سفر التكوين

سفر التكوين | 23 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر التكوين 

للقس . وليم مارش

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّالِثُ وَٱلْعِشْرُونَ

موت سارة ودفنها

١ «وَكَانَتْ حَيَاةُ سَارَةَ مِئَةً وَسَبْعاً وَعِشْرِينَ سَنَةً، سِنِي حَيَاةِ سَارَة».

وَكَانَتْ حَيَاةُ سَارَةَ مِئَةً وَسَبْعاً وَعِشْرِينَ سَنَةً سارة هي المرأة الوحيدة التي ذُكر عمرها في الكتاب المقدس. ولا ريب في أنه كان لها هذا الإكرام لأنها أم العبرانيين (إشعياء ٥١: ٢) وكانت يوم ولدت إسحاق في سن التسعين فكان عند وفاتها في سن السابعة والثلاثين.

٢ «وَمَاتَتْ سَارَةُ فِي قَرْيَةِ أَرْبَعَ (ٱلَّتِي هِيَ حَبْرُونُ) فِي أَرْضِ كَنْعَانَ. فَأَتَى إِبْرَاهِيمُ لِيَنْدُبَ سَارَةَ وَيَبْكِيَ عَلَيْهَا».

يشوع ١٤: ١٥ وقضاة ١: ١٠ ص ١٣: ١٨ وع ١٩ وص ٣٥: ٢٧ و٢صموئيل ٥: ٣ ص ٢٧: ٤١ و٥٠: ٣ و١٠

قَرْيَةِ أَرْبَعَ هي حبرون عينها بُنيت قبل صوعر مصر بسبع سنين (عدد ١٣: ٢٢). ولعل بانيها قبيلة سامية وهي راحلة إلى الذلتا وهي واقعة على الجزء الشمالي من اليهودية وعلى أمد ٢٢ ميلاً من أورشليم جنوباً. وكانت في أول أمرها تُسمى قرية أربع وأربع أبو عناق (يشوع ١٥: ١٣). لكن معناها هنا قرية أربع من العدد. ومعنى حبرون اسمها الثاني معاهدة أو محالفة (ص ١٣: ١٨). واسمها الذي هو قرية أربع يدل على أنه بناها أربع أُسر أو طوائف وبعد تسميتها بذلك أخذ الناس يسمون بعض أولادهم بها. وكان العناقيون أيام الاستيلاء على فلسطين ساكنين هناك فالظاهر أنهم ردوا لها اسمها القديم ثم طردهم كالب (يشوع ١٥: ١٤) واستولى عليها والظاهر أنه سمى حفيده بحبرون تذكاراً لاستيلائه عليها. ولم تزل مدينة ذات شأن سكانها نحو ٨٠٠٠ من المسلمين و٦٠٠ من اليهود.

إِبْرَاهِيمُ لِيَنْدُبَ سَارَةَ كان إبراهيم في ذلك الوقت رب أرضين كثيرة والظاهر أنه كان يومئذ في بئر سبع وترك إسحاق في حبرون يعتني بأمه والماشية فلما بلغه نبأ موتها أتى إلى حبرون.

٣ «وَقَامَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ أَمَامِ مَيِّتِهِ وَقَالَ لِبَنِي حِثَّ».

وَقَامَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ أَمَامِ مَيِّتِهِ أي أمام جسد زوجته الميت. كان أول ما عمله في حبرون أنه جلس في خيمة سارة وندبها وشفى حزنه ثم قام ليسعى في دفنها.

لِبَنِي حِثَّ لم نسمع من كلمات الكتاب في حبرون إلى هنا سوى الأموريين وممرا وإخوته ولكن ظهر لنا هنا إن الأرض كانت للحثيين وإنهم قبيلة كبيرة قويت في أيام كان الإسرائيليون غرباء في مصر وصارت أهل مملكة عظيمة شديدة حتى أنها كانت قادرة أن تحارب المصريين وكانت عاصمة ملكهم حمص وهي مدينة في شمالي سورية. وقد عُرف تاريخها اليوم من أخبار المصريين التي على بعض عاديّاتهم. ووُجد في حماة منذ ٣٠ سنة حجارة سود منحوت عليها كتابات طويلة في اللغة الحثيّة.

٤، ٥ «٤ أَنَا غَرِيبٌ وَنَزِيلٌ عِنْدَكُمْ. أَعْطُونِي مُلْكَ قَبْرٍ مَعَكُمْ لأَدْفِنَ مَيِّتِي مِنْ أَمَامِي. ٥ فَأَجَابَ بَنُو حِثَّ إِبْرَاهِيم».

ص ١٧: ٨ ولاويين ٢٥: ٢٣ و١أيام ٢٩: ١٥ ومزمور ١٠٥: ١٢ وعبرانيين ١١: ٩ و١٣ و١بطرس ٢: ١١ أعمال ٧: ٥

مُلْكَ قَبْرٍ كانوا قد سمحوا للغرباء أن يرعوا قطعانهم في مروج الأرض ومع هذا أذنوا لإبراهيم أن يكون له بينهم ملك دائم إذ رأوه ضرورياً له (ص ١٥: ١٣ و٢٠: ١٥). ولم يرضَ إبراهيم إلا أن يملك الأرض بثمنها وبميثاق يتم برضى الفريقين. ورضى كل القبيلة في منتداها عند بابها فإن إبراهيم مع كل غناه وقوته لم يعتبر نفسه إلا أنه غريب في تلك الأرض وإنها لأهلها (عبرانيين ١١: ٩). ولا يحق له أن يستولي على مدفن لميته إلا برضاهم وذلك دليل على طاعة إبراهيم العجيبة علاوة على أنه دليل على إيمانه العظيم.

٦ «اِسْمَعْنَا يَا سَيِّدِي، أَنْتَ رَئِيسٌ مِنَ ٱللهِ بَيْنَنَا. فِي أَفْضَلِ قُبُورِنَا ٱدْفِنْ مَيِّتَكَ. لاَ يَمْنَعُ أَحَدٌ مِنَّا قَبْرَهُ عَنْكَ حَتَّى لاَ تَدْفِنَ مَيِّتَكَ».

ص ١٣: ٢ و١٤: ١٤ و٢٤: ٣٥

رَئِيسٌ مِنَ ٱللهِ قابل هذا «بروح الله» (ص ١: ٢). و «بمصارعات الله» (ص ٣٠: ٨). و «بجبال الله» (مزمور ٣٦: ٦). و «بأرز الله» (مزمور ٨٠: ١٠). و «بسبات الرب» أي النوم الثقيل (١صموئيل ٢٦: ١٢).

أَفْضَلِ قُبُورِنَا كان الخطاب بين إبراهيم والحثيين في أعلى درجات اللطف والكياسة.

٧، ٨ «٧ فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ وَسَجَدَ لِشَعْبِ ٱلأَرْضِ لِبَنِي حِثَّ، ٨ وَقَالَ: إِنْ كَانَ فِي نُفُوسِكُمْ أَنْ أَدْفِنَ مَيِّتِي مِنْ أَمَامِي فَٱسْمَعُونِي، وَٱلْتَمِسُوا لِي مِنْ عِفْرُونَ بْنِ صُوحَرَ».

عيّن إبراهيم المكان الذي يريده مدفناً وأظهر حاجته إليه وإرادته أن يشتريه بماله لا أن يوهب له.

٩ «أَنْ يُعْطِيَنِي مَغَارَةَ ٱلْمَكْفِيلَةِ ٱلَّتِي لَهُ، ٱلَّتِي فِي طَرَفِ حَقْلِهِ. بِثَمَنٍ كَامِلٍ يُعْطِينِي إِيَّاهَا فِي وَسَطِكُمْ مُلْكَ قَبْرٍ».

٢صموئيل ٢٤: ٢٤ و١أيام ٢١: ٢٢ إلى ٢٥

مَغَارَةَ ٱلْمَكْفِيلَةِ أي المغارة المضاعفة أو المزدوجة. المرجّح أنها كانت كهفين أحدهما داخل الآخر وسُميّت الأرض حولها «حقل المكفيلة» (ص ٤٩: ٣٠ و٥٠: ١٣). وظن بعضهم إن المكان كان وادياً مزدوجاً بل المرجّح أنه سمي بذلك بإضافته إلى تلك المغارة. قيل ولم تزل عظام سارة وإبراهيم في تلك المغارة إلى اليوم في الخليل وهي حبرون القديمة وسُميت بالخليل وخليل الرحمان وهو إبراهيم لذلك.

بِثَمَنٍ كَامِلٍ في العبراني «بفضة كاملة» وكذا جاءت في (١أيام ٢١: ٢٢) والمعنى كما في الترجمة.

فِي وَسَطِكُمْ مُلْكَ قَبْرٍ لم يرد أنه يرغب في أن يكون قبر سارة بين قبورهم بل أن يكون إعطاء صاحب المغارة إياها لإبراهيم بالثمن الكامل أمام عيونهم (أو وهو بينهم).

١٠ «وَكَانَ عِفْرُونُ جَالِساً بَيْنَ بَنِي حِثَّ. فَأَجَابَ عِفْرُونُ ٱلْحِثِّيُّ إِبْرَاهِيمَ فِي مَسَامِعِ بَنِي حِثَّ، لَدَى جَمِيعِ ٱلدَّاخِلِينَ بَابَ مَدِينَتِهِ».

ص ٣٤: ٢٠ و٢٤ وراعوث ٤: ١

وَكَانَ عِفْرُونُ جَالِساً بَيْنَ بَنِي حِثَّ كان لكل من وُلد حراً في الوطن أن يجلس في باب المدينة فإن هنالك كان منتدى القوم وهنالك كانت الأمور تُعقد وتُحل أمام الجميع. وإذ كان عفرون هو صاحب المغارة توقف مبيعها على رضاه ولذلك اجتهد إبراهيم في أن يقف على قوله أولاً فما كان من عفرون إلا ما يسره في مسامع بني حث لدى جميع الداخلين باب مدينته.

١١ «لاَ يَا سَيِّدِي، ٱسْمَعْنِي. اَلْحَقْلُ وَهَبْتُكَ إِيَّاهُ، وَٱلْمَغَارَةُ ٱلَّتِي فِيهِ لَكَ وَهَبْتُهَا. لَدَى عُيُونِ بَنِي شَعْبِي وَهَبْتُكَ إِيَّاهَا. ٱدْفِنْ مَيِّتَكَ».

اَلْحَقْلُ وَهَبْتُكَ إِيَّاهُ طلب إبراهيم المغارة فقط فوهب له عفرون المغارة والحقل معاً إذ رأى ذلك ضرورياً له.

١٢ «فَسَجَدَ إِبْرَاهِيمُ أَمَامَ شَعْبِ ٱلأَرْضِ.

فَسَجَدَ إِبْرَاهِيمُ كان السجود يومئذ علامة الإكرام والشكر على إجابة السؤل.

١٣ «وَقَالَ لِعِفْرُونَ فِي مَسَامِعِ شَعْبِ ٱلأَرْضِ: بَلْ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ إِيَّاهُ فَلَيْتَكَ تَسْمَعُنِي. أُعْطِيكَ ثَمَنَ ٱلْحَقْلِ. خُذْ مِنِّي فَأَدْفِنَ مَيِّتِي هُنَاكَ».

بَلْ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ إِيَّاهُ ترجم بعضهم هذه العبارة بقوله «بل إن كنت تريد أن تعطيه». وترجمها آخر «بل إن أردت» وأظهر بذلك شدة رغبته في أن يصغي عفرون إليه ويسمح له بالطلبة الثانية. وأرى المعنى أنك أهل لذلك. وهذا نصها في العبرانية.

(אך אם אתה) (اك ام اته). ولا ريب في أنه حُذف شيء من العبارة وقُدّر عقلاً والمعنى أنك أنت كريم أو أنك أهل لأن تعطي بلا ثمن. وهذا المعنى هو المناسب هنا لسياق الكلام والقرينة. وهذه العبارة مثل يُضرب في الأهلية أي في كون الإنسان أهلاً للأمر الذي يدعيه أو يُدعى له فيكون مقصود إبراهيم أنت أهل لذلك يا عفرون. فإن عفرون أعلن له أنه يعطيه الحقل والمغارة هبة فقال له لا ريب في أنك أهل لمثل هذا الكرم. ومثله في الأمثال العربية «أنت لها فكن ذا مرة» أي أنت الذي خُلقت لها فكن ذا قوة. ولا يناسب أن يحارب عفرون على كلامه المعلن ووفرة الإكرام لإبراهيم والكرم منه بأن يقال «إن كنت إياه» فإن هذا الكلام هنا يفيد الشك وإن جواب الشرط ينفيه أي يكون دليلاً على صدق عفرون. وكلام عفرون وإبراهيم هنا مما أُلف في البيع والشراء بين الناس يومئذ ولا يزال إلى هذه الساعة بين العامة والخاصة فيقول المشتري كم ثمن هذه السلعة فيقول البائع هي لك بلا ثمن في قول المشتري شكراً لك أنت لها. وتقول العامة في مثل هذا «عشت كثر الله خيرك أنت أمها وأبوها أو أنت قدها وزيادة». ومثل هذا المعنى هو اللائق بإبراهيم وعفرون حينئذ لما أبداه كل منهما من اللطف والاحترام للآخر فتأمل).

فَلَيْتَكَ تَسْمَعُنِي (أي تقبل طلبتي وتسمح لي أن أعطيك ثمن الحقل).

١٤، ١٥ «١٤ فَأَجَابَ عِفْرُونُ إِبْرَاهِيمَ: ١٥ يَا سَيِّدِي ٱسْمَعْنِي. أَرْضٌ بِأَرْبَعِ مِئَةِ شَاقِلِ فِضَّةٍ، مَا هِيَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ؟ فَٱدْفِنْ مَيِّتَكَ».

خروج ٣٠: ١٣ وحزقيال ٤٥: ١٢ إرميا ٣٢: ٩

ٱسْمَعْنِي أي أقبل مني ما أقول.

بِأَرْبَعِ مِئَةِ شَاقِلِ أو نحو خمسين ليرة وذلك كثير بالنسبة إلى غلاء الفضة في تلك الأيام.

١٦ «فَسَمِعَ إِبْرَاهِيمُ لِعِفْرُونَ، وَوَزَنَ إِبْرَاهِيمُ لِعِفْرُونَ ٱلْفِضَّةَ ٱلَّتِي ذَكَرَهَا فِي مَسَامِعِ بَنِي حِثَّ. أَرْبَعَ مِئَةِ شَاقِلِ فِضَّةٍ جَائِزَةٍ عِنْدَ ٱلتُّجَّارِ».

وَزَنَ إِبْرَاهِيمُ لِعِفْرُونَ ٱلْفِضَّةَ كانت النقود يومئذ قطعاً من الفضة أو الذهب تُزان بالميزان إذ لم تكن المسكوكات معروفة.

جَائِزَةٍ عِنْدَ ٱلتُّجَّارِ المرجّح إن تلك القطع كانت موسومة بسمة الصحة في الجوهر والقيمة.

١٧ «فَوَجَبَ حَقْلُ عِفْرُونَ ٱلَّذِي فِي ٱلْمَكْفِيلَةِ ٱلَّتِي أَمَامَ مَمْرَا، ٱلْحَقْلُ وَٱلْمَغَارَةُ ٱلَّتِي فِيهِ، وَجَمِيعُ ٱلشَّجَرِ ٱلَّذِي فِي ٱلْحَقْلِ ٱلَّذِي فِي جَمِيعِ حُدُودِهِ حَوَالَيْهِ».

ص ٢٥: ٩ و٤٩: ٣٠ إلى ٣٢ و٥٠: ١٣

أَمَامَ مَمْرَا الحرَم الذي فيه جسدا إبراهيم وسارة على عدوة الوادي الشرقية فتكون غابة البلوط التي كانت لإبراهيم على العدوة الغربية. وقد تبيّن لبعض العلماء إن موقع حبرون تغير على توالي الأيام فكان أولاً فوق الوادي وحبرون أو الخليل اليوم في الوادي.

ٱلْحَقْلُ وَٱلْمَغَارَةُ كان مثل هذا نسق حجة المبيع في تلك الأيام. وقد تبيّن مثل هذا في الآثار الكلدانية التي وُجدت في أُور مسقط رأس إبراهيم.

١٨، ١٩ «١٨ لإِبْرَاهِيمَ مُلْكاً لَدَى عُيُونِ بَنِي حِثَّ بَيْنَ جَمِيعِ ٱلدَّاخِلِينَ بَابَ مَدِينَتِهِ. ١٩ وَبَعْدَ ذٰلِكَ دَفَنَ إِبْرَاهِيمُ سَارَةَ ٱمْرَأَتَهُ فِي مَغَارَةِ حَقْلِ ٱلْمَكْفِيلَةِ أَمَامَ مَمْرَا (ٱلَّتِي هِيَ حَبْرُونُ) فِي أَرْضِ كَنْعَانَ».

معنى هاتين الآيتين إن الأرض أي الحقل والمغارة صارت ملكاً شرعياً لإبراهيم ثابتاً بشهود كثيرة.

٢٠ «فَوَجَبَ ٱلْحَقْلُ وَٱلْمَغَارَةُ ٱلَّتِي فِيهِ لإِبْرَاهِيمَ مُلْكَ قَبْرٍ مِنْ عِنْدِ بَنِي حِثَّ».

راعوث ٤: ٧ إلى ١٠ وإرميا ٣٢: ١٠ و١١

فَوَجَبَ الخ في هذه الآية شبهة تناقض لقول استفانوس في سفر الأعمال (فانظر تفسير أعمال ٧: ١٦) ودفع الشبهة هناك. والمرجّح أن إبراهيم عند أول دخوله أرض كنعان لما بنى مذبحاً في شكيم ابتاع أرضاً لأجل ذلك حتى لا يقدم للرب مما لم يكلفه شيئاً كقول داود «لاَ أُصْعِدُ لِلرَّبِّ إِلٰهِي مُحْرَقَاتٍ مَجَّانِيَّةً» (٢صموئيل ٢٤: ٢٤).

السابق
التالي

 

زر الذهاب إلى الأعلى