سفر يشوع | المقدمة | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر يشوع
للقس . وليم مارش
تمهيد
تفتقر خزانة الأدب المسيحي إلى مجموعة كاملة من التفاسير لكتب العهدين القديم والجديد. ومن المؤسف حقاً أنه لا توجد حالياً في أية مكتبة مسيحية في شرقنا العربي مجموعة تفسير كاملة لأجزاء الكتاب المقدس. وبالرغم من أن دور النشر المسيحية المختلفة قد أضافت لخزانة الأدب المسيحي عدداً لا بأس به من المؤلفات الدينية التي تمتاز بعمق البحث والاستقصاء والدراسة، إلا أن أياً من هذه الدور لم تقدم مجموعة كاملة من التفاسير، الأمر الذي دفع مجمع الكنائس في الشرق الأدنى بالإسراع لإعادة طبع كتب المجموعة المعروفة باسم: «كتاب السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم» للقس وليم مارش، والمجموعة المعروفة باسم «الكنز الجليل في تفسير الإنجيل» وهي مجموعة تفاسير كتب العهد الجديد للعلامة الدكتور وليم إدي.
ورغم اقتناعنا بأن هاتين المجموعتين كتبتا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلا أن جودة المادة ودقة البحث واتساع الفكر والآراء السديدة المتضمنة فيهما كانت من أكبر الدوافع المقنعة لإعادة طبعهما.
هذا وقد تكرّم سينودس سوريا ولبنان الإنجيلي مشكوراً – وهو صاحب حقوق الطبع – بالسماح لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى بإعادة طبع هاتين المجموعتين حتى يكون تفسير الكتاب في متناول يد كل باحث ودارس.
ورب الكنيسة نسأل أن يجعل من هاتين المجموعتين نوراً ونبراساً يهدي الطريق إلى معرفة ذاك الذي قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة».
القس ألبرت استيرو
الأمين العام
لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى
المقدمة: وفيها سبعة فصول
الفصل الأول: في ترجمة يشوع
يشوع المنسوب إليه هذا السفر هو ابن نون أحد رجال أفرايم (١أيام ٧: ٢٠ – ٢٧) ولم يُذكر اسم أمه مع كثرة ذكر اسم أبيه. واسمه الأصلي هوشع (عدد ١٣: ٨) وهو لفظة عبرانية معناها خلاص (١أيام ٧: ٢٧). ثم دعاه موسى يهوشع ومعناه الرب خلّص وكُتب في الترجمة العربية يشوع. وفي كتب مؤرخي العربية وغيرها من مؤلفات العرب يُوشع وهو أقرب إلى الاسم العبراني يهوشع. ويشوع هو اسم الفادي الذي هو فوق كل اسم وصار في اليونانية يسوع بإبدال الشين سيناً.
وُلد يشوع في مصر أيام إذلال بني إسرائيل والجور عليهم وخرج معهم وكان خادماً لموسى. وعاش مئة سنة وعشر سنين (ص ٢٤: ٢٩). عاش بعضها في مصر و بعضها في البرية وبعضها في أرض كنعان. وقاد الإسرائيليين بعد موسى. وكان موسى قد علّمه كل ما يحتاج إليه في سياسته لشعب الله. وكان قد اختبر كثيراً من أمور تلك السياسة بمصاحبته لموسى حتى صار أخبر الإسرائيليين فيها. وكان خليفة موسى بتعيين موسى حسب أمر الرب ثم بتعيين الرب نفسه على مشهد من موسى فلم يدّع الخلافة لنفسه (انظر تثنية ٣١: ٧ و١٤ و٢٣ ويشوع ١: ١ و٢). ومارس الحرب منذ أول أمره بدليل أنه كان خبيراً في الحرب منذ أول ذكره في الكتاب على أثر الخروج من مصر على ما في سفر الخروج عينه. فإنه لما أتى عماليق وحارب إسرائيل في رفيديم «قَالَ مُوسَى لِيَشُوعَ: ٱنْتَخِبْ لَنَا رِجَالاً وَٱخْرُجْ حَارِبْ عَمَالِيقَ» (خروج ١٧: ٩). فلا ريب في أن الله كان قد أعلن لموسى من أول الأمر أن يشوع هو الذي يفتح أرض كنعان ولهذا منذ أرسله من قادش برينع سماه يشوع.
أما حياته في مصر فكانت حياة الذل والعبودية والمشقة كسائر الإسرائيليين من عمل اللبن وخدمة المصريين. وشاهد أصنام المصريين ومعبوداتهم وسائر رجسهم وتألمت نفسه من مشاهدته إياهم يعبدون المخلوق دون الخالق. وعهد سقوط بعض شعبه في تلك العبادة بدليل قوله للإسرائيليين «فَٱلآنَ ٱخْشَوْا ٱلرَّبَّ وَٱعْبُدُوهُ بِكَمَالٍ وَأَمَانَةٍ، وَٱنْزِعُوا ٱلآلِهَةَ ٱلَّذِينَ عَبَدَهُمْ آبَاؤُكُمْ… فِي مِصْرَ» (ص ٢٤: ١٤). فإن المصريين كانوا يعبدون فرعون والعجل والشمس بل كل ما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء تحت الأرض فعرف أن شعبه كان مائلاً إلى بعض تلك الأباطيل وكانوا قد حملوا معهم بعض صغار الصور والتماثيل المصرية فحذرهم من ذلك وأوصاهم أن يعبدوا الله ونهاهم عن أن يعبدوا سواه وأن يعزلوا آثار الآلهة الغريبة.
وأما حياته في البرية فكانت بدائتها منذ خروج بني إسرائيل من مصر فيكون قد مرّ عليه أربعون سنة في العبودية مع الشعب حتى افتقدهم الله وحانت ساعة السعي في الإنقاذ فشاهد حينئذ عقاب العلي لأرض حام (مزمور ٧٨: ٥١ و١٠٥: ٢٣ و٢٧ – ٣١). وظهر في برية سيناء بشيء من العظمة إذ رآه موسى أهلاً لأن يكون قائد جند فاختاره قائداً للأبطال في محاربة عماليق في رفيديم «فَهَزَمَ… عَمَالِيقَ وَقَوْمَهُ بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ» (خروج ١٧: ٨ – ١٤). وصار منذ ذلك اليوم خادماً لموسى. وصعد مع موسى إلى سيناء زمن إتيانه بلوحي الشريعة الأولين. وبعد أربعين يوماً انحدر معه من الجبل. فسمع صوت هتاف الشعب فقال لموسى «صَوْتُ قِتَالٍ فِي ٱلْمَحَلَّةِ» (خروج ٣٢: ١٥ – ١٧). فقال له موسى «إن ذلك الصوت غناء». ولما بلغا المحلة نظرا العجل والشعب يعبده بغناء ورقص. فشاهد يشوع حينئذ حمو غضب موسى وطرحه لوحي الوصايا وكسره إياهما على مشهد من الشعب في حضيض الجبل (خروج ٣٢: ١٥ – ١٩).
ومن حوادث حياة يشوع في برية سيناء أنه لما تنبأ ألْداد وميداد سأل موسى أن يردعهما فسمع ذلك الجواب المشهور وهو قول موسى له «يَا لَيْتَ كُلَّ شَعْبِ ٱلرَّبِّ كَانُوا أَنْبِيَاءَ إِذَا جَعَلَ ٱلرَّبُّ رُوحَهُ عَلَيْهِمْ» (عدد ١١: ٢٦ – ٢٩).
وكان يشوع أحد الجواسيس الأثني عشر الذين أرسلهم موسى إلى أرض كنعان لأنه كان محتاجاً إلى معرفة الأرض إذ كان من قصد الله أنه هو يُدخل الشعب إلى أرض ميراثه ولهذا غيّر موسى اسمه فدعاه يشوع (وفي العبرانية يهوشع) أي الرب خلّص فسُمي بما يناسب ما عُيّن له قبل وقته على مثال النبوءة. وإذ كان خادم موسى ونائبه لزم أنه كان رئيس أولئك الجواسيس فصعد بهم شمالاً وتجسّس الأرض من برية صين إلى رحوب في مدخل حماة. ثم صعدوا إلى الجنوب وأتوا حبرون ورأوا أثمار الأرض وخصبها إلى أن وصلوا إلى وادي أشكول (عنقود) ورجعوا بعنقود عظيم من عنبه وعادوا إلى خيام إخوتهم الإسرائيليين بعد أربعين يوماً (عدد ١٣: ٢٢ – ٢٥). فأتى الجواسيس غير كالب ويشوع ما ملأ أفئدة الإسرائيليين خوفاً وجبناً أما يشوع وكالب فبذلا المجهود في أن يملآها اطمئناناً وشجاعة وسألاهم أن يصعدوا ويستولوا على الأرض (عدد ١٤: ٦ – ٩) لكن كلامهما وقع على آذان صمّاء فكان جزاء الشعب على عصيانهم أن لا أحد منهم يدخل أرض الميعاد (عدد ١٤: ٢٢ و٢٣).
ولم نسمع شيئاً من أمر يشوع مدة سفر السنين الشاق الذي كانت بداءته من سيناء لكن نعلم بدلالة الالتزام أنه لا بد من أن يكون ممن شاهدوا معصية قورح وداثان وأبيرام وعقابهم الشديد (عدد ص ١٦ و١٧) ووفاة مريم ودفنها في برية قادش (عدد ٢٠: ١) وموت هارون ودفنه في جبل هور (عدد ٢٠: ٢٣ – ٢٩) ومحاربتي ياهص وأذرعي (عدد ٢١: ٢٣ – ٣٥) والاستيلاء على شرقي أرض كنعان وخيبة مسعى بلعام بغيرة فينحاس للبرّ (عدد ٢٥: ١ – ١٨).
ولما حانت ساعة انطلاق موسى من هذه الأرض عُين خلفاً له على وفق قول الرب وأمره (عدد ٢٧: ١٨) وكان ذلك الخلَف يشوع تلميذه الذي اختبره وولّاه إخوته وأوصاه آخر وصاياه (عدد ٢٧: ٢٢ و٢٣ وتثنية ٣١: ١٤ و٢٣).
وأما حياته في أرض كنعان فقد بُينت في سفره ولكنّا نذكرها هنا بالإيجاز. إنه تولّى قيادة الشعب على أثر موت موسى في شطيم آخر محلّات بني إسرائيل قبل أن دخلوا أرض كنعان (ص ٢) وكان حسن الصيت موثوقاً به بناء على شهادة موسى. وكان بطلاً شديد البأس لا يرهب ولا يرتعد وأفلح حيث ذهب. وكان سفر الشريعة لا يبرح من فمه. وكان الله معه في كل حركاته وسكناته فكان الشعب طوع أمره يسمعون له كما سمعوا لموسى (ص ١: ٧ – ٩ و١٨) فقاد إسرائيل من الأردن إلى أريحا ومن أريحا إلى عاي ومن عاي إلى جبعون وبيت هورون وميروم وقام بحروب الرب. وكان الشعب يخطأ وهو يرفق بالخطأة ويرشدهم ويعظهم. وكان إيمانه بالله مفتاح نجاحه. وكان مع قيامه بالحروب التي أمر بها الرب يسعى في السلام وقسم الأرض للشعب ولم يلتفت إلى نفسه بشيء من الأملاك والغنائم. وكان كل قصده أن يرضي الرب ويمهد سبل الراحة لشعبه. ولما شعر بقرب الأجل دعا جميع إسرائيل وشيوخ الشعب وقضاته وعرفاءه وذكرهم بصنائع الرب وحثهم على التقوى وشدهم على السعي في إدراك مواعيد الرب لآبائهم وأوصاهم بحفظ شريعة الرب التي أعطاهم إياها بيد عبده موسى. وأنذرهم بما يصيبهم من مخالفتها. فجرى في هذا على سنن شريعة الله ومنهج أستاذه موسى. ومات بسلام ابن مئة وعشر سنين ودُفن في تمنة سارح أو حارس على جبل أفرايم (ص ٢٤ وقضاة ٢: ٩).
وكان يشوع في قيادته لشعب الله رمزاً إلى يسوع فالإسمان واحد إنما صار يشوع في اليونانية يسوع. ومعنى الإسم يفيد أنه مخلّص فإن يشوع غلب أعداء شعب الله وخلّص الشعب من الأخطار وملّكه أرض الموعد ويسوع خلّص الشعب من أعظم الاعداء الشيطان والخطيئة. قال الملاك جبرائيل ليوسف في البشارة بالفادي «وَتَدْعُو ٱسْمَهُ يَسُوعَ، لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» (متّى ١: ٢١). والفرق بين اليشوعين أن ابن نون خلّص شعب الله بقدرة الله وابن الله خلّص شعب نفسه بقدرة نفسه. وابن نون ملّكهم أرض الأعداء بقوة الله وابن الله ملكهم ملكوته وملكوت أبيه بقوة نفسه. وابن نون ملّكهم الأرض ولم يملّكهم وابن الله ملّكهم السماء وملّكهم لأنه اشتراهم بدمه فالرمز كالتشبيه لا يقتضي المماثلة في كل شيء.
الفصل الثاني: في كاتب هذا السفر
كاتب هذا السفر عند اليهود يشوع وهذا تواتر عندهم واتصل إليهم من الأقدمين ولم تحدث مناقشة فيه. ولكن علماء هذا العصر لا يسلمون بأن يشوع كاتب كل هذا السفر ويذهبون إلى أنه كتب بعضه وكتب سائره بعض الشيوخ الذين عاصروه وماتوا بعده. وإن الدليل على أنه كتب بعضه قول السفر نفسه «وَكَتَبَ يَشُوعُ هٰذَا ٱلْكَلاَمَ فِي سِفْرِ شَرِيعَةِ ٱللّٰهِ» (يشوع ٢٤: ٢٦ انظر التفسير) وإن الدليل على أنه لم يكتب كل السفر عدة آيات. منها نبأ موته ومنها «فَسَكَنَ ٱلْيَبُوسِيُّونَ مَعَ بَنِي يَهُوذَا فِي أُورُشَلِيمَ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ» (ص ١٥: ٦٣) وهذا يدل على أن ذلك كان بعد موت يشوع. وإن أخذ كالب لحبرون وأخذ عثتئيل لدبير المذكوران في هذا السفر ذُكرا في سفر القضاة أنهما كانا بعد موت يشوع (انظر ما في ص ١٥: ١٣ – ٢٠ و١٩: ٤٧ وقابله بما في قضاة ١: ١٠ – ١٥ و١٨: ٢٩). فالقول بأن كتب بعضه يشوع وبعضه من عاصره وأخذ عنه يوافق ما ذُكر كل الموافقة. وإن السفر نُسب إليه لأنه يتضمن نبأ أعماله. وهذا خلاصة ما قاله بعض المفسرين.
وقال الدكتور مكلير «إن كتبة اليهود والمسيحيين نسبوا هذا السفر إلى يشوع نفسه. وخالفهم جماعة من المتأخرين فذهبوا في ذلك مذاهب وهي أن كاتبه اليعازار أو فينخاس أو أحد الشيوخ الذين عاصروا يشوع وعاشوا بعده أو صموئيل أو إرميا أو أحد من عاشوا بعد سبي بابل».
ولنا أدلة كثيرة على أن يشوع كتب أكثر هذا السفر نذكر منها ما يأتي:
- إنّ موسى لا بد من أنه أمر خليفته يشوع بكتابة الحوادث في إتمام الله وعده لإسرائيل على يده.
- إنّه لا أحد أولى بكتابة تلك الحوادث ممن تمّت بواسطته وأن يضمّ ما كتبه إلى سفر شريعة الرب.
- إنه لا أحد يرغب مثل يشوع في أن يدّون تلك الحوادث وما فيها من آيات العناية الإلهية لتبقى مناراً للشعب.
- إنّه لا أحد يستطيع أن ينبئ بتلك الحوادث ويرتبها مثل مختبرها يشوع ويكتبها بإحكام وضبط مثل يشوع لأنه شاهدها وأخذ الأنباء عن العلي «ورئيس جند الرب» (ص ١: ١ و٣: ٧ و٤: ١ و٢ و٥: ٢ و٩ و١٣ و٦: ٢ و٧: ١٠ و٨: ١ و١٠: ٨).
- جاء في سفر يشوع «وكتب يشوع هذا الكلام في سفر شريعة الله» وهذا الكلام وإن لم يدل على أن يشوع كتب السفر كله صريحاً على أنه ضمّ ما كتبه إلى سفر شريعة الرب التوراة أي أسفار موسى الخمسة عينها حتى صار ما كتبه يشوع جزءاً وهذا هو الواقع بدلالة واو العطف في أول سفر يشوع المعطوف على ما في آخر سفر التثنية فالعاطف جعل هذه السفر والتوراة كتاباً واحداً.
الفصل الثالث: في قانونية هذا السفر
لم يشك أحد من قدماء المسيحيين واليهود ومحدثيهم في قانونية هذا السفر. وأثبتت قانونيته شهادة غيره من الأسفار المقدسة فإنها شهدت بصحة حوادثه وأنبائه. ومنها المزامير والأنبياء والعهد الجديد (انظر مزمور ٤٤: ٢ و٣ و٦٨: ١٢ – ١٤ و٧٨: ٥٤ و٥٥ وإشعياء ٢٨: ٢١ وحبقوق ٣: ١١ – ١٣ وأعمال ٧: ٤٥ وعبرانيين ١١: ٣٠ و٣١ ويعقوب ٢: ٢٥).
الفصل الرابع: في زمان كتابة هذا السفر ومكانها
المرجّح أن يشوع كتب القسم الأكبر من هذا السفر في آخر حياته أو نحو سنة ١٤٢٦ ق.م في تمنة سارح أرض ملكه.
الفصل الخامس: في مشتملات سفر يشوع
يشتمل سفر يشوع على ٢٤ أصحاحاً تنطوي في ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: افتتاح أرض كنعان (ص ١ – ص ١٢).
- القسم الثاني: قسمة الأرض على التسعة الأسباط ونصف السبط (ص ١٣ – ص ٢٢).
- القسم الثالث: نصائح يشوع للإسرائيليين (ص ٢٣ وص ٢٤).
وأشهر ما في هذا السفر أربعة أمور ذات شأن:
- انقسام نهر الأردن لعبور الكهنة والشعب (ص ٣).
- ظهور المسيح ليشوع (ص ٥).
- وقوف الشمس والقمر يوماً كاملاً (ص ١٠).
- ظهور أن يشوع كان رمزاً إلى يسوع على ما بُيّن في التفسير ولا سيما آخره.
الفصل السادس: في دفع الاعتراضات على سفر يشوع
قام معترضون كثيرون على سفر يشوع نذكر من الاعتراضات ما يأتي:
الاعتراض الأول: إنه لم يظهر إلى الآن اسم مؤلف سفر يشوع قطعاً وكل قائل من علماء النصرانية بمؤلفه وزمان تأليفه لم يقل إلا ظناً. وفي الجواب على هذا الاعتراض وجوه:
- إن التواتر في هذا الكتاب منذ كونه بلا خلاف بين قدماء الإسرائيليين والمسيحيين أن كاتبه يشوع لا يقدح فيه تشكيك بعض المحدثين. وإن أكثر المتأخرين رجّحوا الظن أن ما رآه القدماء حقّ.
- إن عدم معرفة مؤلف كتاب تواتر أنه من أسفار الوحي منذ كُتب إلى هذه الساعة بلا خلاف بين اليهود والمسيحيين وصدّقه كتبة الوحي المشهورون وكما علمت في الفصل الثالث من هذه المقدمة لا يبطله ولا يحط شأنه إذ العمدة أن الكتاب إلهي لا المؤلف.
- لو كان يجب السند المتصل وعدم الالتفات إلى التواتر ما بقي لأهل دين من الأديان ثقة بمعظم الكتب التي يدّعون أنها وحي الله فقد اختلف علماء الأديان المختلفة في زمان كتابة الفصول وأزمنة نزول الآيات وأماكنها وجهلوا كثيراً من ذلك ولم يبطلوا المقول لجهل الكاتب وزمانه ومكانه.
وإذ ثبت أن الكتاب إلهي ثبت أن كاتبه موحى إليه سواء كان واحداً أم كان متعدداً. ونحن لا نشك في أن بعض رجال الوحي كتبوا في سفر يشوع في عصر غير عصره ما لم يكتبه هو وهذا حمل بعضهم على القول بأنه كتُب الكتاب كله بعد عصر يشوع ولا يخفى بطلان قوله على ذي عقل إذ كتابة جزء صغير في كتاب قديم لا يستلزم أن الكتاب كله كُتب في زمن كتابة ذلك الجزء مع أنه لو ثبت هذا المحال ما ضرّ بوحي السفر شيئاً كما علمت.
الاعتراض الثاني: إنه في هذا السفر أن موسى أعطى سبط جاد أراض بني عمون (ص ١٣: ٢٥) وفي سفر التثنية (تثنية ٢: ١٩) إن الله لا يعطي بني إسرائيل شيئاً منها.
والجواب أن المراد بأرض بني عمون في يشوع هو القسم الذي أخذه الأموريون من العمونيين في ملك سيحون فلم يبقَ للعمونيين بل صار للأموريين والإسرائيليون أخذوه من الأموريين لا من العمونيين وإنما نُسب إلى العمونيين بالنظر إلى السابق والمنهي عنه ما بقي للعمونيين أخيراً لأن الإسرائيليين كانوا قد أخذوا تلك الأرض على أثر صعودهم من مصر (عدد ٢١: ٢٤ و٢٥ و٢٦ وقضاة ١١: ١٣).
الاعتراض الثالث: إن في ص ١٩: ٣٤ ما نصه «وإلى يهوذا الأردن نحو شروق الشمس» وهذا غلط.
والجواب لم يتبين لنا شيء من الغلط هنا لأن قسماً من الأردن كان شرقي يهوذا فإن من حدود نصيبهم البحر المتوسط إلى بحر لوط والأردن يصب في هذا البحر شرقي ذلك النصيب.
الاعتراض الرابع: إنه في ص ٨ «إن يشوع بنى مذبحاً كما أمره موسى وكتب عليه التوراة فعُلم أن حجم التوراة كان بحيث لو كُتب على حجارة المذبح لكان المذبح يسع ذلك فلو كانت التوراة عبارة عن هذه الكتب الخمسة لما أمكن ذلك».
والجواب إن التوراة لم تكن قد تمت كتابتها فالمراد هنا بالتوراة وصايا الله العشر (انظر تفسير ص ٣: ٣ وتثنية ٢٧: ٨) أو كلمات اللعنة المكررة في (تثنية ٢٧: ١٥ – ٢٦) كما رأى بعضهم. والأول هو الأرجح لأن الوصايا العشر سُميّت بالعهد والشهادة والشريعة وكانت معهم في تابوت العهد (انظر تثنية ٤: ١٣ و٩: ١١ و٣٣: ٢ وخروج ٣٢: ١٥).
وسُميّت الوصايا العشر بالشريعة وهي معنى التوراة لأنها مختصر شريعة الله الأدبية في كل الأسفار الخمسة المعروفة بالتوراة على أنه لو صحّ ما توهم المعترض ما امتنع كتابة الأسفار الخمسة على عُمُد تقام مع المذبح وإن تكن العُمُد اثني عشر على عدد أسباط إسرائيل أو غير ذلك من الوسائل.
الاعتراض الخامس: إن إيقاف يشوع للشمس باطل لأدلة جمعها المعترض من أقوال الملحدين سيأتي بيانها. وقبل إيرادها نقول يظهر من تكذيبه ذلك أنه ليس بيهودي ولا بنصراني ولا بمسلم لأن كلاّ من هؤلاء يصدقون إمكان تلك المعجزة فاليهود وجمهور النصارى يصدقونها وبعضهم يؤولها مع التسليم بقدرة الله على كل شيء لأنها في التوراة ولا حاجة إلى إيراد أقوال الفريقين في ذلك.
ومن الاعتراضات على توقيف يشوع الشمس بقدرة الله أن ذلك أمر عظيم فلو صح لكتبه المؤرخون.
والجواب على هذا أمور:
- إن كاتب هذا السفر من أصدق المؤرخين وقد صدّقه ألوف وربوات لا تحصى.
- إن كتب المؤرخين منذ ما يقرب من ثلاثة آلاف وخمس مئة سنة لا توجد وإن ادّعى الصينيون والهنود حفظها وأما هذا السفر فبقي لمحافظة اليهود والمسيحيين عليه لاعتقادهم أنه وحي الله بخلاف كتب المؤرخين.
- إن أموراً كثيرة من الأمور ذات الشأن انفرد بها مؤرخ واحد.
- إن أنباء كثيرة نفاها المحدثون من نفاة الوحي واثبتتها العاديّات المكتشفة في القرن الماضي وهذا القرن فقامت الحجارة من مدافنها وشهدت بإثبات ما نفوه وما وقفوا على شيء منه قبل هذا الاكتشاف في شيء من تورايخ العالم.
- نقول مقابلة لقوله أنه لم يكذّب أحد من مؤرخي ذلك العصر هذه الحادثة ومن اعتراضه على ذلك إن الشمس ثابتة والأرض متحركة ويشوع أثبت الحركة للشمس وهو باطل. ولا شيء في ذلك من الخطإ لأنه كلام بمقتضى الظاهر والفلكيون المحدثون القائلون بدروان الأرض كثيراً ما يتكلمون بحسب الظاهر. وكل منّا اليوم يقول أشرقت الشمس وغربت لأن في ذلك اختصار وبيان للناظرين وإلا اضطررنا أن نقول دارت الأرض حتى قابل مكاننا الشمس بدلاً من طلعت الشمس ودارت الأرض حتى بعد مكاننا عن الشمس فحُجبت عنا الشمس بكروية الأرض فتأمل. ولو قال يشوع يا أرض قفي لتبقى الشمس ظاهرة فماذا كان يفهم الشعب فتعجب من فلسفة المعترض. على أن الشمس ثابتة بالنسبة إلى الأرض وأجرام عالمها متحركة بالنسبة إلى غيره فاذكر ذلك ولا تنسه. ومنها أن الإسرائيليين قتلوا ألوفاً من الأعداء ومطر الحجارة قتل أكثر ممن قتلوا فكان الوقت كافياً لقتل الباقين بدون رد الشمس. وهذا أوهن اعتراض تحرك به لسان إلا إذا كان المعترض عرف كم قتل وكم بقي وبيّن الوقت الذي يقتضيه قتل الباقين وهذا مما يقصّر باعه عنه على أن قوله قتلوا ألوفاً ليس في الكتاب (انظر تفسير ص ١٠: ١٢ – ١٤).
الاعتراض السادس: إن العلماء اختلفوا في زمان تأليف سفر يشوع اختلافاً فاحشاً. قلنا الاختلاف في زمان حادثة لا ينفيها لجهل المختلفين لذلك الزمان أو لجهلهم شيئاً من أحوال تلك الحادثة وما حمل على الخلاف إلا أن سفر ياشر ذُكر فيه حوادث بعد زمن يشوع. والكلام على هذا السفر يطول فنقتصر هنا على ذكر ما فيه الحاجة وهو أن هذا السفر ليس من كتب الدين القانونية بل مجموع أنباء حوادث في شعب اليهود من أعمال العناية الإلهية ذات الشأن كالحادثة المذكورة هنا ونشيد القوس (٢صموئيل ١: ١٨) وكانت تجمع فيه على توالي الأزمنة فالحوادث التي ذُكرت فيه بعد عصر يشوع أُلحقت به وهو في العبرانية معرّفاً بآداة التعريف وهي حرف الهاء في العبرانية ومعنى ياشر بار أو مستقيم (انظر حاشية الكتاب ذي الشواهد في نبإ هذه الحادثة ص ١٠: ١٣) فتكون الترجمة الموافقة سفر الياشر أو سفر البار أو الأبرار أو سفر المستقيم أو المستقيمين لأن ما جمع فيه من أعمال العناية العجيبة والأغاني الروحية ذكرى نافعة للأبرار والمستقيمين. هذا ولا يبطل صحة سفر يشوع زمن كتابته أو كون كاتبه غير يشوع وقد بت بالتواتر أنه كتاب إلهي اتفق عليه اليهود منذ وجوده إلى الآن والمسيحيون منذ نشوئهم كذلك.
الاعتراض السابع: إنه ما كانت الساعات عند الإسرائيليين فكيف علموا أن الشمس قامت على دائرة نصف النهار اثنتي عشرة ساعة. قلنا إن لم تكن عندهم الساعة المعتادة اليوم فكان لهم ساعات غيرها لا نعلم كل صنوفها ولكن علمنا أنه كان للأقدمين ساعات مائية وساعات رملية. هذا وإن لم يكن لهم شيء من الساعات. ولكن الذي تحقق من آثار بابل وأشور أو الكلدانيين أنهم كانوا يقيسون الوقت بساعتين الشمسية المعروفة في النهار والمائية في الليل وأوقات الدجن أو الغيوم المطبقة.
الاعتراض الثامن: قيل إن الله كان قد وعد أن مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد برد وحر وصيف وشتاء ونهار وليل لا تزال كما هو مصرّح به في (تكوين ٨: ٢٢) وإن وقوف الشمس تلك المدة لم يمنع من توالي الليل والنهار إلا أن النهار كان طويلاً شيئاً والنهار يطول ويقصر على توالي أيام السنة قبل أن أُنزلت تلك الآية ولم يمنع ذلك من عدم زوال توالي الليل والنهار. وعلى كل فرض أن المعجزة أمر خارق العادة وإلا لما كانت معجزة وهي من النوادر التي لا تفسد القاعدة ولا القياس (انظر تفسير ص ١٠: ١٢ – ١٤) وأمثالها كثير في كتب كل الأديان المعروفة.
ما بقي من الاعتراضات
- إن في سفر يشوع ما نصه «فَدُعِيَ ٱسْمُ ذٰلِكَ ٱلْمَكَانِ «ٱلْجِلْجَالَ» إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ» (٥: ٩) ويدفع هذا وأمثاله بأن يشوع لم يكتب كل هذا السفر كما علمت وإن قوله «إلى هذا اليوم» لا يستلزم زماناً طويلاً بدليل قوله «وَٱسْتَحْيَا يَشُوعُ رَاحَابَ… وَسَكَنَتْ فِي وَسَطِ إِسْرَائِيلَ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ» (يشوع ٦: ٢٥) وهذا لا يستلزم إلا وقتاً قصيراً. وكثيراً ما يذكر أحدنا حادثة منذ بضع سنين أو سنة أو أقل ويقول إن أثرها لا يزال إلى هذا اليوم.
- إن في ذلك السفر إن الله أمر يشوع ما ينافي الرحمة الإلهية من قتل الكنعانيين. ودُفع هذا بأن ذلك انتقام الله منهم لأنهم خبثوا وتوغلوا في عبادة الأوثان وأباحوا المحظورات التي لا تحسن أمور الناس عموماً إلا بالامتناع عنها وقد جاءتهم النذُر ونهتهم عنها النواميس الطبيعية سنين بل قروناً كثيرة والله يعاقب الأثمة بالموت بطرق مختلفة فيقتل بعضهم بالوباء وبعضهم بالحرب وبعضهم بالصواعق أو الزلازل إلى غير ذلك من طرق الهلاك المختلفة. ولولا انقراض الكنعانيين لكانوا أفسدوا أخلاق الإسرائيليين وعلموهم عبادة الأصنام والأعمال القبيحة فانقراضهم كان أمراً ضرورياً كضرورة قتل الحيات السامة والوحوش المفترسة.
- إن كاتب سفر يشوع ينقل عن موسى ما لم يقله كما قاله هو. قلنا للراوي أن ينقل القول بمعناه وأن ينقله بلفظه وهذا جارٍ في كل لغات البشر على وجه الأرض. وفي التفسير شيء مما لم نذكره هنا ولا يخلو من الفائدة فارجع إليه.
الفصل السابع: في دفع الإبهام والإشكال في هذا السفر
كثيراً ما يتعربس دارس هذا السفر فيرى إن إحدى المدن لسبط أو لشخص ثم يراها لسبط آخر وعلة ذلك إن بعض المدن ومراعيها أُخذت من الأسباط للاويين لسكانهم ومراعي مواشيهم وإن حبرون كانت لكالب بن يفنّة ثم صارت للاويين لأن صاحبها وهبها لهم إكراماً للرب (انظر ص ١٤: ١٣ – ١٥ و٢٠: ٧) فيراها القارئ مرة لأحد سبط يهوذا ومرة للاويين فإذا عرف السبب لم ير في ذلك أدنى إشكال. ومنها إن لإحدى المدن اسمان أو أسماء فيرى خلافاً في بعض المواضع فيشكل عليه الأمر. ومثال ذلك حبرون وقرية أربع وممرا وهذه ثلاثة أسماء المدينة واحدة تُعرف اليوم بالخليل. وتمنة سارح وتمنة حارس اسمان لمدينة واحدة تُعرف اليوم بتبنة وهي على قول بعضهم شمالي الشمال الغربي وعلى غاية ١٤ ميلاً ونصف ميل من أورشليم. وكفر حارس على قول آخر وهي في جنوبي نابلس وعلى بعد تسعة أميال منها.
ومن ذلك وفرة المجاز على اختلاف أقسامه من عقلي ولغوي واستعارة وتمثيل وتعدد الكنايات والتشابيه البليغة إلى غير ذلك من أنواع البيان ولذلك يبهم المعنى على كثيرين من جهلة البيان. ومما يعربس مطالعي هذا السفر وغيره من الأسفار أن الملحدين وسائر أعداء أسفار التوراة والإنجيل يقفون على اعتراضات كثيرة في كتب المفسرين عما دفعها به المفسرون فليعلم مطالع الأسفار المقدسة أن علماء الإسرائيليين وعلماء المسيحيين لم يتركوا في التوراة اعتراضاً لم يدفعوه من آيات الوحي وليسأل الذين لا يعلمون من يعلمون.
التالي |