سفر التكوين | 01 | السنن القويم
السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم
شرح سفر التكوين
للقس . وليم مارش
اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ
١ «فِي ٱلْبَدْءِ خَلَقَ ٱللهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ».
يوحنا ١: ١ و٢ وعبرانيين ١: ١٠ نحميا ٩: ٦ ومزمور ١٤٦: ٦ وإشعياء ٤٤: ٢٤ وإرميا ١٠: ١٢ وأعمال ١٤: ١٥ و١٧: ٢٤ وأفسس ٣: ٩ وكولوسي ١: ١٦ ورؤيا ٤: ١١ و١٠: ٦
فِي ٱلْبَدْءِ أي في أول أمر التكوين أو الخلق. فليس هذا البدء بمعنى الأزل كما في قول يوحنا «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ» (يوحنا ١: ١) لأن المقصود هناك بيان كون الكلمة أزلياً والمراد هنا أول الشروع في خلق الكواكب ونُظمها التي عالمنا الشمسي أي شمسنا وسياراتها وأقمارها نظام منها. ولا نعلم مقدار الزمان قبل خلق الإنسان إنما نعلم أنه طويل جداً.
خَلَقَ بدع أي بدأ وأنشأ واخترع لا على مثال يُعني أوجد من العدم. و «خلق» معنى برا ( ברא ) في العبرانية كبرأ في العربية. ولعل هذه اللفظة وُضعت أولاً لبرء الباري الخلق على غير مثال سابق ثم أطلقت على الصنع من شيء تجوزاً على أن القرينة تستلزم الإبداع ووُضعت له خاصة أم لم توضع كذلك. فقوله «السموات والأرض» شامل لكل شيء فلا يترك مادة للصنع منها. فالإيجاد من العدم من لوازم العبارة الضرورية وهو أيضاً من لوازم قوله «خلق الله التنانين». و «خلق الله الإنسان» فإنه وإن كان في ذلك صنع من شيء لا يخلو من الإيجاد من العدم وهو إبداع الحياة في مادة الجماد إذ ثبت في العلم اليقيني إن «لا حي إلا من حي».
ٱللهُ هو في العبرانية «إلوهيم» جمع «الوه» ولم يأت المفرد إلا في الشعر. فجاء في المزامير «مَنْ هُوَ إِلٰهٌ غَيْرُ ٱلرَّبِّ» (مزمور ١٨: ٣١). وفي العبرانية «من هو إلوه غير يهوه» وهو في السريانية «الوهو» وفي الكلدانية «اللها» وكلها متفرع من العبراني. ومعنى «الوه» قوة أو قدرة. وجاء «إلوهيم» بصيغة الجمع لا لمجرد التعظيم بل لحمل الأفكار البشرية على تصور كل القوى في وحدانية ذي الصفات الحسنى والأفعال العظمى الحي الأزلي. فحصروا في ذلك الاسم الأعظم كل القوى والفواعل والحركات التي كونت بها البرايا أولاً وتضبط وتحفظ بها الآن. ونُسبت هذه كلها في أشعار الفيد الهندية والمكتوبات السامية والأكادية إلى آلهة كثيرة مختلفة. ونُسبت في كتاب الله إلى ألوهيم الإله الواحد. ويرى المسيحيون في هذا الاسم دليلاً على تثليث الأقانيم في اللاهوت ولكن جل المقصود منه هو أن العالم واحد وعمله واحد مهما تعدد عمل القوى الطبيعية في العالمين.
وجاء في (ص ٢: ٤ – ص ٣: ٢٤) «يهوه إلوهيم» أي الرب الإله. ومعنى يهوه أو يهفه في العبرانية الآتي أو الذي سيكون. وندر مجيء هذا التركيب ولكنه جاء في هذين الموضعين عشرين مرة وفي سائر أسفار موسى الخمسة مرة واحدة وذلك في قوله «لَمْ تَخْشَوْا بَعْدُ مِنَ ٱلرَّبِّ ٱلإِلٰهِ» (خروج ٩: ٣٠). وجاء في قول المرنم «إِلٰهُ ٱلآلِهَةِ ٱلرَّبُّ تَكَلَّمَ» (مزمور ٥٠: ١) لكنه مقلوب الترتيب كما ترى. فلماذا كثر وروده في هذا النبإ الوجيز.
قال بعضهم في الأصحاح الأول من هذا السفر بيان إن الله هو الخالق ورب الكل وفي الأصحاح الثاني بيان أنه إله العهد مع الإنسان. ومما يجب الانتباه له هنا قوله في نهاية كل يوم «رأى الله ذلك أنه حسن» وقوله بعد خلق الإنسان «فإذاً هو حسن جداً» أي إن الإنسان أحسن كل المخلوقات وتاجها (ص ١: ١٢ و٣٠). ولكنه سقط وزال حسنه فانفصل عن الله فتنازل سبحانه وتعالى ووعده بمخلص يسحق لرأس الحية (ص ٣: ١٥).
والكلمة «يهوه» أو «يهفه» الآتي مثل «أهيه» في قول الله لموسى «أهيه الذي أهيه» أي يكون الذي يكون أو يأتي الذي يأتي (خروج ٣: ١٤). والآتي في العهد الجديد من أشهر أسماء المسيح الأصلية ومن ذلك ما في قولهم «مبارك الآتي» (متى ٢١: ٩). و «حَتَّى تَقُولُوا: مُبَارَكٌ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ» (متى ٢٣: ٣٩). و «أَنْتَ هُوَ ٱلآتِي» (لوقا ٧: ١٩). و «هٰذَا هُوَ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱلنَّبِيُّ ٱلآتِي إِلَى ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ٦: ١٤ انظر أيضاً يوحنا ١١: ٢٧ وعبرانيين ١٠: ٣٧). واسم الإله المثلث الأقانيم هو «ٱلْكَائِنِ وَٱلَّذِي كَانَ وَٱلَّذِي يَأْتِي» (رؤيا ١: ٤).
ونستدل من قول بولس الرسول «ماران أثا» أي الرب يأتي (١كورنثوس ١٦: ٢) إن المسيحيين الأولين لم يفتأوا يسمون المسيح بالآتي. ولنا من كل ذلك إن يهوه العهد القديم هو يسوع العهد الجديد.
والمظنون إن أصل الاسم يهوه من قول حواء «اقتنيت رجلاً من عند الرب» فإنه في العبرانية «قنيتي إيش ات يهوه» أي قنيتي الرجل الذي هو الآتي الموعود به والمخلص هو المخلص المنتظر. قالت ذلك لظنها وتوقعها إن ذلك الولد هو المخلص الذي وُعدت به. وصار من ذلك الوقت إن كل امراة من النسل المختار نسل شيت وسام تتوقع أن يكون ابنها المسيح الآتي.
٢ «وَكَانَتِ ٱلأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ ٱلْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ ٱللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ ٱلْمِيَاهِ».
إشعياء ٣٤: ١١ وإرميا ٤: ٢٣ ص ٧: ١١ ومزمور ١٠٤: ٦ أيوب ٣٨: ٩ أيوب ٢٦: ١٣ ومزمور ١٠٤: ٣٠ تثنية ٣٢: ١١
خَرِبَةً وَخَالِيَةً وفي العبرانية «توهو وبوهو» أي قفراً وتشويشاً.
وَعَلَى وَجْهِ ٱلْغَمْرِ ظُلْمَةٌ إن النور ناشئ عن انضغاط دقائق المادة أو تكاثلها أو تموج ناشئ عن الفعل الكيمي. فذكر «الظلمة» موافق لما يقتضيه الخلق والفراغ قبل تكوين الأرض وتركيبها وترتيبها. و «الغمر» في العبرانية «تهوم» أي العمق وهو من أصل معناه تشويش. ومعنى «الغمر» في قول المرنم «غمر ينادي غمراً» (مزمور ٤٣: ٧) موج البحر الدائم ومعناه هنا الخلق ومجموع مواد بلا ترتيب. قال العلامة سَيس في كتابه الذي ألفه في التكوين الكلداني «جاء في الأساطير البابلية إن مروداخ الملك غلب تيامت» وتيامت هو «تهوم» في العبرانية وأبرز الترتيب والجمال من التشويش الأصلي.
وَرُوحُ ٱللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ ٱلْمِيَاهِ أو ريح الله. وأكثر مفسري اليهود يفسرون الروح هنا بريح عظيمة من الله. واعتاد العبرانيون أن ينسبوا إلى الله ما يريدون تعظيمه ففي سفر التكوين قول بني حث لإبراهيم «أَنْتَ رَئِيسٌ مِنَ ٱللهِ» أي رئيس عظيم (تكوين ٢٣: ٦). وفيه قول راحيل «قَدْ صَارَعْتُ مُصَارَعَاتِ ٱللهِ» أي مصارعات شديدة عظيمة (تكوين ٣٠: ٨). وفي المزامير قوله «عَدْلُكَ مِثْلُ جِبَالِ ٱللهِ» أي مثل جبال عظيمة (مزمور ٣٦: ٦). وقوله «أغصانها أرز الله» أي أرز عظيم أي كبير الحجم وفي سفر صموئيل الأول «لأَنَّ سُبَاتَ ٱلرَّبِّ وَقَعَ عَلَيْهِمْ» أي سبات ثقيل عميق (١صموئيل ٢٦: ١٢). وعلى هذا ذهب جماعة من علماء التفسير إلى أن المقصود «بالروح» هنا ريح عظيمة بدد الله بها ظلمات الغمر والخلو. فدل هبوبها على شروع الروح الأزلي في ترتيب أمور العالمين كما دل عصف الريح يوم الخمسين على حضور ذلك الروح وشروعه في ترتيب أمور العهد الجديد. وجاء في مقالة يهودية اسمها الصوهار إن المقصود بالروح هنا روح المسيح. وكثيراً ما اتخذ المسيحيون هذه الآية رمزاً إلى الروح القدس الأقنوم الثالث في اللاهوت مع تسليمهم إن المقصود بها أصلاً ريح إلهية تدل على شروع ذلك الروح القدير في صنع كل شيء وتشير إلى ظهور الروح القدس في العهد الجديد. وجاء في نبوءة إشعياء «يَبِسَ ٱلْعُشْبُ، ذَبُلَ ٱلزَّهْرُ، لأَنَّ نَفْخَةَ ٱلرَّبِّ هَبَّتْ عَلَيْهِ» (إشعياء ٤٠: ٧). وفي المزامير «ٱلصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ (أو رسله) رِيَاحاً » (مزمور ١٠٤: ٤). وفي العهد الجديد «اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ… هٰكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱلرُّوحِ» (يوحنا ٣: ٨). ومعنى العبارة التكوينية أنه «بنفخته السموات مسفرة» وإنه «بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ صُنِعَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَبِنَسَمَةِ (أي بروح) فَمِهِ كُلُّ جُنُودِهَا» (مزمور ٣٣: ٦).
ولا نرى بهذه العبارة وغيرها مجرد فعل الروح المادي أي الخلق بل نرى أيضاً القدرة الإلهية قدرة الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس. ولا موضع هنا للدخول في أن نبين اشتمال هذه الآياة القديمة على كل التعاليم الإلهية التي لم تُعلن الإعلان التام إلا في الإنجيل فنقتصر على أن نقول إن في سفر التكوين أصول كل الحقائق الإنجيلية.
يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ ٱلْمِيَاهِ «كَمَا يُحَرِّكُ ٱلنَّسْرُ عُشَّهُ وَعَلَى فِرَاخِهِ يَرِفُّ» (تثنية ٣٢: ١١) و هذا أيضاً يشير إلى ذات عاملة. وهنا أمران (١) إن هذا الرف لم ينشأ عن المخلوقات بل عن مبدع خارج عنها وأعلى منها. (٢) إنه يشير إلى فعل لطيف ينشئ الحياة والنور بالتدريج. وذلك كله قبل بداءة أيام الخلق الستة.
ويحسن قبل الشروع في تفسير هذا الأصحاح على ترتيب تلك الأيام إن نذكر بالإيجاز ما أبانته العلوم الطبيعية مما سُطر في مؤلفات العلامة الفاضل الدكتور كَنس اللندني الذي أحكم كل العلوم أحسن إحكام ووقف على تمام الوفاق بين سفر الطبيعة وسفر الوحي. وخلاصة ذلك إن في ما تحقق من المكتشفات في عِلمي الهيئة والجيولوجيا أي علم طبقات الأرض خمس عشرة حادثة علمية مرتبة على نسق لا يتغير ثبتت بالأدلة القاطعة. وقد وجدنا تلك الحوادث على ذلك الترتيب في الأصحاح الأول من سفر التكوين كما سترى. فكيف عرف موسى أن يرتب تلك الحوادث على ما يقتضيه العلم الصحيح ولم يدرس كتب المكتشفات الحديثة في الهيئة والكيمياء والجيولوجيا. وكيف يدرس ما لم يكن وما لم يخطر على بال عالم إلا بعد عصره بثلاثة آلاف وخمس مئة سنة ولم يدركوه إلا بشق الأنفس. وهل من سبيل طبيعي إلى معرفة ما اتفق عليه علماء القرن التاسع عشر قبل خمسة وثلاثين قرناً ذلك من أول صنوف المحال. فبقي أن يُقال إما أنه كتب ذلك بالوحي وهو الحق وإما أنه كتبه اتفاقاً أو حدساً أي ظناً وتخميناً وكلاهما باطل لاستحالته في ترتيب خمس عشرة حادثة بلا أدنة خطإ. قال الدكتور كَنس إذا أخذنا خمسة عشر مفتاحاً مختلفة الصور وأردنا ترتيبها بالحدس والاتفاق لاحتمل ذلك أن نخطئ أكثر من ألف ألف وثلاث مئة ألف مليون مرة. ويظهر لك ذلك من ضرب بعض أعداد السلسلة الطبيعية من الواحد إلى الخامس عشر في بعض هكذا: ١×٢×٣×٤×٥×٦×٧×٨×٩×١٠×١١×١٢×١٣×١٤×١٥
وحاصل ذلك … ٣٦٨ ٦٧٤ ٣٠٧ ١ وهذا دليل قاطع على استحالة أن يكون موسى قد أصاب ترتيب الواقع بالحدس والاتفاق وبرهان لامع على أنه كتب بوحي الله.
ولنأخذ هنا في سرد تلك الحوادث لبيان الوفاق العجيب بين الوحي والطبيعة وذلك ما تراه في الجدول الآتي. فانظره ذاكراً إن علم الهيئة أثبت إن المادة كانت في أول أمرها أثيراً أي ألطف من الهواء وكانت مظلمة مشوشة.
خمس عشرة حادثة علمية موافقة لكلام موسى
عدد الحوادث | العلم | موسى |
١ | كانت عوالم قبل النظام الشمسي | «في البدء خلق الله السموات والأرض» ع ١ |
٢ | كثف الأثير فكان سديماً منيراً واشتد كثافة فكان منه شموس وعالمون | «قال الله ليكن نور» ع ٣ |
٣ | لما برد وجه الأرض اتحد بعض الغازات المحيطة بها ببعض وامتزج بعضها ببعض فكان من ذلك الهواء والماء | «ليكن جلد» ع ٦ |
٤ | حدث على توالي التبرد ارتجاجات وتشنجات عظيمة انقلبت بها الصخور واندفعت وتفرقت على وجه البحر فكانت من ذلك الجبال والجزائر والقارات | «لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة» ع ٩ |
٥ | إن أقدم أنواع النبات الذي آثاره في الصخور هو النبات المائي كبهق الحجر أو حزاز الصخر والفطر والطحلب والخنشار مما لا بزور له فيتولد من الجراثيم نباتات بدلاً منها | «وقال الله لينبت الأرض عشباً» ع ١١ |
٦ | ثم نبع ذلك النوع الأدنى من النبات ذي الأزهار والبزور العارية المسمات بالجمنسيرم نظير الأشجار الحاملة الكنافج كالصنوبر والسرو والأرز | «وبقلاً يبزر بزراً» ع ١١ |
٧ | وتلا ذلك نوع آخر من النبات ذي الزهر دنيء الثمر مما آثاره في الطبقات الفحمية وأما الجنس الأعلى من ذوات الأثمار فكان بعد ذلك | «لما غرس الله جنة في عدن» ص ٢: ٨. «وشجراً ذا ثمر يعمل ثمراً كجنسه بزره فيه» ع ١١ |
٨ | إن الأرض كانت بمقتضى الأدلة إلى نهاية المدة الفحمية محاطة ببخار حام وكانت كإقليم واحد معتدل ثم ارتفع هذا البخار وانحل وبتغير وقوع أشعة الشمس على التوالي توالت الليالي والأيام والفصول كما هي العلة اليوم | «وقال الله لتكن أنوار في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين» ع ١٤ |
٩ | إنه بعد الفحمية ظهرت أنواع كثيرة من الحيوانات البحرية وغصت الأبحر بالحيوانات المتنوعة | «وقال الله لتفض المياه زحافات ذات نفس حية» ع ٢٠ |
١٠ | في الطبقات الرملية الحديثة آثار مخالب طيور مختلفة | «وليطر طير فوق الأرض على وجه جلد السماء» ع ٢٠ |
١١ | في الطقات التي فوق الرملية عظام حيوانات كبيرة جداً من سمك ودبابات | «فخلق الله التنانين العظام وكل ذوات الأنفس الحية الدبابة التي فاضت بها المياه كأجناسها» ع ٢١ |
١٢ | ظهر قبل البهائم وحوش هائلة كالدينوثيريوم وغيره | «فعمل الله وحوش الأرض كأجناسها» ع ٢٥ |
١٣ | ظهرت البهائم كالبقر والإيل قبل الإنسان في طبقات الصخور الحديثة | «والبهائم كأجناسها» ع ٢٥ |
١٤ | رأى العلامة أغاسيز أنه ظهر أهم الأزهار الحاضرة والأشجار المثمرة والحبوب كالقمح والشعير قُبيل ظهور الإنسان | «وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقاً. وأنب الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل» ص ٢: ٨ |
١٥ | إن أسمى المخلوقات وأنواع الحيوان هو الإنسان | «فخلق الله الإنسان على صورته» ع ٢٧ |
الخلاصة
إنه بمقتضى معرفة كل العلماء لم يخلقنوع جديد من النبات أو الحيوان بعد الإنسان | «وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل» ص ٢: ٢ |
٣ «وَقَالَ ٱللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ» فَكَانَ نُورٌ».
مزمور ٣٣: ٦ و٩ و١٤٨: ٥ وعبرانيين ١١: ٣ مزمور ١٠٤: ٢ و٢كورنثوس ٤: ٦
وَقَالَ ٱللهُ ليس المقصود إنه تكلم بصوت مسموع ولا إنه كان من يسمع ذلك من الأحياء سوى الأقانيم الثلاثة الذين هم إله واحد ولهم عمل في الخلق بل المقصود إن الله تعالى سن شريعة للكون حينئذ. وكُررت هذه العبارة عشر مرات. فهنا أمر ذي ذات حي لا الاتفاق الخبطي ولا الضرورة غير العاقلة بل أمر ذي يد قادرة على كل شيء وعين بصيرة وقلب محب رحيم. والكلام هنا في أسمى الطبقات وأعلى درجات البلاغة التي هي فوق قدرة البشر. إن الله غني عن الاستعداد وشغل الزمان بإعداد الوسائل وعن كل وسيلة «لأَنَّهُ قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ» (مزمور ٣٣: ٩). فقوله تعالى هو كل ما هو ضروري ليكون ما أراد. و «قال» في العبرانية كأمر في العربية أي طلب أن يكون ما أراد فالله بقوله صنع ما شاء وأجرى العالمين على شرعه العالم في مصنوعاته. وأوامر الله دائمة أبدية. والعلل التي أبدعها لم تزل كما كانت منذ قال «ليكن نور» وبها يكون النور. فلنا هنا أول شرائع الكون وهو قوله الآتي.
لِيَكُنْ نُورٌ فَكَانَ نُورٌ لم يقل خلق النور بل قال «ليكن فكان». من المحقق الذي لا يختلف فيه اثنان من العلماء إن النور مستقل عن الشمس وينشأ بتموج الأثير فهو ليس بمادة بل حال من أحوال المادة. وكان في الأصل إما من الكهربائية أو من تكاثف العناصر وانضغاطها لما أخذت في أن تترتب. وذلك نتيجة قوة الجذب العامة. وأكثر النور اليوم من الشمس لكنه كثيراً ما ينشأ عن غيرها. وقد ثبت وجود نور غير ضوء الشمس وإن له كل الخواص التي يتوقف عليها نمو النبات وإن هذا النور وُجد في بدء العالمين.
قال العلامة دانا الأميركي «ثبت أن كل ظواهر النور المعروفة نتيجة اهتزاز ذرات المواد على ما تقتضيه خواص المادة باعتبار تركيبها الحاضر وإٰن نواميس الحرارة والفعل الكهربائي والكيمي متعلقة كل التعلق بناموس النور وهما من أصل واحد». وقال «جمع ناموس الجاذبية ذرات المواد فظهرت بحكّ بعضها بعضاً وضغط بعضها بعضاً الكهربائية والمغنطسية وبذا كان وتمّ ناموس الجاذبية العظيم الذي نشأ عنه النور». فكون النور قبل الشمس من مقتضيات النواميس الطبيعية. على أن فرض أن هذا النور من الشمس عينها لا ينافي النبأ بعمل اليوم الرابع. لأن قوله «لتكن أنوار» أي الشمس والقمر لا يستلزم إبداعهما إذ لا مانع من أن يكون المقصود به قشع الأبخرة والسحب عنهما وتعيينهما نورين لفصل الأيام والشهور والأوقات.
٤ «وَرَأَى ٱللهُ ٱلنُّورَ أَنَّهُ حَسَنٌ. وَفَصَلَ ٱللهُ بَيْنَ ٱلنُّورِ وَٱلظُّلْمَةِ».
وَرَأَى ٱللهُ ٱلنُّورَ أَنَّهُ حَسَنٌ أي إنه موافق للغاية منه وإنه ضروري لكل حي من النبات والحيوان وإنه نتيجة ناموس الجاذبية العامة وشرط كل حياة مستقبلة. ونحن نرى كل قوى الطبيعة كالحرارة والكهربائية والنسب الكيمية وأشعة رنتجن والهواء والبخار في غاية الحسن وكل ما صنعه الله كذلك لأنه حلق الحسن البديع.
والعبارة الإلهية هنا تؤذن بمرور وقت وتُعلن أن الحكم صدر عن حكمة إلهية ولنا من ذلك ثلاث فوائد:
- الأولى: رؤيتنا في الخليقة الأدبية «ٱلنُّورُ ٱلْحَقِيقِيُّ ٱلَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١: ٩).
