سفر يشوع

سفر يشوع | 01 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر يشوع

للقس . وليم مارش

القسم الأول من سِفْرُ يَشُوعَ

افتتاح يشوع أرض كنعان ص ١ إلى ١١

اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ

١ «وَكَانَ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى عَبْدِ ٱلرَّبِّ أَنَّ ٱلرَّبَّ قَالَ لِيَشُوعَ بْنِ نُونٍ خَادِمِ مُوسَى».

خروج ٢٤: ١٣ وتثنية ١: ٣٨

وَكَانَ ابتدأ الكاتب السفر بواو العطف كأنه أحد أسفار التوراة أي أسفار شريعة موسى والحق إن العطف على كلام كاتب خاتمة سفر التثنية لا على كلام موسى (تثنية ٣٤: ٥ الخ).

مُوسَى عَبْدِ ٱلرَّبِّ في إطاعته ونيابته وإعلان شريعته وسياسته الإسرائيليين وترتيب الرسوم وسائر ما في الأسفار الخمسة ولعل في قوله أنه «عبد الرب» تنبيهاً للإسرائيليين على أن موسى مع ما كان له من علوّ المكانة عند الله ليس بإله بل عبد الإله فإنهم كانوا عرضة لأن يؤلهوه ويعبدوه فصرّح بلسان الكاتب أن موسى عبده. ويلزم من ذلك أن العبادة للرب لا للعبد وهذا موافق لإخفاء الله قبره عنهم (تثنية ٣٤: ٦). وأطلق الكتاب العبد على كثيرين من الملائكة (أيوب ٤: ١٨) والأنبياء (إرميا ٧: ٢٥ الخ) وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وشعب إسرائيل (حجي ٢: ٢٣) وغيرهم حتى السماء والأرض (مزمور ١١٩: ٩١) ونبوخذ نصّر (إرميا ٢٥: ٩ الخ).

يَشُوعَ بْنِ نُونٍ (انظر الفصل ١ من المقدمة).

خَادِمِ مُوسَى كان يشوع خادم موسى بمعنى أنه تلميذه ومساعده على القيام بأوامر الله وأعماله السياسية ومطيع أوامره في ذلك (انظر خروج ١٧: ٩ و١٠).

٢ «مُوسَى عَبْدِي قَدْ مَاتَ. فَٱلآنَ قُمِ ٱعْبُرْ هٰذَا ٱلأُرْدُنَّ أَنْتَ وَكُلُّ هٰذَا ٱلشَّعْبِ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أَنَا مُعْطِيهَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ».

تثنية ٣٤: ٥

مُوسَى عَبْدِي قَدْ مَاتَ لفظة «قد» هنا تشير إلى قرب الحادثة وكون هذا الخطاب على أثرها والمرجّح أنه كان على أثر فراغ الإسرائيليين من المناحة على موسى ومعلوم أن يشوع كان قد علم أن موسى مات وأنه عرف ذلك قبل غيره من الشعب فكيف أنبأه الله بما لم يجهله فأقول ليس المراد بذلك إفادة يشوع بموت موسى بل التنبيه على أن الإسرائيليين أمسوا بلا قائد ولا مدبّر واقتضاء ذلك إقامة خليفة له يقودهم ويساعدهم على الإستيلاء على أرض الميعاد ويرشدهم إلى مشيئة الله ويحثهم على الإئتمار بأوامره والإنتهاء بنواهيه إلى غير ذلك من الأمور التي كان موسى عبده يقوم بها وأنه لا يصلح لهذه الخلافة إلا من كان تلميذاً وخادماً لموسى وممن ساعده على أعماله على أن الرب كان قد أنبأه بأنه سيكون خليفة موسى (انظر تثنية ٣١: ٢٣) فيكون في الخطاب تذكير له بذلك.

فَٱلآنَ أي في الوقت الحاضر بلا تأخر. إن الواجبات يجب أن يُقام بها في الحال.

