد السبيل لغضبه ونقمته فلا يثبت شيء أمام نار غضبه.
حَتَّى عَبَرْنَا أي حتى عبر الإسرائيليون (انظر ص ٤: ٢٣ والتفسير) وقُرى في بعض النسخ «حتى عبروا».
ذَابَتْ قُلُوبُهُمْ أي خافوا كل الخوف أو لم يبق لهم من شجاعة لأن القلب محل الشجاعة على ما اشتهر عند الناس فذوبان القلب كناية عن أنه لم يبقَ موضع للشجاعة والقصد من ذلك المبالغة في الجبن.
لَمْ تَبْقَ فِيهِمْ رُوحٌ أي كأنهم ماتوا فلا يستطيعون المقاومة. وكان ذلك من أحسن أعمال العناية الإلهية فإن الإسرائيليين كانوا على وشك أن يُختنوا فلولا أن الله أخاف الكنعانيين إلى ذلك الحد لهجموا على الإسرائيليين إلى أثر الختان وقتلوهم كما فعل شمعون ولاوي بأهل شكيم على أثر ختانهم (تكوين ٣٤: ٦ – ٢٩).
ختن يشوع للإسرائيليين ع ٢ إلى ٩
٢ «فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ قَالَ ٱلرَّبُّ لِيَشُوعَ: ٱصْنَعْ لِنَفْسِكَ سَكَاكِينَ مِنْ صَوَّانٍ، وَعُدْ فَٱخْتُنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثَانِيَةً».
خروج ٤: ٢٥
ٱصْنَعْ لِنَفْسِكَ سَكَاكِينَ مِنْ صَوَّانٍ «صوّان» هنا في الأصل العبراني صريم ويحتمل معنيين وهما صوّان وقاطعة أو حادة. والصروم في العربية السيف القاطع وفيه صرم الشي أي قطعه وصرم السيف أي كان صارماً أي قاطعاً وعلى الأول فالترجمة الحرفية «اصنع لنفسك سكاكين صوان أو سكاكين حادة». والصوّان هنا الأرجح لأن الظرّان وهي حجارة الصوّان الحادة كانت كثيرة الاستعمال للذبح والقطع في تلك الأيام. وأحوال بني إسرائيل بعد كل سني التيه في البرية ترجح أنهم كانوا يستعملون الظرّان لذلك. وقد وقفنا على كثير من أنباء أهل البادية بعد العصر المذكور بذبحهم البهائم بالظرّان. ولا يزال بعض الناس غير المتمدنين يستعملونها. وعلماء العاديات اكتشفوا كثيراً من القواطع الصوانية من سكاكين وأسنة وأن صفورة امرأة موسى ختنت ابنها بصوّانة (خروج ٤: ٢٥). ومترجمو السبعينية فهموا أنها سكاكين صوّان ففي ص ٢٤ فيها زادوا «أنهم دفنوا مع يشوع سكاكين الحجر (أو الصوّان) التي ختن بها بني إسرائيل» ولا يزال الأحباش إلى اليوم يختنون بالظرّان جرياً على سنة صفورة على ما قال بعض المختبرين. والاعتقاد الغالب أن الختان بالظرّان لا ينشأ عنه ما ينشأ عن الموسى الفولاذية من الالتهاب.
فَٱخْتُنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثَانِيَةً كان الختان علامة العهد بين الله وشعبه (تكوين ١٧: ١١) فاختتن جميع ذكور الإسرائيليين إلى حين خروجهم من مصر ثم أُهمل الختان في البرية لأن الشعب نكثوا العهد بسجودهم للعجل وكانت علامة نكث العهد كسر لوحي الشهادة المنقوشة عليهما الوصايا العشر (خروج ٣٢: ١٩). وبعدما عبروا الأردن ودخلوا أرض الميعاد عادوا فاختتنوا كعادتهم القديمة فكان ختانهم في الجلجال علامة رجوعهم إلى الرب ورجوع الرب إليهم. ولا يمكن أن المختون يُختن ثانية والمقصود الشعب وليس الأفراد والمعنى أن الشعب كانوا مختونين في مصر ثم أهملوا ختان صغارهم في البرية ثم رجعوا إلى حالتهم الأولى فاختتنوا ثانية الآباء خُتنوا في مصر والأبناء في الجلجال. وبما أن الآباء والأبناء شعب واحد قيل «اختتن الشعب ثانية».