- الثانية: إنه كما أن ضوء الشمس لم ينفذ أولاً الظلام الكثيف المحيط بالأرض كذلك النور الروحي «يُضِيءُ فِي ٱلظُّلْمَةِ، وَٱلظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ» (يوحنا ١: ٥).
- الثالثة: إنه كما رُفعت في اليوم الرابع كل الموانع وأضاءت الشمس بلمعانها المجيد هكذا يرفع الله الظلام عن النفس لأنه «ٱللهَ ٱلَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (٢كورنثوس ٤: ٦).
وَفَصَلَ ٱللهُ بَيْنَ ٱلنُّورِ وَٱلظُّلْمَةِ فصل أولاً ثم عيّن الشمس لذلك. ودُعيت الثلاثة الأيام الأولى أيام الترتيب والتفصيل أي أيام «التقاسيم الثلاثة» ففي هذه الآية فُصل بين النور والظلمة وفي السابعة فُصل بين المياه وفي التاسعة جُمعت المياه التي تحت السماء إلى مكان واحد.
ذهب العلامة بِن سمث إلى أنه لم يُخلق في اليومين الأول والثاني شيء جديد بل رُتبت المواد المشوشة وفي اليوم الثالث خُلقت الحياة النباتية. واعلم إن الفصل في اليوم الأول بين النور والظلمة لا يستلزم أن للظلمة وجوداً حقيقياً كالكوائن المستقلة بل إن درجة النور تنوعت حتى كانت مُددٌ ومواضع فيها النور كثر أو قل. وذُكرت نتيجة الخلق في كل يوم أو مدة في نهايته أي إنه حين أخذت ذرات المادة لتحرك شرع الهواء والماء ينفصلان عن الذرات الكثفي أي التي هي أشد كثافة ونتج من ذلك النور. وبعد زمن طويل من ذلك نشأ فراغ حول جرم الأرض. لتقلصها وبعد زمن مثله ظهرت القارات والبحار ولكن بداءة ذلك كله كان حين رف «روح إلوهيم» على المادة وهي «خربة وخالية». فإن قيل كم مضى من الزمان قبل أن أخذ النور والظلمة يتواليان على الترتيب قلنا ذلك لم يستطع العلماء تعيينه ولا الكتاب التفت إليه لأن غاية الكتاب العظمى الدين لا العلم وإن كانا فيه على وفاق.
٥ «وَدَعَا ٱللهُ ٱلنُّورَ نَهَاراً، وَٱلظُّلْمَةُ دَعَاهَا لَيْلاً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً وَاحِداً».
وَدَعَا ٱللهُ ٱلنُّورَ نَهَاراً، وَٱلظُّلْمَةُ دَعَاهَا لَيْلاً أي سمى كلا منهما بما يميزه عن الآخر على طريق السمع وفي ذلك إشارة إلى قصد الله أن يخلق مخلوقاً يميز بين المخلوقات بالأصوات ويدعو الأشياء بأسمائها.
وكانت الأرض قبل الفصل بين الليل والنهار تحيط بها مادة مضيئة فصفورية أو كهربائية كالكرة الغازية المضيئة المحيطة اليوم بالشمس. ولا بد من أن الأرض أخذت حينئذ تدور على محورها فكان من ذلك تعاقب النور والظلمة والحر والبرد الذي أوجب تقلص قشرة الأرض.
وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً وَاحِداً المساء في العبرانية «عرب» أي وقت الغروب وقيل معناه مزيج أو خليط كان المقصود به ما بين الغروب والعتمة من ضوء الشفق لأنه وقت اختلاط النور بالظلام. وذُكر هنا المساء قبل الصباح لأن النور كان بعد الظلام. وجاء في زكريا «لاَ نَهَارَ وَلاَ لَيْلَ، بَلْ يَحْدُثُ أَنَّهُ فِي وَقْتِ ٱلْمَسَاءِ يَكُونُ نُورٌ» (زكريا ١٤: ٧).
والصباح بالعبرانية «بقر» (בקר) أصله الشق وفي العربية بَقَرَهُ يبقره بقراً شقّه ويأتي الفعل في العبرانية بمعنى فجر وانفجر. والفجر في العربية شق الشيء شقاً واسعاً ومنه الفجر لأول الصباح. وخلاصة ما ذُكر إن الصباح سُمي بذلك لشق النور جلباب الظلام. ولسبق الظلمة النور والليل النهار. اعتاد أهل المشرق أن يحسبوا بداءة اليوم غروب الشمس ويذكروا المساء قبل الصباح فالعادة على ذلك قديمة جداً على أن الذي في كثير من كتب اللغة العربية إن اليوم من الفجر الأول إلى غروب الشمس ولكنهم يحسبون مساء اليوم من ليلة الغد فيكون أول اليوم الذي هو أربع وعشرون ساعة المساء.
يَوْماً وَاحِداً اليوم في العبرانية «يوم» لكن رأى كثيرون من علماء العبرانية أن أصله «يحم» وقُلبت الحاء واواً. ويحم في العبرانية كيحم في العربية. وفي هذه يُقال «حم التنور يحمه حماً سجره أي ملأه وقوداً وأحماه. وحمّ الماء يحم حماً سخن». سمي بذلك لما في النهار من حر الشمس. ولكن اليوم في هذه الآية مدة من مُدد الخلق الست لا أربع وعشرون ساعة واستعمال اليوم بمعنى المدة جاء في قوله «يَوْمَ عَمِلَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَاوَاتِ» (تكوين ٢: ٤). فاليوم هنا مجموع مُدد الخلق كلها. وجعلها مدة واحدة إذ اعتبر الخلق جملة لا مفصلاً على التوالي. وعلى هذا ذهب أكثر العلماء إلى أن اليوم السابع أي يوم استراحة الله من عمل الخلق هو المدة التي نحن فيها كقول زكريا «وَيَكُونُ يَوْمٌ وَاحِدٌ مَعْرُوفٌ لِلرَّبِّ» (زكريا ١٤: ٧). مشيراً إلى كل مدة النظام المسيحي الإنجيلي. وكقول موسى «أنت اليوم عابر الأردن» مشيراً إلى المدة (انظر تاريخ العهد القديم للدكتور جمس أنس).
وحسب الكلدانيون مدة العالمين ٤٣٢٠٠ سنة وترتيب الخلق المتوالي لم يُعرف إلا بوحي الله والوفاق بين كلام الوحي ونبإ الطبيعة على غاية الكمال. ولا تزال طبقات الصخور رافعة أعلام الشهادة به. فعلم الجيولوجيا خدم الدين أحسن خدمة بحل المشاكل في هذا التاريخ القديم.
٦ «وَقَالَ ٱللهُ: لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ ٱلْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ».
أيوب ٣٧: ١٨ ومزمور ١٠٤: ٢ وإشعياء ٤٠: ٢٢
لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ ٱلْمِيَاهِ الجَلد على ما يظهر من مصطلحات النصرانية وهو في العبرانية «رقيع» ومعناه فيها شيء مبسوط. وجاء في سفر إشعياء «ٱلَّذِي يَنْشُرُ ٱلسَّمَاوَاتِ كَسَرَادِقَ، وَيَبْسُطُهَا كَخَيْمَةٍ لِلسَّكَنِ» (إشعياء ٤٠: ٢٢). وفي سفر أيوب «هَلْ صَفَّحْتَ مَعَهُ ٱلْجَلَدَ ٱلْمُمَكَّنَ كَٱلْمِرْآةِ ٱلْمَسْبُوكَةِ» (أيوب ٣٧: ١٨). والرقيع في العربية السماء الأولى وقد يطلق على كل سماء. والجَلَد في المعروف من كتب اللغة العربية اليوم إصابة الأرض الجليد والقوة والشدة والأرض المستوية ولغة في الجِلد. واستعمالها بمعنى الرقيع قديم في كتب الدين المسيحي العربية ولعلها عربية الأصل في هذا المعنى فقلّ استعمالها عند غير النصارى من أهل اللغة العربية فيه حتى نُسي. ونص كتب اللغة على أن الجلد لغة في الجِلد يحملنا على ظن أنه وُضع أولاً للطراف وهو بيت من الجِلد ربما كان على هيئة القبة. وكثيراً ما عبر الكتبة الملهمون عن الرقيع بأنه خيمة وقبة كالعرب وتصوروا لها كوى ونوافذ وأبواب. فجاء في هذا السفر «َٱنْفَتَحَتْ طَاقَاتُ ٱلسَّمَاءِ» (تكوين ٧: ١١). وفي سفر المزامير «أَمَرَ ٱلسَّحَابَ مِنْ فَوْقُ، وَفَتَحَ مَصَارِيعَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (مزمور ٧٨: ٢٣). وفي سفر ملاخي «إِنْ كُنْتُ لاَ أَفْتَحُ لَكُمْ كُوى ٱلسَّمَاوَاتِ» (ملاخي ٣: ١٠). وإذا سلمنا برأي علماء الجيولوجيا إن الأرض في هذه المدة كانت كتلة ملتهبة منيرة لزم أن يكون الرقيع حلقة اعتدال بين حرارة الأرض تحته والأثير فوقه وهذه الحلقة هي أصل الجو ويُسمى أيضاً اللوح والسكاك وهو بقية ما كان من الكتلة الغازية متوسطاً عند استواء قوتي الدفع والجذب واتزانها.
٧ «فَعَمِلَ ٱللهُ ٱلْجَلَدَ، وَفَصَلَ بَيْنَ ٱلْمِيَاهِ ٱلَّتِي تَحْتَ ٱلْجَلَدِ وَٱلْمِيَاهِ ٱلَّتِي فَوْقَ ٱلْجَلَدِ. وَكَانَ كَذٰلِكَ».
ص ٧: ١١ وأيوب ٢٦: ٨ ومزمور ١٠٤: ١٣ و١٤٨: ٤ وأمثال ٨: ٢٨
وَفَصَلَ بَيْنَ ٱلْمِيَاهِ ٱلَّتِي تَحْتَ ٱلْجَلَدِ وَٱلْمِيَاهِ ٱلَّتِي فَوْقَ ٱلْجَلَدِ هذا وصف بسيط لما نراه كل يوم وهو أن المياه تجري وتجتمع على وجه الأرض وفوقها رقيع السحب والغيوم وإنها تقع قطرات من الأبخرة المائية المنتشرة في الجو. وهذا على وفق تعبير العامة وما قررته مبادئ العلم الطبيعي لأن المياه التي تصعد من الأرض والبحر إلى الجو بخاراً تجتمع سحباً بانفصال بعض كريات الماء عن بعض بقوة كهربائية وتحملها الرياح وتبسطها في رحاب الجو إلى أن تقع على الأرض مطراً. والكتاب المقدس لا يفتأ يورد قوانين إنشاء المطر ووقوعه وسقيه الأرض أعظم برهان طبيعي على حكمة الله وجودته مثل أنه تعالى «لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْراً، يُعْطِينَا مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَمْطَاراً وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً» (أعمال ١٤: ١٧). فلو لم يكن من رقيع أو منطقة فضاء صافية حول الأرض لالتفّت الأرض بضباب كثيف دائم لا ينفذه ضوء الشمس واستمرت الحال المذكورة في قوله «كُلُّ عُشْبِ ٱلْبَرِّيَّةِ لَمْ يَنْبُتْ بَعْدُ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ ٱلإِلٰهَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَمْطَرَ عَلَى ٱلأَرْضِ» (تكوين ٢: ٥). واستعمال موسى تعبير العامة في أمر الجلد لا ينفي أنه كتب بالوحي لأن ذلك اصطلاح كل الكتبة الملهمين. فجاء في الإنجيل «غربت الشمس» (مرقس ١: ٣٢) ونحن نعلم إن الشمس ثابتة بالنظر إلينا إنما تغرب بحسب الظاهر. والحقيقة أنّ محدّب سطح الأرض يحجبها بدورانها على محورها ولكن هذا لا ينفي أن الإنجيلي كتب بشارته بالوحي لأن أفضل علماء الفلك اليوم يعبّرون عن حجب الأرض للشمس بغروب الشمس.
