أعمال الرسل

أعمال الرسل | 24 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح سفر أعمال الرسل 

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الرابع والعشرون

احتجاج بولس أمام فيلكس ع ١ إلى ٢١

١ «وَبَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ ٱنْحَدَرَ حَنَانِيَّا رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ مَعَ ٱلشُّيُوخِ وَخَطِيبٍ ٱسْمُهُ تَرْتُلُّسُ. فَعَرَضُوا لِلْوَالِي ضِدَّ بُولُسَ».

ص ٢١: ٢٧ ص ٢٣: ٢ و٣٠ و٣٥ و٢٥: ٢

بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ لا دليل لنا على أن بداءة هذه الأيام يوم إرسال بولس من أورشليم أو يوم وصوله إلى قيصرية وليس في ذلك من أمر مهم لكننا نعلم أن الخامس من تلك الأيام هو الثاني عشر من وصول بولس إلى أورشليم ما في الآية الثانية عشرة.

حَنَانِيَّا المذكور في (ص ٢٣: ٢) فأتى قيصرية نائباً عن كل فرق الكهنة ومجمع السبعين.

ِمَعَ ٱلشُّيُوخ أي بعض أعضاء مجمع السبعين نواباً عن سائر اليهود. وإتيان هؤلاء مع حنانيا للشكاية على بولس مقاسين مشاق السفر الطويل مئة وأربعين ميلاً ذهاباً وإياباً دليل على أهمية المسئلة عند اليهود وشدة بغضهم لبولس. ولا ريب في أن ما زاد حنانيا حنقاً على بولس ورغبته في الشكاية عليه وصفه إياه «بالحائط المبيّض» وأنباؤه بأنه يموت شر ميتة بقضاء إلهي.

تَرْتُلُّسُ نستنتج من اسمه أنه روماني استأجره اليهود وكيلاً في دعواهم لاعتياده رفع الدعاوي إلى الولاة الرومانيين واقتداره على إيضاح الأمر بانتباه وإحكام وتأثير لا يستطيعونها.

٢ «فَلَمَّا دُعِيَ، ٱبْتَدَأَ تَرْتُلُّسُ فِي ٱلشِّكَايَةِ قَائِلاً».

فَلَمَّا دُعِيَ أي بولس والمعنى أنه دُعي من القصر أو للوقوف أمام الوالي ليسمع الشكاية عليه ويدفع عن نفسه. وهذا كان على مقتضى الشرعية الرومانية لأنها كانت تمنع أن يُحكم على أحد بلا مواجهته للمشتكين والحصول على فرصة للاحتجاج عن الشكوى (ص ٢٥: ١٦).

ٱبْتَدَأَ تَرْتُلُّسُ فِي ٱلشِّكَايَةِ كان هذا الابتداء مدحاً للوالي لكي يستميله إلى حزب المشتكين وهو على وفق قوانين المنطقيين الرومانيين كشيشرون وغيره وفيه تملق وكذب.

٣ «إِنَّنَا حَاصِلُونَ بِوَاسِطَتِكَ عَلَى سَلاَمٍ جَزِيلٍ، وَقَدْ صَارَتْ لِهٰذِهِ ٱلأُمَّةِ مَصَالِحُ بِتَدْبِيرِكَ. فَنَقْبَلُ ذٰلِكَ أَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ فِيلِكْسُ بِكُلِّ شُكْرٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ».

إِنَّنَا أي نحن الأمة اليهودية لأن ترتلس كان يتكلم بالنيابة عنها.

حَاصِلُونَ… عَلَى سَلاَمٍ جَزِيلٍ في هذا بعض الحق لأنه على قول يوسيفوس أنه قبل أن تولى فيلكس كثر اللصوص في اليهودية ولكنه بدد شملهم وكان منهم فرقة رئيسها رجل اسمه لعازر فقبض فيلكس عليه وأرسله إلى رومية ليعاقب. ثم ظفر النبي المصري الكذاب الذي قاد أربعة آلاف رجل في البرية وشوش أمور اليهودية (ص ٢١: ٢٨) وأخمد الفتنة بين أهل قيصرية وسائر سورية.

لِهٰذِهِ ٱلأُمَّةِ أي شعب اليهود.

مَصَالِحُ أي منافع بواسطة إخماد الفتن وغيرها مما تقدم.

بِتَدْبِيرِكَ أي حكمتك ونشاطك وانتباهك قال ترتلس ذلك مادحاً فيلكس بالنيابة عن اليهود وسكت عن دعاوٍ كثيرة لليهود عليه من ظلمه وقساوته وسلبه ولا سيما قتله سراً يوناثان رئيس الكهنة فإن اليهود رفعوا الدعوى عليه إلى رومية وعزله بعد نحو سنتين.

فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ أي تُظهر كل أمة اليهود شكرها لك في الغيبة والحضور.

٤ «وَلٰكِنْ لِئَلاَّ أُعَوِّقَكَ أَكْثَرَ، أَلْتَمِسُ أَنْ تَسْمَعَنَا بِٱلٱخْتِصَارِ بِحِلْمِكَ».

لِئَلاَّ أُعَوِّقَكَ أَكْثَرَ في هذا الكلام نوع من الحكمة وضرب من الاحتيال فكأنه قال إن الزمان يضيق بذكر فضائلك ومنافعك ومناقبك وأنك لتواضعك لا تريد أن تسمع مدحك فلذلك اكتفيت بما ذكرت.

تَسْمَعَنَا نحن اليهود لأنه كان نائباً عنهم.

بِٱلٱخْتِصَارِ قال هذا له لينتبه ويصبر.

بِحِلْمِكَ أي إناءتك وصبرك وتنازلك.

٥ «فَإِنَّنَا إِذْ وَجَدْنَا هٰذَا ٱلرَّجُلَ مُفْسِداً وَمُهَيِّجَ فِتْنَةٍ بَيْنَ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْمَسْكُونَةِ، وَمِقْدَامَ شِيعَةِ ٱلنَّاصِرِيِّينَ».

لوقا ٢٣: ٢ وص ٦: ١٣ و١٦: ٢٠ و١٧: ٦ و٢١: ٢٨ و١بطرس ٢: ١٢ و١٥

ما سبق مقدمة للشكوى وبداءتها هنا.

وَجَدْنَا هٰذَا ٱلرَّجُلَ مُفْسِداً هذا مجمل الشكوى وفيها ثلاث دعاوٍ. وأراد بإفساده كل ما يقلق الراحة ويضر الناس أدبياً ومادياً.

وَمُهَيِّجَ فِتْنَةٍ هذه الدعوى الأولى. كانت اليهودية مضطربة بالفتن فجعل ترتلس بولس من جملة مهيجيها ليصب كل الغضب عليه.

بَيْنَ جَمِيعِ ٱلْيَهُودِ أي أن بولس يهيّج بعض اليهود على بعض وهذا ينشئ لهم حزناً وضرراً ولكونهم تحت سلطة الرومانيين يكون تهييج الفتنة بينهم تهييجاً لها على الرومانيين.

فِي ٱلْمَسْكُونَةِ أي كل المملكة الرومانية على المتعارف يومئذ. وعلى هذا يكون بولس مهيّج الفتنة في المملكة كلها فهو عدو عام للراحة والسلام.

وَمِقْدَامَ شِيعَةِ ٱلنَّاصِرِيِّينَ هذه الدعوة الثانية ومعناها أن بولس لم يكتف بأنه ضارٌ بالذات حتى جمع عصابة مثله في الشر ترأس عليها. وسمى تلك العصابة «بشيعة الناصريين» لأنها أتباع يسوع الناصري. وهذه أول مرة لورود وصف المسيحيين بالناصريين في الإنجيل. ولا بد أن القصد به التحقير كما حقروا يسوع بنسبته إلى الناصرة (انظر شرح ص ٢: ٢٢). والأرجح أن هذا اسم أتباع يسوع الذي شاع بين اليهود قبل خراب أورشليم وأما الاسم الذي عُرفوا به غالباً بين الأمم فهو المسيحيون (ص ١١: ٢٦).

٦ «وَقَدْ شَرَعَ أَنْ يُنَجِّسَ ٱلْهَيْكَلَ أَيْضاً، أَمْسَكْنَاهُ وَأَرَدْنَا أَنْ نَحْكُمَ عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِنَا».

ص ٢١: ٢٨ يوحنا ١٨: ٣١

شَرَعَ أَنْ يُنَجِّسَ ٱلْهَيْكَلَ هذه الدعوى الثالثة ومعناها أن بولس أخذ يبذل جهده في ذلك وبنى الدعوى الباطلة على ظن بعض اليهود أنه أدخل تروفيموس الأفسسي إلى الهيكل (ص ٢١: ٢٨). وخلاصة هذه الدعوى أنه أساء إلى شريعة اليهود ودينهم وأراد إزالة قداسة الهيكل المقدس.

أَمْسَكْنَاهُ أي نحن اليهود لأن ترتلّس تكلم عنهم.

وَأَرَدْنَا أَنْ نَحْكُمَ إلخ ادعى ترتلس أن اليهود قصدوا أن يحاكموا بولس بمقتضى العدل والحق وقوانين الشريعة وأن الأمير ليسياس منعهم من ذلك.

٧ «فَأَقْبَلَ لِيسِيَاسُ ٱلأَمِيرُ بِعُنْفٍ شَدِيدٍ وَأَخَذَهُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا».

ص ٢١: ٣٣

ما في هذه الآية يدل على أن اليهود اغتاظوا كثيراً من تعرّض الأمير لوقاية بولس لأنه بذلك حطّ كبرياءهم وشرف أمتهم ومنعهم من التشفي من بولس وهم في غاية الرغبة في قتله.

ٍبِعُنْفٍ شَدِيد نسب ترتلّس إلى الأمير أنه منع من إجراء العدل والحق في محاكمة بولس وهم يقصدون محاكمته بكل هدوء وإنصاف. والحق انهم كانوا يلكمونه بغية قتله حين أنقذه منهم (ص ٢١: ٣١ و٣٢) فالعنف الشديد منهم.

٨ «وَأَمَرَ ٱلْمُشْتَكِينَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتُوا إِلَيْكَ. وَمِنْهُ يُمْكِنُكَ إِذَا فَحَصْتَ أَنْ تَعْلَمَ جَمِيعَ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ ٱلَّتِي نَشْتَكِي بِهَا عَلَيْهِ».

ص ٢٣: ٣٠

وَأَمَرَ ٱلْمُشْتَكِينَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتُوا إِلَيْكَ (ص ٢٣: ٣٠). لامَ ترتلّس الأمير بأنه فضلاً عن منع اليهود من محاكمة بولس بمقتضى شريعتهم أجبرهم على احتمال النفقة ومشقة السفر بالإتيان إلى قيصرية ليشكوا بولس إلى الوالي.

وَمِنْهُ أي من الأمير ليسياس. ادعوا أنه يشهد بصحة قولهم. ولعل استشهادهم هذا حمل الوالي على تأخير الفحص إلى أن ينحدر ليسياس إلى قيصرية (ع ٢٢). وظن بعضهم أن الضمير في «منه» يعود إلى بولس والمعنى يمكنك أن تقف على صحة ما قلناه بتعذيبه إلى أن يعترف والفحص يحتمل معنى التعذيب (انظر ص ٢٢: ٢٤).

٩ «ثُمَّ وَافَقَهُ ٱلْيَهُودُ أَيْضاً قَائِلِينَ: إِنَّ هٰذِهِ ٱلأُمُورَ هٰكَذَا».

وَافَقَهُ أي صدقه بما اشتكى به على بولس.

ٱلْيَهُودُ أي حنانيا والشيوخ.

١٠ «فَأَجَابَ بُولُسُ، إِذْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ ٱلْوَالِي أَنْ يَتَكَلَّمَ: إِنِّي إِذْ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ مُنْذُ سِنِينَ كَثِيرَةٍ قَاضٍ لِهٰذِهِ ٱلأُمَّةِ، أَحْتَجُّ عَمَّا فِي أَمْرِي بِأَكْثَرِ سُرُورٍ».

فَأَجَابَ بُولُسُ هذا احتجاجه الثالث عن نفسه وعن الدين المسيحي. الأول كان في الهيكل أمام كثيرين من اليهود اجتمعوا من كل أقطار المسكونة للاحتفال بعيد الخمسين. والثاني قدام مجلس السبعين.

أَوْمَأَ إِلَيْهِ ٱلْوَالِي بيده أو برأسه. ومما يستحق الملاحظة أن مجلس هذا الوالي الوثني المشهور برذائله كان أعدل وأكيس من أعضاء مجلس السبعين رؤساء أمة اليهود الدينيين.

مُنْذُ سِنِينَ كَثِيرَةٍ تولى فيلكس سورية سنة ٥٢ ب. م فيكون قد حكم نحو ست سنين وهي كثيرة بالنسبة إلى سني تولي غيره من الولاة ولا بد من أنه اختبر في تلك المدة أمور ولايته فعرف صفات اليهود وتعصبهم وأنهم ممن لا يوثق بكل ما يشتكون به كشكوى ترتلس عنهم. ولا ريب في أنه سمع بالمسيحيين لكثرتهم في اليهودية ولكون بعضهم في قيصرية كرسي ولايته.

أَحْتَجُّ… بِأَكْثَرِ سُرُورٍ جعل بولس اختبار الوالي أمور اليهود موضوع رجائه في حسن العاقبة بخلاف ما كان الحال لو وقف أمام والٍ جديد لم يختبر اختبار فيلكس. وليس في افتتاح كلام بولس شيء من التملق والاحتيال إنما تكلم بالحق وهو أن اختبار الوالي كان موضوع سروره في هذه المحاكمة.

١١ «وَأَنْتَ قَادِرٌ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّهُ لَيْسَ لِي أَكْثَرُ مِنِ ٱثْنَيْ عَشَرَ يَوْماً مُنْذُ صَعِدْتُ لأَسْجُدَ فِي أُورُشَلِيمَ».

ص ٢١: ٢٦ وع ١٧

وَأَنْتَ قَادِرٌ أَنْ تَعْرِفَ بما لك من الوسائل باعتبار كونك والياً ومن إقامتك في قيصرية فمكنك أن تحضر من شاهدوني عند وصولي إلى قيصرية وحين سافرت منها إلى أورشليم. وأنت تعلم أن قصر المدة التي تقضت عليّ منذ وصولي إلى أورشليم يمنع إمكان أن أرتكب ما ادعوه عليّ.

ٱثْنَيْ عَشَرَ يَوْماً مضت سبعة منها وأنا في أورشليم (ص ٢١: ٢٧) وخمسة بعد خروجي منها (ص ٢٤: ١).

لأَسْجُدَ لا لأهيّج فتنة. وليس في هذا منافاة لقوله في (ع ١٧) أنه أتى ليصنع صدقات لأن السجود أحد مقاصده بإتيانه إلى أورشليم (ص ٢٠: ١٦) وصنع الصدقات من خير أنواع العبادة. وفي هذه الآية أمران دفع بهما ما أُشتكي به عليه الأول أحدثية وصوله. فالمدة أقل مما يمكن أن يُرتكب فيها ما نسبوه إليه. والثاني أنه أتى للقيام بفروض الدين التي ادّعوا أنه رفضها وقاومها.

١٢ «وَلَمْ يَجِدُونِي فِي ٱلْهَيْكَلِ أُحَاجُّ أَحَداً أَوْ أَصْنَعُ تَجَمُّعاً مِنَ ٱلشَّعْبِ، وَلاَ فِي ٱلْمَجَامِعِ وَلاَ فِي ٱلْمَدِينَةِ».

ص ٢٥: ٨ و٢٨: ١٧

في هذه الآية نفى دعواهم الأولى وهو أنه «مهيّج فتنة» فدفع دعواه بإنكارها وصرح بأنه لم يفعل شيئاً يشوش السلام وبأنه لم يكلم أحداً جهراً وذكر كل الأماكن التي يمكن الإنسان أن يخطب ويهيّج فتنة بها وهي الهيكل والمجامع وأسواق المدينة وبيوتها. فأنكر أنه تلفظ بكلمة مهيّجة في موضع من تلك المواضع. ولو كان قد هيّج فتنة لعرف المشتكون مكانها وزمانها. وعدم إتيانهم بالبيّنات دل على أن لا بيّنة لهم وأن دعاويهم باطلة. فبيّنات الدعوى ثلاث وهي الأحوال واعتراف المدعى عليه والشهود. وهذه لم يستطيعوا أن يوردوا شيئاً منها. على أن الأحوال كانت مع بولس لا عليه مثل قصر الوقت. ولم يعترف بصحة شيء من دعاويهم بل أنكرها. وهم لم يأتوا بأحد من الشهود عليه. وقول بولس أنه «لم يحاج أحداً» يدلنا أنه امتنع عمداً عما اعتاده من التكلم جهراً في كل مدينة دخلها. والظاهر أنه لم ير الوقت مناسباً للتبشير.

١٣ «وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُثْبِتُوا مَا يَشْتَكُونَ بِهِ ٱلآنَ عَلَيَّ».

الدعوى التي لا تثبت ببيّنة هي ساقطة وهم ادعوا أن بولس هيج فتنة وعجزوا عن البينة فدعواهم ساقطة.

١٤ «وَلٰكِنَّنِي أُقِرُّ لَكَ بِهٰذَا: أَنَّنِي حَسَبَ ٱلطَّرِيقِ ٱلَّذِي يَقُولُونَ لَهُ «شِيعَةٌ» هٰكَذَا أَعْبُدُ إِلٰهَ آبَائِي، مُؤْمِناً بِكُلِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءِ» .

عاموس ٨: ١٤ وص ٩: ٢ و١٩: ٩ و٢٣ و٢تيموثاوس ١: ٣ ص ٢٦: ٢٢ و٢٨: ٢٣

في هذه الآية إبطال لدعواهم الثانية على ما قصدوا بها وهي أنه «مقدام شيعة الناصريين». أنكر بولس الدعوى الأولى وأقر بصحة الدعوى الثانية على غير ما قصدوا بها نافياً ما استنتجوا منها.

ٱلطَّرِيقِ ٱلَّذِي يَقُولُونَ لَهُ «شِيعَةٌ» سماه المشتكون في ع ٥ «مقدام شيعة الناصريين» فأقر بولس أنه من الناصريين لكنه أنكر أنهم شيعة وسكت تواضعاً عن كونه مقدامهم.

اعتاد اليهود أن يعبروا عن أمور الدين المختلفة «بالطرق» فقد جاء في أقوالهم طريق الإيمان وطريق العبادة وطريق السيرة. وكثيراً ما عُبر بالطريق عن الدين المسيحي (ص ٩: ٢ و١٩: ٩ و٢٣ و٢٢: ٤).

أقام بولس في ما يأتي ثلاثة براهين على أنه لم يخرج عن كونه يهودياً بكونه مسيحياً وهي أنه عابد الإله الذي يعبده اليهود وأنه متمسك بما هم متمسكون به من كتب الدين وأن رجاءه في المستقبل مثل رجائهم. ولزم من هذا أن المسيحيين ليسوا بشيعة.

أَعْبُدُ إِلٰهَ آبَائِي أي إله أسلافهم وأسلافه والمعنى أنه لم يعبد بكونه مسيحياً إلهاً جديداً بل ظل يعبد الذي عبده للديانة اليهودية. وهذا مضمون ما صرّح به أمام مجلس السبعين في (ص ٢٣: ١).

أذنت الحكومة الرومانية لليهود في أنهم يعبدون إله آبائهم بلا معارض فكان لبولس حق الحماية الرومانية ما دام يعبد إله آبائه.

مُؤْمِناً بِكُلِّ… فِي ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءِ هذا البرهان الثاني على أنه لم يخرج عن كونه يهودياً بكونه مسيحياً لأنه لم يزل مصدقاً كتب الدين اليهودي المقدسة المجموعة بالناموس والأنبياء ومتمسكاً بها. ولا ريب في أن فيلكس كان يعرف أن تلك الأسفار معتمد الدين اليهودي مما سمعه مراراً كثيرة. وقول بولس هنا على تمام الموافقة لقول يسوع «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ ٱلنَّامُوسَ أَوِ ٱلأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ» (متّى ٥: ١٧).

١٥ «وَلِي رَجَاءٌ بِٱللّٰهِ فِي مَا هُمْ أَيْضاً يَنْتَظِرُونَهُ: أَنَّهُ سَوْفَ تَكُونُ قِيَامَةٌ لِلأَمْوَاتِ، ٱلأَبْرَارِ وَٱلأَثَمَةِ».

ص ٢٣: ٦ و٢٦: ٦ و٧ و٢٨: ٢٠ دانيال ١٢: ٢ ويوحنا ٥: ٢٨ و٢٩

وَلِي رَجَاءٌ بِٱللّٰهِ في هذه الآية البرهان الثالث على أنه لم يخرج عن دين آبائه باتباعه طريق يسوع وهو أنه يرجو في المستقبل ما ترجوه أمة اليهود رجاء مبنياً على مواعيد الله. وظاهر الرجاء اشترك فيه الفريسيون والصدوقيون. فعلى اعتقاد بولس كانت قيامة يسوع برهاناً على كونه المسيح وقيامته عربون القيامة العامة وباكورتها. ويتضح من خطاب بولس أمام أغريباس الثاني أن كلامه في القيامة يتضمن مجيء المسيح الموعود به (ص ٢٦: ٦ – ٨ و٢٢ و٢٣).

فِي مَا هُمْ أَيْضاً يَنْتَظِرُونَهُ أي معظم الأمة اليهودية على فرض أن الرجاء في هذه الآية مقصور على قيامة الأموات العامة لأن الصدوقيون المنكرين القيامة ليسوا سوى شرذمة قليلة وعلى فرض أنه أشار بالأكثر إلى المسيح الموعود به فهو منتظر كل الأمة اليهودية.

وما في هذه الآية دليل على أنه كان بين المشتكين جماعة من الفريسيين وأن الاختلاف الذي وقع بينهم في المجلس في أمر بولس كان وقتياً وأن الفريقين اتفقا بعد ذلك على اضطهاده.

وفيها دليل أيضاً على أن تعليم قيامة الأموات ليس مقصوراً على العهد الجديد بل أنه تعليم قديم عند الأمة اليهودية أعلنه الله بعهده لإبراهيم وإسحاق ويعقوب عهداً أبدياً (تكوين ١٧: ١٧) «فالله ليس إله أموات بل إله أحياء». وتنبأ به إشعياء (إشعياء ٢٦: ١٩ دانيال ١٢: ٢). نعم إن المسيح أوضحه وصدقه بكلامه وأثبت رجاء القيامة بقيامته.

ٱلأَبْرَارِ وَٱلأَثَمَةِ أي كل البشر بقطع النظر عن صفاتهم الأدبية.

١٦ «لِذٰلِكَ أَنَا أَيْضاً أُدَرِّبُ نَفْسِي لِيَكُونَ لِي دَائِماً ضَمِيرٌ بِلاَ عَثْرَةٍ مِنْ نَحْوِ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ».

ص ٢٣: ١

أُدَرِّبُ نَفْسِي أي أجتهد دائماً.

ضَمِيرٌ بِلاَ عَثْرَةٍ الذي له ضمير بلا عثرة هو الذي لا يفعل شيئاً مخالفاً لحكم الضمير ولا يأتي ما يحمل غيره على مخالفة حكم ضميره ولا ريب في أن بولس اجتهد بأن يكون له ضمير بلا عثرة في كل سيرته. ولكنه لم يقصد التصريح بذلك في كلامه هنا إنما قصد هنا تصرفه بالنظر إلى ما يجب عليه لشعب اليهود ودينهم.

مِنْ نَحْوِ ٱللّٰهِ باعتبار كونه واضع الدين الذي هو ديني ودين آبائي وغايتي أن لا أعصى أمره وأن لا أغيظه.

وَٱلنَّاسِ قصد بالناس هنا أمته اليهودية وأراد أنه اجتهد في أن لا يعثرهم لأنه «صار لليهود كيهودي» (١كورنثوس ٩: ٢٠) وقال ذلك دفعاً لتوهمهم أنه يبغضهم.

١٧ «وَبَعْدَ سِنِينَ كَثِيرَةٍ جِئْتُ أَصْنَعُ صَدَقَاتٍ لأُمَّتِي وَقَرَابِينَ».

ص ١١: ٢٩ و٣٠ و٢٠: ١٦ ورومية ١٥: ٢٥ و٢كورنثوس ٨: ٤ وغلاطية ٢: ١٠

دفع في هذه الآية والتي تليها دعواهم الثالثة.

سِنِينَ كَثِيرَةٍ لا نعلم بداءة هذه السنين التي أرادها فإن كان قد أراد أنها يوم تنصره وتركه أورشليم باعتبار كونها مسكناً له فتلك السنين خمس وعشرون وإن كان قد أراد أنها وقت زيارته الأخيرة لأورشليم فهي أربع سنين (انظر شرح ص ١٨: ٢٢ و٢٣).

صَدَقَاتٍ لأُمَّتِي هي أموال إحسان جمعها من كنائس مكدونية لفقراء كنيسة أورشليم وذُكر ذلك الجمع في رسائله (رومية ١٥: ٢٥ و١كورنثوس ١٦: ١ – ٤ و٢كورنثوس ٨: ١ – ٤). ولم يُذكر في غير هذا الموضع من أعمال الرسل. وأراد بالأمة في قوله «أمتي» اليهود وذلك لأن كنيسة أورشليم من متنصري اليهود لا من متنصري الأمم. وهذا ليس عمل من يهيج فتنة بين اليهود.

وَقَرَابِينَ المعتاد تقديمها في يوم الخمسين من ذبائح وغيرها عن نفسه وعن الناذرين الذين اتخذ على نفسه أن ينفق عليهم كما مر في (ص ٢١: ٢٣ – ٢٥). وفي هذا بعض الرد على قولهم «شرع يدنس الهيكل» فإنه أتى الهيكل عابداً لا مدنساً متمماً فرائض الشريعة التي اتهموه بأنه يحتقرها.

١٨ «وَفِي ذٰلِكَ وَجَدَنِي مُتَطَهِّراً فِي ٱلْهَيْكَلِ لَيْسَ مَعَ جَمْعٍ وَلاَ مَعَ شَغَبٍ قَوْمٌ هُمْ يَهُودٌ مِنْ أَسِيَّا».

ص ٢١: ٢٦ و٢٧ و٢٦: ٢١

وَفِي ذٰلِكَ أي وأنا أقدم الصدقات للفقراء والقرابين والذبائح لله مظهراً بذلك غيرتي على أمتي وعلى شريعة موسى.

مُتَطَهِّراً فِي ٱلْهَيْكَلِ كما قيل في (ص ٢١: ٢٦ و٢٧) وأتى ذلك التطهير ليساعد الناذرين على وفاء نذورهم (ص ٢١: ٢٤). وكان ذلك التطهير بواسطة تقديم الذبائح والقرابين المفروضة. فيستحيل من كان كذلك أنه يشرع في أن يدنس الهيكل.

لَيْسَ مَعَ جَمْعٍ وَلاَ مَعَ شَغَبٍ هذا دفع آخر لقولهم أنه «مهيج فتنة».

قَوْمٌ هُمْ يَهُودٌ مِنْ أَسِيَّا (انظر ٢١: ٢٧).

١٩ «كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرُوا لَدَيْكَ وَيَشْتَكُوا، إِنْ كَانَ لَهُمْ عَلَيَّ شَيْءٌ».

ص ٢٣: ٣٠ و٢٥: ١٦

كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرُوا لَدَيْكَ أي اليهود الذين من آسيا فهم الذين شاهدوا ما فعلته واتهموني وقبضوا عليّ. فعلى قولهم صار عليّ كل ما صار فكان يجب أن يأتوا هم إما شهوداً وإما مشتكين لا ترتلّس ولا حنانيا فهما لم يعرفا ما سمعناه. والخلاصة أنهم أقاموا الدعوى عليه بلا بيّنة ولا شهود.

٢٠ «أَوْ لِيَقُلْ هٰؤُلاَءِ أَنْفُسُهُمْ مَاذَا وَجَدُوا فِيَّ مِنَ ٱلذَّنْبِ وَأَنَا قَائِمٌ أَمَامَ ٱلْمَجْمَعِ».

أَوْ أي بما أنه لم يحضر اليهود الذين من آسيا وقد فات وقت استحضارهم وسقطت دعواهم.

لِيَقُلْ هٰؤُلاَءِ أَنْفُسُهُمْ أي حنانيا والشيوخ.