٣ «فَصَنَعَ يَشُوعُ سَكَاكِينَ مِنْ صَوَّانٍ وَخَتَنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تَلِّ ٱلْقُلَفِ».
تَلِّ ٱلْقُلَفِ القلفة الجزء المقطوع بالختان. وسُمي المكان «تل القُلف» تذكاراً لهذه الحادثة. وهذا المكان في الجلجال.
٤، ٥ «٤ وَهٰذَا هُوَ سَبَبُ خَتْنِ يَشُوعَ إِيَّاهُمْ: أَنَّ جَمِيعِ ٱلشَّعْبِ ٱلْخَارِجِينَ مِنْ مِصْرَ، ٱلذُّكُورِ، جَمِيعَ رِجَالِ ٱلْحَرْبِ، مَاتُوا فِي ٱلْبَرِّيَّةِ عَلَى ٱلطَّرِيقِ بِخُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ. ٥ لأَنَّ جَمِيعَ ٱلشَّعْبِ ٱلَّذِينَ خَرَجُوا كَانُوا مَخْتُونِينَ. وَأَمَّا جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ ٱلَّذِينَ وُلِدُوا فِي ٱلْقَفْرِ عَلَى ٱلطَّرِيقِ بِخُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ فَلَمْ يُخْتَنُوا».
عدد ١٤: ٢٩ و٢٦: ٦٤ و٦٥ وتثنية ٢: ١٦
خلاصة هاتين الآيتين أن علة الختان ثانية إهمال الختان في البرية. وكان الختان يومئذ ضرورياً لتمييز بني إسرائيل عن سائر أهل كنعان ولم يكن ذلك في البرّية لعدم من يختلطون بهم على أن الختان كان فرضاً عليهم أين كانوا.
٦ «لأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَارُوا أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي ٱلْقَفْرِ حَتَّى فَنِيَ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ رِجَالُ ٱلْحَرْبِ ٱلْخَارِجِينَ مِنْ مِصْرَ، ٱلَّذِينَ لَمْ يَسْمَعُوا لِقَوْلِ ٱلرَّبِّ، ٱلَّذِينَ حَلَفَ ٱلرَّبُّ لَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُرِيهِمِ ٱلأَرْضَ ٱلَّتِي حَلَفَ ٱلرَّبُّ لآبَائِهِمْ أَنْ يُعْطِيَنَا إِيَّاهَا، ٱلأَرْضَ ٱلَّتِي تَفِيضُ لَبَناً وَعَسَلاً».
عدد ١٤: ٣٣ وتثنية ١: ٣ و٢: ٧ و١٤ ومزمور ٩٥: ١٠ عدد ١٤: ٢٣ ومزمور ٩٥: ١١ وعبرانيين ٣: ١١ خروج ٣: ٨
سَارُوا أَرْبَعِينَ سَنَةً قال «ساروا» لأنهم كانوا بين حل وارتحال.
فَنِيَ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ أي مات الشعب الذي خرج من مصر لأن الخارجين كانوا يومئذ الشعب كله.
رِجَالُ ٱلْحَرْبِ بدل من الشعب بدل بعض من كل وخصهم بالذكر لأنه عمدة إسرائيل في التيه الذين حاربوا الأعداء وحموا الباقين.
ٱلَّذِينَ لَمْ يَسْمَعُوا لِقَوْلِ ٱلرَّبِّ فعدم سمعهم لقول الرب علة حرمانهم دخول أرض الميعاد.
تَفِيضُ لَبَناً وَعَسَلاً أي كثيرة الخصب والمرعى فتقوى فيها البقر والغنم والمعزى فيكثر لبنها ويجني نحلها العسل من أزهارها الكثيرة.
٧ «وَأَمَّا بَنُوهُمْ فَأَقَامَهُمْ مَكَانَهُمْ. فَإِيَّاهُمْ خَتَنَ يَشُوعُ لأَنَّهُمْ كَانُوا قُلْفاً، إِذْ لَمْ يَخْتِنُوهُمْ فِي ٱلطَّرِيقِ».
عدد ١٤: ٣١ وتثنية ١: ٣٩
وَأَمَّا بَنُوهُمْ فَأَقَامَهُمْ مَكَانَهُمْ قال في الآباء إنهم فنوا وفي الأبناء أنهم أقيموا فأولئك فنوا للمعصية وهؤلاء أُقيموا للطاعة. أسند الفناء إلى الآباء لأنهم هم علته والإقامة إلى الله لأنهم قاموا بنعمته. والخلاصة أن الآباء علة فناء نفوسهم بمعصيتهم وأن علة قيام الأبناء إحسان الله إليهم لطاعتهم فالطاعة شرط الإحسان الإلهي لا علته. ومعنى إقامتهم مكان آبائهم جعله إيّاهم شعبه المختار والقيام بوفاء الوعد لهم. فني الآباء وهم مختتنون وقام الأبناء وهم قُلفٌ انظر قول الرسول (رومية ٢: ٢٥) «فَإِنَّ ٱلْخِتَانَ يَنْفَعُ إِنْ عَمِلْتَ بِٱلنَّامُوسِ. وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتَ مُتَعَدِّياً ٱلنَّامُوسَ، فَقَدْ صَارَ خِتَانُكَ غُرْلَةً». وقوله (١كورنثوس ٧: ١٩) «لَيْسَ ٱلْخِتَانُ شَيْئاً، وَلَيْسَتِ ٱلْغُرْلَةُ شَيْئاً، بَلْ حِفْظُ وَصَايَا ٱللّٰهِ».
٨ «وَكَانَ بَعْدَمَا ٱنْتَهَى جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ مِنَ ٱلاخْتِتَانِ أَنَّهُمْ أَقَامُوا فِي أَمَاكِنِهِمْ فِي ٱلْمَحَلَّةِ حَتَّى بَرِئُوا».
تكوين ٣٤: ٢٥
بَرِئُوا أي شُفيت جراح ختانهم. و «برئوا» ترجمة «حيوتم» أي حيوا والمراد بها هنا شفوا لأن الحياة من لوازم الشفاء وقد جاءت بهذا المعنى في قوله «ٱصْنَعْ لَكَ حَيَّةً مُحْرِقَةً وَضَعْهَا عَلَى رَايَةٍ، فَكُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا يَحْيَا» أي يبرأُ فيحيا (عدد ٢١: ٨).
٩ «وَقَالَ ٱلرَّبُّ لِيَشُوعَ: ٱلْيَوْمَ قَدْ دَحْرَجْتُ عَنْكُمْ عَارَ مِصْرَ. فَدُعِيَ ٱسْمُ ذٰلِكَ ٱلْمَكَانِ «ٱلْجِلْجَالَ» إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ».
تكوين ٣٤: ١٤ ولاويين ١٨: ٣ وص ٢٤: ١٤ و١صموئيل ١٤: ٦ وحزقيال ٢٠: ٧ و٢٣: ٣ و٨ ص ٤: ١٩
دَحْرَجْتُ عَنْكُمْ عَارَ مِصْرَ كانت بين المفسرين مناقشات كثيرة في المراد «بعار مصر» فرآه بعضهم قسمين أحدهما فعليّ وهو معصية بني إسرائيل بأن تذمروا على الله لإخراجه إياهم من مصر وتعريضه إياهم للمشاق والموت في البرية فودوا لو بقوا في مصر وهذا خطاء فظيع وعار متعلق بميلهم إلى مصر فدُعي «بعار مصر» والآخر انفعالي وهو كونهم في عبودية المصريين فسمي العبودية للمصريين «بعار مصر» والذي يظهر أن المراد «بعار مصر» العبودية للمصريين وإن تلك العبودية أُزيلت عنهم لما دخلوا أرض الموعد فإن عبودية مصر كانت عليهم كل مدة غربتهم عن أرض الميعاد. نعم إنهم كانوا قد خرجوا من مصر منذ أربعين سنة لكنهم كانوا في تيههم عبيداً للمصريين هاربين أو آبقين ولكن لما بلغوا الجلجال وصلوا إلى الوطن الموعود به تحرروا فلم يبقوا عبيداً ولا غرباء فتأمل. واستعار «الدحرجة» لإزالة العبودية للمبالغة زيادة البيان بتمثيل المعقول بالمحسوس كأن العبودية صخرة على ظهورهم دحرجها عنهم فأراحهم من ثقلها.
فَدُعِيَ ٱسْمُ ذٰلِكَ ٱلْمَكَانِ ٱلْجِلْجَالَ «الفاء» في قوله «فدُعي» سببية أي كانت دحرجة الله عبوديتهم عنهم في ذلك المكان سبب تسميته «بالجلجال» أي متدحرج.
١٠ «فَحَلَّ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْجِلْجَالِ، وَعَمِلُوا ٱلْفِصْحَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ ٱلشَّهْرِ مَسَاءً فِي عَرَبَاتِ أَرِيحَا».
خروج ١٢: ٦ وعدد ٩: ٥
عَمِلُوا ٱلْفِصْحَ هذا هو الفصح الثالث الذي عملوه منذ خروجهم من مصر إلى تلك الساعة. وعملوا الاثنين في حياة موسى. الأول في مصر يوم أنقذهم الرب من الملاك المهلك والثاني في سيناء (عدد ٩: ١ – ٥). وكان آخر فصح عند المسيحيين الفصح الذي أكله المسيح مع تلاميذه (لوقا ٢٢: ١٦).
ٱلرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ ٱلشَّهْرِ أي شهر نيسان.
انظر هنا أن يشوع ختن الشعب قبل أن عمل الفصح بناء على حكم الشريعة بأن الأغلف محظور عليه أن يأكل الفصح (خروج ١٢: ٤٨) ولذلك لم يصنعوا الفصح في البرية بعد صنعه في سيناء لأنهم لم يكونوا مختونين كالذين صنعوه هناك.
١١ «وَأَكَلُوا مِنْ غَلَّةِ ٱلأَرْضِ فِي ٱلْغَدِ بَعْدَ ٱلْفِصْحِ فَطِيراً وَفَرِيكاً فِي نَفْسِ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ».
وَأَكَلُوا مِنْ غَلَّةِ ٱلأَرْضِ لم يتبين من هذه العبارة أن تلك الغلّة كانت من حاصل السنة الماضية أو من حاصل السنة التي هم فيها لأنهم كانوا في شهر الحصاد. قال بعضهم أنهم وجدوا تلك الغلة في بيوت الذين هربوا. وقال آخر أن الباعة أتوا إلى محلة الإسرائيليين وباعوهم إياها. والغرض أنهم أكلوا من غلة أرض كنعان.
ًفَطِيرا أي خبز فطير أي مختمر لأنهم كانوا في عيد الفصح وهو عيد الفطير.
فَرِيكاً الحَب الذي حان له أن يُفرك ويُؤكل ويحتمل المعنى أنه حَبّ مشويّ ولا يُشوى ما لم يكن على وشك البلوغ وهذا يستلزم أن ذلك الحَبّ من غلال الفصل الذي كانوا فيه.
١٢ «وَٱنْقَطَعَ ٱلْمَنُّ فِي ٱلْغَدِ عِنْدَ أَكْلِهِمْ مِنْ غَلَّةِ ٱلأَرْضِ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَنٌّ. فَأَكَلُوا مِنْ مَحْصُولِ أَرْضِ كَنْعَانَ فِي تِلْكَ ٱلسَّنَةِ».
خروج ١٦: ٣٥
وَٱنْقَطَعَ ٱلْمَنُّ فِي ٱلْغَدِ عِنْدَ أَكْلِهِمْ مِنْ غَلَّةِ ٱلأَرْضِ أي في السادس عشر من شهر نيسان انقطع المن فإن اليوم الرابع عشر أكلوا الفصح وفي الخامس عشر أكلوا بعض غلال الأرض وفي غد هذا اليوم أي في السادس عشر من نيسان وهو أول السنة التي دخلوا فيها أرض الميعاد انقطع المن ولم تبق من حاجة إليه. وكان أول إعطائه لبني إسرائيل في اليوم السادس عشر من الشهر الثاني من السنة الأولى للخروج من مصر (خروج ١٦: ١ و٧ و١٣ و١٤). فوقع لهم ٣٩ سنة وأحد عشر شهراً في كل يوم سوى أيام السبت. وحفظوا السبت اليوم السابع من الأسبوع في كل سفرهم وإقامتهم في البرية ولكن في غد السبت أي في أول الأسبوع الذي قام فيه المسيح صار السبت أول الأسبوع المعروف بيوم الرب وكانت قيامة يسوع بمنزلة المن الذي لا ينقطع لأنه قوت الخلاص أو الخبز النازل من السماء الذي من أكله يحيا إلى الأبد.
الاستيلاء على كنعان
هنا بداءة القسم الثاني الكبير من هذا السفر إن عبور الأردن كان حادثة عظيمة من القسم الأول الصغير والحادثة العجيبة الآتية الحادثة العظيمة من القسم الثاني الكبير.
١٣ «وَحَدَثَ لَمَّا كَانَ يَشُوعُ عِنْدَ أَرِيحَا أَنَّهُ رَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ، وَإِذَا بِرَجُلٍ وَاقِفٍ قُبَالَتَهُ، وَسَيْفُهُ مَسْلُولٌ بِيَدِهِ. فَسَارَ يَشُوعُ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ: هَلْ لَنَا أَنْتَ أَوْ لأَعْدَائِنَا؟».
تثنية ١٨: ٢ و٣٢: ٢٤ وخروج ٢٣: ٢٣ وزكريا ١: ٨ وأعمال ١: ١٠ عدد ٢٢: ٢٣
لَمَّا كَانَ يَشُوعُ عِنْدَ أَرِيحَا أي في سهول أريحا المجاورة لها أو في ضواحي أريحا أو على أقرب ما يمكن منها ولعله كان حينئذ يلاحظ بنفسه موقع المدينة والجهة التي هي أنسب للهجوم.
وَإِذَا بِرَجُلٍ أي كائن أعظم من الإنسان في صورة رجل ولذلك ظنه يشوع في أول الأمر إنساناً حقيقياً ودلنا على ذلك ما يأتي في الآية الآتية.
سَيْفُهُ مَسْلُولٌ بِيَدِهِ أي مستعد للحرب. وقد ذُكر في مكان آخر أنه «رجل الحرب» (خروج ١٥: ٣). وظهر ليشوع على هذه الصورة ليشجعه ويبين له أن الرب معه وإذا كان الرب معنا فمن يقدر علينا.
فَسَارَ يَشُوعُ إِلَيْهِ لا ريب في أن منظر ذلك الرجل كان رهيباً فسَير يشوع إليه كان من بيّنات شجاعته.
هَلْ لَنَا أَنْتَ أَوْ لأَعْدَائِنَا أي أمعنا أنت أم علينا أو صديق أنت أم عدوّ.
١٤ «فَقَالَ: كَلاَّ، بَلْ أَنَا رَئِيسُ جُنْدِ ٱلرَّبِّ. ٱلآنَ أَتَيْتُ. فَسَقَطَ يَشُوعُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى ٱلأَرْضِ وَسَجَدَ، وَقَالَ لَهُ: بِمَاذَا يُكَلِّمُ سَيِّدِي عَبْدَهُ؟».
خروج ٢٣: ٢٠ ودانيال ١٠: ١٣ و٢١ و١٢: ١ ورؤيا ١٢: ٧ و١٩: ١١ و١٤ تكوين ١٧: ٣
أَنَا رَئِيسُ جُنْدِ ٱلرَّبِّ. ٱلآنَ أَتَيْتُ دلّ ذلك على أنه رب الجيش وأنه قادر على الحرب ومستعد لها وأنه يساعد الإسرائيليين. ومما يناسب هذا أن محاربات إسرائيل في كنعان دُعيت «حروب الرب».
فَسَقَطَ يَشُوعُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى ٱلأَرْضِ وَسَجَدَ الخ عبادة لمن خاطبه إذ عرف أنّه الرب ظهر له في صورة بشرية كان مستعداً أن يظهر في مثلها للبشر مولوداً من امرأة.
١٥ «فَقَالَ رَئِيسُ جُنْدِ ٱلرَّبِّ لِيَشُوعَ: ٱخْلَعْ نَعْلَكَ مِنْ رِجْلِكَ، لأَنَّ ٱلْمَكَانَ ٱلَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ هُوَ مُقَدَّسٌ. فَفَعَلَ يَشُوعُ كَذٰلِكَ».
خروج ٣: ٥ وأعمال ٧: ٣٣
ٱخْلَعْ نَعْلَكَ مِنْ رِجْلِكَ كان هذا علامة الاحترام في بلادنا ولا يزال كذلك عند كثيرين في المعابد والمساجد وهو ككشف الرأس عند غير الشرقيين. وهذه العبارة هي العبارة التي خاطب بها ملاك العليقة الملتهبة بلا احتراق موسى (خروج ٣: ٥) وبهذا وبغيره يرّجح أن الشخص الواحد ظهر في المكانين وهو الكائن العظيم المجيد الذي لا حدّ لكماله ولا لعنايته وإنه اعتنى بشعب الله منذ خلق الإنسان.
تبيّن مما ذكرناه اعتقادنا أن الذي ظهر ليشوع في هيئة إنسان هو ابن الله الأزلي واعتقادنا ذلك لأسباب:
- إنه رئيس جند الرب أي سيّد جنود السماء أو هو بمثابة قوله «رب الجنود» فهو الرب يسوع.
- قبوله عبادة يشوع فلو كان ملكاً أو غيره من المخلوقات لمنع يشوع من ذلك لا محالة (انظر قضاة ١٣: ١٦ ورؤيا ١٩: ١٠ و٢٢: ٩) لكنه بدلاً من أن ينهاه عن ذلك طلب منه أن يزيد عليه بأمره إياه بخلع نعله مما دلّ على أنه إله لأنه ما كان يُؤمر بذلك دينياً إلا في الحضرة الإلهية.
- دعوة أن المكان مقدس بمجرد حضوره. وهذا في الكتاب من الأمور المختصة بالله (خروج ٣: ٥).
- ذُكر أنه الرب (يهوه) في الآية الثانية من الأصحاح السادس وهذا نصّ يمنع من كل تأويل.
فوائد
- إن إسرائيل رمز إلى كنيسة الله في محاربتها للخطيئة (قابل ع ١ – ٩ بما في نشيد الأناشيد ٦: ١٠ و٨: ٥).
- إن إسرائيل رمز إلى النفس في محاربتها للإثم فإن كل نفس فرد من أفراد الكنيسة المحاربة للخطيئة.
- إنه يجب طرح الحكمة البشرية حين إطاعة الأمر الإلهي. ألم ترَ أن يشوع ختن الإسرائيليين عند الحاجة إلى تجنب كل ما يعيق عن الحرب ويلجئ إلى الضعف. إن عمل يشوع إطاعة لله يحسبه حكماء العالم من أفظع الجهل. فيجب أن لا نترك الواجب للخوف من العاقبة.
- إذا أجبرتنا الأحوال على ترك العهد يجب أن نجدده. وإن كانت الموانع غير شديدة وجب أن لا نتخذ الأحوال عذراً بل نسأل الله أن يغفر لنا خطيئة الإهمال. فإن يشوع جدد العهد بالختان وسكت عن لوم الذين لم يختتنوا قبلاً. إن النيّة تشفع عند تعذّر العمل فالله لا يكلف نفساً فوق طاقتها. إن الختان كان رمزاً إلى تطهير القلب ومعاهدة الله على خلع الإثم فيجب علينا أن نجدّد هذا العهد دائماً ولا عذر لنا على إهماله في كل الأحوال فإن ختان القلب غير ختان الجسد.
- إن الختان والفصح كانا سرّي العهد القديم ويقابلهما في العهد الجديد المعمودية والعشاء الربي.
- إن الختان كان قبل تناول الفصح (ع ٧ و١٠) فيجب أن تكون طهارة النفس المرموز إليها بالمعمودية قبل تناول العشاء الربي المرموز به إلى الاتحاد بالمسيح بالإيمان به وبفدائه إيّانا من الموت الأبدي.
- إن بني إسرائيل لما دخلوا أرض الميعاد انقطع المنّ عنهم. إن الله يصنع المعجزات عند الحاجة إليها لا لمجرد أن يحمل الناس على الإعجاب. وهذه عادته في عنايته. فإن المسيح لما أثبت تعاليمه ودعوى أنه ابن الله وأنه فادي العالم وختم عمله وصعد إلى السماء وأرسل الروح القدس إلى تلاميذه فأثبتوا شهادتهم له بألوهته وموته وقيامته إلى غير ذلك من أمور الفداء بالمعجزات فثبتت كنيسته وصارت شاهدة له بطلت المعجزات المحسوسة كنزول المن كل يوم ما عدا السبت. ولكن بقي معجزات غير محسوسة أعظمها تغيّر القلب البشري بفعل الروح القدس. انقطع المنّ المنظور وأما المنّ الروحي فباقٍ فلنتغذ به كل يوم.
- إن يسوع المسيح الكلمة الأزلية كان منذ البدء معتنياً بكنيسته وناصراً لها ومدافعاً عنها ولا يزال كذلك حتى يغلب الشيطان ويهلك أعداء ملكوته وأخر عدو يقهره ويزيله الموت. فهو رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى ورب العليقة الملتهبة بلا احتراق ورئيس السماوات صاحب السيف ذي الحدين وهو في مقدمة شعبه أبداً وهو الذي أبطل الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور (ع ١٣ – ١٥ وخروج ٣: ١ – ١٠ و١كورنثوس ص ١٥ ورؤيا ١: ١٦).
- إنه يجب علينا أن نطيع أمر الله لمجرد أمره دون سؤال عن السبب فيشوع سقط على الأرض وسجد وقال للرب «بماذا يكلم سيدي عبده» أي بماذا يأمرني أنا عبده لأفعله فقال له «اخلع نعلك» فخلعه فلنطع أوامر الله وهو إذا شاء يبين لنا سبب الأمر كما أبانه ليشوع دون أن يسأله عنه وهو أن المكان الذي كان واقفاً فيه «مقدس».
-
إن كل مكان يُعلن الله فيه حضوره مقدس فسيناء كان عند حضوره عليه مقدساً وكذا موضع العليقة وموضع مرأى رئيس جند الرب وكذا كل موضع لعبادة الله فيجب علينا أن نقف بحضرته بالاحترام وبكل ما يليق من علامات الوقار والهيبة (ع ١٥ وخروج ٣: ٥ و١٩: ١٠ و١١ ومزمور ٢: ١١ و٩٣: ٥ وأعمال ١٠: ٢٢).
السابق |
التالي |