٨ «وَدَعَا ٱللهُ ٱلْجَلَدَ سَمَاءً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً ثَانِياً».
ع ٥
وَدَعَا ٱللهُ ٱلْجَلَدَ سَمَاءً من سما أي علا وارتفع فمعنى السموات العاليات أو المرتفعات كقوله «مُدُنٌ عَظِيمَةٌ مُحَصَّنَةٌ إِلَى ٱلسَّمَاءِ» (تثنية ١: ٢٨). و «السموات» في الآية الأولى أقسام الفضاء غير المتناهي. وفي الآية الثامنة «الجو» وهو كرة الهواء المحيطة بالأرض ولم يُعرف علوها تماماً إنما عُلم أن العلو الذي عنده ينكسر النور المحدث للشفق نحو خمسة وأربعين ميلاً ووراءها الأثير الذي لا ثقل له.
ومما يحسن الانتباه له هنا أنه لم يُقل على أثر عمل اليوم الثاني «إنه حسن» ولعل علة ذلك إن عمل اليومين الثاني والثالث كعمل واحد إذ في الأثنين «فصل المياه». وإذ كانت منطقة البخار المائي لم تزل بعيدة عن وجه الأرض بقيت في صورة السحاب والبخار ولكن لما صارت قطرات نزلت على وجه الأرض بفيضان عظيم. ولما بردت قشرة الأرض فتقلصت وتشنجت نشأت أودية ولخافيق (أي شقوق) هبطتها المياه وحينئذ رأى الله تقدماً جديداً وحكم بأنه حسن.
٩، ١٠ «٩ وَقَالَ ٱللهُ: لِتَجْتَمِعِ ٱلْمِيَاهُ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَلْتَظْهَرِ ٱلْيَابِسَةُ. وَكَانَ كَذٰلِكَ. ١٠ وَدَعَا ٱللهُ ٱلْيَابِسَةَ أَرْضاً، وَمُجْتَمَعَ ٱلْمِيَاهِ دَعَاهُ بِحَاراً. وَرَأَى ٱللهُ ذٰلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ».
أيوب ٢٦: ١٠ و٣٨: ٨ ومزمور ٣٣: ٧ و١٠٤: ٧ إلى ٩ وأمثال ٨: ٢٩ وإرميا ٥: ٢٢
لِتَجْتَمِعِ ٱلْمِيَاهُ قال غسينيوس اللغوي المشهور الأصل في العبراني يفيد معنى القطران أكثر مما يفيد معنى الاجتماع إلى مكان واحد وهذا القطران لم يمكن إلا بعد أن برد سطح الأرض بإشعاع الحرارة إلى الفضاء. قلنا والكلمة العبرانية «يقرو» من «قرأ» ولها عدة معان جمع كقرى في العربية. ففي القاموس «قرى الماء في الحوض يقريه قرياً وقرى جمعه». وأضاف وهو كقرى في العربية أيضاً واستخرج وهذا يوافق ما قاله ذلك اللغوي على تقدير إن القطر خرج مما كان فيه بخاراً على أن الاجتماع إلى مكان واحد لا يمنع من أن يكون الماء المجتمع وقع قطراً وأي مانع من أن نقول اجتمع القطر إلى مكان واحد.
إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ أي قرار البحر. من تأمل في عمق البحر وعلو أعلى الجبال عرف شدة القوة الجارفة التي غيّرت سطح الأرض في اليوم الثالث. واتساع البحر بالنسبة إلى البر عظيم جداً والسرّ في ذلك أنه لو كان اتساعه أقل من اتساع البر أو كاتساعه ما نشأ عنه المطر الكافي لنمو النبات وحياة الحيوان.
لْتَظْهَرِ ٱلْيَابِسَةُ يظهر إن هذا العمل كان بسيطاً جداً والواقع إنه اقتضى تدبيراً خاصاً من تدابير الخالق القدير لأنه لو بقيت طبقات الصخور على وضع أفقي مستوٍ أو كانت مرتبة كقشر البصلة لغطى الماء كل وجه الأرض على عمق واحد تحت كرة الهواء. والذي يظهر لنا من علم الجيولوجيا ومن المشاهد الطبيعية إن تلك الطبقات تكسرت وتشققت ودُفعت إلى وجه الأرض ورُكم بعضها على بعض بهيجان البراكين الناشئة عن النيران التي في جوف الأرض ثم جرفت السيول بعضها وفتّتته على توالي السنين والحقب. وهذا كان عمل اليوم الثالث. ولنا من هذا العمل آيات على حكمة الخالق بيّنات.
- الأولى: تنوّع حاصلات الأرض النباتية بارتفاع التلال والجبال لتذخر عليها الثلوج وينبت عليها ما لا ينبت في السهول والأودية.
- الثانية: الوصول إلى المعادن الضرورية للإنسان كالحديد والذهب والفضة والنحاس والفحم والملح والزيت المعدني. فإن الله أعدّ ذلك كله للإنسان قبل أن يخلقه لينتفع به عند وجوده ولولا انقلاب الصخور كذلك امتنع وصوله إليها.
- الثالثة: نشوء الأودية فإنه لو لم تكن ما جرت المياه وتفرّقت على وجه الأرض بل ركدت في منافع عظيمة فأفسدت الهواء فامتنعت حياة الإنسان والبهائم.
- الرابعة: نشوء الأتربة المختلفة بانحلال الصخور وتفتتها وانتشارها على وجه الأرض فموافقتها لكل أنواع النبات والحيوان.
- الخامسة: وفرة الينابيع والأنهر والخلجان والبحور والبحيرات من العذب والمالح التي كانت راحة وبركة للإنسان وتسهيلاً لأعماله وأسفاره.
١١ – ١٣ «١١ وَقَالَ ٱللهُ: لِتُنْبِتِ ٱلأَرْضُ عُشْباً وَبَقْلاً يُبْزِرُ بِزْراً، وَشَجَراً ذَا ثَمَرٍ يَعْمَلُ ثَمَراً كَجِنْسِهِ، بِزْرُهُ فِيهِ عَلَى ٱلأَرْضِ. وَكَانَ كَذٰلِكَ. ١٢ فَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ عُشْباً وَبَقْلاً يُبْزِرُ بِزْراً كَجِنْسِهِ وَشَجَراً يَعْمَلُ ثَمَراً بِزْرُهُ فِيهِ كَجِنْسِهِ. وَرَأَى ٱللهُ ذٰلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ. ١٣ وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً ثَالِثاً».
ع ٢٩ وتثنية ٣٢: ٢ وإشعياء ٣٧: ٢٧ وعبرانيين ٦: ٧ ص ٢: ٩ متّى ٧: ١٦ و١٧ ولوقا ٦: ٤٤ ويعقوب ٣: ١٢
لِتُنْبِتِ ٱلأَرْضُ عُشْباً وَبَقْلاً يُبْزِرُ بِزْراً، وَشَجَراً الخ هذا مما ذكرناه في جدول الحوادث الخمس عشرة وهو الحادثة الخامسة منها. أي إن أقدم أنواع النبات الذي آثاره في الصخور هو النبات المائي كبهق الحجر أو حزاز الصخر والفطر والطحلب والخنشار مما لا بزور له فيتولد من الجراثيم والطحلب.
وفي هذه الآية المخلوق الثاني وكان المخلوق الأول المادة التي رُتبت في نطام الكون بما عيّنه الله من النواميس الآلية والكيمية. وهذه النواميس لا تزال عاملة لكنها لا يمكنها أن تزيد ذرة على ما أبدعه الحياة النباتية ثم الحياة الحيوانية ولا يقدر على ذلك سوى الأزلي الذي هو على كل شيء قدير. وفي هذا العمل ثلاثة مخلوقات.
- العشب و هو الأصل العبراني «دشا» أي ما يعلو وجه الأرض من الخضرة النباتية غير مرتفع بالنمو. وفي العربية «دسا نقيض زكا» أي نقيض نما فإذاً المقصود به الطحلب على أنواعه كبهق الحجر وأمثاله وهو ما نشاهده اليوم على وجه الصخر ويظهر لنا بالمجهر أي المنظر المكبر عشباً دقيقاً ومن هذه الرتبة كل ا نباتات النامية من داخل.
- البقل وهو في الأصل العبراني «عشب» والمقصود به ما نما وحمل بزراً من الأعشاب كالحنطة وأشكالها من ذوات الحبوب أي القطاني.
- الشجر وهو النبات البالغ أعلى درجات الارتقاء مما قام على ساق خشبية وغشى بزره لحم وأكثره صالح للأكل كالأثمار التي يتناولها الناس.
فهذه ثلاث رتب للنبات. الرتبة الأولى نشأت إلى نهاية المدة الفحمية. وهذه لم تثبت بالمشاهدة لآثارها في طبقات الصخور لكن حكمنا بها التزاماً لأن الأشجار المثمرة لا تنبت إلا بعد ظهور الشمس بحرّها والحبوب لم تظهر إلا قبيل خلق الإنسان فكانت له طعاماً. وعلى هذا يتبين أن النبات لم يكمل إلا في اليوم السادس وهو المدة التي خلق فيها الحيوان المحتاج إلى أنواع النبات العالية. فالنبأ الإلهي بخلق النبات في هاتين الآيتين يُثبت أنه كان على سبيل التدريج. وهذا مما أثبتته الآثار في طبقات الصخور لأنه لما خلق الله «الدشا» اي الأنواع الطحلبية أبدع ناموس العالم النباتي وهذا العمل الأول يتضمن كل ما وليه من درجات الارتقاء في المملكة النباتية. والقانون الكتابي الصحيح في ذلك إن النبأ بعمل يستلزم كل أموره ومتعلقاته في الحال والمستقبل. وإنا أخبرنا في كل يوم من أيام الخلق بمخلوق جديد فيعتبر باقياً وهو وكل نواميسه متدرجاً في الكمال. فاليابسة التي وُجدت في اليوم الثالث لم تجف دفعة فتصلح لسكن الحيوانات البرية وتأصل النبات حتى اليوم السادس. ونستدل من علم الجيولوجيا أن الهواء الذي خُلق في اليوم الثاني لم يخلص من الغازات السامة ليصلح لتنفس الحيوان إلا بعد أزمنة طويلة تحولت فيها تلك الغازات فحماً بنمو النبات الكثيف الذي امتص تلك الغازات. فإذاً لما قال الله في اليوم الثالث «لتنبت الأرض عشباً وبقلاً… وشجراً» أمر بأن يكون ذلك جارياً على سنن الكمال متدرجاً إليه على ما تقتضيه أحوال الأرض والحيوان الذي خُلق عليها. ففي عمل الله الترتيب فلم يخلق شيئاً قبل وقته فصنع كل شيء حسناً على سنن حكمته الأزلية.
١٤، ١٥ «١٤ وَقَالَ ٱللهُ: لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ ٱلسَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ ٱلنَّهَارِ وَٱللَّيْلِ، وَتَكُونَ لآيَاتٍ وَأَوْقَاتٍ وَأَيَّامٍ وَسِنِينٍ. ١٥ وَتَكُونَ أَنْوَاراً فِي جَلَدِ ٱلسَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى ٱلأَرْضِ. وَكَانَ كَذٰلِكَ».
مزمور ٨: ٣ و٧٤: ١٦ و١٣٦: ٧ إرميا ١٠: ٢ ويوئيل ٢: ٣٠ و٣١ ومتى ٢٤: ٢٩ مزمور ٧٤: ١٧ و١٠٤: ١٩
كان عمل اليوم الرابع ترتيب العالم الشمسي على ما هو عليه الآن دون غيره وفيه توالي الليل والنهار بغروب الشمس وشروقها. فيُفهم من ذلك أنه لم تُبدع الشمس حينئذ بل إنها صارت إلى ما نعرفة
لِتَكُنْ أَنْوَارٌ أو منارات على ما في الحاشية. النور في العبرانية «أور» لكن فيها ما عُرب بالأنوار هنا «مُارُت» ومعناها منار أو منارة.
إن الله في اليوم الأول خلق النور وفي ذلك الوقت أخذ النور (وهو ضوء كهربائي أو كيمي) يشتد ويكثف بكثافة الغازات المنتشرة في الفضاء حتى اجتمع حول مراكز أو أجزاء متحركة وهكذا تكونت الأجرام السماوية على ما ذُكر سابقاً لكن النورين أو النيّرين الزاهرين لم يظهرا في الجو الصافي إلا في اليوم الرابع. واليوم الرابع هو بداءة المثلث الثاني من أيام الإبداع الستة. فكان أكثر عمل الخالق إلى هذا اليوم ترتيبياً. وفي هذه المدة اشتد فعل الحرارة والماء والغازات. ولكن لما ظهر النبات كثُر التقدم من الأدنى إلى الأعلى والأشرف بما أودعه الله من نواميس التركيب.
وفي اليوم الرابع أمران الأول تبرُّد وجه الأرض إلى حد احتياجها إلى الحرارة من خارج. والثاني فترة طويلة في الخلق فإنه لم يخلق فيه شيء جديد ولا سُنّ ناموس جديد ولا أُظهر عامل جديد في العالم. وإنما صفا الهواء وجف سطح الأرض وأخذت النباتات تمتص الغازات الضارة السامة وتقشعت السحب الكثيفة عن الشمس فضاءت وزادت لمعاناً وسطعت أشعة القمر وتوقدت النجوم توقداً ضعيفاً. وربما كثفت في ذلك اليوم الشمس إلى أنصارت إلى مثل كمالها اليوم.
وذهب العلامة لنكي الفلكي على التسليم بصحة الرأي السديمي إلى أن المدة منذ تكوين الشمس إلى اليوم نحو ٠٠٠ ٠٠٠ ١٨ سنة وإنه لا ينفذ ضوءها بالإشعاع إلا بعد مدة ليست أقل من ذلك. وإن الشمس تتغير دائماً ويظن أنها عند نهاية خدمتها للأرض تجذب كل السيارات إلى سطحها فتقع عليه وينتهي نظام العالم المادي. ولعل ذلك يكون في نهاية اليوم السابع الذي نحن فيه لأن في مدة هذا اليوم وهي المدة السابعة ليس من خلق جديد فهو مدة إجراء النواميس غير المتغيرة بلا إيجاد معدوم ولا إعدام موجود.
لِتَفْصِلَ بَيْنَ ٱلنَّهَارِ وَٱللَّيْلِ (ع ١٤) لينام الناس ويستيقظوا في أوقات معينة حفظاً لصحتهم. وهذا من الأدلة على حكمة الخالق أبي أرواحنا وصانع أجسادنا وجودته فإنه يسدل حجاب المساء فيدعو الإنسان إلى الراحة ثم يرفعه عن وجه الصباح فيدعوه إلى العمل.
لآيَاتٍ أي علامات يميّز بها نهاية الليل وبداءة النهار وحدود الأسابيع والأشهر والسنين. ويحتمل أنه أراد هنا «بالآيات» صور البروج وهي اثنتا عشرة صورة من صور النجوم في المنطقة السماوية المعروفة بمنطقة البروج التي استخدمها القدماء لتحديد الأوقات.
أَيَّامٍ وَسِنِينٍ اتخذ الإنسان في كل عصر من عصوره حركات الأجرام السماوية قياساً لمرور الزمان. قال بردمان إن الناس تعلموا من الحركات المختلفة كشروق الشمس وغروبها ومصير القمر بدراً وهلالاً وتعاقب نجوم الصبح والمساء ومرور النجوم بالهاجرة تقسيم الوقت إلى ثوان ودقائق وساعات وأيام وأسابيع وفصول ومواقيت وسنين وقرون وأدهار. وعلى هذا صبغت المقاييس الزمانية كالساعة والمزاولة (أي الساعة الشمسية) وبُني التقويم والزيج والخرنولوجيا والتاريخ. فالشمس والقمر والنجوم هي المقاييس القانونية التي يقسم بها الإنسان الزمان فلا خرنولوجيا بلا قياس محكم لليوم والسنة. ولا تاريخ بلا خرنولوجيا. ولا اختبار جنسي أو أمّي بلا تاريخ. ولا تقدم بلا ذلك الاختبار. ولا تمدن بلا تقدم. وإذا أبطلنا تقسيم الزمان ونحن في الحال الحاضرة وكوننا مركبين من نفس وجسد كنا كالساعة بلا معدّل فتسرع تارة وتبطئ أخرى وتصبح نفوسنا في تشويش ويختلط الوجدان والتصورات الماضية والمستقبلة ويسقط الإنسان في هاوية التوحش.
والآيات والأيام والسنون جاءت في الكتاب لمعان مختلفة. والأيام في هذه الآية كأيامنا لا مُدد الخلق. وجاءت الآيات في قول إرميا «لاَ تَتَعَلَّمُوا طَرِيقَ ٱلأُمَمِ، وَمِنْ آيَاتِ ٱلسَّمَاوَاتِ لاَ تَرْتَعِبُوا، لأَنَّ ٱلأُمَمَ تَرْتَعِبُ مِنْهَا» (إرميا ١٠: ٢) بمعنى الكسوف والخسوف وذوات الأذناب والشهب والنيازك ودوران البروج بمقتضى الظاهر على ما يُرجح. وجاءت لمثل ذلك في قوله تعالى «وَتَكُونُ عَلاَمَاتٌ فِي ٱلشَّمْسِ وَٱلْقَمَرِ وَٱلنُّجُومِ… وقُوَّاتِ ٱلسَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ» (لوقا ٢١: ٢٥). وفي نبوءة يوئيل وسفر الأعمال ما نصه «وَأُعْطِي عَجَائِبَ فِي ٱلسَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَآيَاتٍ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ» (يوئيل ٢: ٣٠ وأعمال ٢: ١٩). وفي سفر المزامير «وَتَخَافُ سُكَّانُ ٱلأَقَاصِي مِنْ آيَاتِكَ» (مزمور ٦٥: ٨). وخلاصة كل ما ذُكر إن الأجرام السماوية خُلقت للإضاءة ولقياس الوقت ولعلامات تُظهر قدرة الله العجيبة.
والأوقات في العبرانية (מוערים) «موعديم» وهي غير مقصورة على الأشهر وفصول السنة بل تشمل الاحتفالات والأعياد الدينية التي أمر الله الإسرائيليين بحفظها بعد ذلك. ففي نبوءة إشعياء «وَيَكُونُ مِنْ هِلاَلٍ إِلَى هِلاَلٍ وَمِنْ سَبْتٍ إِلَى سَبْتٍ، أَنَّ كُلَّ ذِي جَسَدٍ يَأْتِي لِيَسْجُدَ أَمَامِي» (إشعياء ٦٦: ٢٣). وفي المزامير «صَنَعَ ٱلْقَمَرَ لِلْمَوَاقِيتِ. ٱلشَّمْسُ تَعْرِفُ مَغْرِبَهَا» (مزمور ١٠٤: ١٩).
١٦ «فَعَمِلَ ٱللهُ ٱلنُّورَيْنِ ٱلْعَظِيمَيْنِ: ٱلنُّورَ ٱلأَكْبَرَ لِحُكْمِ ٱلنَّهَارِ، وَٱلنُّورَ ٱلأَصْغَرَ لِحُكْمِ ٱللَّيْلِ، وَٱلنُّجُومَ».
مزمور ١٤٨: ٣ وإشعياء ٤٠: ٢٦
فَعَمِلَ ٱللهُ ٱلنُّورَيْنِ ٱلْعَظِيمَيْنِ أي الشمس والقمر. ليس القمر عظيماً كالشمس بل ليس كوكباً عظيماً لكن الكتاب وصفه بالعظمة جرياً على إدراك العامة له بمقتضى الظاهر لأن القمر يظهر أعظم من السيارات جداً مع أنه أصغر منها كذلك. فحجم الأرض يعدل ٤٩ حجماً من أمثال حجم القمر. وحجم المشتري يعدل ١٢٨٠ مثل حجم الأرض و٦٢٧٢٠ مثل حجم القمر. ومعنى «عَمَل» هنا عيّن لا خَلق.
ٱلنُّورَ ٱلأَكْبَرَ لِحُكْمِ ٱلنَّهَارِ، وَٱلنُّورَ ٱلأَصْغَرَ لِحُكْمِ ٱللَّيْلِ، وَٱلنُّجُومَ «النجوم» معطوفة على «النور الأصغر» لا على «الليل». فالمعنى إنه عمل القمر والنجوم لحكم الليل. و «النور الأكبر» هو الشمس وهي في العبرانية (שמש) وأصل معناها خادم لأنها تخدم الأرض بنورها وحرارتها. ولعلها سُميت بذلك منعاً للإنسان من عبادتها فإن عبادة الشمس سبقت كل العبادات الوثنية. ومعنى قوله «لحكم النهار» تعيين النهار بالشروق والغروب.
١٧ – ١٩ «١٧ وَجَعَلَهَا ٱللهُ فِي جَلَدِ ٱلسَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى ٱلأَرْضِ، ١٨ وَلِتَحْكُمَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَٱللَّيْلِ، وَلِتَفْصِلَ بَيْنَ ٱلنُّورِ وَٱلظُّلْمَةِ. وَرَأَى ٱللهُ ذٰلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ. ١٩ وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً رَابِعاً».
إرميا ٣١: ٣٥ مزمور ١٣٦: ٧ إلى ٩
قال غرلاك الألماني: إن عمل الثلاثة الأيام الأولى يقابل عمل الثلاثة الأيام الأخيرة
بيان ذلك
- في اليوم الأول خلق النور
- في اليوم الثاني الجلد أي الجو مع المياه
- في الثالث اليابسة وثوبها النباتي الأخضر
- في الثلاثة الأيام الأولى خلق الجماد
- في الثلاثة الأولى حصلت اليابسة على أعلى درجات الارتقاء أي بداءة النظام النباتي
- في اليوم الرابع الأنوار في السماء
- في اليوم الخامس السمك والطيور
- في السادس حيوانات البر والإنسان
- في الثلاثة الأخرى سكان الأرض الأحياء
- في الثلاثة الأخرى حصل العالم الحيواني بل كل الخليقة على أعظم غايتها بحلق الإنسان
وكل تاريخ التوراة التابع لهذا كُتب لأجل الإنسان وأما الأجرام السماوية وهي الشمس والقمر والنجوم فقد ذُكرت لمجرد كونها أنواراً لخدمة الأرض. وهل في غير ذلك من تلك الأجرام سكان. ذلك ليس لنا أدنى أنباء به أو تلميح إليه.
٢٠ «وَقَالَ ٱللهُ: لِتَفِضِ ٱلْمِيَاهُ زَحَّافَاتٍ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ، وَلْيَطِرْ طَيْرٌ فَوْقَ ٱلأَرْضِ عَلَى وَجْهِ جَلَدِ ٱلسَّمَاءِ».
مزمور ١٠٤: ٢٥ و٢٦ لاويين ١١: ١٠ ع ٢٤ وص ٢: ٧ ص ٢: ١٩
الكلام في الآيات ٢٠ – ٢٣ بيان ما خُلق في اليوم الخامس وهو الحيوانات الدنيا كالزحافات والسمك والطيور. وعمل هذا اليوم مختص بأرضنا. (راجع جدول الحوادث الخمس عشرة ع ٢) ولنا في الآيات التاسعة والعاشرة والحادية عشرة أنه بعد نهاية المدة الفحمية ظهر أنواع كثيرة من الحيوانات البحرية وغصت البحار بالحيوانات المختلفة (ع ٢٠). ولنا في الطبقات الرملية الحديثة آثار مخالب وأظفار طيور مختلفة على وفق قوله «وليطر طير الخ». وفي الطبقات التي فوق الرملية عظام حيوانات هائلة كالسمك والدبابات على وفق قوله «فخلق الله التنانين العظام الخ» (ع ٢١).
لِتَفِضِ ٱلْمِيَاهُ زَحَّافَاتٍ وفي العبرانية لتفض فيضاً (ישרצו המים שרץ) (يشرصو هميم شرص). وجاءت هذه اللفظة في قوله «َكُلَّ ٱلْحَيَوَانَاتِ… لْتَتَوَالَدْ فِي ٱلأَرْضِ (وفي العبرانية لتشرص) وَتُثْمِرْ وَتَكْثُرْ عَلَى ٱلأَرْضِ» (ص ٨: ١٧). وقوله «فيفيض النهر ضفادع» (خروج ٨: ٣). فيظهر من هذه الآيات إن ليس معنى «زحافات» حيوانات دبابة بل حيوانات متوالدة كثيراً. وتُطلق هذه اللفظة على أنواع السمك الصغرى وعلى الفأر والحلزون والورل والضب والوزغ (لاويين ١١: ٢٩) والطيور (لاويين ١١: ٢٣) أي على أنواع الحيوان ذات البيوض المتكاثرة على حد قول المرنم «هُنَاكَ دَبَّابَاتٌ بِلاَ عَدَدٍ» (مزمور ١٠٤: ٢٤).
ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ أي ذات نفس أو نسمة أي حيوانات أو مخلوقات ذات حس لا كالجماد. ولا إشارة في هذا إلى العقل أو القوة العاقلة المختصة بالإنسان (انظر تفسير ص ٢: ٧).
ففي الآية العشرين تدرج من عمل اليوم الرابع الذي فيه نما النبات نمواً عجيباً سريعاً إلى عمل آخر من أعمال الخلق به أوجد الله البهائم التي تحيا بالتنفس. فكما كان نمو أول النبات بالجراثيم الأولى الوضيعة كانت بداءة الحيوان وضيعة فتقدم من الحييوينات والهوام إلى السمك والدبابات. وكانت خاصة الحيوانات في اليوم الخامس كثرة توالدها. ولا يستلزم هذا النص أن السمك والدبابات بلغت أرفع درجاتها قبل خلق ما هو أدنى منها رتبة من حيوانات البر. إنما يستفاد منه إن الحييوينات المجهرية (أي المكرسكوبية) في الماء والحييوينات البيوض سبقت الولود أو ذوات الثدي. والدفائن في طبقات الصخور تشهد بخلق الحيوانات وكثرتها في هذه المدة. قال العلامة ليكُنتي الجيولوجي أول الحيوانات هو البحرية والأبحر القديمة غصت بالحيوانات فعدد الأنواع الباقية آثارها في الصخور السيلوريانية فقط ١٠٠٧٤ وفوق هذه صخور رملية قديمة ديفونية غاصة بآثار أنواع السمك الوافرة.
وَلْيَطِرْ طَيْرٌ فَوْقَ ٱلأَرْضِ عَلَى وَجْهِ جَلَدِ ٱلسَّمَاءِ يؤيد هذا شهادة الصخور الديفونية لأن فيها بقايا الأفيمرس وطول جناحيه خمس وعشرون قدماً. وعلى الأرض اليوم ستة أنواع من الحيوانات التي طول أصغرها خمس عشرة قدماً وأكبرها خمس وعشرون قدماً. وكان في المدة الفحمية الطباشيرية ١٧٥ نوعاً من الحيوان طول بعضها عشرون قدماً وبعضها ثلاثون قدماً وبعضها ثمانون قدماً ومنها التياتنوسور وطوله مئة قدم وعلو أصغره ثلاثون قدماً.
٢١ «فَخَلَقَ ٱللهُ ٱلتَّنَانِينَ ٱلْعِظَامَ، وَكُلَّ نَفْسٍ حَيَّةٍ تَدِبُّ ٱلَّتِي فَاضَتْ بِهَا ٱلْمِيَاهُ كَأَجْنَاسِهَا، وَكُلَّ طَائِرٍ ذِي جَنَاحٍ كَجِنْسِهِ. وَرَأَى ٱللهُ ذٰلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ».
أيوب ٧: ١٢ وإشعياء ٢٧: ١ وحزقيال ٣٢: ٢
فَخَلَقَ هذا ذكر ثان للخلق لأن العالم الحيواني شيء جديد غير المواد التي خلقها الله في البدء ورتبها في الأيام الأربعة. وقد أجمع علماء العصر بمقتضى المكتشفات أنّ أصل كل نبات وحيوان كريات آلية أو عضوية صغيرة أكثرها لا يُرى إلا بالمجهر (أي المكرسكوب). ولكن عجز العلم الإنساني عن بيان أصل هذه الكريات وأصل الحياة فيها لأنه «لا حي إلا من حي» فالقائلون بالنشوء الدرويني أو غيره أنّ تنوع الأفراد لا مهرب لهم من التسليم بأن الحياة من مبدعات الخالق القادر على كل شيء إذا أرادوا الحق. فالعقل البشري يقدر أن يرى الظواهر الطبيعية لكنه يعجز عن إدراك أصلها ومبدعها لأنه لا يدرك تكون العناصر الأصلية ولا القوة الجاذبة ولا الاتحاد الكيمي ولا حقيقة النور ولا مبدأ الحياة النباتية ولا مبدأ الحياة الحيوانية ولا العقل الإنساني.
كَأَجْنَاسِهَا… كَجِنْسِهِ كررت هذه اللفظة سبع مرات في أربع آيات ومعناها إن الشجرة التي بزرها فيها تثمر كجنسها والسمك يلد سمكاً كجنسه والطير كجنسه والبهيمة كجنسها. ولا برهان على نشوء جنس جديد من اختلاط نوعين أو جنسين أو تحوّل جنس إلى آخر لأن الله تعالى خلق في البدء كل الأجناس وهي لا تلد إلا مثل جنسها.
ٱلتَّنَانِينَ الحيوانات الطويلة كالحيات الكبيرة والتماسيح. ففي المزامير «كَسَرْتَ رُؤُوسَ ٱلتَّنَانِينِ عَلَى ٱلْمِيَاهِ» (مزمور ٧٤: ١٣). وفي حزقيال «هَئَنَذَا عَلَيْكَ يَا فِرْعَوْنُ مَلِكُ مِصْرَ، ٱلتِّمْسَاحُ (وفي الحاشية التمساح) ٱلْكَبِيرُ ٱلرَّابِضُ فِي وَسَطِ أَنْهَارِهِ» (حزقيال ٢٩: ٣). وفي إشعياء «أَلَسْتِ أَنْتِ ٱلْقَاطِعَةَ رَهَبَ (أي مصر) ٱلطَّاعِنَةَ ٱلتِّنِّينَ» (إشعياء ٥١: ٩). وهي عبارة عن الحيوانات الكبيرة التي تعيش في الماء والهواء أو في البر والبحر معاً.
٢٢ «وَبَارَكَهَا ٱللهُ قَائِلاً: أَثْمِرِي وَٱكْثُرِي وَٱمْلإِي ٱلْمِيَاهَ فِي ٱلْبِحَارِ. وَلْيَكْثُرِ ٱلطَّيْرُ عَلَى ٱلأَرْض».
ع ٢٨
بَارَكَهَا أي منحها قوة التوالد والتكاثر حتى صارت ما لا يحصيها عدّ. وجاء معنى «بارك» الإكثار في عدة آيات منها. «وَبَارَكُوا رِفْقَةَ وَقَالُوا لَهَا: أَنْتِ أُخْتُنَا. صِيرِي أُلُوفَ رَبَوَاتٍ» (تكوين ٢٤: ٦٠ انظر أيضاً مزمور ١٢٨: ٣ و٤).
٢٣ «وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً خَامِساً».
يَوْماً خَامِساً لا تفيدنا الجيولوجيا شيئاً من أموره الأربعة الأيام الأولى. وما استفدناه من ذلك إنما استفدناه من علم الهيئة والكيمياء والطبيعيات ولكن شهادة الجيولوجيا بأمور اليوم الخامس كافية وافية. ففي الطبقتين الكمبريّة والسيلورية آثار الحيوانات الصدفية وفي الصخور الديفوينة فوقها آثار السمك وفي صخور المدة الفحمية عظام الدبابات وفوقها آثار التنانين الهائلة وفوقها آثار طيور كبيرة. فنستدل من كل ذلك على أن مدة اليوم الخامس كانت طويلة جداً. ويظهر إن خلق الأنواع المختلفة من النبات والحيوان كان تدريجياً وإن الخالق جلّ وعلا لم يسرع في الخلق. وشهادة الصخور مما يزيد بيان حكمة الله ووفرة أعماله العجيبة وتعظيم البرايا لقدرته الأزلية.
إن أهل النشوء الدرويني وأمثاله يزعمون أن كل أجناس النبات والحيوان وأنواعهما من أصل واحد (انظر كتاب الحق اليقين في النشوء والارتقاء للأستاذ إبراهيم الحوراني) وليس من أدنى برهان على انتقال الآثار في الطبقات تثبت خلق كل نوع مستقلاً.
٢٤ «وَقَالَ ٱللهُ: لِتُخْرِجِ ٱلأَرْضُ ذَوَاتِ أَنْفُسٍ حَيَّةٍ كَجِنْسِهَا: بَهَائِمَ، وَمَا يَدِبُّ، وَوُحُوشَ أَرْضٍ كَأَجْنَاسِهَا. وَكَانَ كَذٰلِكَ».
ص ٢: ١٩ وجامعة ٣: ٢٠
هذه الآية وما بعدها إلى نهاية الآية الحادية والثلاثين بيان خلق البهائم والدبابات ووحوش الأرض والإنسان في اليوم السادس. وفي هذا اليوم أربع حوادث تظهر القدرة الإلهية الأولى خلق الحيوانات العليا. والثانية خلق الإنسان. والثالثة التدبير المؤكد دوام الحيوانات ونموها. والرابعة تعيين النبات طعاماً للإنسان والحيوان.
وكان خلق الإنسان عملاً ممتازاً مستقلاً. فإنه وإن خُلق في اليوم السادس الذي خُلقت فيه الحيوانات العليا لم يُخلق معها إنما خُلق في آخر ذلك اليوم أو تلك المدة بعد تأمل الله والمشورة بين الأقانيم الإلهية الثلاثة. وفي خلق الإنسان تقدم عجيب أعظم مما في درجات الخلق السابقة فإنا لم نر في الأعمال السابقة سوى إجراء النواميس الطبيعية التي وضعها الخالق. والدرجة العليا التي بلغها الحيوان غير الناطق هي درجة الفطرة الغريزية البهيمية. ولكننا رأينا في الإنسان الحرية والاختيار والعقل وقوة النطق. فمهما استنبط النشوئيون من الآراء الغريبة والتعليلات المخترعة في شأن نشوء الجسد الإنساني وارتقائه لا يقدروا إلا أن يجدوا بين ذلك وبين طبيعة الإنسان العقلية والأدبية بوناً عظيماً وهوة عميقة فاصلة كالهوة بين الوجود والعدم.
لِتُخْرِجِ ٱلأَرْضُ ذَوَاتِ أَنْفُسٍ حَيَّةٍ كَجِنْسِهَا الخ هذا كقوله تعالى «لتفض المياه زحافات الخ» (ع ٢٠). وليس المعنى في الآيتين أن لكل من المياه والأرض قوة ذاتية أو أنه وُكل إليهما إبداع الحيوان. فالمقصود إن حيوانات البر أُظهرت حيوانات الماء بأمر الله وقدرته وإرادته الخالقة.
٢٥ « فَعَمِلَ ٱللهُ وُحُوشَ ٱلأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا، وَٱلْبَهَائِمَ كَأَجْنَاسِهَا، وَجَمِيعَ دَبَّابَاتِ ٱلأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا. وَرَأَى ٱللهُ ذٰلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ».
ص ٦: ٢٠ و٧: ١٤ و٨: ١٧ و١٩ وهوشع ٢: ١٨
فَعَمِلَ ٱللهُ وُحُوشَ ٱلأَرْضِ الخ أي الحيوانات المتنفسة وهي ثلاثة أجناس:
- الأول: البهائم أي الحيوانات غير الناطقة ولا سيما المجترة الكبرى التي دجنت بسهولة وخدمت الإنسان ونفعته.
- الثاني: الدبابات وهي في العبرانية (רמש) (رمش) أي دب كما في قول المرنم «فَيَصِيرُ لَيْلٌ. فِيهِ يَدِبُّ كُلُّ حَيَوَانِ ٱلْوَعْرِ» (مزمور ١٠٤: ٢٠). وقوله «تُسَبِّحُهُ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ، ٱلْبِحَارُ وَكُلُّ مَا يَدِبُّ فِيهَا» (مزمور ٦٩: ٣٤). وفي سفر اللاويين «شَرِيعَةُ ٱلْبَهَائِمِ، وَٱلطُّيُورِ، وَكُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ تَسْعَى فِي ٱلْمَاءِ، وَكُلِّ نَفْسٍ تَدِبُّ عَلَى ٱلأَرْضِ» (لاويين ١١: ٤٦). ومن الجلي أن الدبابات هنا الحيوانات القصيرة القوائم التي تسير على الأرض كأنها تزحف وإن المقصود بها بعض الحيوانات البرية دون البحرية.
- الثالث: «وحوش الأرض» وهي في العبرانية (חיה) أي حيّة والمقصود بها الوحوش البرية المفترسة التي لا تدجن.
٢٦ «وَقَالَ ٱللهُ: نَعْمَلُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ ٱلْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ وَعَلَى جَمِيعِ ٱلدَّبَّابَاتِ ٱلَّتِي تَدِبُّ عَلَى ٱلأَرْضِ».
في هذه الآية تكملة عمل اليوم السادس أي خلق الإنسان.
وَقَالَ ٱللهُ: نَعْمَلُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا هذا وصف أعظم مخلوقات اليوم السادس فإنه لما تم إعداد المسكن اقتضت الحكمة إعداد الساكن. وقوله «نعمل» بصيغة الجمع كما في لفظة «إلوهيم» إشارة إلى تثليث الأقانيم الإلهية لكن لا نحسب ذلك برهاناً قاطعاً بل نرى أنه سر غامض كغيره من أسرار هذا الأصحاح العجيب. وفي قوله في الآية الثانية «وروح الله» أصل إعلان الروح القدس الذي تم في العهد الجديد. وفي لفظة «إلوهيم» جرثومة تعدد الأقانيم الذي أُعلن في الإنجيل إعلاناً تاماً. ففي أول كتاب الله كل مبادئ الحقائق الإلهية والصور والرموز والإشارات والأشواق والمخاوف والموعيد والإنذارات والنبوءات التي كانت تقوى وتزيد وضوحاً من عصر إلى عصر وتجري كنهر عظيم وحين نستنتج إن ذلك كان مقصوداً منذ البدء. ومعنى «نعمل» هنا نخلق من لا شيء. والإنسان في العبرانية (אדם) (آدم) أي جنس الإنسان. وعلى هذا قوله «هٰذَا كِتَابُ مَوَالِيدِ آدَمَ، يَوْمَ خَلَقَ ٱللهُ ٱلإِنْسَانَ. عَلَى شَبَهِ ٱللهِ عَمِلَهُ ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُ (وفي الأصل العبراني خلقهم) وَبَارَكَهُ وَدَعَا ٱسْمَهُ آدَمَ (أي إنساناً) يَوْمَ خُلِقَ» (ص ٥: ١ و٢). ومعنى آدم أحمر. قال يوسيفوس سُمي بذلك لأنه صُنع من التراب الأحمر وقال غيره لأن جلده كان أحمر أي حسناً. وأشهر اللغويين لا يعرفون مما اشتق تمام المعرفة. والإنسان في لغة أشور أَدَمَو أو أدمْو. و «أدموت» في العبرانية الأرض المفلوحة. والأُدمة في العربية السّمرة والأَدَم والأَدْم البشرة. والأديم الجلد أو أحمره أو مدبوغه وما ظهر من الأرض. والمقصود «بالإنسان» هنا الجنس البشري مطلقاً.
وليس المقصود بقوله «على صورتنا كشبهنا» الصورة الجسدية بل الصورة العقلية والأدبية الروحية لأن الإنسان بالنظر إلى جسده ليس على صورة الله. وما جسده إلا واسطة يتسلط بها على الحيوان والطبيعة. وجسده منتصب كمن يحكم ويتسلط وأما هو بالنظر إلى النفس فعلى صورته تعالى أي ذو عقل وشعور وإرادة واختيار وقوى أدبية وقدرة على ملازمة القداسة. ولم يخسر الإنسان صفاته العقلية والأدبية بسقوطه لكنها ضعفت وتدنست بذلك السقوط فبقيت ولم تتلاشً وهي أساس الرجاء في مستقبله الأدبي. إن تلك الصفات كانت كاملة في الإنسان يسوع المسيح. والإنسان الساقط متى خُلق جديداً في المسيح حصل بالفعل على ما كان له بالقوة من الكمال الذي لم يحصل آدم عليه.
قال الدكتور كنس إنني أتصور أن الله سبحانه وتعالى قال لربوات الملائكة ورؤساء الملائكة «لنعمل الإنسان» كأنه شاء أن تشاهد الخليقة السماوية كلها تاج الخليقة الأرضية. وعلى هذا قوله «عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ ٱلصُّبْحِ مَعاً، وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي ٱللهِ» (أيوب ٣٨: ٧).
فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ ٱلْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ وَعَلَى جَمِيعِ ٱلدَّبَّابَاتِ فقوله «يتسلطون» بصيغة الجمع دليل على أن ليس المقصود بالإنسان آدم وحواء فقط بل كل الجنس البشري. وهذا برهان على أن صورة الله لم يفقدها الإنسان بعد السقوط كما قال أوغسطينوس. وذلك موافق لما سبق من آيات هذا الأصحاح المبيّنة الأجناس والأنواع لا الأفراد. ويفيد أن الإنسان يشبه الله في سلطته على الخليقة الدنيا وإخضاعه الحيوانات وحوشها وبهائمها لنفسه لكي تخدمه وتساعده.
والمقصود من قوله «وكل الأرض» كل ساكن على الأرض أو نابت عليها فإن الله أعطى الناس أن يتصرّفوا بكل هذه كما يشاؤون.
٢٧ «فَخَلَقَ ٱللهُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ ٱللهِ خَلَقَهُ. ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ».
ص ٥: ١ و٩: ٦ وجامعة ٧: ٢٩ وأعمال ١٧: ٢٨ و٢٩ و١كورنثوس ١١: ٧ وأفسس ٤: ٢٥ وكولوسي ٣: ١٠ و يعقوب ٣: ٩ ص ٢: ٢١ و٢٢ و٥: ٢ ومتّى ١٩: ٤ ومرقس ١٠: ٦
فَخَلَقَ كرّر قوله «خلق» في نبإ خلق الإنسان ثلاث مرات لأمرين الأول إثبات أن الإنسان مخلوق جديد لم يكن قبلاً وإنه لم ينشأ عن نوع سبقه لأنه كان في الحقيقة أكمل المبدعات بالقوة الإلهية الخالقة ويختلف عن سائر الحيوان بالجنس والنوع لا بمجرد الرتبة والدرجة مع مشابهة جسده لأجساد البهائم شيئاً. والثاني إظهار الخالق ابتهاجه بإتمام قصده المجيد.
ذَكَراً وَأُنْثَى ذُكرت الأنثى هنا قبل أن تُخلق لأن الله قصد أن يكون الجنس الإنساني ذكراً وأنثى للتسلسل. وتفصيل خلق المرأة في (ص ٢).
خَلَقَهُمْ هذا بيان أن الحكم عام يُراد به خلق الجنس البشري لأن ضمير الجمع لا ينطبق على آدم وحواء دون غيرهما وإلا لقال خلقهما لا خلقهم.
٢٨ «وَبَارَكَهُمُ ٱللهُ وَقَالَ لَهُمْ: أَثْمِرُوا وَٱكْثُرُوا وَٱمْلأُوا ٱلأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ ٱلْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى ٱلأَرْضِ».
ع ٢٢ وص ٨: ١٧ و٩: ١ و٧ ولاويين ٢٧: ٩ ومزمور ١٣٧: ٣ و١٢٨: ٣ ص ٩: ٢ ومزمور ٨: ٦ إلى ٨ وعبرانيين ٢: ٧ ويعقوب ٣: ٧
وَبَارَكَهُمُ (انظر معنى «بارك» في تفسير ع ٢٢) أي جعل فيهم قوة التوالد والتكاثر.
أَثْمِرُوا وَٱكْثُرُوا هذا بيان أن الزيجة من شؤون الإنسان الطبيعية القانونية لنفعه وسعادته ولتمتلئ الأرض سكاناً يتمجد الله بهم.
ٱمْلأُوا ٱلأَرْضَ لم يخلق الله الأرض لتبقى قفراً بل لتكون مسكناً لقبائل البشر.
أَخْضِعُوهَا وفي العبرانية (כבשה) (كبشه). (وفي العربية الكبش سيد القوم وفيها «نكس» ذلل ولعلها في الأصل كبس فوقع القلب فيها ومثلها أبس). ولقوله «اخضعوها» معنيان الأول السيادة على الأرض المادية بالفلاحة والنقب والزراعة واستخراج الكنوز المعدنية وردم الأودية وتمهيد التلال وبناء الجسور فوق الأنهر وخرق الجبال وتركيب السفن في البحار والأنهار وإخضاع القوات الطبيعية للانتفاع بها كالبخار والكهربائية والحرارة والجاذبية وما أشبه ذلك. والثاني ماي لي هذا الأمر في الآية وهو التسلط على السمك والطيور والبهائم من اتخاذها طعاماً واستخدامها لحمل الأثقال وجر المركبات وما أشبه هذه.
٢٩ «وَقَالَ ٱللهُ: إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكُمْ كُلَّ بَقْلٍ يُبْزِرُ بِزْراً عَلَى وَجْهِ كُلِّ ٱلأَرْضِ، وَكُلَّ شَجَرٍ فِيهِ ثَمَرُ شَجَرٍ يُبْزِرُ بِزْراً لَكُمْ يَكُونُ طَعَاماً».
ص ٢: ١٦ و٣: ١٨ و٩: ٣ ومزمور ١٠٤: ١٤ و١٥
أَعْطَيْتُكُمْ ليس المعنى إن الله أباح لهم كل الأثمار كأنه لم يكن مباحاً فإن الطعام ضروري لحياة الإنسان ووجودها على سنن تركيب الجسد فإن لم يأكل الإنسان يمت ويتلاشى الجنس فيكون عدم الأكل انتحاراً بل المقصود إن الله عيّن تلك الأثمار وجعلها طعاماً جوهرياً وقواماً أصلياً لحياة الجنس البشري أي إنه خلق الإنسان ذا طبيعة يوافقها الطعام النباتي أكثر من غيره من الأطعمة.
٣٠ «وَلِكُلِّ حَيَوَانِ ٱلأَرْضِ وَكُلِّ طَيْرِ ٱلسَّمَاءِ وَكُلِّ دَبَّابَةٍ عَلَى ٱلأَرْضِ فِيهَا نَفْسٌ حَيَّةٌ، أَعْطَيْتُ كُلَّ عُشْبٍ أَخْضَرَ طَعَاماً. وَكَانَ كَذٰلِكَ».
أيوب ٣٨: ٤١ ومتّى ٦: ٢٧ مزمور ١٠٤: ٢٧ و١٤٥: ١٥ و ١٦ و١٤٧: ٩
ذكر في الآية الحادية عشرة ثلاثة أنواع من النبات وهي «العشب» و «البقل» و «الشجر» وأعطى الإنسان أكمل النوعين وأعلاهما طعاماً. وفي الآية الثلاثين أعطى البهائم والطيور العشب الأخضر أي النوع الأدنى. ولا نريد بذلك أن الله منع الحيوانات والطيور من أكل الأثمار والبزور بل إن أصل قوام أجسادها أوراق العشب وسوقه. وفي كل هذا دليل على أن الإنسان أعلى من سائر الحيوان. ومما يستحق الذكر هنا إن الطعام المعيّن للإنسان هو من النوع الذي يستلزم إعداداً خاصاً وطبخاً ليصلح للأكل كالقمح والحبوب والبقول وكثير من الأثمار. ولزوم إعداد هذه الأطعمة وطبخها كان من أكثر أسباب الترفيه والتهذيب الإنساني في اجتماع العيال حول مائدة الطعام.
وهل اعتاد الإنسان أكل اللحوم قبل الطوفان. إن الله أباح لنوح ونسله بعد ذلك أكلها بقوله: «كل دابة حية تكون لكم طعاماً» أي جميع الحيوانات التي تصلح للأكل (تكوين ٩: ٣).
ولا صعوبة في فرض إن أولاد آدم قبل الطوفان أكتفوا بأكل الأثمار والنباتات لأن السواد الأعظم من قبائل أسيا اليوم لا يأكلون اللحم إلا نادراً لكنهم يتناولون اللبن والجبن وغيرهما من نتاج الحيوان. فالطعام الأصلي المعيّن للإنسان نباتي. والتصريح بإباحة أكل اللحوم لم يكن إلا بعد الطوفان. ولكن السلطة التي وُهبت للإنسان في الآية الثامنة والعشرين على السمك والطير وكل حيوان تستلزم جواز ذلك. والجلود التي لبسها آدم وحواء عند طردهما من الفردوس برهان على ذبح البهائم قبل السقوط. وذُكر بعد السقوط أنه قدّم هابيل من أبكار غنمه ومن سمانها (ص ٤: ٤) وذلك دليل على أن الذي قدم هذه الذبيحة أكل منها هو وعياله لأن هذا كان أكله رسماً دينياً يقدم قسم منه لله ويحرق على المذبح ويأكل الباقي الإنسان المقدِّم الذبيحة كأنه ضيف الله. ولنا من ذلك أن نسل شيث قبل الطوفان لم يأكل اللحم أكلاً عادياً بل حين تقديم الذبائح وإن الله بعد الطوفان أباح أكل اللحم مطلقاً. ونرى في ذلك حكمة الله ورحمته للإنسان فإنه في الأقاليم الشمالية والجنوبية الباردة يقل النبات ويكثر الحيوان الموافق للطعام ويحتاج الإنسان إلى أكل اللحم هناك أكثر من سكان الأقاليم الحارة والمعتدلة.
٣١ «وَرَأَى ٱللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً سَادِساً».
مزمور ١٠٤: ٢٤ و٣١ و١تيموثاوس ٤: ٤
وَرَأَى ٱللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً هذه خاتمة بركات الله على عمله التام في اليوم السادس أي يوم الجمعة وفيها إشارة إلى قول المسيح يوم الجمعة الذي أكمل فيه الخليقة الثانية الجديدة «قد أكمل» (يوحنا ١٩: ٣٠). ونرى من قوله تعالى هنا «حسن جداً» إن العالم قبل خلق الإنسان كان حسناً فقط وإنه على أثر خلقه صار حسناً جداً. وهذا الحكم يختص بالإنسان باعتبار كونه جنساً فيصح بعد السقوط كما صح قبله. فلا نزال على هذا نتيقن مع ما نزل بالإنسان من وفرة الشرور والمصائب من سوء تصرفه بالاختيار الذي وهبه الله له إن غاية الله في العالم هي رحمته لإظهار مجده وإنه تعالى يفرح بأعماله (مزمور ١٠٤: ٣١ انظر أيضاً مزمور ٨٥: ١٠ ورومية ٥: ١٥).
والغاية من تكرار كلمة «حسن» في الأصحاح الأول توجيه أفكارنا إلى المباينة بين الحال الأصلية والحال الحاضرة لنعلم أنه مهما كان الآن من التشويش في العالم فذلك لم يكن قبل السقوط وإنه كان يتعدى الإنسان. ولنا من هذا الأصحاح تسع حقائق:
- الأولى: وجوب الشكر لله على هذا النبإ الثمين الذي لا يقدَّر فإننا لولاه لتوغّلنا في أودية الأوهام ومجاهل الظلام والتخيلات الباطلة والتصورات العاطلة في أصل العالمين ومبدعها. وما كان أكثر الأسئلة التي تزعجنا وتعجزنا عن الإجابة لولا ذلك النبأ العظيم. إن هذا التاريخ الوجيز البسيط يحل أعظم المشاكل التي تشغل العقل البشري وتعجز العقول عن حلها إلى الأبد. فبه يستطيع الولد الصغير أن يعرف منه في ساعة واحدة أكثر مما عرفه علماء اليونان والفرس والمصريين والصينيين في ثلاثة آلاف سنة.
- الثانية: وجوب أن نتعجب من جودة الله كما نتعجب من عظمة قدرته على الخلق «يَا لَعُمْقِ غِنَى ٱللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ ٱلْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ ٱلٱسْتِقْصَاءِ! لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ ٱلرَّبِّ، أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً؟ أَوْ مَنْ سَبَقَ فَأَعْطَاهُ فَيُكَافَأَ» (رومية ١١: ٣٣ – ٣٥).
ما أعظم وما أوسع خزائن الحياة والوجود التي لله القادر على أن يوجد من العدم هذا المقدار الوافر من الكائنات الحية العقلية وأن يمنح الجميع مثل هذه السعادة وهذا السرور. إنه لم يخلق الخليقة العقلية لحاجة بل عمل ذلك من إرادته ومسرته الإلهية فإنه كان قادراً أن يبقى منفرداً إلى الأبد مكتفياً بكمالاته الأزلية ولكن جودته الفائقة المدارك حملته على أن يخلق من ملئه غير المحدود ألوفاً وربوات لا تُحصى من العالمين والبرايا العقلية وأن يمنحها طبيعة قابلة السعادة والسرور فما أعظم محبة الله ورحمته وحنوه. إن داود النبي دعا في المزمور المئة والثامن والأربعين كل المخلوقات إلى التسبيح لاسم الرب «لأنه أمر فخُلقت وثبتها إلى الدهر والأبد» كأن البشر والبهائم والجماد شركاء في الحمد والتسبيح.
- الثالثة: إن خالق العالمين هو خالقنا فنحن مديونون له بكل قوى عقولنا وأجسادنا فعلينا أن نبذلها في خدمته وأن نخضع له ونسلم أنفسنا لك التسليم لإرشاده وحفظه.
- الرابعة: إن الزيجة رسم إلهي يُقصد به نفع الإنسان وسعادته فإنه بالزيجة يتعلم الطاعة والخضوع للناموس والاعتبار لحقوق غيره في المال والإكرام. وبها يجد مبادئ الدين والآداب والعواطف الحسنة الطاهرة فأهل البيت مدرسة إعدادية.
- الخامسة: إن عمل اليدين شريف ومكرّم فإن الله عيّن لآدم عمل اليد قبل السقوط.
- السادسة: إن البهائم خاضعة للإنسان. فللأسد أنياب وللتمساح درع من جلده كالحديد وللطيور أجنحة وللسمك زعانف للمدافعة عن الحياة ولكن ليس للإنسان سوى القوى العقلية في هذا الشأن فيها يخضع الله له بمقتضى أمر الله.
- السابعة: إن غاية الله من الخَلق إظهار مجده «يَكُونُ مَجْدُ ٱلرَّبِّ إِلَى ٱلدَّهْرِ. يَفْرَحُ ٱلرَّبُّ بِأَعْمَالِهِ» (مزمور ١٠٤: ٣١).
- الثامنة: إن القبائل الوثنية القديمة كلها حسبت الله والطبيعة شيئاً واحداً ولم تعرف إن الله مستقل عن العالم ولا أنه خلق العالم من العدم. وأما تلك الأمة التي عيّنها الله واسطة لتسطير التاريخ المقدس إلى أن يأتي ملء الزمان ومشتهى الأمم (حجي ٢: ٧) فقد عرفت منذ البدء أن المادة ليست أزلية وأنها أُبدعت في زمان وفي بداءة الزمان. وإن الله العلي على العالمين علواً لا حدّ له كان منذ الأزل قبل إيجاده العالمين من لا شيء بقدرة إرادته على حسب قوله «قال الله ليكن… فكان». «لأَنَّهُ قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ» (مزمور ٣٣: ٩).
-
التاسعة: إن التثليث ونسبة المثلث الأقانيم إلى الخلق أُعلنا أكمل إعلان في العهد الجديد بعد اتخاذ الابن طبيعة الإنسان بالمسيح وانسكاب الروح القدس على كل جسد. ولنا من ذلك أن العالم خُلق من الآب بالابن للروح «لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ» (رومية ١١: ٣٦). و «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يوحنا ١: ٣). و «ٱلْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ» (كولوسي ١: ١٦. وهو «ٱلَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ ٱلْعَالَمِينَ» (عبرانيين ١: ٢).
السابق |
التالي |