قُمِ ٱعْبُرْ هٰذَا ٱلأُرْدُنَّ الإشارة تدل على أن الأردن كان تجاهه وقريباً منه وكان مخيم الإسرائيليين في السهل المعروف بسهل الأردن وهو على قرب ضفته. ومعنى الأردن منحدر أو هابط ولازم معناه أنه سريع الجري وسُمي بالنهر أيضاً (تكوين ٣١: ٢١). قال بعض المختبرين أن ميله خمس عشرة قدماً في الميل وفي بعض الأماكن أكثر من ذلك كما رأيت في تفسير الأسفار الخمسة وانظر الكلام على الأردن في قاموس الكتاب المقدس (للدكتور جورح بوست).

ولا ريب في أن أمر الرب ليشوع بأن يعبر الأردن في ذلك الوقت امتحاناً لإيمان يشوع من أشد الامتحانات فإن النهر كان حينئذ في معظم فيضانه بدليل قوله «وَٱلأُرْدُنُّ مُمْتَلِئٌ إِلَى جَمِيعِ شُطُوطِهِ» (ص ٣: ١٥) ولم يكن ليشوع عند هذا الأمر شيء من وسائل العبور كالقوارب والجسور وما كان أمامه إلا أن يعبر الأردن هو والشعب حسب أمر الرب في الحال بلا أدنى استعداد فكانت الطاعة لأمر الله كل ما لهم من الوسائل فكان أمر الله ليشوع وبني إسرائيل بتعريض نفوسهم للهلاك غرقاً مع وعد الله لهم بأنهم يدخلون أرض الميعاد كأمره لعبده إبراهيم بأن يذبح إسحاق وكان قد وعده بأنه من إسحاق يكون له النسل الكثير فآمن يشوع كما آمن إبراهيم وتمّ له الوعد.

أَنْتَ وَكُلُّ هٰذَا ٱلشَّعْبِ اذكر ما ذكرناه آنفاً من عدم وسائل قطع الأردن ومعظم فيضانه حينئذ وكثرة الإسرائيليين تعرف شدة الامتحان لإيمان يشوع.

إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أَنَا مُعْطِيهَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إن الله وعد إبراهيم بأن تكون هذه الأرض لنسله ولكن مضت مئات من السنين حتى أتمّ وعده فالله يتمهّل بالوعد أحياناً فما للموعود له إلا الإيمان والرجاء والصبر فإن الله لا يخلف الميعاد.

٣ «كُلَّ مَوْضِعٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ لَكُمْ أَعْطَيْتُهُ كَمَا كَلَّمْتُ مُوسَى».

تثنية ١١: ٢٤ وص ١٤: ٩

كُلَّ مَوْضِعٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ أو كل ما تقع عليه أقدامكم وهذه العبارة كناية عن الفوز والاستيلاء وعدم الرجوع والانكسار أمام الأعداء بالإجمال. أي أنكم تتقدمون وتستولون أو تملكون. ولا يخفى ما فيها من التأكيد الحامل على النشاط والشجاعة.

لَكُمْ أَعْطَيْتُهُ أي أعطيكم إيّاه. عبّر عن المستقبل بصيغة الماضي للتوكيد والتحقيق حتى كأنه وقع ومضى.

كَمَا كَلَّمْتُ مُوسَى أي كما وعدته (انظر تثنية ١١: ٢٤) وفي هذا بيان أن الله لا يخلف الميعاد فهو يتم وعده لهم ويذكر لهم أنه وعد به موسى إظهاراً لعنايته به وذكره إياه على توالي الأيام. ولا يخفى ما في ذلك من التنشيط والتشجيع اللذين كانوا في شديد الحاجة إليها.

٤ «مِنَ ٱلْبَرِّيَّةِ وَلُبْنَانَ هٰذَا إِلَى ٱلنَّهْرِ ٱلْكَبِيرِ نَهْرِ ٱلْفُرَاتِ، جَمِيعِ أَرْضِ ٱلْحِثِّيِّينَ، وَإِلَى ٱلْبَحْرِ ٱلْكَبِيرِ نَحْوَ مَغْرِبِ ٱلشَّمْسِ يَكُونُ تُخُمُكُمْ».

تكوين ١٥: ١٨ وخروج ٢٣: ٣١ وعدد ٢٤: ٣ إلى ١٢

مِنَ ٱلْبَرِّيَّةِ أي برية سيناء أو العربية الصخرية وهي حد أرض الميعاد الجنوبي. وفي هذه الآية حدد الله أرض الميعاد أحسن تحديد بأوجز عبارة وهو أن حدها جنوباً البرية وشمالاً لبنان وشرقاً الفرات وغرباً البحر المتوسط.