مَاذَا وَجَدُوا فِيَّ مِنَ ٱلذَّنْبِ الخ دعاهم هنا إلى أن يشتكوا عليه بما شاهدوه منه ويستطيعون أن يشهدوا به فهم شاهدوه في مجمع السبعين (ص ٢٢: ٣٠) فإن كان قد أذنب هناك وشاهدوا ذلك أمكنهم أن يشهدوا عليه به. لأنهم لم يروه في سوى المجمع فشهادتهم عليه بما كان منه في غيره لا تقوم لعدم مشاهدتهم إياه.

٢١ «إِلاَّ مِنْ جِهَةِ هٰذَا ٱلْقَوْلِ ٱلْوَاحِدِ ٱلَّذِي صَرَخْتُ بِهِ وَاقِفاً بَيْنَهُمْ: أَنِّي مِنْ أَجْلِ قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ أُحَاكَمُ مِنْكُمُ ٱلْيَوْمَ».

ص ٢٣: ٦ و٢٨: ٢٠

هٰذَا ٱلْقَوْلِ ٱلْوَاحِدِ أشار بذلك إلى ما كتبه لوقا في (ص ٢٣: ٦) وصرح بأنه لم يقل سوى هذا القول الواحد الذي أعاده هنا وقال أنه مستعد للمحاكمة إن كان تمسكه به وإعلانه إياه ذنباً.

مِنْ أَجْلِ قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ الخ سبق في تفسير (ص ٢٣: ٦) بيان أن بولس اعتبر قيامة يسوع من الأموات أهم الأمور المتعلقة بالقيامة العامة لأنه بقيامته برهن أنه هو المسيح وإيمان بولس بهذه القيامة جعله مسيحياً وهي علة القبض على بولس والشكاية عليه ولكن هذا ليس بذنب بمقتضى الشريعة الرومانية ولا بعلة للحكم عليه.

لم يكتف بولس بالمحاماة عن نفسه أمام فيلكس لكنه أراد أن يشهد لليهود مرة أخرى أن يسوع هو المسيح وأن قيامته دليل على ذلك وختم كلامه بتقديم هذه الشهادة. والظاهر أن المشتكين لم يستطيعوا أن يعترضوا على احتجاجه شيئاً.

رجوع بولس إلى القصر وخطابه لفيلكس ودروسلا ع ٢٢ إلى ٢٧

٢٢ «فَلَمَّا سَمِعَ هٰذَا فِيلِكْسُ أَمْهَلَهُمْ، إِذْ كَانَ يَعْلَمُ بِأَكْثَرِ تَحْقِيقٍ أُمُورَ هٰذَا ٱلطَّرِيقِ، قَائِلاً: مَتَى ٱنْحَدَرَ لِيسِيَاسُ ٱلأَمِيرُ أَفْحَصُ عَنْ أُمُورِكُمْ».

ع ٧

سَمِعَ هٰذَا أي تبيين بولس الفرق بين اليهود والمسيحيين وتبرئته لنفسه في اعتقاده وعمله. ويحتمل أن الإشارة إلى كل من خطاب ترتلّس وخطاب بولس.

أَمْهَلَهُمْ وهم طالبون الحكم على بولس. ولا ريب في أنه اقتنع بأن شكواهم كاذبة ولكنه لم يرد أن يغيظ شعب اليهود بإغاظة رؤسائه (الذين هم المشتكون) بتبرئة بولس وإطلاقه. ولهذا عاق القضاء بناء على استشهاد ترتلّس بليسياس (ع ٨).

يَعْلَمُ بِأَكْثَرِ تَحْقِيقٍ أُمُورَ هٰذَا ٱلطَّرِيقِ معنى الطريق هنا الديانة المسيحية كما جاء في كلام بولس في (ع ١٤) وكما ورد غالباً في هذا السفر (انظر شرح ص ٩: ٢٠). ومعنى «يعلم بأكثر تحقيق» أن فيلكس عرف حقيقة الديانة المسيحية بعد خطاب بولس أكثر من معرفته إياها قبل ذلك الخطاب. أو أنه أعرف بها من سواه من الحكام الرومانيين كغاليون وليسياس اللذين اعتبروا الديانة المسيحية مجرد «مسائل وأسماء» (ص ١٨: ١٥ و٢٣: ٢٩). أو أنه عرف بها أكثر مما ظن اليهود المشتكون الذين ادّعوا أن بولس عندما صار مسيحياً رفض الديانة اليهودية كل الرفض.

تولى فيلكس سورية ست سنين وتولى السامرة قبل ذلك بضعة سنين ولا بد من أنه سمع كثيراً وعرف كثيراً من أمور المسيحيين وزاده معرفة أنه في قيصرية موضع إقامته سكن فيلبس وهو من أقدم المبشرين المسيحيين وأكثرهم غيرة.

مَتَى ٱنْحَدَرَ لِيسِيَاسُ الخ هذا وعد بأنه يبحث في الدعوى إلى النهاية ويحكم بها. وما كان ذلك سوى محاولة التخلص منهم لأنهم يبعد عن التصديق أن ليسياس يترك أورشليم في تلك الأيام أيام الاضطراب ويذهب إلى قيصرية لتأدية الشهادة في أمر بولس. والظاهر أن اليهود اتخذوه كذلك وتحققوا أنه لم يرد أن يحكم على بولس إذ لا دليل على أنهم جددوا الشكوى إليه مدة باقي زمن توليه سورية وهي سنتان.

٢٣ «وَأَمَرَ قَائِدَ ٱلْمِئَةِ أَنْ يُحْرَسَ بُولُسُ، وَتَكُونَ لَهُ رُخْصَةٌ، وَأَنْ لاَ يَمْنَعَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَخْدِمَهُ أَوْ يَأْتِيَ إِلَيْهِ».

ص ٢٧: ٣ و٢٨: ١٦

وَأَمَرَ قَائِدَ ٱلْمِئَةِ ما أمر به دليل على اقتناعه ببراءة بولس لكنه لم يطلقه إكراماً لليهود ولعلة مذكورة في الآية السادسة والعشرين. وأعطاه كل الحرية التي يمكن أن يُعطاها الأسير.

أَنْ يُحْرَسَ كان الحجر عند الرومانيين ثلاثة أنواع الأول السجنيّ مع القيود كما حُبس بولس وسيلا في سجن فيلبي. والثاني التقييدي بلا سجن وهو أن يُربط الأسير بسلسلة إلى جندي خارج السجن كما حجر على بولس في رومية في حبسه الأول. والثالث حراسيّ بلا سجن ولا تقييد مع وفرة من الحرية وهذا ما حُجر على بولس به في قيصرية. والأرجح أنه حُجر عليه في قصر هيرودس.

رُخْصَةٌ أي حرية إلى غاية ما يمكن أن توهب للأسير.

وَأَنْ لاَ يَمْنَعَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِهِ لا بد أنه كان من جملة هؤلاء الأصحاب فيلبس وأهل بيته المذكورون في (ص ٢١: ٨ و٩) وتروفيموس الذي أتى معه من آسيا وأرترخس (ص ٢٧: ٢) ولوقا الطبيب الحبيب كاتب هذا السفر.

٢٤ «ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ جَاءَ فِيلِكْسُ مَعَ دُرُوسِلاَّ ٱمْرَأَتِهِ، وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ. فَٱسْتَحْضَرَ بُولُسَ وَسَمِعَ مِنْهُ عَنِ ٱلإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ».

بَعْدَ أَيَّامٍ هذا وقت غير معيّن ولكن غلب أن يراد به وقت قصير.

دُرُوسِلاَّ هي بنت هيرودس أغريباس الأول الذي ذُكر موته في (ص ١٢: ٢٣) وهي أخت أغريباس الثاني وبرنيكي (ص ٢٥: ١٣). وهي بنت حفيد هيرودس الكبير. تزوجت عزيز ملك حمص الذي تهوّد لكي يأخذها. قال يوسيفوس أن فيلكس استمالها إليه وحملها على ترك زوجها بواسطة سيمون الساحر القبرسي (وهو على رأي بعضهم سيمون المذكور في ص ٨: ٢٤) طُمرت تحت مقذوفات بركان يزوف في إيطاليا سنة ٧٩ ب. م. ولعل معنى قول لوقا «جاء فيلكس معها» أنه أتى بها إلى بيته لتكون امرأة له.

وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ أصلاً وإيماناً ولذلك كانت تميل طبعاً إلى مشاهدة المبشر الذي هو أحد مشاهير المذهب الذي يُقاوم في كل مكان وإلى سمع كلامه.

فَٱسْتَحْضَرَ بُولُسَ تدل القرينة على أنه استدعاه إرضاء لدروسلاّ.

ٱلإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ أي الدين الجديد الذي موضوعه وأساسه المسيح (انظر ص ١٤: ١١ و١٢).

٢٥ «وَبَيْنَمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ عَنِ ٱلْبِرِّ وَٱلتَّعَفُّفِ وَٱلدَّيْنُونَةِ ٱلْعَتِيدَةِ أَنْ تَكُونَ، ٱرْتَعَبَ فِيلِكْسُ، وَأَجَابَ: أَمَّا ٱلآنَ فَٱذْهَبْ، وَمَتَى حَصَلْتُ عَلَى وَقْتٍ أَسْتَدْعِيكَ».

لم تكن غايتهما من سمع بولس سوى اللهو والتسلية أما بولس فانتهز الفرصة ليشهد لهما بالمسيح وحقائق إنجيله ولا سيما بسط الحقائق التي هي أكثر نفعاً لهما ومن شأنها أن تقود إلى التوبة وخلاص النفوس. وكان إطلاق بولس متوقفاً على إرادة فيلكس لكنه لم يفه بكلمة من كلام التملّق أو التعظيم أو التصويب ليستميله إلى إطلاقه.

ٱلْبِرِّ أي العدل وهو القيام بما يجب لله وللناس. وكان على فيلكس باعتبار أنه والٍ أن يكون عادلاً لأنه نائب إله عادل ولا محاباة عنده ولا يقبل رشوة. ولا ريب في أن فيلكس كان مفتقراً إلى بسط الكلام على هذه الصفة بدليل شهادة تاسيطوس المؤرخ الروماني عليه فإنه قال فيه «أنه تصرف في كل أموره كأنه أُبيح له ارتكاب كل الذنوب بلا عقاب» وقال إنه اشتهر بصفتين القساوة والعشق.

وَٱلتَّعَفُّفِ اعتزال كل الشهوات الجسدية التي حرمتها الشريعة الإلهية. فاقتران فيلكس بدروسلا ورجلها حيّ مخالف لقوانين التعفف التي وضعها الله فكلاهما مسوؤل به لأنهما لم يهتما بسوى لذاتهما وأهوائهما. فكانت أثوابهما جميلة نقية ولكن قلبيهما مملوآن فساداً.

وَٱلدَّيْنُونَةِ ٱلْعَتِيدَةِ أَنْ تَكُونَ على كل مخالفي شريعة الله المكتوبة على ألواح الضمائر وفي صفحات كتابه تعالى. وأمام عرش تلك الدينونة يقف كل إنسان والياً وأسيراً الخ.

تكلم بولس على هذا الموضوع في أريوس باغوس (ص ١٧: ٣١).

وهذه المواضيع الثلاثة البر والتعفف والدينونة من شأنها أن تؤثر في ضمير كل من فيلكس ودروسلاّ وتكلم بولس عليها أمامهما اقتضى جرآة وأمانة للحق. لا يلزم مما ذُكر هنا أن بولس لم يتكلم في غير هذه المواضيع الثلاثة فإن سُئل أن يبين حقيقة الإيمان بالمسيح فساقه الكلام في ذلك إلى ذكر الفضائل الروحية التي هي أثمار الإيمان بالمسيح وذكر الدينونة التي سيجريها المسيح في نهاية العالم.

ٱرْتَعَبَ فِيلِكْسُ وإن لم يكن المبشّر سوى أسير. فإن فيلكس اضطرب خوفاً عندما تذكر ما ارتكبه من الآثام وسمع بالدينونة عليه. كان فيلكس قد تربى في الجيش الروماني فلم يرتعب خيفة من إنسان أو من ضرر جسدي لكنه ارتعد خوفاً من غضب الله والخطر الذي كانت نفسه معرّضة له. والأرجح أنه لم يكن قد سمع قبلاً خطاباً في مثل تلك المواضيع وكان ذلك الخطاب على خلاف ما توقعه. فتأثره من خطاب بولس كان كتأثر هيرودس أنتيباس من خطاب يوحنا المعمدان (مرقس ٦: ٢٠). ولا دليل على أن دروسلاّ تأثرت شيئاً من وعظ بولس ولعل على ذلك تعودها سمع الكلام على وجوب تلك الفضائل وتلك الدينونة لأنها يهودية أو لأنها ظنت أن نسبتها إلى إبراهيم وتقديمها الذبائح وقيامها برسوم الديانة كافية لستر خطاياها وخلاص نفسها.

أَمَّا ٱلآنَ فَٱذْهَبْ الخ تصرّف فيلكس في ما يبنه وبين الله كما تصرف في أمر بولس والمشتكين أي تمهل في القضاء وكانت نتيجة كل من التمهلين رديئة وهما ظلم بولس وهلاك فيلكس.

إن الشيطان يرغب في أن الناس لا يسمعون الحق وأنهم يقاومونه ولكنهم إذا سمعوا الحق وتأثروا به حملهم على التمهل عن قبوله بدعوة أن وقتاً آخر أكثر مناسبة لقبوله.

ارتعب حارس سجن فيلبي كما ارتعب فيلكس حين استيقظ ضميره وشعر بأنه خاطئ لكنه لم يتمهل كفيلكس بل سأل عن طريق الخلاص وآمن بالمسيح المخلص (ص ١٦: ٣٠ و٣١). فتأخير زمان التوبة والإيمان إلى وقت آخر بناء على رجاء أن يكون أكثر مناسبة علة هلاك كثيرين.

٢٦ «وَكَانَ أَيْضاً يَرْجُو أَنْ يُعْطِيَهُ بُولُسُ دَرَاهِمَ لِيُطْلِقَهُ، وَلِذٰلِكَ كَانَ يَسْتَحْضِرُهُ مِرَاراً أَكْثَرَ وَيَتَكَلَّمُ مَعَهُ».

خروج ٢٣: ٨

يَرْجُو أَنْ يُعْطِيَهُ بُولُسُ دَرَاهِمَ اشتهر فيلكس بالطمع وكان قد سمع نبأ الصدقات التي صنعها بولس (ع ١٧) فظن أنه غني قادر أن يفدي نفسه بالدراهم أو أنه يستطيع أن يجعل أصدقاءه يجمعون له مال الفدية ولكن بولس كان يعلم أنه بريءٌ يستحق أن يُطلق فأبى أن يرشي فيلكس. لأنه اعتقد أن ذلك حرام ولم يرد أن يضع تجربة أمام من في يده القضاء ولأن الراشي شريك المرتشي ولأن في تأدية الرشوة شيئاً من الاعتراف بالذنب كأن حقه عاجز عن تبرئته.

وَلِذٰلِكَ كَانَ يَسْتَحْضِرُهُ الخ لا بد من أن بولس كان يخاطبه كل مرة بشيء من الأمور الدينية ولكن لا دليل على أن كلامه أثر فيه شيئاً لأنه من خالف ضميره مراراً أماته ولأن الطمع ملأ قلبه فلم يترك فيه موضعاً لغيره من الشعور.

٢٧ «وَلٰكِنْ لَمَّا كَمَلَتْ سَنَتَانِ، قَبِلَ فِيلِكْسُ بُورْكِيُوسَ فَسْتُوسَ خَلِيفَةً لَهُ. وَإِذْ كَانَ فِيلِكْسُ يُرِيدُ أَنْ يُودِعَ ٱلْيَهُودَ مِنَّةً، تَرَكَ بُولُسَ مُقَيَّداً».

خروج ٢٣: ٢ وص ١٢: ٣ و٢٥: ٩ و١٤

كَمَلَتْ سَنَتَانِ من بداءة الحجر على بولس في قيصرية. والأرجح أن ذلك كان سنة ٦٠ ب. م أي قبل خراب أورشليم بعشر سنين. ولم يذكر الكاتب ماذا كان يفعل بولس في تلك المدة ولم يظهر أنه كتب فيها شيئاً من الرسائل إلى أحد. والأرجح أنه كان يساعد رفيقه لوقا على كتابة بشارته كما سبق الكلام في مقدمة تلك البشارة. ولعله عاونه أيضاً على كتابة ما مر من هذا السفر.

قَبِلَ فِيلِكْسُ اشتكى عليه اليهود إلى الأمبراطور نيرون في رومية لشدة ظلمة فدُعي للمحاكمة هناك فعُزل ولولا توسط أخيه بالاس الذي كان محبوباً إلى نيرون في أمره لحكم عليه وعوقب فبتوسطه له خلّصه من العقاب الذي استحقه.

بُورْكِيُوسَ فَسْتُوسَ (انظر شرح ص ٢٥: ١).

فِيلِكْسُ… تَرَكَ بُولُسَ مُقَيَّداً علة إظهاره لليهود تلك المنة مع بغضه اليهود وسلبه إياهم وظلمه لهم توقعه أن ذلك يحملهم على تخفيف الشكوى التي رفعوها عليه إلى الأمبراطور ولكن ظلمه لبولس لم يفده شيئاً أمام كرسي نيرون كما سبق وزاده جرماً أمام عرش الله.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى