سفر الخروج | المقدمة | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر الخروج
للقس . وليم مارش
إن موضوع هذا السفر خروج بني إسرائيل من مصر لكن ذلك ليس كل مشتملاته ولا المقصد العام فيه. فإن من أعظم غايات الكاتب بيان أول درجات إتمام وعد الله للآباء مع بيان نمو الإسرائيليين وطريق نشوئهم من بيت إلى قبيلة ومن قبيلة إلى أمة. فإن سفر التكوين ترك لنا الإسرائيليين بيتاً (تكوين ١: ٢٢) والخروج تركهم لنا أمة تزيد على ألفي ألف نفس تحت رؤساء قانونيين (خروج ١٨: ٢١ – ٢٤) وأهل نظام عبادة مقرر وكهنوت وشريعة وقضاء. فإنك تجدهم في (ص ١: ١٠٦) بيتاً وتراهم في (ص ٣٣: ١٣) شعب الله. وبدخول مجد الرب خيمة الاجتماع (ص ٤٠: ٣٤) ثم كونهم مملكة الله ملكها وهو يسكن بين شعبه متسلطاً ومرشداً وقائداً. وإن تلك الأمة قبلته رأسها وصارت مملكة له (ص ١٩: ٦). نعم إنها ظلت إلى ذلك الحين من أهل البادية لكنها كانت أمة مربوطة بشريعة وقوانين.
تفتقر خزانة الأدب المسيحي إلى مجموعة كاملة من التفاسير لكتب العهدين القديم والجديد. ومن المؤسف حقاً أنه لا توجد حالياً في أية مكتبة مسيحية في شرقنا العربي مجموعة تفسير كاملة لأجزاء الكتاب المقدس. وبالرغم من أن دور النشر المسيحية المختلفة قد أضافت لخزانة الأدب المسيحي عدداً لا بأس به من المؤلفات الدينية التي تمتاز بعمق البحث والاستقصاء والدراسة، إلا أن أياً من هذه الدور لم تقدم مجموعة كاملة من التفاسير، الأمر الذي دفع مجمع الكنائس في الشرق الأدنى بالإسراع لإعادة طبع كتب المجموعة المعروفة باسم: «كتاب السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم» للقس وليم مارش، والمجموعة المعروفة باسم «الكنز الجليل في تفسير الإنجيل» وهي مجموعة تفاسير كتب العهد الجديد للعلامة الدكتور وليم إدي.
ورغم اقتناعنا بأن هاتين المجموعتين كتبتا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلا أن جودة المادة ودقة البحث واتساع الفكر والآراء السديدة المتضمنة فيهما كانت من أكبر الدوافع المقنعة لإعادة طبعهما.
هذا وقد تكرّم سينودس سوريا ولبنان الإنجيلي مشكوراً – وهو صاحب حقوق الطبع – بالسماح لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى بإعادة طبع هاتين المجموعتين حتى يكون تفسير الكتاب في متناول يد كل باحث ودارس.
ورب الكنيسة نسأل أن يجعل من هاتين المجموعتين نوراً ونبراساً يهدي الطريق إلى معرفة ذاك الذي قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة».
القس ألبرت استيرو
الأمين العام
لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى
المقدمة: وفيها سبعة فصول
الفصل الأول: في اسم هذا السفر
الأسفار الخمسة في العبرانية يُسمى كل منها بكلمة أو ما يزيد على كلمة من الكلمات التي في أول السفر كتسمية سفر التكوين «براشيت» (أي في البدء) فإن هاتين الكلمتين أول كلامه. وسفر الخروج «وإله شموت» (أي وهذه أسماء) وهذه الكلمات أوله. وسفر اللاويين «ويقرأ» (أي ودعا) وهكذا. ولكن لما كانت هذه الأسماء مجهولة عند اليونانيين اختار مترجمو التوراة إلى اليونانية بدل هذه الأسماء أسماء يفهمها اليونانيون فسموا السفر بالموضوع ذي الشأن فيه. ولما كان السفر الثاني تتعلق حوادثه بخروج بني إسرائيل من مصر سموه بسفر الخروج وجرينا في ترجمتنا العربية على سننهم.
الفصل الثاني: في مشتملات هذا السفر ومقصده العام
إن موضوع هذا السفر خروج بني إسرائيل من مصر لكن ذلك ليس كل مشتملاته ولا المقصد العام فيه. فإن من أعظم غايات الكاتب فيه تاريخ الإسرائيليين ومن أعظم الغايات العظمى بيان أول درجات إتمام وعد الله للآباء مع بيان نمو الإسرائيليين وطريق نشوئهم من بيت إلى قبيلة ومن قبيلة إلى أمة. فإن سفر التكوين ترك لنا الإسرائيليين بيتاً (تكوين ١: ٢٢) والخروج تركهم لنا أمة تزيد على ألفي ألف نفس تحت رؤساء قانونيين (خروج ١٨: ٢١ – ٢٤) وأهل نظام عبادة مقرر وكهنوت وشريعة وقضاء. فإنك تجدهم في (ص ١: ١٠٦) بيتاً وتراهم في (ص ٣٣: ١٣) شعب الله. وبدخول مجد الرب خيمة الاجتماع (ص ٤٠: ٣٤) ثم كونهم مملكة الله ملكها وهو يسكن بين شعبه متسلطاً ومرشداً وقائداً. وإن تلك الأمة قبلته رأسها وصارت مملكة له (ص ١٩: ٦). نعم إنها ظلت إلى ذلك الحين من أهل البادية لكنها كانت أمة مربوطة بشريعة وقوانين.
ثم إن كاتب هذا السفر ما فتئ يتتبع تاريخ تلك الأمة من (تكوين ص ٤٦) إلى موت يوسف في (خروج ١: ١ – ٦). وذكر خلاصة أحوال نسل يعقوب في المدة التي بين موت يوسف وولادة موسى ونمو بني إسرائيل (ص ١: ٧ و١٢ و٢٠). وذكر على غير قصد ما أصاب الإسرائيليين من المصريين بمقتضى أنباء الله لإبراهيم. واستمر يتكلم على ولادة موسى وتعيين الله إياه منقذاً والأمور التي حملته على الهرب إلى أرض مديان والرجوع من مديان إلى مصر ورضا حميه يثرون بذهابه (ص ٤: ١٨). وختان ابن موسى (ص ٤: ٢٤ – ٢٦) والتقاء موسى بهارون (ع ٢٧ و٢٨). وقبول بني إسرائيل موسى قائداً (ع ٢٩ – ٣١). وطلب موسى الأول من فرعون الإفراج وعدم سمع فرعون وإعلانه إرادة التثقيل على إسرائيل وزيادته (ص ٥ – ص ١٦: ١ – ١٣). وجهاد موسى مع فرعون (ص ٥ – ص ١١). وما في ذلك من الضربات ونهاية الشدة والاستعداد للفصح (ص ١٢: ١ – ٢٨). وضربة الأبكار وكانت نتيجتها إطلاق بني إسرائيل بسرعة لا الإذن بخروجهم إلى البرية فقط (ص ١٢: ٣٣). وخروجهم بالغنائم (ص ١٢: ٣٥ و٣٦). وثم نبأ الخروج والسفر من رعمسيس في طريق سكوت وإيثام إلى فم الحيروث على شاطئ البحر الأحمر الغربي (ص ١٢: ٣٧ – ص ١٤: ٤). ونبأ اتباع جيش فرعون إياهم ومعجزة اجتياز البحر الأحمر وإغراق مياهه مركبات المصريين وخيلهم (ص ١٤: ٥ – ٣١). وختام هذا النبأ بأغنية مريم (ص ١٥: ١ – ٢٠).
ولما صار بنو إسرائيل حينئذ في الأمن من فرعون وجنوده أخذ الكاتب يقص نبأ سفرهم وطريقه في برية شور إلى مارة (ص ١٥: ٢٢ – ٢٦). ومن مارة إلى إيليم (ع ٢٧). ثم من برية سين إلى رفيديم (ص ١٧: ١). ومن رفيديم إلى سيناء (ص ١٠: ١) وتذمر الشعب في مارة ومعجزة تصيير الماء عذباً (ص ١٥: ٢٣ – ٢٥) وإنزال المن والسلوى (ص ١٦: ٤ – ٣٦). والحرب العظيمة بين الإسرائيليين والعمالقة في رفيديم (ص ١٧: ٨ – ١٣). وزيارة يثرون لموسى ونصحه له وتنظيم الشعب (ص ١٨: ١ – ٢٧). ووصف الكاتب في (ص ١٩) إعداد الشعب لقبول الشريعة الأساسية التي بُنيت في (ص ٢٠ – ص ٢٣) وخلاصتها الوصايا العشر (ص ٢٠: ١ – ١٧) وكتاب العهد (ص ٢٠: ٢٢ – ص ٢٣). وتكلم في (ص ٢٤) على قبول الإسرائيليين العهد (ع ٣ إلى ٨). وصعود موسى على الجبل الصعود الأول (ع ٩ – ١٨). وما أعطاه الله موسى من الإرشاد في سبيل العبادة والبيت الذي يبنيه له وشغل بذلك سبعة أصحاحات (ص ٢٥ – ص ٣١). وتكلم في الأصحاح الثاني والثلاثين على عناد الإسرائيليين ومعاقبتهم. وفي الأصحاح الثالث والثلاثين على تجديد العهد مع الله. وفي الأصحاح الرابع والثلاثين على أنباء أمور موسى في صعوده ثانية إلى الجبل وتركيب أجزاء الخيمة وثياب الكهنة وشغل بذلك خمسة أصحاحات (ص ٣٥ إلى ص ٣٩) وبقاء ذلك العمل إلى (ص ٤٠ ) وإقامة الخيمة وظهور مجد الله فيها.
الفصل الثالث: في قسمي هذا السفر
هذا السفر يقسم إلى قسمين الأول تاريخ ما حدث لإسرائيل من موت يوسف إلى صيرورتهم أمة ووصولهم إلى سيناء (ص ١ – ص١٩). والثاني الشريعة وما يتعلق بها (ص ٢٠ – ص ٤٠).
القسم الأول يقسم إلى الأقسام الآتية
(١) التضييق على الإسرائيليين في مصر | ص ١ |
(٢) ولادة موسى ونجاته وأول محاولته إنقاذ شعب الله | ص ٢ |
(٣) دعوة موسى ورجوعه إلى مصر | ص ٣ و٤ |
(٤) أول الخطاب بين موسى وفرعون ونتيجة ذلك وزيادة أثقال الشعب ويأسه وقنوط موسى | ص ٥ و٦ |
(٥) نسب موسى وهارون | ص ٦: ١٤ – ٢٧ |
(٦) اجتهاد موسى بعناية الله في أن يغلب فرعون المعاند وتسع ضربات من ضربات مصر العشر | ص ٧: ١٠ |
(٧) إجراء الفصح | ص ١٢: ١ – ٢٨ |
(٨) الضربة العاشرة | ص ١٢: ٢٩ – ٣٦ |
(٩) خروج بني إسرائيل من مصر وبلوغهم فم الحيروث | ص ١٢: ٣٧ – ١٤: ٤ |
(١٠) اتباع جيش فرعون الإسرائيليين وعبور البحر الأحمر وهلاك المصريين | ص ١٤: ٥ – ٣١ |
(١١) ترنم موسى ومريم بأغنية النصر | ص ١٥: ١ – ٢١ |
(١٢) سفر الإسرائيليين من البحر الأحمر إلى رفيديم وانتصارهم على العمالقة | ص ١٥: ٢٢ – ص ١٧ |
(١٣) زيارة يثرون لموسى | ص ١٨ |
(١٤) وصول الإسرائيليين إلى أمام سيناء واستعدادهم لقبول الشريعة | ص ١٩ |
القسم الثاني وأقسامه ما يأتي
(١) ألقاء الوصايا العشر | ص ٢٠: ١ – ٢١ |
(٢) كلمات كتاب العهد | ص ٢٠: ٢٢ و٢٣ |
(٣) قبول العهد وصعود موسى إلى الجبل | ص ٢٤ |
(٤) تعليم موسى بناء الخيمة وتقديس الكهنة | ص ٢٥ – ٣١ |
(٥) إفساد العهد بعبادة العجل وتجديد الشريعة | ص ٣٢: ٣٤ |
(٦) إعداد الخمية وأدواتها وثياب الأقداس | ص ٣٥ – ٣٩ |
(٧) نصب الخيمة وظهور مجد الله فيها | ص ٤٠ |
الفصل الرابع: في زمن كتابة هذا السفر
قِدَم كتابة سفر الخروج بيّن من بساطة تركيب عباراته وقصّ أنبائه وما فيه من الأمور القديمة التي شاهدها الكاتب نفسه. فإن أكثر حوادثه مما رآها الكاتب بعينه وسمعها بأذنه ولمسها بيده وقصها بكل تدقيق حتى ذكر ما لا ضرورة إليه البيان مقصده فذكر وقوع البَرد على حاصلات أرض مصر وتأثير ذلك فيها بالتفصيل (خروج ٩: ٢٣ – ٣٢). وهيئة المن وصفاته (ص ١٦: ١٤ – ٣١). ونزول الله على جبل سيناء (ص ١٩: ١٦ – ١٩ و٢٠: ١٨) وإنه رأى ذلك بعينه. وإلا فمن غير المشاهد ينبئ بعدد عيون إيليم وعدد النخل النابت حولها (ص ١٥: ٢٧). وبأن اللوحين الأولين اللذين كتب عليهما الوصايا العشر كان كل منهما مكتوباً على الوجهين (ص ٣٢: ١٥). وأحوال موسى ويشوع عند سمعهما صوت الهتاف من الاحتفال الوثني بالعجل الذهبي قبل أن يصلوا إلى المحلة وينظروه (ص ٣٢: ١٧ – ١٩). وأيّ الإسرائيليين في الأزمنة الحديثة يستطيع أن يعيّن اليوم الذي انطلقوا فيه من إيليم وهو إنه «ٱلْيَوْمِ ٱلْخَامِسَ عَشَرَ مِنَ ٱلشَّهْرِ ٱلثَّانِي بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ» (ص ١٦: ١). أو أن يخبر بأن مريم ونساء إسرائيل أخذت تغني معاً بدفوف ورقص (ص ١٥: ٢٠). أو يعين بأن «فَمِ ٱلْحِيرُوثِ بَيْنَ مَجْدَلَ وَٱلْبَحْرِ أَمَامَ بَعْلَ صَفُونَ» (ص ١٤: ٢). ومن غير المشاهد يقدر أن يعرف أن الجراد حملته ريح غربية شديدة وطرحته إلى بحر سوف أو يتجاسر أن يقول «لَمْ تَبْقَ جَرَادَةٌ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ تُخُومِ مِصْرَ» (ص ١٠: ١٩). ومن ذلك قوله «فَأَخَذَتْ صَفُّورَةُ صَوَّانَةً وَقَطَعَتْ غُرْلَةَ ٱبْنِهَا وَمَسَّتْ رِجْلَيْهِ» (ص ٤: ٢٥). وإن هارون ذهب والتقى موسى في جبل الله وقبله (ص ٤: ٢٧). وإن مدبري إسرائيل «صَادَفُوا مُوسَى وَهَارُونَ وَاقِفَيْنِ لِلِقَائِهِمْ حِينَ خَرَجُوا مِنْ لَدُنْ فِرْعَوْنَ» (ص ٥: ٢٠). وإنه «مَاتَتِ ٱلضَّفَادِعُ مِنَ ٱلْبُيُوتِ وَٱلدُّورِ وَٱلْحُقُولِ. وَجَمَعُوهَا كُوَماً كَثِيرَةً حَتَّى أَنْتَنَتِ ٱلأَرْضُ» (ص ٨: ١٣ و١٤). وإنه «أَعْطَى ٱلرَّبُّ رُعُوداً وَبَرَداً، وَجَرَتْ نَارٌ عَلَى ٱلأَرْضِ، وَأَمْطَرَ ٱلرَّبُّ بَرَداً عَلَى أَرْضِ مِصْرَ» (ص ٩: ٢٣). وإن الجراد «غَطَّى وَجْهَ كُلِّ ٱلأَرْضِ حَتَّى أَظْلَمَتِ ٱلأَرْضُ» (ص ١٠: ١٥). وإنه صار «ظَلاَمٌ عَلَى أَرْضِ مِصْرَ، حَتَّى يُلْمَسُ ٱلظَّلاَمُ» (ص ١٠: ٢١). وإنه «قَامَ فِرْعَوْنُ لَيْلاً هُوَ وَكُلُّ عَبِيدِهِ وَجَمِيعُ ٱلْمِصْرِيِّينَ. وَكَانَ صُرَاخٌ عَظِيمٌ فِي مِصْرَ» (ص ١٢: ٣٠). «فَحَمَلَ ٱلشَّعْبُ عَجِينَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَخْتَمِرَ، وَمَعَاجِنُهُمْ مَصْرُورَةٌ فِي ثِيَابِهِمْ عَلَى أَكْتَافِهِمْ» (ص ١٢: ٣٤). وإنه «أَجْرَى ٱلرَّبُّ ٱلْبَحْرَ بِرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ شَدِيدَةٍ كُلَّ ٱللَّيْلِ» (ص ١٤: ٢١). «فَخَلَّصَ ٱلرَّبُّ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ إِسْرَائِيلَ مِنْ يَدِ ٱلْمِصْرِيِّينَ. وَنَظَرَ إِسْرَائِيلُ ٱلْمِصْرِيِّينَ أَمْوَاتاً عَلَى شَاطِئِ ٱلْبَحْرِ» (ص ١٤: ٣٠). وإن المصريين «تُغَطِّيهِمُ ٱللُّجَجُ. قَدْ هَبَطُوا فِي ٱلأَعْمَاقِ كَحَجَرٍ… غَاصُوا كَٱلرَّصَاصِ فِي مِيَاهٍ غَامِرَةٍ» (ص ١٥: ٥ – ١٠). وإنه «كَانَ فِي ٱلْمَسَاءِ أَنَّ ٱلسَّلْوَى صَعِدَتْ وَغَطَّتِ ٱلْمَحَلَّةَ. وَفِي ٱلصَّبَاحِ كَانَ سَقِيطُ ٱلنَّدَى حَوَالَيِ ٱلْمَحَلَّةِ» (ص ١٦: ١٣). وإنهم «كَالُوا المن بِٱلْعُمِرِ» (ص ١٦: ١٨). «وَإِذَا حَمِيَتِ ٱلشَّمْسُ كَانَ يَذُوبُ» (ص ١٦: ٢١). وإنه «خَرَجَ مُوسَى لٱسْتِقْبَالِ حَمِيهِ وَسَجَدَ وَقَبَّلَهُ. وَسَأَلَ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ عَنْ سَلاَمَتِهِ» (ص ١٨: ٧). وإنه «ِكَانَ جَبَلُ سِينَاءَ كُلُّهُ يُدَخِّنُ… وَٱرْتَجَفَ كُلُّ ٱلْجَبَل» (ص ١٩: ١٨). وإنه «أَجَابَ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ: كُلُّ ٱلأَقْوَالِ ٱلَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا ٱلرَّبُّ نَفْعَلُ» (ص ٢٤: ٣).
ولا حاجة إلى الزيادة على ما ذُكر لإثبات قِدَم كتابة هذا السفر. فإن أسلوبه ونفس الكاتب يدل على أن كاتبه كان قد ترك مصر حديثاً على أثر ما كان فيها من الحوادث المذكورة فيه. والمرجح أنه أُكمل تأليفه في السنة العشرين أو السنة الثلاثين بعد الدخول إلى أرض كنعان.
الفصل الخامس: في كاتب هذا السفر
إذا سلمنا بأن كاتب سفر التكوين كتب ما شاهده بنفسه أو أنه كان إسرائيلياً كتب ما شاهده في عصره من الحوادث كان تعيين ذلك الكاتب مسئلة علمية ويثبت أن تلك الحوادث صحيحة إذا ثبت أن كاتبها ممن شاهدوها كما قال ستروس. والعقل يثبت لنا من تلاوة ذلك السفر أن كاتبه لم يكن من عامة الإسرائيليين ولا المرؤوسين ولا غير العلماء بل من خاصة الإسرائيليين ورؤسائهم وأعظم علمائهم وقوادهم. ولا تقل الثقة بأنبائه شيئاً لو ثبت أن كاتبه غير موسى كهارون أو حور أو يشوع أو كالب لكن لا ريب في أنه يزيد الرغبة فيه ثبوت أن كاتبه موسى نفسه.
وما الدليل على أن كاتبه موسى. إن البراهين على ذلك كثيرة نذكر منها ما يأتي:
الأول: إن يشوع نسب «كتاب الشريعة» إلى موسى (يشوع ٨: ٣١). ونسبه إليه كاتب سفري الملوك وسفري الأيام (٢ملوك ١٤: ٦ و٢أيام ٢٥: ٤) وعزرا (عزرا ٦: ١٨) ونحميا (نحميا ١٣: ١) وملاخي (ملاخي ٤: ٤) وربنا المبارك (يوحنا ٧: ١٩ الخ) والقديس يوحنا المعمدان (يوحنا ١: ١٧) وفيلبس الرسول (يوحنا ١: ٤٥) وبطرس الرسول (أعمال ٤: ٢٢) وبولس الرسول مراراً وعلماء اليهود ومفسروهم وكل الآباء المسيحيين. ولا بينة على إثبات كاتب كتاب من الكُتّاب كالبينة على أن موسى كاتب التوراة أي الأسفار الخمسة المعروفة.
الثاني: إن لنا كثيراً من البينات الداخلية يُثبت أن موسى هو كاتب سفر الخروج وليس إنه كان في مصر وألف المصريين وخالطهم فقط بل إنه أحكم أيضاً اللغة المصرية وعرف شريعة المصريين وفنونهم وآدابهم وحكمتهم. وعدد الكلمات المصرية والعبارات المصرية كثيرة في هذا السفر. وما وضعه الكاتب من الشرائع يشبه شرائع المصريين كثيراً. وكذلك ما زان به خيمة الشهادة وأنشأه من السجوف والثياب مثل سجوف المصريين وثيابهم فدل ذلك على أن الكاتب اعتاد كل عادات المصريين ما سوى ما يخالف إرادة الله الحي. وكان قد أحكم فنون البلاغة والشعر والإنشاء كما يظهر من «ترنيمة موسى» وهذا ما لم يكن أدركه أحد من الإسرائيليين في ذلك العصر سوى موسى فلا يبقى لنا أن نظن غيره من بني إسرائيل كتب هذا السفر. لأن موسى وحده هو الذي تعلم العلوم والفنون المصرية في البلاد الملكي «فَتَهَذَّبَ… بِكُلِّ حِكْمَةِ ٱلْمِصْرِيِّينَ» (أعمال ٧: ٢٢). وصحب علماء مصر وشعراءها وجلس في صروح فرعون الفاخرة ودخل هياكل مصر العظيمة فكان الآية الكبرى في كل ما ذُكر فكتب بعد أن رأى كل شيء بعينيه. ومن غير موسى يقدر قبل أن يقتل المصري أن يعرف أنه كان يلتفت إلى هنا وهناك (ص ٢: ١٢). ومن يقدر غيره أن يذكر أنه «طمره في الرمل» (ص ٢: ١٢). ومن استطاع غيره أن يعرف أنه «مال لينظر ذلك ٱلْمَنْظَرَ ٱلْعَظِيمَ. لِمَاذَا لاَ تَحْتَرِقُ ٱلْعُلَّيْقَةُ» (ص ٣: ٣). أو إنه هرب من أمام الحية التي تحولت إليها عصاه (ص ٤: ٣) وإنه حين ترك مديان أخذ امرأته وبنيه وأركبهم على الحمير (ص ٤: ٢٠). وإن صفورة أخذت صوانه وقطعت غرلة ابنها (ص ٤: ٢٥). وإنها حين قطعتها مست رجلي موسى (ص ٤: ٢٥). ومن يقدر أن يقول سواه أنه يوم مارة «صَرَخَ إِلَى ٱلرَّبِّ. فَأَرَاهُ ٱلرَّبُّ شَجَرَةً فَطَرَحَهَا فِي ٱلْمَاءِ فَصَارَ ٱلْمَاءُ عَذْباً» (ص ١٥: ٢٥). وإن يديه ثقلتا عند رفيديم (ص ١٧: ١٢). وعلة تسمية ابنيه (ص ١٨: ٣ و٤). وإنه لما نزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده «لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّ جِلْدَ وَجْهِهِ صَارَ يَلْمَعُ» (ص ٣٤: ٢٩). وإنه لما رأى مجد الله أسرع وخرّ إلى الأرض وسجد (ص ٣٤: ٨). وليس عمل موسى وحده يبين أنه هو الكاتب بل كلامه وأفكاره أيضاً بالنظر إلى الله (ص ٣٢: ٣١ و٣٢ و٣٣: ١٢ – ١٦ الخ).
الثالث: إن قوي البرهان على أن موسى كاتب هذا السفر يُستنتج من أسلوب الكلام فإن الكاتب لم ينسب إلى نفسه شيئاً من العظمة ولو كان الكاتب غيره لرفعه إلى فوق الكواكب. والذي ذُكر في هذا السفر إن موسى كان ألثغ قليل المواهب الطبيعية ذا نقائص كثيرة قاسياً غير حليم افتتح حياته بإثم القتل (ص ٢: ١٢). وإنه كان جباناً (ص ٢: ١٤ و١٥) وهرب خوفاً وإن الله لما دعاه إلى الإرسالية استعفى حتى هاج غضب الله عليه (ص ٤: ١ – ١٤). وإنه لما لم ينجح في طلبته الأولى من فرعون لام الله ومال إلى عدم الاحترام (ص ٥: ٢٢ و٢٣). ولما دُعي ثانية إلى أن يدخل إلى فرعون ويبلغه قول الرب جبن وذكر ضعفه وعيبه ونقص قواه الطبيعة (ص ٦: ١٢). ولما عزم على المجاهرة مع فرعون إلى النهاية أظهر شجاعة وثقة بالله لكنه لم يشكر نفسه ولم ينطق بكلمة تدل على أنه صلحت سجيته الأدبية لكنه قيل مرة «مُوسَى كَانَ عَظِيماً جِدّاً فِي أَرْضِ مِصْرَ فِي عُيُونِ عَبِيدِ فِرْعَوْنَ وَعُيُونِ ٱلشَّعْبِ» (ص ١١: ٣). و لعله هو لم يتكلم بتلك الكلمات وإن أحد الأنبياء زاد هذه العبارة بياناً للواقع. على أنها مع ذلك لا تدل على أنه قصد مدح نفسه بها لكنها دلت على الواقع وكان بيان هذا الواقع ضرورياً للنبإ لأنه كان بياناً لكثرة هدايا المصريين للإسرائيليين في إخراجهم من مصر. وفي الجزء الآخر من الخروج لم يذكر أدنى كلمة تدل على أقل مدح له بل اقتصر على ذكر نقائصه حتى إنه لم يثن على ذاته يوم سأل الله أن يمحو اسمه من كتابه لأجل شعبه وكأن هذا الذي أتاه من زهيد الأمور (ص ٣٢: ٣٢). ولم يشر أدنى إشارة إلى شجاعته وإيمانه وحكمته في سبيل إتمامه للرسالة منذ وقوفه الثاني أمام فرعون (ص ٧: ١٠) على خلاف ما قاله فيه كاتب الرسالة إلى العبرانيين (عبرانيين ١١: ٢٤ – ٢٨) مع أن أهل عصره الذين اعتبروه منقذاً لهم ورأوا فوق كل نبي بدليل واحد منهم «وَلَمْ يَقُمْ بَعْدُ نَبِيٌّ فِي إِسْرَائِيلَ مِثْلُ مُوسَى ٱلَّذِي عَرَفَهُ ٱلرَّبُّ وَجْهاً لِوَجْهٍ، فِي جَمِيعِ ٱلآيَاتِ وَٱلْعَجَائِبِ ٱلَّتِي أَرْسَلَهُ ٱلرَّبُّ لِيَعْمَلَهَا فِي أَرْضِ مِصْرَ بِفِرْعَوْنَ وَبِجَمِيعِ عَبِيدِهِ وَكُلِّ أَرْضِهِ» (تثنية ٣٤: ١٠ و١١).
الفصل السادس: في صدق هذا السفر
قال ستروس ما معناه لا ريب في صدق تاريخ التوراة إذا ثبت أن كاتبه قد شاهد بعينه ما كتب أنباءه. وقال «لما كان موسى قائد الإسرائيليين في خروجهم من مصر كان تاريخه مما لا ريب فيه ما لم يكن قد قصد الخداع» (وذلك لم يقل به أحد). واعتمد هذا السفر كل المؤرخين واستدلوا على صحته بأحسن الأدلة. من ذلك أن كاتبه أبان بالتدقيق نبأ المصريين وجغرافية مصر وحواصلها وخواص إقليمها وعادات أهلها ولا يقدم على مثل هذا إلا الذي عرف الحقيقة واختبرها. وقد أيد أقواله المؤرخون القدماء والمحدثون وجعلوا سفره من أهم دروسهم وصدقت أقواله المكتشفات المصرية. ومما قاله أقدم المؤرخين المصريين وهو منئو الكاهن المصري الذي كتب تاريخ مصر في عصر بطلميوس الأول (من سنة ٣٢٣ – ٢٨٤ ق. م) أبان أنه كان في أيام ملك أمنوفس بن رعمسيس وجدّ سيتوس رجل اسمه موسى قاد من مصر إلى سورية جماعة من النجسين. وقال هكاتوس الأبديري الذي كان في نحو ذلك العصر مثل ذلك وزاد على ذلك أن تلك الجماعة كانت مؤلفة من الغرباء وأقامت باليهودية. وقال ما يقرب من ذلك ارتابانس وشيريمون وأوبوليمس وليسياخوس وتاشتوس وغيرهم من قدماء المؤرخين. وقبل هذا السفر تاريخاً صادقاً في العصور الخالية والعالم القديم. وكان قوم موسى لا يعرفون باليهود وبالإسرائيليين وإنهم كانوا في وقت من الأوقات في مصر وإنهم تركوها لعداوة بينهم وبين المصريين. وإنهم سافروا في البرية إلى فلسطين واتفق أكثر الكتبة على أن قائدهم كان رجلاً اسمه موسى. وذكر بعضهم أنه قادهم اثنان اسم أحدهما موسى واسم الآخر هاروس أي هارون. وسلم المصريون أنفسهم بأن الإسرائيليين اجتازوا في البحر الأحمر لكنهم اختلفوا في كونه معجزة أو غير معجزة. وقال كهنة ممفيس ان موسى توقع بالحساب وقت الجزر واجتاز في البر في وقت الجزر. وانظر هل يكون الجزر ممكناً من الاجتياز في قرار البحر على الأقدام. على أن بعض مؤرخيهم قال ما هو على وفق نبإ السفر وهو ان ملك مصر قاد جيشه وراء الإسرائيليين لأنهم خرجوا بغنى مصر الذي استعاروه من المصريين فصوت الله أمر موسى أن يضرب البحر بعصاه ويقسمه ولما ضربه بعصاه انقسم ومشى قومه على اليبس.
واعترض أعداء الكتاب اليوم على صحة سفر الخروج بأمرين الأول إن قسماً كبيراً منه معجزات. والثاني زيادة عدد الإسرائيليين. فإن بعضهم ينكر إمكان المعجزات وأكثرهم يقول قول هيوم إن الذي يشهد بالمعجزات بالمشاهدة مخدوع لاستحالة وقوع المعجزات حقيقة. ويضيق المحل في هذه المقدمة بدفع ذلك بالتفصيل فنكتفي بدفعه بالإجمال والاختصار ومن أراد إبطاله بالتفصيل فعليه بمطالعة كتاب الأدلة السنية لحضرة العالم الفاضل اللاهوتي المدقق الدكتور جمس أنس. فنقول كل مسيحي ومؤمن بإيمان الرسل لا بد من أن يسلم بالمعجزات لأنه يسلم بقيامة المسيح وصعوده ومن سلم بذلك هان عليه أن يسلم بغيره من المعجزات لأنها أقل منه.
ولنا في المعجزات هنا ثلاثة أقوال:
الأول: إن المعجزات كانت مفتقراً إليها أو ضرورية.
الثاني: إنها كانت من مقتضيات الأحوال.
الثالث: إنها كانت مما لا يخدع بها مشاهدها ولا يمكن أن يُخدع. فإن موسى الذي أثبتنا أنه كاتب هذا السفر ما كان ممن يخدعون بالمعجزات لأنه كان من أعلم علماء عصره ولا يمكنه أن يخدع نفسه فإنه هو الذي صنعها بقدرة الله. وعلى فرض أن كاتب هذا السفر أحد رفقائه ككالب أو يشوع لم يصح عقلاً إنه خُدع لسهولة أن يحكم كل أحد بضربة الوباء وعدمها وانقسام البحر الأحمر وعدم انقسامه وبحركة عمود نار وسحابة أمامه فأدنى عامة الناس يقدر أن يعرف وقوع ذلك حقيقة أو عدم وقوعه. ولنا في العدد ما يأتي وهو إن العدد كان عرضة للتغيير في ما كتبه القدماء لأنهم ما كانوا يدلون عليه بالأرقام كما ندل عليه اليوم فيمكن أن يكون العدد في سفر الخروج أكثر من الواقع ولكن الإمكان غير الوقوع فإن الإسرائيليين لو لم يكثروا تلك الكثرة لم يخف المصريون منهم. وما كثرة الإسرائيليين بالنسبة إلى سائر سكان مصر يومئذ فإن المرجح كان سكانها نحو ثمانية ملايين فلو حسبنا الإسرائيليين مع من هاجر إليهم من الساميين واختلطوا بهم وصاروا منهم مليوناً لم يكن ذلك وراء التصديق. وكيف أمكن الإسرائيليين أن يستولوا على أرض كنعان مع كثرة سكانها لو لم يكونوا كثيرين على أن بعضهم قال أن الإسرائيليين كانوا يومئذ نحو ألفي ألف.
الفصل السابع: في أحوال سفر الخروج
أحوال هذا السفر على غاية ما يرام من الجودة فليس فيه من القراءات المختلفة إلا ما قل وليس فيه آية من الآيات تحتاج إلى الإصلاح وما وُجد من الزيادة لبعض الكلمات في الترجمة السامرية والترجمة السبعينية كما في (ص ١: ١١) فإنه زيد لفظة «أُون» في السبعينية. و(ص ١٢: ٤٠) فإنه زيد فيها «وأرض كنعان» ليس هو ما سقط من الأصل العبراني بل هو من الحواشي التي كتبها المترجمون في الترجمتين وأُدخلت سهواً في متنيهما وقد اتفق جمهور المفسرين على ذلك. وعلى الجملة نقول إن سفر الخروج وصل إلينا في الحال التي كان عليها لما فرغ موسى من كتابته. إلا أن فيه عبارة أو عبارتين تبين لبعضهم إن موسى ليس بكاتبهما وذلك بعض ما في (ص ٦: ١٤ – ٢٧ وص ١١: ٣) والمظنون أن كاتبهما يشوع وإنه كتبهما بإلهام الله.
التالي |