سفر التكوين

سفر التكوين | 02 | السنن القويم

السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

شرح سفر التكوين 

للقس . وليم مارش

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي

في هذا الأصحاح مراجعة نبإ خلق آدم وحواء ونسبة ذلك إلى الفداء ووضع السبت وجنة عدن والزواج الطاهر مع البسط وزيادة الإيضاح.

والآيات الثلاث الأولى من هذا الأصحاح بمنزلة جزء من الأصحاح الأول وهي تتضمن القصد الإلهي منه لأن غاية نبإ الخلق في ستة أيام هو إظهار مباركة الله للسبت. وإثبان أنه فُرض للراحة. ولذلك نُسبت الراحة فيه إلى الذي لا يتعب ولا يعيي. ولهذه الغاية عينها وصف درجات الخَلق وعبّر عن مدّاته بالأيام. إن الله الخالق أكرم العمل الإنساني بوصف عمله في الخلق. والغاية من ذلك بيان مسرّة الله براحة الإنسان الأسبوعية وهذا النص أساس الوصية الرابعة. قال العلامة سميث إن الأكاديين حفظوا سبتاً ولكنهم قدسوه للشمس والقمر والسيارات الخمسة. ولا تزال أيام الأسبوع تُسمى في شمالي أروربا بأسماء آلهة الكسندنافيّين. وتلك الأسماء باقية لهذا العهد في اللغة الإنكليزية. فالأحد «سنداي» أي يوم الشمس. والاثنين «مونداي» أي يوم القمر. والثلاثاء «تويسداي» أي يوم وُدن إله الأبطال. والخميس «ثرسداي» أي يوم ثور إله الرعد. والجمعة «فريداي» أي يوم فريغا إله الزواج. والسبت «ساترداي» أي يوم ساترنس وهو زُحل أكبر آلهة اليونان والرومان.

وفي هذه النبإ الإلهي ما يحمل على الاحتراس من كل نوع من أنواع العبادة الوثنية وهو أن السبت رسم الله الأحد الضابط الكل.

١ «فَأُكْمِلَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ وَكُلُّ جُنْدِهَا».

تثنية ٤: ١٩ و١٧: ٣ ونحميا ٩: ٦ ومزمور ٣٣: ٦ وإشعياء ٣٤: ٤ و٤٥: ١٢ ومتّى ٢٤: ٢٩

أُكْمِلَتِ أي بُلغت الكمال بالتدريج. كان الله قادراً أن يُكمل عمل الخلق في يوم واحد ولكن الأدلة الظاهرة في تركيب طبقات الصخور والدفائن أي الحيوانات والنباتات المتحجرة فيها تثبت تقصي دهور كثيرة وإن أيام الخلق كانت مدات طويلة.

كُلُّ جُنْدِهَا الجند في الأصل العبراني (צבאם) (صبام) بالميم والأكثر في غير هذا الموضع (צבא) (صبا) بلا ميم.وجمعه (צבאות) (صباءوت) وجاءت هذه اللفظة بلا الميم في (نحميا ٩: ٦) ومعناها جمهور أو جيش عرمرم. وجاءت بمعنى جمهور الملائكة في قول ميخا «رَأَيْتُ ٱلرَّبَّ جَالِساً عَلَى كُرْسِيِّهِ وَكُلُّ جُنْدِ ٱلسَّمَاءِ وُقُوفٌ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ» (٢أيام ١٨: ١٨). وبمعنى كل أجرام السماء وقوات الأرض بناء على كثرتها ونظامها وتنوعها في قول إشعياء «يَدَايَ أَنَا نَشَرَتَا ٱلسَّمَاوَاتِ، وَكُلَّ جُنْدِهَا أَنَا أَمَرْتُ» (إشعياء ٤٥: ١٢). وقول الرسول «لَوْلاَ أَنَّ رَبَّ ٱلْجُنُودِ أَبْقَى لَنَا نَسْلاً الخ» (رومية ٩: ٢٩ انظر أيضاً إشعياء ٦: ٣ ونحميا ٩: ٦) وبمعنى كل المخلوقات في قول المرنم «بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ صُنِعَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَبِنَسَمَةِ فَمِهِ كُلُّ جُنُودِهَا» (مزمور ٣٣: ٦). وفي الترجمة السامرية «كل أجزائها» وفي السبعينية واللاتينية «كل زينتها». وفي بعض غيرهما «كل جيشها المنتظم». والمقصود كل شيء على حسب جنسه ونظامه وترتيبه.

تنبيه: نرى هنا من إكمال عمل الخلق أن الخالق وضع نواميس للطبيعة ومن ذلك الوقت لم يغير شيئاً في تلك النواميس. نعم إنه عمل أحياناً أعمالاً فوق الطبيعة لكنه لم يأتِ ما ينافي الطبيعة التي أسسها. إن نواميس الطبيعة ليست إلا طرقاً يجري فيها الخالق كل أعماله في المادة. ولا برهان على خلق أجناس جديدة بعد نهاية أسبوع الخلق الأصلي. إن الخلق كان تدريجياً لإظهار كل درجات العمل وترتيبها والغاية الإلهية فيها ولأجل تعليم الإنسان وإبهاج جنود السماء حين «َهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي ٱللهِ» (أيوب ٣٨: ٧).

٢ «وَفَرَغَ ٱللهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلسَّابِعِ مِنْ عَمَلِهِ ٱلَّذِي عَمِلَ. فَٱسْتَرَاحَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلسَّابِعِ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ ٱلَّذِي عَمِلَ».

خروج ٢٠: ١١ و٣١: ١٧ وعبرانيين ٤: ٤

فَرَغَ… مِنْ عَمَلِهِ أي من عمل الخلق الأصلي فقط بدليل قوله له المجد «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى ٱلآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ» (يوحنا ٥: ١٧). وقد سبق الكلام في أن الله أبدع نواميس طبيعية لم تزل جارية وهي تتقدم وتتغير بالنظر إلى الأحوال والإقليم. ففراغ الله من العمل في اليوم السابع لا يستلزم أن الله خلق شيئاً فيه فلا حامل على بدل السابع بالسادس كما في ترجمة السبعين. والراحة المنسوبة إلى الله كناية عن ذلك الفراغ لا لأنه جل وعلا تعب أو أعيا.

ٱلْيَوْمِ ٱلسَّابِعِ معنى السبعة الكمال والإتمام ولذلك دُعيت السبعة عدداً كاملاً. وعلى ذلك «سَجَدَ (يعقوب) إِلَى ٱلأَرْضِ سَبْعَ مَرَّاتٍ» (تكوين ٣٣: ٣). وكان الكاهن ينصح من الدم سبع مرات أمام الرب (لاويين ٤: ٦) وكانت الحيوانات الطاهرة التي دخلت الفلك سبعة سبعة (تكوين ٧: ٢). والبقرات والسنابل في حلم فرعون سبعة (تكوين ٤١: ٢ – ٧). ومدة كل من ستين الخصب والقحط سبعة (تكوين ٤١: ٢٦ – ٣٢). واحتفل اليهود باليوم السابع والسنة السابعة. وكانت السنة اليوبيلية سبع مرات سبع سنين. وذُكر في سفر الرؤيا سبع كنائس وسبع منائر وسبعة أرواح وسبعة ختوم وسبعة أبواق وسبعة رعود وسبعة جامات وسبع ضربات وسبعة ملائكة (انظر أيضاً ١صموئيل ٢: ٥ وأيوب ٥: ١٩ وأمثال ٢٦: ١٦ و١٥). ويدل قول الكتاب «سبع مرات» و «سبعة أضعاف» على الكثرة والتمام غالباً (تكوين ٤: ١٥ و٢٤). و «سبعون مرة سبع مرات» على كل الكمال (متى ١٨: ٢١ و٢٢).

إن في السبت الأول شيئاً خاصاً فإن الله الآب قصد فيه فداء الإنسان والله الابن تمم فيه ذلك الفداء والله الروح القدس جعل فيه عمل الفداء ذا تأثير في خلاص الناس.

٣ «وَبَارَكَ ٱللهُ ٱلْيَوْمَ ٱلسَّابِعَ وَقَدَّسَهُ، لأَنَّهُ فِيهِ ٱسْتَرَاحَ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ ٱلَّذِي عَمِلَ ٱللهُ خَالِقاً».

تثنية ٥: ١٢ و١٤ ونحميا ٩: ١٤ وإشعياء ٥٨: ١٣

وَبَارَكَ ٱللهُ ٱلْيَوْمَ ٱلسَّابِعَ هذا اليوم الوحيد الذي باركه الله فميّزه بأن فضّله على غيره من أيام الأسبوع وعيّنه لغاية مقدسة (انظر الوصية الرابعة).

كانت بداءة حفظ السبت الرسمي في أيام موسى (خروج ٣١: ١٣ – ١٧ و٣٥: ٢) ولكن كانت بداءة مباركة الله السبت وتقديسه إياه قبل قطع عهد مع الإنسان. فلنا من ذلك أن الراحة الأسبوعية فرض إلهي عام دائم مستقل عن الناموس الموسوي الرمزي. والسبب المضاف إلى الوصية الرابعة دليل قاطع على أن علة تعيين السبت للراحة استراحة الرب من عمل الخلق في اليوم السابع. فالراحة الأسبوعية من الفروض الإلهية وهبة الله للإنسان في كل العصور إلى نهاية العالم. وهو يوم واحد من سبعة موقوف للراحة الجسدية والعقلية والخدمة الروحية كالعبادة والتسبيح. والسبت كما قال المسيح في كلامه عليه جُعل للإنسان ويجوز فيه أعمال الرحمة والأعمال الضرورية. ولفظة «أُذكر» في أول الوصية الرابعة دليل على فرض السبت راحة قبل تلك الأيام. ولولا ذلك لقال احفظوا يوماً من السبعة. وقوله «لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض الخ… لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه» يثبت أيضاً كون هذه الراحة الأسبوعية على كل بني آدم (راجع تاريخ العهد القديم صفحة ١٣١).

وحفظ يوم واحد من الأسبوع ضروري لأمور:

  • الأول: إنه موافق لنظام الإنسان والحيوان الطبيعي للاحتياج إلى الاستراحة من العمل كل سبعة أيام وقد ثبت ذلك بالامتحانات المتوالية في المعامل والمصانع في البلاد المتمدنة.
  • الثاني: إنه أفضل منحة للإنسان بالنظر إلى مصالحه الاجتماعية بل إنه حجر الأساس في كل نظام المجتمع الإنساني وأحسن وسيلة إلى حفظ الشرائع المدنية الأدبية وتأييدها وبدونه يقوى الكفر وتكثر الجرائم وينحطّ العالم الأدبي ويسرع إلى الدمار.
  • الثالث: إن الاستراحة في اليوم السابع لا غنى عنها لحفظ نفع الإنسان الروحي وترقيته. إن الله فرض ذلك اعتناء بخلاص الناس لأنه يدعوهم في ذلك اليوم أفراداً وإجمالاً إلى عبادته وتمجيده بأعماله في الخلق والعناية والنعمة وإلى قراءة كتابه والاشتراك في عبادته وحفظ فرائض كنيتسه وأسرارها وإبقائها في العالم على حسب عهد نعمته. فحفظ يوم الراحة من مقتضيات حفظ المعرفة لله في كل الأرض ولذلك حاول الكفرة والملحدون والمعطلون في كل العصور إلغاءه كما كان في تشرين الأول من سنة ١٧٩٣ أيام الانقلاب الفرنسي.
  • الرابع: إن السبت كان أول يوم تقضى على الإنسان في الأرض أي أن أول يوم على أثر خلقه كان اليوم السابع. واليوم الأول من كل أسبوع هو السبت المسيحي الآن حتى يجد الإنسان اليوم كما وجد في البداءة الراحة والسلام في يسوع المسيح ثم يخرج إلى أعمال الأسبوع متبهجاً به شاكراً له.
  • الخامس: إن لكل من النظم الثلاثة الأبوي والموسوي والمسيحي سبتاً. كان السبت قبل الشريعة الموسوية ولم يُبطل بإبطال الرموز والرسوم الموسوية اللاوية وذلك لأن يوم الراحة فُرض لكل الأزمنة والشعوب وهو ضروري لنا كما كان للآباء الأولين.
  • السادس: إن تقسيم الوقت إلى أسابيع كان من عمل الله وأمره فالناس كلهم مكلفون به في كل عصر ولذلك كرر الأمر بحفظ اليوم السابع أي سُبع الوقت في الوصية الرابعة فهو من المبادئ الأدبية الأبدية التي لا تتغير ولا تُبطل. قال المسيح «ٱلسَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ ٱلإِنْسَانِ» (مرقس ٢: ٢٧).
  • السابع: إن يوم الراحة وهو اليوم السابع بُدل بالأحد بناء على ما أتاه المسيح ورسله. وفي العهد القديم إشارة إلى هذا البدل فإن اليوم الذي بعد السبت كان يوم فرائض مقدسة ويوم تقديم الباكورات للرب (١كورنثوس ١٥: ٢٠ ولاويين ٢٣: ١١ ويوحنا ٢٠: ٢١ و١٩: ٢٦ وأعمال ٢٠: ٧ و١كورنثوس ١٦: ٢ ورؤيا ١: ١٠).
  • الثامن: إن علة تعيين اليوم السابع يوم راحة ليس بأمر فلكي كالشهر المبني على حركات القمر والسنة المبنية على دوران الأرض حول الشمس فتقسيم الوقت إلى أسابيع لا يمكن التعليل عنه إلا بأنه كان بأمر الله وفرضه.
  • التاسع: إن وجود يوم مقدس أسبوعي بين الأمم لم ينشأ إلا من التعيين الإلهي الأصلي. فالمجوس ووثنيو الهند وألمانيا قدسوا اليوم السابع. ودعا هوميروس الشاعر اليوناني وهسيودس وكاليماخس اليوم السابع مقدساً. وقال لوسيانس الروماني إن اليوم السابع كان يوم عطلة لأولاد المدارس. وقال يوسيبيوس حسب أكثر الفلاسفة والشعراء اليوم السابع مقدساً. وقال برفيريوس إن الفينيقيين قدسوا يوماً واحداً من السبعة. ومثلهم المصريون والأشوريون والبابليلون والصينيون وبعض القبائل في أوساط إفريقية ولا يمكن أن تكون علة ذلك إلا أمر الله في البدء.
  • العاشر: إن اليوم السابع يوم راحة فاستراحة الإنسان كل يوم سابع ضرورية له كما أن راحة الليل ضرورية له بعد تعب النهار. وراحة أيام الشتاء ضرورية للنبات بعد النمو والإزهار والإثمار. فيوم الراحة ضروري لصحة الإنسان الجسدية والروحية والعقلية.

ٱسْتَرَاحَ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ ٱلَّذِي عَمِلَ ٱللهُ خَالِقاً (وفي الحاشية الذي خلق الله عاملاً). هذا تكرار ما سبق للتقرير والمعنى إن الله فرغ من عمل الخلق الأصلي ومن كل أعماله في الأيام الستة ومن تدبير ما خلقه عدّة للإنسان.

وليس لليوم السابع من مساء فيُظن أن كل المدة من اليوم السادس إلى نهاية العالم هو اليوم السابع الإلهي أي مدة كف الله عن الخلق من العدم.

التواليد

(وهي في العبرانية توليدوت أي تواليد أو مواليد وهي اثنان الأول مواليد السموات والأرض والثاني مواليد آدم انظر ص ٥).

٤ «هٰذِهِ مَبَادِئُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ حِينَ خُلِقَتْ، يَوْمَ عَمِلَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَاوَاتِ».

ص ١: ١

هٰذِهِ مَبَادِئُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ حِينَ خُلِقَتْ المبادئ هنا التواليد وهي تشغل هذه الآية وما بعدها إلى (ص ٤: ٢٦). فسفر التكوين بعد ما في أوله إلى هذه الآية يُقسم إلى عشرة أقسام بعضها طويل وبعضها قصير وتُسمى في العبرانية «توليدوت» أي تواليد أو مواليد. وعلى هذا سمى متى البشير إنجيله «كتاب ميلاد يسوع المسيح» (متى ١: ١). وليس معنى هذا جدول سلف الإنسان بل جدول خلَفه ونسله ومعناه بالنظر إلى السموات والأرض ما عقب الخلف وخلفه.

الأقسام العشرة

  • الأول: تواليد السموات والأرض (ص ٢: ٤).
  • الثاني: مواليد آدم (ص ٥: ١).
  • الثالث: مواليد نوح (ص ٦: ٩).
  • الرابع: مواليد بني نوح (ص ١٠: ١).
  • الخامس: مواليد سام (ص ١١: ١٠).
  • السادس: مواليد تارح (ص ١١: ٢٧).
  • السابع: مواليد إسماعيل (ص ٢٥: ١٢).
  • الثامن: مواليد إسحاق (ص ٢٥: ١٩).
  • التاسع: مواليد عيسو (ص ٣٦: ١).
  • العاشر: مواليد يعقوب (ص ٣٧: ٢).

وفي هذه الأقسام العشرة ما يدل على أنها من أصول مختلفة جمعها موسى ورتبها بإرشاد الروح القدس وإلهامه. ولا مانع من أن يكون بعضها وصل إليه من أخنوخ ونوح وسام وإبراهيم ويعقوب ويوسف وإنها كانت محفوظة من عصر إلى عصر. فإن قيل لم تكن الكتابة معروفة في تلك الأعصار فلم يكن من تاريخ قلنا اكتُشف في آثار مدينة أرك التي هي أور الكلدانيين عدد وافر من الألواح القرميدية والأساطين عليها كتابة حجج وأخبار وصكوك إيجار ورُقُم وسجلات تدل على درجة عالية من التمدن. وهي قبل الميلاد بأكثر من ألفي سنة أي قبل عصر إبراهيم. ووُجد أيضاً كتابات على ورق البردي كورق مصر في العصور الخالية. فلا يبعد أن إبراهيم أخذ معه من أُور مكتوبات وتواريخ صحيحة كتبها رجال الله من نسل شيت وسام وسلمها إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب. ولعل يوسف جمعها في كتاب وصل إلى يد موسى. وهذا يوضح لنا أصل أسفار المواليد العشرة. وأما الأصحاح الأول فلا يمكن بيان أصله إلا بوحي الله الخاص لأنه نبأ الخلق الذي يستحيل أن تُعرف حوادثه بدون وحي الله.

يَوْمَ عَمِلَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ معنى «يوم» هنا مدة الأيام الستة الأولى. وهذا دليل على أن اليوم في الأصحاح الأول لا يعني بالضرورة مدة أربع وعشرين ساعة لأن اللفظة نفسها تعني هنا كل الزمان السابق من بدء الخلق. وفي الأصحاح الأول تاريخ العالم بالإجمال. وأما الأصحاح الثاني فهو تاريخ العالم بالنسبة إلى الإنسان وتاريخ الإنسان بالنسبة إلى الخلاص بالفداء. وفي الآيتين الخامسة والسابعة مراجعة عمل اليومين الثالث والسادس. وأما الآية الرابعة فيجوز أن تكون ملحقاً للأصحاح الأول وأن تكون مقدمة للأصحاح الثاني لأنها متعلقة بالاثنين.

ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ «يهوه إلوهيم» (انظر تفسير ص ١: ١ وتاريخ العهد القديم صفحة ١٢٩). ذِكر «يهوه» في بداءة هذا القسم أي توليد السموات والأرض يشير إلى بداءة تاريخ الفداء وأن الله هو رب الفداء أي رب العهد الجديد الذي هو عهد الخلاص الذي كان يتوقع أن يتم بواسطة المخلص الآتي.

٥ «كُلُّ شَجَرِ ٱلْبَرِّيَّةِ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ فِي ٱلأَرْضِ، وَكُلُّ عُشْبِ ٱلْبَرِّيَّةِ لَمْ يَنْبُتْ بَعْدُ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ ٱلإِلٰهَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَمْطَرَ عَلَى ٱلأَرْضِ، وَلاَ كَانَ إِنْسَانٌ لِيَعْمَلَ ٱلأَرْضَ».

ص ١: ١٢ ومزمور ١٠٤: ١٤ أيوب ٣٨: ٢٦ إلى ٢٨ ع ١٥ وص ٣: ٢٣ و٤: ٢ و١٢ وتثنية ٣٨: ٣٩

هذه الآية تكرار نبإ ما خُلق في اليوم الثالث تمهيداً لخبر غرس الرب جنة عدن. ونعلم من الجيولوجيا أن هذا النبأ صحيح منطبق كل الانطباق على الواقع لأنه لما كانت الأرض حامية إلى حد لا يوجد فيها عنده ماء إلا في الهيئة البخارية لم يكن من نبات طبعاً. إن المطر أخذ يهطل في اليوم الثاني وفي الثالث انكشفت الأبخرة فكانت البحار. وفي هذا اليوم عينه أخذ النبات الأخضر يكسو وجه الأرض الجاف. وليست غاية موسى من إعادة نبإ تكوين النبات في هذه الآية نبأ الخلق الأصلي (ص ١: ١٢) بل إيضاح نسبة الإنسان إلى يهوه أي الرب فلذلك اقتصر على ذكر كل ما مضى من أعمال الخلق كأنها كانت في يوم واحد.

٦ «ثُمَّ كَانَ ضَبَابٌ يَطْلَعُ مِنَ ٱلأَرْضِ وَيَسْقِي كُلَّ وَجْهِ ٱلأَرْضِ».

أيوب ٣٨: ٩

ثُمَّ كَانَ ضَبَابٌ الخ «لأَنَّهُ يَجْذِبُ قَطَرَاتِ ٱلْمَاءِ. تَسُحُّ مَطَراً مِنْ ضَبَابِهَا» (أيوب ٣٦: ٢٧). ومعنى ذلك إن أصل المطر من الضباب كما نرى باختبارنا. وقد علمنا من نبإ الأصحاح الأول أنه كانت مدّات طويلة بين المطر الأول وخلق الإنسان وإنه في كل تلك المدّات خُلقت أجناس متوالية من الحيوانات كل منها موافق لأحوال العالم في زمانه. ولكن في هذه الآية تكرار ثلاث حوادث بالإيجاز الأولى حلول الضباب حول الأرض وكون ذلك مانعاً من وجود الإنسان. والثانية انقشاع الأبخرة وإعداد الأرض للإنسان. والثالثة خلق الإنسان.

٧ «وَجَبَلَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ آدَمَ تُرَاباً مِنَ ٱلأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً».

ص ١: ١٤ و٢٧ و٣: ١٩ و٢٣ وأيوب ٣٣: ٦ ومزمور ١٠٣: ١٤ وجامعة ١٢: ٧ و١كورنثوس ١٥: ٤٧ أيوب ٣٣: ٤ و زكريا ١٢: ١ وأعمال ١٧: ٢٥ ص ٧: ٢٢ وأيوب ٢٧: ٣ وإشعياء ٢: ٢٢ و١كورنثوس ١٥: ٤٥

في هذه الآية نبأ خلق الإنسان بالنظر إلى تاريخه الأدبي.

وَجَبَلَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ آدَمَ تُرَاباً مِنَ ٱلأَرْضِ وجاء في الآية السابعة والعشرين من الأصحاح الأول «فخلق الله الإنسان على صورته» إشارة إلى خلق روح الإنسان على صورة الله. وكرر القول «على صورة الله خلقه» ولكن إذ كان المقصود في تلك الآية الجنس الإنساني في الجنسين الذكر والأنثى لا آدم وحده زاد قوله «ذكراً وأنثى خلقهم» والمقصود في الآية هنا تركيب جسد الإنسان فقط في نظامه ومكانه ومهنته ولذلك قال «جبَل» أي صاغ أو صوّر التراب إنساناً ليُعرف من أي شيء كان جسد الإنسان. وليس بين النبأين من منافاة فهما على تمام الوفاق. وليس الكلام مجرد التكرار فإنه نبأ جديد لتكملة النص الإلهي. وذُكر هنا الإنسان آدم لإظهار تركيب جسده من تراب الأرض. فإنه لم يقل جبله من ذهب أو ألماس بل من التراب الذي لا قيمة له. ومعنى آدم تراب أحمر لأنه منه جبل الإنسان وبه يشتغل ويعمل ومنه يحصل على أسباب المعاش. قال كلوينس «ليفتخر الجهال بعد هذا النبإ بفضل طبيعتهم». قد عرفنا من علم الكيمياء أن العناصر التي رُكبت منها الصخور والأتربة والمياه والمعادن هي عينها التي رُكب منها لحم الإنسان وعظامه ودمه وكل جسده. وجاء في سفر أيوب «أَنَا أَيْضاً مِنَ ٱلطِّينِ جُبِلْتُ» (أيوب ٣٣: ٦). وجاء في الجامعة «فَيَرْجِعُ ٱلتُّرَابُ إِلَى ٱلأَرْضِ كَمَا كَانَ» (جامعة ١٢: ٧). وفي أيوب أيضاً «اُذْكُرْ أَنَّكَ جَبَلْتَنِي كَٱلطِّينِ. أَفَتُعِيدُنِي إِلَى ٱلتُّرَابِ» أيوب ١٠: ٩) وقال بولس «ٱلإِنْسَانُ ٱلأَوَّلُ مِنَ ٱلأَرْضِ تُرَابِيٌّ» (١كورنثوس ١٥: ٤٧). فما أدنى أصل الإنسان وما أكثر أسباب اتضاعه أمام الله لكنه امتاز عجباً في تركيب جسده وقوة عقله (مزمور ١٣٩: ١٤).

وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ فالحياة البشرية لم تنشأ عن تركيب الإنسان الجسدي ولا عن الارتقاء من حيوان أدنى منه فإنها مبدعة أبدعها الله رأساً. وليس المقصود أن الله جبل الطين وصيّره جسداً ميتاً ثم نفخ فيه الحياة بل إنه نفخ في أنفه نسمة حياة عند خلقه. وهذا النفخ لم يكن لغير الإنسان من الحيوان ولهذا كان فيه ما يميزه عن سائر الحيوان. و «نسمة حياة» في العبرانية «نسمة حييم» وهي لم تذكر في غير هذه الآية. وهذه النسمة ليست هي الروح العامة. قال أوبرلين «إن النسمة هي الروح في حال الحركة العاقلة». وأطلقت كلمة «روح حياة» على الحيوانات التي دخلت الفلك اثنين اثنين (تكوين ٦: ١٧ و٧: ١٥). وأما قوله «كل ما في أنفه نسمة حياة» فهو تغليبي أُطلق على الإنسان وسائر الحيوان وغلب جانب الإنسان لأنه الأعلى. وقال اليكوت عبارة «نسمة حياة» لا تشير إلى طبيعة الإنسان الروحية إذ ورد «كُلِّ دَبَّابَةٍ عَلَى ٱلأَرْضِ فِيهَا نَفْسٌ حَيَّةٌ» (ص ١: ٣٠). وجاء «زَحَّافَاتٍ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ» (ع ٢٠). و «لِتُخْرِجِ ٱلأَرْضُ ذَوَاتِ أَنْفُسٍ حَيَّةٍ» (ع ٢٤) أي حياة الناس والحيوانات الطبيعية التي تقوم بالتنفس وتناول الأكسجين من الهواء. وإن فضل الإنسان على الحيوان إنما هو من كيفية منح الله إياه هذه الحياة لا من انه نفس حية.

وفي هذا مجاز إذ نسب فيه إلى الله أعمال وحركات إنسانية. ففي الأصحاح الأول الذي هو ملخص تاريخ الخلق إن الله (إلوهيم) أمر فصار وفي المكرر هنا إن الله جبل وبنى ونفخ وإنه رفيق الشخص الذي خلقه وصديقه. وبهذا ظهرت محبة الله الذي أعد للإنسان وطناً وخلق له آنسةً به معينة له وشريكة في أفراحه وأحزانه وإنه تعالى سرّ بمواهب الإنسان العقلية وأحضر أمامه كل أجناس الحيوان ليسمي كلاً منها. وكسا الساقطين على أثر سقوطها ثياباً موافقة. وهذا النبأ في غاية البساطة والوضوح لكنه يتضمن تعليماً ونفعاً لكل الناس في كل الأزمنة لأنه ينبئ بمحبة الله للإنسان وسمو صفاته تعالى وعلوه على كل المخلوقات وإنه الخالق الضابط الكل «يهوه إلوهيم» هو نفسه صديق المخلوق العقلي الذي منحه هو عقلاً وإرادة واختياراً.

٨ «وَغَرَسَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ جَنَّةً فِي عَدَنٍ شَرْقاً، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ ٱلَّذِي جَبَلَهُ».

ص ١٣: ١٠ وإشعياء ٥١: ٣ وحزقيال ٢٨: ١٣ ويوئيل ٢: ٣ خروج ٢٧: ٢٣ و٢٨: ١٣ ع ١٥

وَغَرَسَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ جَنَّةً أي فردوساً.

فِي عَدَنٍ شَرْقاً (انظر تاريخ العهد القديم صفحة ١٤٣). ليس في القسم الشرقي من عدن كما يتبادر إلى الذهن بل في بلاد عدن التي هي شرقي الموضع الذي كتب فيه مؤلف سفر التكوين. ومعنى «عدن» مسرة وبهجة فجاء في سفر الملوك الثاني «وَبَنِي عَدَنَ ٱلَّذِينَ فِي تَلاَسَّارَ» (٢ملوك ١٩: ١٢). وجاء في نبوءة إشعياء «َيَجْعَلُ بَرِّيَّتَهَا كَعَدَنٍ وَبَادِيَتَهَا كَجَنَّةِ ٱلرَّبِّ. ٱلْفَرَحُ وَٱلٱِبْتِهَاجُ يُوجَدَانِ فِيهَا» (إشعياء ٥١: ٣). وفي نبوءة حزقيال «حُرَّانُ وَكِنَّةُ وَعَدَنُ» (حزقيال ٢٧: ٢٣). وفي نبوءة عاموس «َأَقْطَعُ ٱلسَّاكِنَ مِنْ بُقْعَةِ آوِنَ، وَمَاسِكَ ٱلْقَضِيبِ مِنْ بَيْتِ عَدَنٍ» (عاموس ١: ٥).

وموقع عدن مجهول والآراء فيه كثيرة مختلفة والظاهر أن الفردوس كان شرقي الأرض المقدسة غربي أسيا. ولعله كان عند مخرج نهر الفرات ودجلة جبال أرمينية أو بين شعب هذين النهرين. ومعنى جنة «فردوس» كما ذكرنا أو حديقة أو بستان مسور فصله عن سائر بلاد عدن غرس فيه أنواع الأشجار لنباتات المناسبة للإنسان الصالحة أن تكون له طعاماً لذيذاً. وأُطلق الفردوس في العهد الجديد على السماء (٢كورنثوس ١٢: ٤) فإن بولس اختُطف إلى الفردوس أي إلى السماء الثالثة.

وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ ٱلَّذِي جَبَلَهُ (انظر ع ١٥) «وَأَخَذَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدَنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا» وهذا لا يستلزم آدم خُلق خارج الجنة ثم حُمل إليها بل إن الجنة أُعدت له عند خلقه.

٩ «وَأَنْبَتَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ مِنَ ٱلأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكْلِ، وَشَجَرَةَ ٱلْحَيَاةِ فِي وَسَطِ ٱلْجَنَّةِ، وَشَجَرَةَ مَعْرِفَةِ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ».

ص ١: ١٢ حزقيال ٣١: ٨ ص ٣: ٢٢ وأمثال ٣: ١٨ و١١ ورؤيا ٢: ٧ و٢٢: ٢ و١٤ ع ١٧ وص ٣: ٥

في هذه الآية إعادة الأنباء بما عُمل في اليوم الثالث في زيادة ذِكر الشجرتين وذلك لأن الإنسان وُضع في هذه الجنة لامتحانه وكان محاطاً بكل أنواع المشتهيات واللذات.

شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ ظل الأشجار الكثيفة مما يلذ كل بشر به ويشتهيه وذُكر هنا قبل ذكر أنها طعام نافع. يظهر من هذا النبإ إن الله بجودته أعد للإنسان في الفردوس كل نوع من اللذّات وكل ما تشتهيه نفسه حتى لا يكون له عذر في طلبه أكثر مما أُعطي فما أعجب كفر الإنسان بالنعمة وتعديه شريعة الله التي لم تمنعه عن سوى شجرة واحدة وهي شجرة معرفة الخير والشر.

شَجَرَةَ ٱلْحَيَاةِ قال بعضهم أنه كان لهذه الشجرة خاصة تجديد قوى الإنسان الجسدية حتى أنه مع كون جسده قابلاً للفناء لأنه من تراب الأرض لو تناول من هذه الشجرة لعاش إلى الأبد بدليل قوله «لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ ٱلْحَيَاةِ أَيْضاً وَيَأْكُلُ وَيَحْيَا إِلَى ٱلأَبَدِ» (تكوين ٣: ٢٢). وذهب بعضهم إلى أن هذه الشجرة الدائمة الخضرة والنضارة كانت رمزاً إلى الحياة الأبدية الموعود بها آدم بشرط الطاعة الكاملة وإن أبوينا الأولين كانا يتناولان منها كأنها سر مقدس مدة برهما الأصلي وإنها كانت رمزاً إلى المسيح أيضاً «فِيهِ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ، وَٱلْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ ٱلنَّاسِ» (يوحنا ١: ٤). وهو الذي فيه الشجرتان شجرة الحياة وشجرة المعرفة بأثمارهما المباركة. والحكمة «هِيَ شَجَرَةُ حَيَاةٍ لِمُمْسِكِيهَا، وَٱلْمُتَمَسِّكُ بِهَا مَغْبُوطٌ» (أمثال ٣: ١٨). وهي «ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ» (يوحنا ١٤: ٦). و «القيامة والحياة» (يوحنا ١١: ٢٥). وجاء في سفر الرؤيا إن يوحنا رأى شجرة الحياة التي فُقدت بالسقوط وذلك قوله «وَعَلَى ٱلنَّهْرِ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَاكَ شَجَرَةُ حَيَاةٍ تَصْنَعُ ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ ثَمَرَةً، وَتُعْطِي كُلَّ شَهْرٍ ثَمَرَهَا، وَوَرَقُ ٱلشَّجَرَةِ لِشِفَاءِ ٱلأُمَمِ». وقال «طُوبَى لِلَّذِينَ يَصْنَعُونَ وَصَايَاهُ لِكَيْ يَكُونَ سُلْطَانُهُمْ عَلَى شَجَرَةِ ٱلْحَيَاةِ» (رؤيا ٢٢: ٢ و١٤). وفي نبوءة حزقيال ما نصه «وَعَلَى ٱلنَّهْرِ يَنْبُتُ عَلَى شَاطِئِهِ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَاكَ كُلُّ شَجَرٍ لِلأَكْلِ، لاَ يَذْبُلُ وَرَقُهُ وَلاَ يَنْقَطِعُ ثَمَرُهُ. كُلَّ شَهْرٍ يُبَكِّرُ لأَنَّ مِيَاهَهُ خَارِجَةٌ مِنَ ٱلْمَقْدِسِ، وَيَكُونُ ثَمَرُهُ لِلأَكْلِ وَوَرَقُهُ لِلدَّوَاءِ» (٤٧: ١٢). إن كلا من شجرتي الحياة والمعرفة تجاه الأخرى والأكل من الأولى حياة والأكل من الثانية موت. وكما أنه لكل عهد جزءان الوعد والتكليف هكذا كان لنا سران أحدهما علامة وختم للشيء الموعود به والآخر ختم وعلامة للمطلوب أو المكلف به. فشجرة الحياة أعلنت وختمت الحياة الموعود بها وشجرة المعرفة أعلنت وختمت الطاعة المطلوبة التي امتحنت بنهي الله.

قال بعضهم ليس في أسفار موسى من إشارة إلى خلود النفس ولكن الإشارة إلى ذلك هنا في غاية الوضوح.

فِي وَسَطِ ٱلْجَنَّةِ أي في داخلها لا في مركزها.

شَجَرَةَ مَعْرِفَةِ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ يُظن إن هذا الاسم دُعيت الشجرة به بعد السقوط لأنه قبل السقوط لم يكن أبوانا الأولان قد عرفا الشر وما كانا يستطيعان معرفته بمجرد النمو العقلي لأن ذلك إما بالشعور بالخطإ وإما بمشاهدته في آخر.

قال بوش سُمّيت معرفة الخير والشر لأن آدم بأكله منها عرف الخير بفقده له والشر باختباره إياه. وقال فرنكا هذه المعرفة هي إدراك الفرق بين الخير والشر لا المعرفة بالاختبار. وقال بن سمث هذه الشجرة هي المنهي عنها في قوله «وَأَمَّا ثَمَرُ ٱلشَّجَرَةِ ٱلَّتِي فِي وَسَطِ ٱلْجَنَّةِ فَقَالَ ٱللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا» (ص ٣: ٣) وإنه لم يكن لهما أن يحصلا على هذه المعرفة السامية بدون مخالفة أمر الله. وقال جاكوبوس إن هذه الشجرة رمز إلى المعرفة الإلهية التي لا يجوز للإنسان أن يشتهيها لأنه لا يحيا باتباع رأي نفسه ومشورتها بل بالإيمان وبإخضاع عقله وإرادته لله. وكان الشر قد دخل قبل ذلك بسقوط بعض الملائكة فلم يرد الله أن يعرف الإنسان الشر. وليس لهذه الشجرة من ذكر في موضع آخر من الكتاب المقدس لأنها أتمت غايتها في الجنة أذ وُضعت لامتحان الإنسان أيخضع لله أم لا وبرفضه هذا الخضوع سقط هو نسله على توالي العصور تحت اللعنة. «وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ» (رومية ١: ٢٢). «وهذا الروح هو روح ضد المسيح» (٢تسالونيكي ٢: ٤). «إنه يجلس في هيكل الله كإله مظهراً نفسه أنه إله» ولذلك أقيم الكروبيم (وهم ملائكة المعرفة) ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة.

١٠ «وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدَنٍ لِيَسْقِيَ ٱلْجَنَّةَ، وَمِنْ هُنَاكَ يَنْقَسِمُ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ رُؤُوسٍ».

وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدَنٍ لِيَسْقِيَ ٱلْجَنَّةَ كان ذلك النهر في أرض عدن وكان يجري في الجنة ثم يخرج منها وينقسم إلى أربعة أنهر رئيسية أو بمنزلة الرؤوس وفي العبرانية «راشيم».

١١، ١٢ «١١ اِسْمُ ٱلْوَاحِدِ فِيشُونُ، وَهُوَ ٱلْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ ٱلْحَوِيلَةِ حَيْثُ ٱلذَّهَبُ. ١٢ وَذَهَبُ تِلْكَ ٱلأَرْضِ جَيِّدٌ. هُنَاكَ ٱلْمُقْلُ وَحَجَرُ ٱلْجَزْعِ».

ص ١٠: ٢٩ و٢٥: ١٨ و١صموئيل ١٥: ٧ عدد ١: ٧ خروج ٢٥: ٧ و١٨: ٩ و٢٠

اِسْمُ ٱلْوَاحِدِ فِيشُونُ معنى فيشون الفائض أو الجاري بعنف وموقعه مجهول. وأما الفرات ودجلة فمعروف مخرج كل منهما ومواقعه. ويرجّح أن مخرج كل من النهرين الآخرين في جبال أرمينية. ولعل فيشون هو نهر فاسس أو هاليس الجاري من جبال أرمينية إلى البحر الأسود المار بكنخيس بلاد الذهب.

أَرْضِ ٱلْحَوِيلَةِ كانت الحويلة على ما يرجّح في القسم الشمالي الشرقي من بلاد العرب (انظر تاريخ العهد القديم صفحة ١٤٧ و١٤٨) وكانت حويلة من أبناء كوش. وفي (ع ١٣) إن نهر حيجون يحيط بأرض كوش والظاهر إن هذا الاسم أُطلق على غير بلاد واحدة. وإذا صح أن الحويلة كلخيس شرقي البحر الأسود كانت بلاد كوش أيضاً قبيلة الحويلي الأكسوسيين قرب ميديا وبحر قزيين لأن قبيلة الحويلي الساكنة بين قزيين ونهر فلكا حفظت اسم الحويلة ويسمى أهل تلك البلاد إلى اليوم بحر قزيين ببحر خويلنسكي.

حَيْثُ ٱلذَّهَبُ يوجد الذهب في الجبال التي شرقي البحر الأسود.

ٱلْمُقْلُ وَحَجَرُ ٱلْجَزْعِ المقل الكندر الذي يتدخن به اليهود وصمغ شجرة ومنه هندي وعربي وصقلي والكل يتداوى به (محيط المحيط). وظنه بعضهم نوعاً من اللؤلؤ. وفي تذكرة داود الضرير الأنطاكي ما معناه المقل عند الإطلاق يراد به صمغه وإنه شجر كالكندر والجزع هو الخرز اليماني فيه سواد وبياض تشبه به العيون (محيط المحيط). وفي قاموس الدكتور بوست «حجر كريم يُرى فيه عدة ألوان مرتبة في خطوط متوازية وكان ثميناً جداً». وفي عجائب المخلوقات للقزويني «قال أرسطو هو حجر ذو ألوان كثيرة يؤتى به من اليمن أو الصين». وفي تذكرة أُلي الألباب ما نصّه «هو حجر مشطب فيه كالعيون بين بياض وصفرة وحمرة وسواد».

١٣ « وَٱسْمُ ٱلنَّهْرِ ٱلثَّانِي جِيحُونُ. وَهُوَ ٱلْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ كُوشٍ».

إشعياء ١٨: ١ وإرميا ١٣: ٢٣ وحزقيال ٢٠: ١٠ وصفنيا ٣: ١٠

وَٱسْمُ ٱلنَّهْرِ ٱلثَّانِي جِيحُونُ. وَهُوَ ٱلْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ كُوشٍ معنى جيحون الماء المنفجر أو انفجار المياه ظنه بعضهم نهر الأكسوس الجاري إلى الشمال الشرقي من بلاد أرمينية إلى بحر قزيين. ورأى العلامة سيس الشهير أنه نهر أركسيس الجاري غرباً من أرض بابل إلى برية كوش في العربية ولا يمكننا أن نعيّنه تمام التعيين. وذُكرت أرض كوش في نبوءة إشعياء (إشعياء ١٨: ١) و أهلها في نبوءة إرمياء (إرميا ١٣: ٢٣).

١٤ «وَٱسْمُ ٱلنَّهْرِ ٱلثَّالِثِ حِدَّاقِلُ. وَهُوَ ٱلْجَارِي شَرْقِيَّ أَشُّورَ. وَٱلنَّهْرُ ٱلرَّابِعُ ٱلْفُرَاتُ».

دانيال ١٠: ٤ ص ١٠: ١١ و٢٢ و٢٥: ١٨ وإشعياء ٧: ٢٠ و٨: ٧ ص ١٥: ١٨ وتثنية ١: ٧ وإرميا ٢: ١٨ و٤٦: ٢

نَّهْرِ حِدَّاقِلُ… ٱلْفُرَاتُ اسم حداقل اليوم دجلة والفرات باق على اسمه القديم. و «حدّ» في لغة الأكاديين نهر و «داقل» سهم. ومعناه في العبرانية خفة وسرعة. ويسمى في السريانية دكلات ودجلات وفي العربية دجلة وهو الفاصل بين أشور وما بين النهرين وينابيعه الغربية في أسيا الصغرى قرب ينابيع الفرات ونهر أركس وهاليس وتجتمع فروعه قرب ديار بكر وينابيعه الشرقية في كردستان يجري بعد مروره بالجبال في مضيق عميق إلى سهل أشور. وعرضه عند الموصل نحو ٣٠٠ قدم إلا أنه يفيض في الشتاء فيمتد إلى كل جانب وقد يكسر القوارب. ولهذا النهر فروع ذات شأن تتفرغ قبل مروره بالموصل وبعده. منها الزاب الأكبر والزاب الأصغر وفيه عدة مدافع (أي شلالات) ويتسع قرب بغداد فينتهي عرضه إلى ست مئة قدم وعمقه في بعض المواضع عشرون قدماً. وطول دجلة من ينبوعه إلى ملتقاه بالفرات ١١٤٦ ميلاً.

والفرات معناه الطامي في العبرانية ولفظه في لغة الأكاديين يرات ومعناه المقدس أو المعوج. وهو أكبر نهر في غربي أسيا طوله ١٦٨٠ ميلاً تجري فيه السفن الكبرى سبعين ميلاً إلى البصرة وتجري فيه الصغرى التي تحملها أربع أقدام من الماء ١٩٧ ميلاً إلى ديره وله مخرجان أحدهما شمالي جبل أرارط فيجري إلى الجنوب الغربي ثم الشرقي على حدود سورية ولكون مجراه أعلى مجرة دجلة يسهل جريانه شرقاً إلى دجلة. وذُكر هذا النهر في العهد القديم كثيراً وفي سفر الرؤيا ودُعي في نحو ٢٦ آية «النهر» بالتعريف تفصيلاً ودُعي في (تكوين ١٥: ١٨) «النهر الكبير».

١٥ «وَأَخَذَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدَنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا».

ع ٨ ع ٥

عاد الكاتب هنا إلى ما ذُكر في (ع ٨) من أنه وضع هناك آدم الذي جبله ففرغ من وصف الجنة وأخذ هنا في نبإ تعيينه سكنه في الجنة وخدمته وامتحانه بالشجرة.

وَضَعَهُ أي جعل له مسكناً للراحة في الجنة وولاه إدارتها.

لِيَعْمَلَهَا أي ليفلحها ويزرعها ويغرسها لا بالتعب وعرق الجبين بل الفرح والسرور واللذة وذلك لأن الإنسان العاقل لا يلذ إلا بالعمل وباستعمال قواه الجسدية والعقلية لأن ذلك من مقتضيات طبيعة الإنسان الجسدية والعقلية والروحية. فلم يتركه الخالق للكسل الممل بل حمله على العمل لملاحظة حكمة الله في خلق النبات والحيوانات والطيور ولتمرين قواه العقلية وزيادته تعجباً وشكراً وحباً له. وكانت الجنة موقع عمله وهيكل عبادته يقدم فيها ذبائح الحمد والتسبيح. وهذا آل إلى سعادة آدم لأن الأرض كانت كثيرة الخصب ولم تكن قد لُعنت.

وَيَحْفَظَهَا هذا يستلزم أنها كانت عرضة للأخطار الخارجية. نعم إنها لم تكن حينئذ معرّضة لليبس أو الذيول (تثنية ٢٨: ٢٢) لكنه كان لا بد من حفظها من الطيور والوحوش وشدة الرياح والحر ومنع الحية من دخولها كما كان لا بد له من حفظه لنفسه وتوقيه من تعدي شريعة الله.

١٦ «وَأَوْصَى ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ آدَمَ قَائِلاً: مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً».

ص ١: ٢٩

أَوْصَى كانت الوصية ضرورية ليخضع الإنسان فالحكم ضروري في كل مكان حتى السماء ويضطر إليه الإنسان في حال الطهارة على الأرض. طلب الله من الإنسان الطاعة ثم أمطر عليه بركاته وكل اللذات الجسدية.

مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ تَأْكُلُ أباح له التمتع بكل ما يحتاج إليه ليظهر له إن هذه البركات ليست له بحق شرعي وأنه تعالى هو وهبها له وإن له أن يمنع عنه ما يشاء. وما أباح له ذلك إلا محبة له. وهذا شأن الإنجيل بدليل قوله «فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّاناً» (رؤيا ٢٢: ١٧).

١٧ « وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ».

ع ٩ ٢ ٣: ١ و٣ و١١ و١٧ ص ٣: ٣ و١٩ ورومية ٥: ١٢ و٦: ٢٣ و١كورنثوس ٥: ٢١ ويعقوب ١: ١٥

وَأَمَّا أي مع الإباحة نهي وهذا بداءة امتحان الإنسان. قيل إن سلطة الله منعمة ولكن نعمته متسلطة فالنعمة لها عرش. دُعي الإنسان هنا إلى تسليم رأيه وإرادته إلى إرادة الله أبيه. وقصد الله بذلك خير الإنسان الأعظم لأنه لم يمكن الإنسان أن يتناول من شجرة الحياة إلا بأن يحرم نفسه الاشتراك في حقوق الله وامتيازاته المختصة به ويخضع طوعاً لحكم الله وإرادته المعلنة.

يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا أي وقت تأكل فيوم هنا بمعنى مدة غير معيّنة طويلة أو قصيرة. فكما وضع الله في اليوم الثالث ناموس نمو النبات مع أن أعظم الأشجار لم يكن قد أُظهر لأنه لم يظهر إلا بعد ظهور الحياة الحيوانية على الأرض كذلك وضع ناموس موت الإنسان أي قبوله الموت بأكله الثمر المنهي عنه. فبهذا العمل انتقل الإنسان من الحال الفردوسية التي كان يمكنه فيها أن يحيا أبداً إلى حال الموت وأن لا بد منه في المستقبل. ولم يكن هذا الناموس الجديد على آدم فقط بل على نسله أيضاً في كل عصر.

رجّح بعضهم إن شجرة المعرفة لم يُمنع من الأكل منها لمجرد كونها ممتحن الطاعة بل لكونها مع ذلك شجرة ترددت إليها الحيّة وأكلت منها فنهى الله الإنسان عن الاقتراب إليها لئلا يقع في تجربة. واستدل على ذلك بقوله «فَرَأَتِ ٱلْمَرْأَةُ أَنَّ ٱلشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ» (ص ٣: ٦) أي رأت الحية تأكل منها بلذة فاشتهت أن تأكل هي فسقطت في التجربة اقتداء بها وإطاعة لها.

تنبيه

إن نهي الله للرجل نهي للمرأة أيضاً لأنها جزء منه.

مَوْتاً تَمُوتُ هذا من عواقب المعصية فتلك الشجرة كانت شجرة موت كما كانت الأخرى شجرة حياة ولا يتمتع الإنسان بشجرة الحياة إلا بالامتناع عن شجرة الموت. أي لم يحصل على المعرفة التي هي حياة إلا بالامتناع عن شجرة المعرفة «وذلك عجيب في أعيننا». ومن هنا نعلم إن الإنجيل جهالة عند حكماء العالم ويجب أن نصير جهلاء لنصير حكماء. والمصدر في قوله «موتاً تموت» مؤكد أي تموت لا محالة ولم يمت موتاً جسدياً في حال أكله من الشجرة بل مات موتاً روحياً بانفصاله عن حياة الله وهذا أدى به إلى الموت الجسدي لأن التعلق بين النفس والجسد يستحيل بقاؤه مع الانفصال عن الله «وأجرة الخطية موت وأما هبة الله فحياة أبدية بيسوع المسيح ربنا» (رومية ٥: ١٢ و١٧ وأفسس ٢: ٣). يوم أكل الإنسان من الشجرة صار ميتاً بالذنوب والخطايا (أفسس ٢: ١). قال كلوينوس إن نوع الموت المشار إليه هنا يُعرف من نقيضه أي نوع الحياة التي سقط منها.

تنبيهات

  1. إنه لا مناقضة بين النص الإلهي وشهادة طبقات الصخور فإنه كانت الحيوانات تموت قبل آدم بقرون كثيرة ولا شك في أن الوحوش المفترسة كانت تفترس غيرها في أيام آدم فلا بد أنه شاهد موت بعضها فعرف ما هو الموت وفهم معنى النهي الإلهي والقصاص المتعلق بالتعدي.
  2. إن ما في (رومية ٥: ١٢ و١كورنثوس ١٥: ٢١) يشير إلى موت الإنسان لا إلى موت البهائم. فقول الرسول «كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ» (رومية ٥: ١٢) بيان إن الموت اجتاز إلى الجنس البشري قصاصاً على الخطية فهو موت روحي نتيجته موت جسدي. وبذلك زُرع في جسد الإنسان برر الانحلال والفناء وصار وراثاً لجميع الأوجاع والأمراض والويلات التي اعترته واعترت نسله بعده.
  3. إن بعضهم اعترض بأن المقصود بالموت هنا الموت الجسدي أبداً أي ملاشاة الجسد وأن لا خلود إلا للمؤمنين وإن الأشرار يُبادون نفساً وجسداً. ونجيب على ذلك بأمرين الأول أنه لو كان هذا المقصود لتلاشى آدم وحواء وانتهى الجنس بأسره. وإذا كان الإعدام عقاب الإثم فأين العذاب الأبدي الذي ذكره المسيح. والثاني إن كيفية الموت المشار إليه هنا نعرفه بمقابلته بالحياة الصالحة الأدبية والروحية والأبدية التي كانت للإنسان في حال الطهارة.
  4. إن آدم لم يدرك قوة كلام الله وشدة العقاب الذي أُنذر به تمام الإدراك إذ لم يكن قد اختبر شيئاً منه لكنه أُخبر بخطاء الملائكة الساقطين. ونحن ندرك معنى التهديد من نتائج معصية آدم الهائلة التي لم تخطر على بال مرتكبها ولم تظهر إلا بالحوادث التابعة لها.

١٨ «وَقَالَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ: لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِيناً نَظِيرَهُ».

١كورنثوس ١: ٩ و١تيموثاوس ٢: ١٣

هذه الآية فصل إضافي يشتمل على خلق المرأة ووضع شريعة الزيجة.

لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ لأن الله خلق الإنسان ذا جهاز جسدي وعواطف عقلية وقلبية وأميال موافقة لمشاركة غيره في اللذات والأفكار والانفعالات ولم يكن جيداً أن يبقى وحده أيضاً بالنظر إلى طبيعته الجديدة الروحية وسعادته.

فَأَصْنَعَ لَهُ وفي (ص ١: ٢٦) «لنصنع الإنسان» بصيغة الجمع فإذا كان ذلك إشارة إلى كون الله ذا أقانيم فالإشارة هنا إلى وحدة اللاهوت الجوهرية.

مُعِيناً نَظِيرَهُ أي مثله وشريكاً له موافقاً لنفسه. من اصطلاح الكتاب تمثيل المحبوب أمام المحب ففي إشعياء «أسوارك أمامي دائماً» (إشعياء ٤٩: ١٦). إن سعادة الزيجة تقوم بكون المرأة مثل الرجل تماماً بل أن يرى فيها صورته ويراها رفيقة موافقة له.

١٩ «وَجَبَلَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ مِنَ ٱلأَرْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ ٱلْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ ٱلسَّمَاءِ، فَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا، وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ ٱسْمُهَا».

ص ١: ٢٤ ص ٦: ٢٠

هاتان الآيتان كلام معترض قبل إكمال الإنباء بخلق المرأة ومنح الرجل المعين والرفيق الذي يحتاج هو إليه. ومال هنا المؤلف إلى وصف ما صنعه الله في خلق الحيوانات ونسبة الإنسان إليها ولم يأت ذلك لبيان ان الحيوان غير الناطق خُلق بعد الإنسان بل لبيان حكمة الإنسان في تسميته البهائم بعد عرضها عليه.

فَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا هذا لا يستلزم أنها صُفّت أمام آدم في وقت واحد وإنه سمى كل واحد منها كذلك بل المقصود إن آدم رأى جميع البهائم في الجنة وعرف عاداتها وخواصها ثم سمّى كلا منها باسم مناسب له ولعله سماها بألفاظ تشبه أصواته أو لونها أو طبعها أو شيئاً آحر من أمور هيئتها الخارجية. والمرجّح أن ذلك كان بُعيد خلقها وقبل تفرقها في أقطار الأرض. وقدر أن يحضرها لأنه خالقها.

واعترض بعضهم بأن حيوانات الأقاليم المختلفة يختلف بعضها عن بعض وإن حيوانات الأقاليم الحارة لا تعيش في الأقاليم الباردة كأقاليم الدائرة الشمالية مثلاً وندفع هذا الاعتراض بأننا نرى اليوم في مشاهد الحيوانات في عواصم أوربا وأميركا كل أجناس الحيوانات من دبّ الدائرة الشمالية إلى فيل خط الاستواء تعيش معاً بلا صعوبة. ولا برهان على أن الحيوانات كانت قد تفرقت إلى كل الأقاليم قبل هذه الحادثة.

٢٠ «فَدَعَا آدَمُ بِأَسْمَاءٍ جَمِيعَ ٱلْبَهَائِمِ وَطُيُورَ ٱلسَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ ٱلْبَرِّيَّةِ. وَأَمَّا لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِدْ مُعِيناً نَظِيرَهُ».

قصد الله في هذه الآية أموراً كثيرة نذكر ستة منها:

  1. أن يشعر الإنسان بسيادته على سائر الحيوان وأنواعه.
  2. إن الإنسان سمى البهائم بالنظر إلى نسبته إليها ونسبتها إليه.
  3. زيادة معرفة الإنسان بحياة الحيوان وطبائعه وخدمته له.
  4. تمرين أدوات النطق والتكلم بتدبيره إياها بدعوتها أو زجرها.
  5. بيان إن الله خلق له نطقاً وقوة على التعبير ولما سمى الحيوانات تقدم في اللغة وأرشده الله إلى اختيار الألفاظ الموافقة لكل أجناس الحيوان.
  6. بيان أنه تعالى بعرضه كل أجناس الحيوان على آدم وتمكينه إياه من إمعان النظر فيها وفي صفاتها وفي خواصها أظهر له وحدته ووحشته إذ لم تكن تلك الحيوانات تتكلم أو تشاركه في أفكاره ولذاته واشتياقاته ومحبته لله خالقه الكريم. فإنه رأى في كل الحيوانات ذكراً وأنثى ولكنه لم ير له معيناً نظيره. ولهذا لم تُذكر هنا الزحافات والسمك. ولكن تلك البهائم مهما خدمته لم تنفعه المنفعة المطلوبة منفعة الأنس إذ لم تستطع أن تخاطبه أو تشاركه في أفكاره وطبيعته العقلية الأدبية.

٢١ «فَأَوْقَعَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ سُبَاتاً عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْماً».

ص ١٥: ١٢ و١صموئيل ٢٦: ١٢

في هذه الآية بيان خلق المرأة بالتفصيل فإن خلقها ذُكر قبلاً بالإيجاز وخلقها في اليوم السادس (ص ١: ٢٧). سُر الله أن يخلقها من الرجل لا لأنه تعالى كان محتاجاً إلى مادة يخلق منها بل ليُظهر بذلك حقيقة ذات شأن وهي أن الرجل والمرأة جسد واحد وإن الجنس البشري كان من الوالدين الأولين كما كانت المرأة من الرجل. وإن رئاسة آدم الطبيعية للجنس أساس رئاسته العهدية. فالإنسان الأول لم يكن مجرد فرد بل كان في صلبه كل الجنس فلذلك عُيّن نائباً عنهم في عهد الأعمال.

سُبَاتاً أي نوماً ثقيلاً. ففي هذا السفر أنه وقع على إبراهيم سبات (تكوين ١٥: ١٢). ولما أراد الله أن يقطع عهداً معه أوقع عليه سباتاً. ولما قصد أن يهب لآدم معينة له أوقع عليه نوماً ثقيلاً. وأُشير إلى أمثال ذلك بقول شاعر العبرانيين «فِي ٱلْهَوَاجِسِ مِنْ رُؤَى ٱللَّيْلِ عِنْدَ وُقُوعِ سُبَاتٍ عَلَى ٱلنَّاسِ» (أيوب ٤: ١٣). ولعل الله أعلن له في الرؤيا كل الحادثة وطيف تلك المرأة التي أُخذت منه.

وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ قال سمث إن اللفظة العبرانية لم تُترجم ضلعاً إلا هنا وإن معناها غالباً جنبٌ أو خاصرة وإن المرأة أُخذت من إحدى شاكلتي الإنسان فلا يكون الإنسان كاملاً بدونها.

قال جاكوبس كان لله أن يخلق المرأة من العدم ولكنه لم يستحسن أن يخلقها إلا على أسلوب يفيد معنىً روحياً وهو نسبة الكنيسة إلى المسيح. كان آدم هذا رمزاً إلى آدم الثاني وكانت المرأة التي أُعطيها في الزيجة المقدسة رمزاً إلى الكنيسة التي أُخذت من جنب المسيح الذي طُعن لتقديسها ومصيرها عروس الخروف وبيان أنها والمسيح واحد (رؤيا ٢١: ٢ وأفسس ٥: ٢٨ – ٣٢) إن المعترضين على هذا النبإ يجهلون معناه الحقيقي الروحي إذ يحسبونه لغزاً أو مثلاً فقط.

وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْماً لا صعوبة في هذا النبإ أكثر مما في كل أنباء المعجزات الإلهية. والنص كله عجيب وكله بمقتضى مسرّة الله. ومن العبث المباحثات والتخيلات في شأن تركيب جسد آدم قبل نزع الضلع منه وبعده. إن الله ملأ مكان الضلع لحماً أي لحم طرفي الفراغ حتى يبقى جسده كاملاً. والتفسير المعنوي هو أن ليس للرجل عوض عما أُخذ منه إلا المرأة التي هي جنبه المفقود.

ذهب بعض المنتقدين إلى أن كل الحوادث في هذا الأصحاح والذي بعده أساطير خرافية أو أمثال أدبية خيالية لا حقيقية أي أنهم لما رأوا الحوادث المذكورة ذات فوائد ومعان روحية حسبوا النبأ كله صورة رمزية. والحق أن فيها كل علامات الصحة التاريخية فضلاً عن الحقائق الروحية. ولنا هنا أربع ملاحظات:

  1. إن الأساطير الخرافية يغلب أن تكون قصصاً طويلة والنبأ هنا وجيز.
  2. إنه إن لم يكن هذا النبأ تاريخ أصل الإنسان الحقيقي لم يبق لنا من تاريخ له.
  3. إنه إن كان هذا النبأ خرافة كان كل تاريخ قديم خرافة ولم يبق لنا أدنى معرفة لما كان في الأزمنة القديمة.
  4. إن القصص الخرافية التي في الكتابات الكلدانية والبابلية مما يتعلق بالخلق والطوفان أصنامية قبيحة سمجة فظة تختلف كل الاختلاف عن هذا النبإ الطاهر السامي على أن تلك الخرافات دليل على أنها كلها نُقلت عن الأصل الإلهي لكنها تغيرت وتحرفت بعد انحطاط نسل آدم انحطاطاً أدبياً وسقوطه في العبادة الوثنية فنسبوا إلى آلهتهم الباطلة كل الأعمال والمعجزات الإلهية.

وقيل إن المرأة لم تؤخذ من رأس الإنسان لتفوقه شرفاً ولا من رجليه ليدوسها بل من جنبه وقوامه لتكون معادلة له. ومن قرب قلبه ليحبها ويكرمها.

٢٢ « وَبَنَى ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ ٱلضِّلْعَ ٱلَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ ٱمْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ».

ص ٣: ١٢ وأمثال ١٨: ٢٢ وعبرانيين ١٣: ٤

وصف في هذه الآية خلق المرأة بأنه عمل اقتضى زماناً واعتناء إلهياً لبيان أنها لم تكن مما يستخف به أو يُصنع بلا إحكام وتأنٍ بل مما يقتضي حكمة ومهارة وعناية. كان الله جبلها وصاغها حسناً لإظهار أن الرجل عاجز عن صنع معين لنفسه ولكن الله قدر على ذلك لأنه قادر على كل شيء.

بَنَى كما يبني الإنسان بيتاً وهو مجاز حسن ففي سفر أيوب إن الناس «سُكَّانُ بُيُوتٍ مِنْ طِينٍ» (أيوب ٤: ١٩). وفي رسالة كورنثوس إن جسدنا «بَيْتُ خَيْمَتِنَا ٱلأَرْضِيُّ» (٢كورنثوس ٥: ١).

أَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ للزواج الطاهر. ودُعي الزواج في سفر الأمثال «عهد الله» (أمثال ٢: ١٧). والإحضار هنا تقديم المرأة للرجل بعهد الزواج المكرم «ٱلزَّوْجَةُ ٱلْمُتَعَقِّلَةُ فَمِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ» (أمثال ١٩: ١٤). إن كل خطوة في هذا النبإ تزيد الزواج شرفاً وكرامة لأن الله تعالى أحضر المرأة للرجل ختام أعمال خلقه إشارة إلى أنه أكمله وهي من آدم. وهي الشيء الذي كان له والذي فقده عينه فرجعت إلى الإنسان أكثر مما خسر لما أُخذت منه إذ أخذها الخالق بيده وقدمها لآدم زوجها. وهذا التعبير على وجه التمثيل الذي به تُنسب إلى الله الحركات الإنسانية والأعضاء الجسدية. وتنازل الله إلى ذلك لضعفنا وجهلنا ولا نعلم كيف ظهر لآدم لكن لا يبعد أنه ظهر بهيئة منظورة كما ظهر ملاك العهد. ولا يستلزم ما ذُكر إن الله جبل اللحم ونحت الضلع كما يجبل النحات الطين أو ينحت الحجر بل أنه خلق المرأة من قسم من جسد آدم على أسلوب لا ندركه. وخلاصة النبإ إن الزواج مقدس وأنه نتج عن ذلك أن مقام المرأة ونظام الزواج لم ينحط بين شعب اليهود الانحطاط الأدبي بين أكثر قبائل الأرض.

٢٣ «فَقَالَ آدَمُ: هٰذِهِ ٱلآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هٰذِهِ تُدْعَى ٱمْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ ٱمْرِءٍ أُخِذَتْ».

ص ٢٩: ١٤ وقضاة ٩: ٢ و٢صموئيل ١٩: ١٢ و١٣ ومتّى ١٩: ٥ وأفسس ٥: ٣١ و١كورنثوس ١١: ٨

ٱلآنَ أي في هذا الوقت أو في هذه الحادثة بالنظر إلى الفرق بين خلق هذه الزوجة وأزواج الحيوانات التي رآها وسماها.

عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي أي بضعة مني ومعين لي. وجاء العظم في الأصل العبراني بمعنى الشيء بعينه فقوله «في ذلك اليوم عينه دخل نوح» في العبرانية «في عظم هذا اليوم» فيكون معنى «عظم من عظامي» أنا ونفسي.

وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي هذا يشير إلى الصفات اللطيفة ودماثة أخلاق امرأته. وعلى هذا التاريخ بنى بولس الرسول علة قداسة النسبة الزيجية بقوله «فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا ٱلرَّبُّ أَيْضاً لِلْكَنِيسَةِ. لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ» (أفسس ٥: ٢٩ و٣٠). وذكر هذا النبإ في العهد الجديد يثبت أنه تاريخ إلهي ويرينا قصد الله في خلق المرأة على هذه الكيفية وهو تعظيم احترام الزواج وبيان أنه رسم إلهي. ونرى منه درجة معرفة آدم بتسميته المرأة.

هٰذِهِ تُدْعَى ٱمْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ ٱمْرِءٍ أُخِذَتْ الإنسان في العبرانية إيش والمرأة إيشة (مونث إيش) ومعنى إيش كائن عاقل. فصرّح آدم بهذا الاسم أن الإنسان وحده هو المخلوق على الأرض ذا نطق ووجدان. ودعا آدم زوجته بعد ذلك حواء أي حياة لأنه مصدر حياة نسلها. فإيشه يشير إلى طبيعتها وأكثر الاسماء القديمة يشير إلى طبيعة المسمى وأحواله.

٢٤ «لِذٰلِكَ يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً».

مزمور ٤٥: ١٠ ومرقس ١٠: ٧ ص ٣٤: ٣ متّى ١٩: ٥ ومرقس ١٠: ٧ و٨ و١كورنثوس ٦: ١٦ وأفسس ٥: ٣١

هل هذه الآية كلام آدم أو هي كلام موسى أو الخالق سبحانه وتعالى. فالجواب واضح من قول المسيح «أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَراً وَأُنْثَى؟ وَقَالَ: مِنْ أَجْلِ هٰذَا يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ الخ» (متى ١٩: ٤ و٥). أي إن الله قال ذلك القول المهم في أول وضعه سنة الزواج وأشار إلى المستقبل بالنبوءة وأثبت إن الزواج نظام إلهي مؤيد. وبعد ذلك نهى الله في الوصية السابعة عن كل ما ينجس الزواج أو يقلل اعتباره. فاتضح إن روح الله ألهم موسى بكتابة هذا الكلام تصديقاً إلهياً لنسبة الزواج. وغاية النبإ كله أن يثبت كون الزواج رسماً إلهياً.

يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ هذا بيان إن النسبة بين الزوجين أهم من النسبة بين الولد والوالد. قال كلوينوس ليس المعنى إن الابن المتزوج معفى من كل ما عليه لوالديه أو إن العلاقة الطبيعية بينهما تُعدم بل المقصود أنه لا يجوز أن يترك الإنسان امرأته. ولنا من هذا ثلاث حقائق:

  1. إن الإشارة هنا إلى رجل واحد وامرأة واحدة إذ لم يقل يلتصق بنسائه بل بامرأته.
  2. إن نسبة الزواج أقدس نسبة بين البشر.
  3. إن قول الرب «إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ. وَلٰكِنْ مِنَ ٱلْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هٰكَذَا» (متى ١٩: ٨) نصٌّ على تحريم الطلاق. ولكن المسيح أجاز الطلاق لأمر واحد وهو الزنى ولكنه لم يجز للزاني أن يتزوج ثانية بل أجازه للمعتدى عليه فإن زنى الرجل أُبيح للمرأة أن تتزوج ثانية وإن زنت المرأة أُبيح للرجل كذلك.

٢٥ «وَكَانَا كِلاَهُمَا عُرْيَانَيْنِ، آدَمُ وَٱمْرَأَتُهُ، وَهُمَا لاَ يَخْجَلاَنِ».

ص ٣: ٧ و١٠ و١١

هذه الآية وصف للبر الأصلي والبساطة التي هي كبساطة الأطفال وهذا بالطبع من خواص اللذَين لم يعرفا خيراً ولا شراً. إن الخجل ثمر الشعور بالخطيئة فلو لم يشعرا بالخطاء لم يخجلا من عريهما وعلى هذا قال بعضهم الثياب دليل على خطيئتنا وستار لخجلنا وعارنا فمن يفتخر بثيابه فهو كالمتسول يفتخر بخِرَقه البالية واللص يفتخر بقيده في السجن. وكما أن السارق يتذكر بقيوده سرقته يجب علينا كذلك كلما لبسنا ثيابنا أن نذكر خطايانا. إن آدم وامرأته شعرا بعريهما في أول سقوطهما بتعديهما. والخجل الطبيعي بين الشعوب المتمدنة شهادة دائمة بصدق هذا التاريخ.

فائدتان

(١) إن الإنسان خُلق على صورة الله في أربعة أمور:

  • الأول: المعرفة فإنه عرف معرفة عجيبة نسبته إلى الله وإلى الحيوانات وإلى المرأة عند نظره إياها.
  • الثاني: البر في حفظه نسبته إلى الخالق وكل الخليقة.
  • الثالث: القداسة فإنه وجد أعظم لذته بمحبة الله وخدمته.
  • الرابع: سلطته على الخليقة رئيساً وسيداً لها وسلطته على الأرض رمز إلى ارتفاع الإنسان بالمسيح.

(٢) إن النظام الإلهي الحاضر على الأرض يأمر بما يأتي:

  • الأول: الشغل والعمل وينتج عن ذلك التقدم والعمران.
  • الثاني: السلطة السياسية على حسب أنواعها ودرجاتها.
  • الثالث: الزواج مع كل البركات الناشئة عنه وهذه الامتيازات الثلاثة حصون الهيئة الاجتماعية فالويل للذي ينقل تخم أصحابه أو يحرّض على العصيان أو يستهين بقداسة الزواج.

السابق
التالي

 

زر الذهاب إلى الأعلى