وَلُبْنَانَ هٰذَا لبنان الحد الشمالي وهو تجاه البرّية وأشار «بهذا» إليه لأن قننه البيضاء من الثلج كانت تُنظر من المحلة أو من حيث كان يشوع. ورسم لبنان في العبرانية لبنون وهو مشتق من اللبن أي البياض لتلك العلة عينها فعلى ذلك يكون معناه الأبيض.

ٱلنَّهْرِ ٱلْكَبِيرِ نَهْرِ ٱلْفُرَاتِ سُمي الفرات «بالنهر الكبير» لأنه أكبر من كل أنهر آسيا الغربية وأنهر سورية وهي بالنسبة إليه جداول أو سواقي طوله ١٧٨٠ ميلاً ومعدّل ما يصبه في البحر في الثانية ما يزيد على ٧٢٨٠٠ قدم مكّعبة.

جَمِيعِ أَرْضِ ٱلْحِثِّيِّينَ قال جماعة من المفسرين أنه أراد «بجميع أرض الحثيين» جميع أرض الكنعانيين من باب المجاز المرسَل أي استعمال الجزء وإرادة الكل. وقال آخر الصواب هنا الحقيقة لا المجاز إذ لا قرينة عليه فالأحسن أن نفهم من أرض الحثيين الكور الشمالية التي فيها حماة وكركميش بين فلسطين والفرات (انظر قضاة ١: ٢٦ والتفسير).

والذي يقع عليه الاختيار أنه ذكر أرض الحثيين لأنها أهم أراضي الأمم لقوة الحثيين وخشية الإسرائيليين إيّاهم فالوعد باستيلائهم عليها وعدٌ بالاستيلاء على كل بلاد الكنعانيين لأن الذي يغلب القوي لا يصعب عليه أن يغلب الضعيف.

والحثيون منسوبون إلى حث ثاني أبناء كنعان وكانت أرضهم شمالي فلسطين (قضاة ١: ٢٦) وبين الفرات ولبنان (يشوع ١: ٤) وكان بعضهم ساكنين في جنوبي فلسطين بقرب حبرون (تكوين ٢٣: ٣) وجاء أنهم كانوا من سكان الجبل قال بعضهم أي الأرض الجبلية وهي قسم فلسطين الجبلي وكان يسكنه أيضاً اليابوسيون والأموريون والمرجّح أن المراد بذلك الجبل جبل بعينه هو أقرب أجزاء تلك الأرض إلى محلة الإسرائيليين يومئذ (انظر عدد ١٣: ٢٩ والتفسير). وقد شهدت الآثار أن الحثيين كانوا أمة قوّية حربية هائلة حاربت المصريين ورُسم اسمها على أنصاب مصر القدمى وكانوا مملكة مستقلة متعددة الملوك المتحالفة (١ملوك ١٠: ٢٩ و٢ملوك ٧: ٦).

ٱلْبَحْرِ ٱلْكَبِيرِ أي البحر المتوسط المعروف اليوم ببحر الروم. وسُمي بالكبير لأنه أكبر أبحر الأرض المقدسة كبحر طبرية وبحر لوط فإنهما بحيرتان صغيرتان بالنسبة إليه. واعتاد العبرانيون أن يسموا البحر الكبير باليم وهو البحر في العبرانيّة والعربيّة.

نَحْوَ مَغْرِبِ ٱلشَّمْسِ وفي العبرانية «ميبو هشمش» أي الذاهب مع الشمس أي الممتد في المغرب فالترجمة معنويّة. وهذا الكلام جرى على مقتضى الظاهر فإن الشمس تُرى ذاهبة من الشرق إلى الغرب.

يَكُونُ تُخُمُكُمْ التخم الحد أو الفاصل بين الأرضين أي أن البحر الكبير يكون حد أرض الميعاد الغربي. وأما بنو إسرائيل فلم يمتلكوا تماماً الأرض المحددة في هذا الوعد وما هذا إلا من ضعف إيمانهم وعصاوتهم على الرب.

٥ «لاَ يَقِفُ إِنْسَانٌ فِي وَجْهِكَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. كَمَا كُنْتُ مَعَ مُوسَى أَكُونُ مَعَكَ. لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ».

تثنية ٧: ٢٤ خروج ٣: ١٢ تثنية ٣١: ٨ و٢٣ وع ٩ و١٧ وص ٣: ٧ و٦: ٢٧ وإشعياء ٤٣: ٢ و٥ تثنية ٣١: ٦ و٨ وعبرانيين ١٣: ٥

لاَ يَقِفُ إِنْسَانٌ فِي وَجْهِكَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ أي لا يثبت أحد من الأعداء أمامك. فمعنى قوله «لا يقف إنسان في وجهك» لا يستطيع أن يثبت في الطريق الذي أمام وجهك أو الطريق المتوجه فيه إلى أرض الميعاد. ولازم هذا المعنى أنه لا يستطيع أحد أن يمنعك من الوصول إلى تلك الأرض. وهذا الكلام من أحسن المشجعات. فإنه كان أمام يشوع أهوال وموانع كثيرة فوعده الله بذلك فأزال مخاوفه وخشية شعبه من الأعداء لأنه إذا كان الله معه فمن يقدر عليه.

وبقي في هذه العبارة صعوبة تظهر للقارئ في بادئ الرأي وهو أنه كيف نسلم بصدق هذا الوعد ولقد صادف يشوع أهوالاً تقهقر بها وهُزم شعبه وقتل الأعداء أناساً منه (ص ٧: ٤). والجواب أن علة ذلك عدم مراعاتهم لشروط الوعد بالانتصار. ومن تلك الشروط الإيمان بالله والطاعة له وأن العون من الله وحده وهم أهملوا ذلك وتعدوا وأخطأوا بدليل قول الله ليشوع على أثر هربهم «قُمْ! لِمَاذَا أَنْتَ سَاقِطٌ عَلَى وَجْهِكَ؟ قَدْ أَخْطَأَ إِسْرَائِيلُ، بَلْ تَعَدَّوْا عَهْدِي ٱلَّذِي أَمَرْتُهُمْ بِهِ… فَلَمْ يَتَمَكَّنْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِلثُّبُوتِ أَمَامَ أَعْدَائِهِمْ الخ» (ص ٧: ١٠ – ١٢).

كَمَا كُنْتُ مَعَ مُوسَى أَكُونُ مَعَكَ أي أرشدك وأساعدك وأنصرك كما أرشدته وساعدته ونصرته لا أنه يجعله مساوياً لموسى في كل مواهبه لأنه «لَمْ يَقُمْ بَعْدُ نَبِيٌّ فِي إِسْرَائِيلَ مِثْلُ مُوسَى» (تثنية ٣٤: ١٠).

لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ الإهمال للإنسان التخلية بينه وبين نفسه أي ترك العناية به ليعتني هو بنفسه والمعنى أن الله يعتني به ويحفظه ويرعاه ويساعده دائماً (انظر تكوين ٢٨: ١٥ وعبرانيين ١٣: ٥) وهذا تفسير لقوله «كما كنت مع موسى أكون معك» (انظر تثنية ٣١: ٦ – ٨).

٦ «تَشَدَّدْ وَتَشَجَّعْ، لأَنَّكَ أَنْتَ تَقْسِمُ لِهٰذَا ٱلشَّعْبِ ٱلأَرْضَ ٱلَّتِي حَلَفْتُ لآبَائِهِمْ أَنْ أُعْطِيَهُمْ».

تثنية ٣١: ٧ و٢٣

تَشَدَّدْ وَتَشَجَّعْ كُرر هذا الكلام ليشوع فدل ذلك على أنه كان خائفاً من الأهوال والصعوبات ومتيقناً أنه غير أهل لقيادة إسرائيل. وكان الله قادراً أن يهب له الشدة والشجاعة ولكن الله قضى بحكمته أن يقوم العبد بما عليه ليقوم الله معه ولهذا قال أحد الأفاضل أن الله لا يساعد من لا يساعد نفسه على أن في قوله تعالى «تشدد وتشجع جداً» أحسن التشديد والتشجيع.

لأَنَّكَ أَنْتَ تَقْسِمُ الخ وهذا زيادة تشديد وتشجيع إذ هو يستلزم أنه ينتصر على الأعداء ويدخل أرض الموعد ويملكها ويقسمها على الإسرائيليين فيرثوها حسب الوعد المحقق بالقسَم.

٧ «إِنَّمَا كُنْ مُتَشَدِّداً، وَتَشَجَّعْ جِدّاً لِتَتَحَفَّظَ لِلْعَمَلِ حَسَبَ كُلِّ ٱلشَّرِيعَةِ ٱلَّتِي أَمَرَكَ بِهَا مُوسَى عَبْدِي. لاَ تَمِلْ عَنْهَا يَمِيناً وَلاَ شِمَالاً لِتُفْلِحَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ».

عدد ٢٧: ٢٣ وتثنية ٣١: ٧ وص ١١: ١٥ تثنية ٥: ٣٢ و٢٨: ١٤ و٢٩: ٩

إِنَّمَا كُنْ مُتَشَدِّداً، وَتَشَجَّعْ جِدّاً كرر الأمر الذي في الآية السادسة للتأكيد والتقرير وزيادة التشجيع. ويستلزم هذا أن يشوع كان مفتقراً إلى الشجاعة ليتمكن من الاستيلاء على أرض الميعاد.

لِتَتَحَفَّظَ لِلْعَمَلِ «اللام» في «لكي» متعلقة «بتشجّع» والمراد «بالعمل» هنا كل ما يقتضيه الاستيلاء على أرض كنعان. و «التحفط» الاحتراز والتصوُّن وفي العبرانية «لشمر» أي لتنتبه أو لتراقب. ولا ريب أن الانتباه لعمل عظيم مثل غلب الأعداء الكثيرين والاستيلاء على بلادهم يحتاج إلى الشدة والشجاعة ولذلك صدّر الله الآية بهما.

حَسَبَ كُلِّ ٱلشَّرِيعَةِ ٱلَّتِي أَمَرَكَ بِهَا مُوسَى عَبْدِي أوجب الله على عبده يشوع أن يقوم بذلك العمل العظيم مع العناية بحفظ الشريعة التي أعلنها لموسى الذي كان يطيع الله إطاعة العبد لسيده المحبوب وهو أن يستولي على أرض الميعاد بالطريق التي أمره بها موسى وأخص ما أشار إليه هنا من تلك هو ما في (تثنية ٥: ٣٢ و٢٨: ١٤ و٣١: ٧ و٨) والأمر ليشوع أمر لجميع الشعب لأن يشوع نائب عنهم.

لاَ تَمِلْ عَنْهَا يَمِيناً وَلاَ شِمَالاً مثَّل هنا الشريعة بالطريق المستقيم والانحراف عنها بالميل يميناً أو شمالاً. فالذي يسير على الطريق المستقيم يؤدي به إلى المكان والانحراف القليل يكثر على توالي السير من نقطة الانحراف فيضل السائر عن ذلك المكان ضلالاً بعيداً.

لِتُفْلِحَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ أي تفوز بالوصول إلى كل مقصد لأن طرق المقاصد الدينية كلها مستقيمة وهي شرائع الله.

٨ «لاَ يَبْرَحْ سِفْرُ هٰذِهِ ٱلشَّرِيعَةِ مِنْ فَمِكَ، بَلْ تَلْهَجُ فِيهِ نَهَاراً وَلَيْلاً، لِتَتَحَفَّظَ لِلْعَمَلِ حَسَبَ كُلِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهِ. لأَنَّكَ حِينَئِذٍ تُصْلِحُ طَرِيقَكَ وَحِينَئِذٍ تُفْلِحُ».

تثنية ١٧: ١٨ و١٩ مزمور ١: ١

لاَ يَبْرَحْ سِفْرُ هٰذِهِ ٱلشَّرِيعَةِ الخ أي اقرأ كتاب شريعة موسى وكرّر قراءته في كل حين. وهذه الآية بسط وتأكيد للجزء الآخر من الآية السابعة.

٩ «أَمَا أَمَرْتُكَ؟ تَشَدَّدْ وَتَشَجَّعْ! لاَ تَرْهَبْ وَلاَ تَرْتَعِبْ لأَنَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مَعَكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ».

تثنية ٣١: ٧ و٨ و٢٣ مزمور ٢٧: ١ وإرميا ١: ٨

أَمَا أَمَرْتُكَ الخ أي قد أمرتك فالاستفهام إنكاري. وسائر الآية تأكيد وبسط للآية السابعة كلها.

أوامر يشوع الأولى ع ١٠ إلى ١٥

١٠ «فَأَمَرَ يَشُوعُ عُرَفَاءَ ٱلشَّعْبِ».

فَأَمَرَ يَشُوعُ الفاء سببية أي أمر يشوع بسبب ما أوصاه الرب.

عُرَفَاءَ ٱلشَّعْبِ «العرفاء» هنا ترجمة «سطريم» في العبرانية جمع سطر وهو المسيطر في العربية وكلاهما من السطر بمعنى الكتابة والمسيطر الرقيب الحافظ والمتسلط على الشيء ليشرف عليه ويتعهد أحواله ويكتبها. والعرفاء جمع عريف وهو رئيس القوم أو نائبه أي ثاني الرئيس وهو المعنى المناسب هنا ويفيده «السطر» في العبرانية في كثير من المواضع كشيوخ بني إسرائيل بالنسبة إلى موسى.

١١ «جُوزُوا فِي وَسَطِ ٱلْمَحَلَّةِ وَأْمُرُوا ٱلشَّعْبَ قَائِلِينَ: هَيِّئُوا لأَنْفُسِكُمْ زَاداً، لأَنَّكُمْ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تَعْبُرُونَ ٱلأُرْدُنَّ هٰذَا لِتَدْخُلُوا فَتَمْتَلِكُوا ٱلأَرْضَ ٱلَّتِي يُعْطِيكُمُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكُمْ لِتَمْتَلِكُوهَا».

تثنية ٩: ١ و١١: ٣١ وص ٣: ٢

جُوزُوا فِي وَسَطِ ٱلْمَحَلَّةِ لتتمكنوا من مخاطبة الشعب على الجانبين وليراكم بنو إسرائيل على أسهل طريق.

هَيِّئُوا لأَنْفُسِكُمْ زَاداً أشكل على بعضهم أمره لهم بالتزود مع أن قوتهم المن لم يكن قد انقطع ولكن وجود المن لم يكن مانعاً لهم من أن يغتذوا بغيره معه (انظر تثنية ٢: ٦ و٢٨). وربما كان عليهم من الاهتمام ما كان يعيقهم عن جمع المن وقتاً طويلاً وإن المن كان على وشك أن ينقطع ولعله كان قد قلّ. واللفظة العبرانية المترجمة بالزاد «صده» أتت في مكان آخر ومعناها زاد وطعام. واذا كان الزاد الذي أُمروا أن يهيئوه لأنفسهم قال بعضهم إنه البقر والغنم والحبوب وما أشبه ذلك. وقال بعضهم أنهم أمروا بالتزود لأنهم صاروا إلى أرض يمكنهم فيها أن يجدوا كل ما يحتاجون إليه من الأطعمة ولهذا قلّ المن لأن الحاجة إليه كانت في البرية الأرض غير العامرة وهو قول مقبول.

بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تَعْبُرُونَ ٱلأُرْدُنَّ هٰذَا اختلف المترجمون في ترجمة الأصل العبراني لهذه العبارة فترجمها بعضهم «في أثناء ثلاثة أيام الخ» وآخر «في نهاية ثلاثة أيام الخ» ولفظها العبراني «بعود سلاسة يميم الخ» أي بعد ثلاثة أيام كما في ترجمتنا (انظر ص ٢: ٢٢). والظاهر أن المعنى أنهم يرتحلون من المحلة ليعبروا الأردن بعد ثلاثة أيام. وبقي هنا أن موسى قال لهم قبل هذا «إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ، أَنْتَ ٱلْيَوْمَ عَابِرٌ ٱلأُرْدُنَّ» (تثنية ٩: ١) فكيف قيل لهم بعد موت موسى إنهم يعبرونه بعد ثلاثة أيام. قلنا إن موسى أراد أن إسرائيل آخذ في أن يعبره أو على وشك ذلك (راجع تفسير تثنية ٩: ١) فلا مغايرة في المعنى. ومثل هذه العبارة كثير في العربية وسائر اللغات السامية.

وقوله «هذا» يشير إلى قرب الأردن منهم (راجع تفسير ع ٢). والأرجح أن ما ذُكر هنا حدث بعد ما ذُكر في ص ٢ أي أرسل يشوع أولاً الجاسوسين في ٣ نيسان فرجعا في ٦ منه ثم في ٧ منه صدر الأمر المذكور في ص ١: ١٠ وتكرر ذكره في ص ٣: ٢. وبعد ثلاثة أيام أي بعد رجوع الجاسوسين بثلاثة أيام في ١٠ نيسان عبروا الأردن. وكثيراً ما يرتب كتاب الأسفار المقدسة ذكر الحوادث حسب سياق الكلام وليس حسب النسق التاريخي.

فَتَمْتَلِكُوا ٱلأَرْضَ ٱلَّتِي يُعْطِيكُمُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكُمْ لِتَمْتَلِكُوهَا يحتمل اللفظ العبراني معنىً آخر وهو «فترثوا… لترثوها». وفي هذه العبارة أمران التأكيد لهم بامتلاك الأرض وبيان أن لا قوة لهم على امتلاكها إنما القوة للرب لأنه هو يعطيهم إياها ليملكوها وهو الذي أعانهم على الأعداء ونصرهم عليهم.

١٢ «ثُمَّ قَالَ يَشُوعُ لِلرَّأُوبَيْنِيِّينَ وَٱلْجَادِيِّينَ وَنِصْفَ سِبْطِ مَنَسَّى».

لِلرَّأُوبَيْنِيِّينَ الخ هم الذين أخذوا نصيبهم من الأرض قبل أن عبروا الأردن وتفصيل ذلك في (عدد ٣٢: ١ – ٤٢).

١٣ «ٱذْكُرُوا ٱلْكَلاَمَ ٱلَّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ مُوسَى عَبْدُ ٱلرَّبِّ قَائِلاً: ٱلرَّبُّ إِلٰهُكُمْ قَدْ أَرَاحَكُمْ وَأَعْطَاكُمْ هٰذِهِ ٱلأَرْضَ».

عدد ٣٢: ٢٠ إلى ٢٨ وص ٢٢: ٢ و٣ و٤

ٱلرَّبُّ إِلٰهُكُمْ قَدْ أَرَاحَكُمْ الخ أراحهم الرب بإعطائه إياهم الأرض شرقي الأردن إذ قلّ تعبهم لذلك بعيالهم وصغارهم ومواشيهم فلا يُعترض على قوله هذا بأنهم كان عليهم أن يحاربوا مع إخوتهم فشتان بين أن يقوموا بالحرب ويعتنوا بالعيال والمواشي وأن يحاربوا دون تلك العناية الشاقة على أنهم استراحوا كثيراً من الأتعاب التي كانت على سواهم من الإسرائيليين.

١٤ «نِسَاؤُكُمْ وَأَطْفَالُكُمْ وَمَوَاشِيكُمْ تَلْبَثُ فِي ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أَعْطَاكُمْ مُوسَى فِي عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ، وَأَنْتُمْ تَعْبُرُونَ مُتَجَهِّزِينَ أَمَامَ إِخْوَتِكُمْ، كُلُّ ٱلأَبْطَالِ ذَوِي ٱلْبَأْسِ، وَتُعِينُونَهُمْ».

خروج ١٣: ١٨

نِسَاؤُكُمْ أي أزواجكم وعذاراكم وفي العبرانية «نسيكم» وهي تعمّ الأزواج وغيرهنّ كالعربية.

وَأَنْتُمْ تَعْبُرُونَ مُتَجَهِّزِينَ متأهبين للحرب حسب أمر موسى (انظر عدد ٣٢: ٢٠ – ٢٧). ولا بد من أنهم أبقوا حماة من الرجال للنساء والأطفال والبهائم وغيرها ولا ينافي ذلك ما بعده وهو قوله.

كُلُّ ٱلأَبْطَالِ ذَوِي ٱلْبَأْسِ أي كل المنتخبين أو الممتازين من الأبطال.

١٥ «حَتَّى يُرِيحَ ٱلرَّبُّ إِخْوَتَكُمْ مِثْلَكُمْ، وَيَمْتَلِكُوا هُمْ أَيْضاً ٱلأَرْضَ ٱلَّتِي يُعْطِيهِمُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكُمْ. ثُمَّ تَرْجِعُونَ إِلَى أَرْضِ مِيرَاثِكُمْ وَتَمْتَلِكُونَهَا، ٱلَّتِي أَعْطَاكُمْ مُوسَى عَبْدُ ٱلرَّبِّ فِي عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ نَحْوَ شُرُوقِ ٱلشَّمْسِ».

ص ٢٢: ٤ الخ

نَحْوَ شُرُوقِ ٱلشَّمْسِ أي الجهة التي تشرق الشمس منها وهي الشرق.

١٦ – ١٨ «١٦ فَأَجَابُوا يَشُوعَ: كُلَّ مَا أَمَرْتَنَا بِهِ نَعْمَلُهُ، وَحَيْثُمَا تُرْسِلْنَا نَذْهَبْ. ١٧ حَسَبَ كُلِّ مَا سَمِعْنَا لِمُوسَى نَسْمَعُ لَكَ. إِنَّمَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ يَكُونُ مَعَكَ كَمَا كَانَ مَعَ مُوسَى. ١٨ كُلُّ إِنْسَانٍ يَعْصَى قَوْلَكَ وَلاَ يَسْمَعُ كَلاَمَكَ فِي كُلِّ مَا تَأْمُرُهُ بِهِ يُقْتَلُ. إِنَّمَا كُنْ مُتَشَدِّداً وَتَشَجَّعْ».

ع ٥ و١صموئيل ٢٠: ١٣ و١ملوك ١: ٣٧

قاموا بوعدهم وزادوا على ذلك الوعد بالطاعة له كما أطاعوا موسى وشجعوه كما شجعه الله وموسى ولا ريب في أن هذا الكلام يستلزم أنهم على غاية الاستعداد لنصرته.

فوائد

  1. إن الله يقيم لشعبه قوّاداً حسب أحوالهم كما أقام يشوع لما مات موسى فلا يتعلق نجاح ملكوت الله بدوام حياة أحد من عبيده (ع ١).
  2. إن أعظم الناس وأشرفهم الذين يخدمون كما خدم موسى ويشوع (ع ١).
  3. إن الله يُعطي شعبه بسخاء فإن أرض الميعاد كانت واسعة الحدود وحسنة الموقع قدمها لإسرائيل بكمالها وما منعهم عن امتلاكها الكامل إلا عدم إيمانهم (ع ٣ و٤).
  4. إن وعد الله بأنه يكون معنا يشتمل على جميع الخيرات ويؤكد لنا الغلبة مهما كانت الصعوبات أمامنا (ع ٥).
  5. إن دعوة الله تنشئ الثقة والشجاعة (ع ١ – ٩).
  6. إن وعد الله أساس الرجاء والتوكّل.
  7. إن الشجاعة من الواجبات المطلوبة من جميع الناس وهي تكون بيد الإنسان وباختياره. ومما ينشئ الشجاعة الإيمان بالله والتأمل في مواعيده والطاعة له. وتمتاز الشجاعة الحقيقية عن الثقة الباطلة إنها بالله وليس بنفوسنا (ع ٦ و٧).
  8. إن عبد الرب يجتهد في درس شريعة الله ومراعاتها في كل أعماله (ع ٧) فيجب على المسيحي الذي يقصد امتلاك كنعان السماوية أن يدرس كتاب الله ويراعي وصاياه.
  9. إن الفضل لله في كل ما نحصل عليه من النعم باجتهادنا لا لنا ولا لاجتهادنا (ع ١١).
  10. إن رجال الله الذين يحصلون على الراحة لا يعيشون بعدها لنفوسهم بل يساعدون إخوتهم حتى يحصلوا على ما حصلوا عليه (ع ١٣ – ١٨).
  11. إن الرعيّة الصالحة تشدّد راعيها وتشجعه كما يشدّدها ويشجعها (ع ١٧ و١٨).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى