أعمال الرسل

أعمال الرسل | 20 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح سفر أعمال الرسل 

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح العشرون

سفر بولس من أفسس إلى اليونان ع ١ إلى ٦

١ «وَبَعْدَمَا ٱنْتَهَى ٱلشَّغَبُ، دَعَا بُولُسُ ٱلتَّلاَمِيذَ وَوَدَّعَهُمْ، وَخَرَجَ لِيَذْهَبَ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ».

١كورنثوس ١٦: ٥ و٢كورنثوس ٢: ١٢ و١٣ و٧: ٥ و٦ و١تيموثاوس ١: ٣

بَعْدَمَا ٱنْتَهَى ٱلشَّغَبُ أي الفتنة التي أنشأها ديمتريوس ورفقاؤه وأزالها الكاتب الأفسسي بحكمته. وذهاب بولس من أفسس ليس من معلولات ذلك الشغب بل مما عقبه لأنه كان قد عزم قبلاً على الذهاب (ص ١٩: ٢١).

وَدَّعَهُمْ بياناً لمودّته الأخوية وعنايته الرسولية.

إِلَى مَكِدُونِيَّةَ حيث أرسل أمامه تيموثاوس وأرسطوس (ص ١٩: ٢٢) وأوصى تيموثاوس أن يظل سائراً من هنالك إلى كورنثوس لينذر كنيستها ويعظها ويصلح شؤونها حتى لا تُبقي شيئاً يحمل بولس حين يصل إليها على التوبيح أو التأديب (١كورنثوس ٤: ١٧ و٢١). وكتب بولس إلى تلك الكنيسة أن تقبل الأخ تيموثاوس بالترحيب والإكرام وأن لا تستهين بحداثته (١كورنثوس ١٦: ١٠ و١١).

والظاهر أنه على أثر ذهابهما أتى إلى أفسس أناس من أهل خلوي (١كورنثوس ١: ١١) وأخبروه بشدة الخصومات في كنيسة كورنثوس وأن أحد أعضاء الكنيسة عائش في الزنا مع امرأة أبيه (١كورنثوس ٥: ١). وأنه أتاه رقيم من كنيسة كورنثوس على أيدي استفانوس ورفاقه (١كورنثوس ١٦: ١٧) يتضمن عدة مسائل تتعلق بالكنيسة (١كورنثوس ٨:١) فكتب إليهم أجوبتها وهي ما تُعرف بالرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس وأرسلها مع استفانوس ورفاقه وأرسل معهم تيطس على أمل أن يرجع إليه سريعاً ويخبره بتأثير رسالته في الكنيسة وتوقع أن يجده في ترواس فلم يجده فقلق من ذلك كثيراً. ومع أنه وجد في تلك المدينة باباً مفتوحاً للتبشير بالإنجيل لم يمكث إلا قليلاً وأسرع إلى مكدونية لكي يواجه تيطس فيها (٢كورنثوس ٢: ١٢ و١٣) فلقيه بعد قليل من بلوغه إياها فاطمأن بما أنبأه به من أحوال الكنيسة (٢كورنثوس ٧: ١٣) وحينذ كتب رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس. ونستنتج مما قيل في (رومية ١٥: ١٩) أنه ذهب على أثر ذلك إلى الليريكون للتبشير بالإنجيل وهي بلاد موقعها غربي مكدونية.

٢ «وَلَمَّا كَانَ قَدِ ٱجْتَازَ فِي تِلْكَ ٱلنَّوَاحِي وَوَعَظَهُمْ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ، جَاءَ إِلَى هَلاَّسَ».

تِلْكَ ٱلنَّوَاحِي أي مدن مكدونية ومنها فيلبي وتسالونيكي وبيرية وبلاد الليريكون كما ذُكر في شرح الآية الأولى.

هَلاَّسَ كان هذا اسم مدينة في بلاد اليونان ثم سُميت به كورتها الصغيرة ثم أُطلق على القسم الجنوبي من بلاد اليونان فهو اسم ثان لأخائية.

٣ «فَصَرَفَ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ إِذْ حَصَلَتْ مَكِيدَةٌ مِنَ ٱلْيَهُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى سُورِيَّةَ صَارَ رَأْيٌ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى طَرِيقِ مَكِدُونِيَّةَ».

ص ٩: ٢٣ و٢٣: ١٢ و٢٥: ٣ و٢كورنثوس ١١: ٢٦

صَرَفَ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ والمرجّح أنه تقضى عليه أكثر هذه المدة في كورنثوس وأنه كتب حينئذ رسالتيه لأهل رومية ولأهل غلاطية. ولم يذكر لوقا في هذا السفر أمور تلك الزيارة بالتفصيل لكن نعلم من رسالة بولس إلى أهل رومية أنه نزل في كورنثوس ضيفاً على غايوس (رومية ١٦: ٢٣) وأن أكيلا وبريسكلا رجعا من أفسس إلى رومية (رومية ١٦: ٣) وأنه رجع معهما إلى هنالك أناس تعرّف بهم في أفسس وكورنثوس. ونستنتج من هذا أن أمر كلوديوس بذهاب اليهود من رومية كان قد نُسخ أو نُسي (ص ١٨: ٢)

مَكِيدَةٌ المراد بالمكيدة هنا مؤامرة سرّية في القتل.

مِنَ ٱلْيَهُودِ الذين أظهروا سابقاً بغضهم لبولس ولم يمكنهم الوالي من بغيتهم (ص ١٨: ١٤).

أَنْ يَصْعَدَ إِلَى سُورِيَّةَ الأرجح أنه عزم على النزول في سفينة من كنخزيا ميناء كورنثوس وأن يذهب فيها إلى سورية رأساً كما فعل سابقاً (ص ١٨: ١٨) فبلغه أن اليهود كمنوا له لكي يقتلوه إما في السفينة وإما في طريقه إليها فعدل عن عزمه وسافر براً في طريق مكدونية شمالاً.

عَلَى طَرِيقِ مَكِدُونِيَّةَ ومنها إلى ترواس وما يليها من البلاد إلى سورية.

٤ «فَرَافَقَهُ إِلَى أَسِيَّا سُوبَاتَرُسُ ٱلْبِيرِيُّ، وَمِنْ أَهْلِ تَسَالُونِيكِي: أَرِسْتَرْخُسُ وَسَكُونْدُسُ وَغَايُسُ ٱلدَّرْبِيُّ وَتِيمُوثَاوُسُ. وَمِنْ أَهْلِ أَسِيَّا: تِيخِيكُسُ وَتُرُوفِيمُسُ».

ص ١٩: ٢٩ و٢٧: ٢ وكولوسي ٤: ١٠ وفليمون ٢٤ ص ١٩: ٢٩ ص ١٦: ١ أفسس ٦: ٢١ وكولوسي ٤: ٧ و٢تيموثاوس ٤: ١٢ وتيطس ٣: ١٢ ص ٢١: ٢٩ و٢تيموثاوس ٤: ٢٠

فَرَافَقَهُ بعض المؤمنين للمساعدة على التبشير كما جرت العادة ولحمل إحسان الكنائس إلى كنيسة أورشليم ويكونوا باكورة الأمم للمسيح. ولم يرافقه هؤلاء من كورنثوس بل سبقوه في البحر إلى ترواس ومن هنالك رافقوه.

سُوبَاتَرُسُ هذا مختصر سوسيباترس المذكور في (رومية ١٦: ٢١) وهو من أنسباء بولس.

ٱلْبِيرِيُّ أي من أهل بيرية التي رحب يهودها ببولس (ص ١٧: ١١).

أَرِسْتَرْخُسُ هو المذكور في (ص ١٩:٢٩).

سَكُونْدُسُ اسم لاتيني معناه الثاني ولم يُذكر في غير هذا الموضع من العهد الجديد.

وَغَايُسُ ٱلدَّرْبِيُّ هذا غير غايوس المذكور في (ص ١٩: ٢٩) لأن ذاك مكدوني في الأصل وهذا من دربة ليكأونية.

تِيخِيكُسُ هو رسول بولس إلى الكنائس (أفسس ٦: ٢١ و٢٢ وكولوسي ٤: ٧ و٢تيموثاوس ٤: ١٢ وتيطس ٣: ١٢).

وَتُرُوفِيمُسُ هو من أهل أفسس (ص ٢١: ٢٩) حضر مع بولس في أورشليم فكان حضوره علة قبض اليهود على بولس وسجنه على غير قصد منه (ص ٢١: ٢٩) تركه بولس بعد ذلك في ميليتوس مريضاً (٢تيموثاوس ٤: ٢٠).

٥ «هٰؤُلاَءِ سَبَقُوا وَٱنْتَظَرُونَا فِي تَرُوَاسَ».

هٰؤُلاَءِ السبعة المذكورون.

ٱنْتَظَرُونَا عدل لوقا هنا عن صيغة الغيبة التي جرى عليها منذ ذهاب بولس من فيلبي قبل هذا بخمس سنين إلى صيغة التكلم. ونستنتج من ذلك أنه رجع إلى مرافقة بولس. والأرجح أنه لم يتركه من هذا الوقت (أي سنة ٥٧ ب. م) إلى السنة الثانية والستين التي فيها وُكلت حراسته إلى العكسري في رومية.

تَرُوَاسَ انظر شرح (ص ١٦: ٨).

٦ «وَأَمَّا نَحْنُ فَسَافَرْنَا فِي ٱلْبَحْرِ بَعْدَ أَيَّامِ ٱلْفَطِيرِ مِنْ فِيلِبِّي، وَوَافَيْنَاهُمْ فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ إِلَى تَرُوَاسَ، حَيْثُ صَرَفْنَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ».

خروج ١٢: ١٤ و١٥ و٢٣: ١٥ ص ١٦: ٨ و٢كورنثوس ٢: ١٢ و٢تيموثاوس ٤: ١٣

أَيَّامِ ٱلْفَطِيرِ أي أسبوع الفصح وهي من ١٥ نيسان في حساب اليهود إلى ٢٢ منه.

خَمْسَةِ أَيَّامٍ شغلوها بقطع بحر إيجيان الفاصل بين آسيا وأوربا والمسافة نحو ١٧٠ ميلاً على أن هذه المسافة قطعها بولس قبلاً بيومين (ص ١٦: ١١) والأرجح أن هذا الفرق كان لاختلاف الريح. ولا ريب في أن بولس حين بلغ ترواس ذكر الرؤيا التي رآها فيها والمكدوني يدعوه قائلاً «اعبر إلينا وأعنا» وكانت حينئذ بلاد أوربا أمامه بلا مبشر ولا كنيسة وأكثر سكانها عبدة أوثان فأجاب تلك الدعوة وذهب إليها. وهنا رجع إلى حيث ابتدأ سفره بعد خمس سنين ومعه ثلاثة من باكورة المسيحيين في أوربا وترك في مدن مكدونية وأخائية كثيراً من الكنائس المسيحية المنتظمة في نجاح وقد انتشرت خميرة الإنجيل إلى كل الكور المجاورة لها.

الاجتماع في ترواس ع ٧ إلى ١٢

٧ «وَفِي أَوَّلِ ٱلأُسْبُوعِ إِذْ كَانَ ٱلتَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِيَكْسِرُوا خُبْزاً، خَاطَبَهُمْ بُولُسُ وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمْضِيَ فِي ٱلْغَدِ، وَأَطَالَ ٱلْكَلاَمَ إِلَى نِصْفِ ٱللَّيْلِ».

يوحنا ٢٠: ٢٦ و١كورنثوس ١٦: ٢ ورؤيا ١: ١٠ ص ٢: ٤٢ و٤٦ و١كورنثوس ١٠: ١٦ و١١: ٢ الخ

فِي أَوَّلِ ٱلأُسْبُوعِ أي يوم الأحد. يظهر من هذا أن يوم قيامة المسيح صار يوم اجتماع المسيحيين للعبادة لأنه ذُكر هنا كأمر معهود مسلم به وقد ذُكر في (١كورنثوس ١٦: ٢) وقد جعلوه يوم جمع الإحسان للفقراء فلو لم يكن الاجتماع العام ما ناسب أن يكون يوماً لذلك الجمع. وجاء كذلك أيضاً في (رؤيا ١: ١٠) وسُمي هنالك يوم الرب. فاتضح أن التلاميذ اتفقوا على حفظ يوم الأحد وتعيينه للعبادة منذ قيامة الرب ويدل على هذا ما جاء في (يوحنا ٢٠: ١٩ و٢٦) ففي الآية التاسعة عشرة ذكر اجتماع الرسل للعبادة في أول الأسبوع وفي السادسة والعشرين ذكر اجتماعهم أيضاً لها بعد «ثمانية أيام» أي أسبوع حسب اصطلاح اليهود. ولكن المتنصرين من اليهود ظلوا يحفظون يوم السبت أيضاً إلى أن أُخربت أورشليم ومن ثم لم يحفظوا سوى الأحد إلا فرقة الأبيونيين المتوغلين في اليهودية أكثر من النصرانية.

لِيَكْسِرُوا خُبْزاً كان معظم قصدهم تناول العشاء الرباني طوعاً لأمر الرب (متّى ٢٦: ٢٦) وكانوا يأتون ذلك على أثر وليمة المحبة (ص ٢: ٤٢ و٤٦ و١كورنثوس ١١: ٢٠ – ٢٢) وغلب إتيانهم ذلك في العشية.

أَطَالَ ٱلْكَلاَمَ الخ علة إطالته الوعظ كون ذلك الوقت آخر فرصة توقعها لمخاطبتهم ولانشغال بعض ذلك الوقت بسقوط أفتيخس وما تعلق به فلا عجب أن شغل قسماً عظيماً من الليل بالحديث الروحي والمسائل والأجوبة.

٨ «وَكَانَتْ مَصَابِيحُ كَثِيرَةٌ فِي ٱلْعُلِّيَّةِ ٱلَّتِي كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِيهَا».

ص ١: ١٣

مَصَابِيحُ كَثِيرَةٌ لم نعلم ما العلة التي أوجبت ذكر هذا الأمر الذي يظهر أنه ليس ذي شأن. قال بعضهم ذكر ذلك على وفق عادة اليهود في الاجتاعات ليلاً. وقال آخر أن المسيحيين أكثروا المصابيح دفعاً لظن أعدائهم أنهم اجتمعوا ليلاً لأعمال سرية قبيحة. وقال غيره ذُكر بياناً لعلة نوم أفتيخوس لأن زيادة الحرارة بكثرة المصابيح فضلاً عن ازديادها بكثرة الناس توجب النعاس. والأرجح أن لوقا لما كتب هذه الحادثة صور أمامه كل شيء كما رآه العلّية وكثرة المصابيح والازدحام والشاب الجالس في الكوّة وذكره كما هي بجوهرياتها وعرضياتها.

٩ «وَكَانَ شَابٌّ ٱسْمُهُ أَفْتِيخُوسُ جَالِساً فِي ٱلطَّاقَةِ مُتَثَقِّلاً بِنَوْمٍ عَمِيقٍ. وَإِذْ كَانَ بُولُسُ يُخَاطِبُ خِطَاباً طَوِيلاً، غَلَبَ عَلَيْهِ ٱلنَّوْمُ فَسَقَطَ مِنَ ٱلطَّبَقَةِ ٱلثَّالِثَةِ إِلَى أَسْفَلُ، وَحُمِلَ مَيِّتاً».

ٱلطَّاقَةِ أي الكوة مفتوحة المصراعين لتجديد الهواء لأن هواء العلّية كان يفسد بأنفاس الناس وأبخرة المصابيح. والأرجح أن علة جلوسه في الكوة أنه ما لقي مجلساً آخر لكثرة المجتمعين.

ٱلطَّبَقَةِ ٱلثَّالِثَةِ كان التلاميذ الأولون يجتمعون في العلية في أورشليم (أعمال ١: ١٣) لأنه لم يكن لهم من كنيسة. وكان المسيحيون في كل الأماكن التي دخلتها الديانة الجديدة اضطروا أن يجتمعوا في أوفق ما يستطيعون وجدانه من الأماكن للاجتماع وغلب أن تكون مجتمعاتهم علالي المساكن.

حُمِلَ مَيِّتاً حقيقة.

١٠ «فَنَزَلَ بُولُسُ وَوَقَعَ عَلَيْهِ وَٱعْتَنَقَهُ قَائِلاً: لاَ تَضْطَرِبُوا لأَنَّ نَفْسَهُ فِيهِ».

١ملوك ١٧: ٢١ و٢ملوك ٤: ٣٤ متّى ٩: ٢٤

فَنَزَلَ بُولُسُ من العلّية إلى ساحة الدار أو الزقاق.

وَقَعَ عَلَيْهِ وَٱعْتَنَقَهُ كما فعل إيليا في إقامة ابن الشونمية (١ملوك ١٧: ٢١) وأليشع (٢ملوك ٤: ٣٣ – ٣٥). وفعله كذلك دل على رقة قلبه وشفقته وعلى رغبته الشديدة في رجوع الحياة إليه ولا بد من أنه قرن ذلك العمل بالصلاة سراً أو علانية.

قَائِلاً للأقرباء وسائر التلاميذ المحيطين بهما.

لاَ تَضْطَرِبُوا أي لا تقلقوا آيسين ولا تولولوا كما يفعل أهل الميت عادة.

لأَنَّ نَفْسَهُ فِيهِ أي رجعت إليه. وهذا يذكرنا قول المسيح «لم تمت الصبية لكنها نائمة» (مرقس ٥: ٣٩) وكان الواقع كما قال (ع ١٢) فكانت زيارة بولس الأولى لترواس مقترنة برؤيا سماوية وإعلان وزيارته الثانية لها بمعجزة.

١١ «ثُمَّ صَعِدَ وَكَسَّرَ خُبْزاً وَأَكَلَ وَتَكَلَّمَ كَثِيراً إِلَى ٱلْفَجْرِ. وَهٰكَذَا خَرَجَ».

صَعِدَ إلى العلية.

وَكَسَّرَ خُبْزاً وَأَكَلَ الأرجح أن هذا هو العشاء الرباني الذي كان الاجتماع لأجله وأنه حين وقع أفتيخوس لم يكن قد أنجزه لكن يحتمل أنه الطعام الذي تناوله بولس قبل السفر.

وَتَكَلَّمَ في الأمور الروحية على سبيل الحديث لا الوعظ.

إِلَى ٱلْفَجْرِ هذا دليل قاطع على غيرة بولس في الخطاب ورغبة الناس في السماع.

١٢ «وَأَتَوْا بِٱلْفَتَى حَيّاً، وَتَعَزَّوْا تَعْزِيَةً لَيْسَتْ بِقَلِيلَةٍ».

حَيّاً هذا يسند قولنا في شرح ع ٩ أنه مات حقيقة فلو كان قد أُغشي عليه لقال منتبهاً أو منتعشاً. وهذا علة عودهم إلى العلية واستئناف بولس الخطاب بعد النازلة.

وَتَعَزَّوْا الخ بعوده حياً.

سفر بولس من ترواس إلى ميليتس ع ١٣ إلى ١٦

١٣ «وَأَمَّا نَحْنُ فَسَبَقْنَا إِلَى ٱلسَّفِينَةِ وَأَقْلَعْنَا إِلَى أَسُّوسَ، مُزْمِعِينَ أَنْ نَأْخُذَ بُولُسَ مِنْ هُنَاكَ، لأَنَّهُ كَانَ قَدْ رَتَّبَ هٰكَذَا مُزْمِعاً أَنْ يَمْشِيَ».

نَحْنُ أي لوقا الكاتب ورفقاؤه سوى بولس.

فَسَبَقْنَا أي سافرنا قبل بولس وأن ذُكر خروجه قبل هذا (انظر ع ١١).

إِلَى ٱلسَّفِينَةِ التي قصدوا السفر فيها. ولا نعلم إن كانت هي التي أتوا فيها إلى ترواس أم غيرها. فإن كانت هي التي أتوا فيها فلعلها هي سبب إقامتهم سبعة أيام في ترواس لكي توزع محمولها وتحمل غيره أو لتوقّع الملاحين الريح الموافقة.

أَسُّوسَ هي فرضة جنوبي ترواس على أمد ٢٤ ميلاً منها.

نَأْخُذَ بُولُسَ في السفينة بمقتضى ما رتب.

مُزْمِعاً أَنْ يَمْشِيَ كان الطريق إلى أسوس براً نحو نصف الطريق إليها في البحر لأنه منحن حول رأس لكتوم. ولماذا اختار بولس أن يمشي نحو سبع ساعات ذلك لا نعلمه. ربما قصد ذلك بغية الرياضة أو بغية الانفراد للصلاة والتأمل مما لم يستطعه في السفينة أو لمرافقة بعض الإخوة من أهل ترواس.

١٤ «فَلَمَّا وَافَانَا إِلَى أَسُّوسَ أَخَذْنَاهُ وَأَتَيْنَا إِلَى مِيتِيلِينِي».

أَخَذْنَاهُ كما رتب.

مِيتِيلِينِي هي قصبة جزيرة لسبس واليوم تُسمى الجزيرة كلها ميتيليني باسم قصبتها والمسافة بينها وبين أسوس ثلاثون ميلاً.

١٥ «ثُمَّ سَافَرْنَا مِنْ هُنَاكَ فِي ٱلْبَحْرِ وَأَقْبَلْنَا فِي ٱلْغَدِ إِلَى مُقَابِلِ خِيُوسَ. وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلآخَرِ وَصَلْنَا إِلَى سَامُوسَ، وَأَقَمْنَا فِي تُرُوجِيلِيُّونَ، ثُمَّ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلتَّالِي جِئْنَا إِلَى مِيلِيتُسَ».

٢تيموثاوس ٤: ٢٠

ثُمَّ سَافَرْنَا كان من عادة الملاحين في تلك الأيام أن يرسوا ليلاً إذا أمكنهم توقياً للخطر ويسافروا نهاراً.

خِيُوسَ جزيرة كبيرة وافرة الخصب طولها نحو ٣٢ ميلاً واسمها اليوم شيو وصاقس والمسافة بينها وبين ميتيليني ستون ميلاً.

سَامُوسَ جزيرة كبيرة في طريقهم ولم تزل معروفة بهذا الاسم وهي ذات آكام كثيرة اشتهرت بكونها مولد فيثاغورس الفيلسوف اليوناني وبوفرة عبادة يونو امرأة زفس والمسافة بينها وبين خيوس نحو سبعين ميلاً.

تُرُوجِيلِيُّونَ مدينة في البر شرقي ساموس وعلى أمد عشرين ميلاً منها.

مِيلِيتُسَ مدينة على مصب نهر قيستر بينها وبين أفسس مسافة ٣٠ ميلاً وأفسس نفسها على ذلك النهر.

١٦ «لأَنَّ بُولُسَ عَزَمَ أَنْ يَتَجَاوَزَ أَفَسُسَ فِي ٱلْبَحْرِ لِئَلاَّ يَعْرِضَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ وَقْتاً فِي أَسِيَّا، لأَنَّهُ كَانَ يُسْرِعُ حَتَّى إِذَا أَمْكَنَهُ يَكُونُ فِي أُورُشَلِيمَ فِي يَوْمِ ٱلْخَمْسِينَ».

ص ١٨: ٢١ و١٩: ٢١ و٢١: ٤ و١٢ و٢٤: ١٧ ص ٢: ١ و١كورنثوس ١٦: ٨

أَنْ يَتَجَاوَزَ أَفَسُسَ أن يمر بها بحراً ولا يدخلها خوفاً من أن يتعوّق هنالك كثيراً من إلحاح أصدقائه عليه بالإقامة وشدة ميله إلى إجابتهم. فإن قيل ما الفرق بين ذهابه إلى أفسس وإرساله إلى شيوخها أن يوافوه إلى ميليتس قلنا أن تجربة العاقة في ميليتس أقل منها في أفسس وهو في ميليتس على أهبة السفر في أي وقت عزمت فيه السفينة الإقلاع.

إِذَا أَمْكَنَهُ هذا يدل على شيء من الرب في بلوغ السفينة مرساها المقصود في الوقت المراد. وهذا الريب من شأن كل مسافر في سفينة شراعية لاحتمال سكون الريح أو هبوب الريح المضادة لجهة السير أو لشغل أرباب السفينة وقتاً طويلاً بتوزيع المحمول في الفرَض التي على الطريق.

فِي أُورُشَلِيمَ فِي يَوْمِ ٱلْخَمْسِينَ لا نعلم كل الأسباب التي حمتله على الاجتهاد في ذلك ولعل منها أن يحصل على فرصة الاجتماع بربوات الزوار الآتين من كل أقطار المسكونة في ذلك العيد وأن يقنع اليهود منهم بأن يسوع هو المسيح والمتنصرين من اليهود أن يرتضوا بمشاركة الأمم في فوائد الدين المسيحي بدون الخضوع لرسوم الناموس. وأن يبرر نفسه قدامهم من اتهام أعدائه إياه باحتقاره الديانة اليهودية. ويحتمل أيضاً أن الحامل له على ذلك رغبته في حضور العيد واشتراكه مع غيره في الفوائد الروحية التي قصد الله أن تكون في الأعياد. ولم يكن بينه وبين العيد يومئذ سوى ثمانية وعشرين يوماً فإنه لم يترك فيلبي إلا بعد نهاية أسبوع الفصح. فشغل بالسفر من فيلبي إلى ترواس خمسة أيام (ع ٦) وأقام بترواس سبعة أيام (ع ٧) وشغل بالسفر من ترواس إلى ميليتس خمسة أيام وتقضى عليه أربعة أيام في ميليتس ومجموع ذلك واحد وعشرون يوماً فالباقي من التسعة والأربعين يوماً ما بين العيدين ثمانية وعشرون يوماً شغلها بالسفر إلى أورشليم وتفصيل ذلك ما يأتي. تقضى علي من ميليتس إلى خيوس يوم ومنها إلى رودس يوم ومنها إلى بتارا يوم ومنها إلى صور خسمة أيام وأقام بصور سبعة أيام. ومنها إلى بتولمايس يوم واقام بها يوماً. ومنها إلى قيصرية يوم وأقام بها سبعة أيام. ومنها إلى أورشليم ثلاثة أيام والمجموع ثمانية وعشرون يوماً. والمسافة بين فيلبي وأورشليم على خط مستقيم نحو ألف ميل ولكن المسافة التي قطعها بولس براً وبحراً ليست أقل من ألف وخمس مئة ميل.

خطاب بولس لقسوس أفسس ع ١٧ إلى ٢٨

١٧ «وَمِنْ مِيلِيتُسَ أَرْسَلَ إِلَى أَفَسُسَ وَٱسْتَدْعَى قُسُوسَ ٱلْكَنِيسَةِ».

ص ١١: ٣٠ وع ٢٨ وص ١٤: ٢٣ وتيطس ١: ٥

المراد «بالكنيسة» في هذه الآية جماعة المؤمنين في أفسس وحدها لأن قصر الوقت لم يسمح له أن يدعو قسوس المدن المجاورة لها. والمسمون «قسوساً» هنا سُموا «أساقفة» في الآية الثامنة والعشرين. وهذا يبين أنهما اسمان لذوي رتبة واحدة. وعلة دعوته لهؤلاء القسوس أنهم نواب الكنيسة كلها وأن لهم تأثيراً عظيماً في قسوس سائر كنائس آسيا. ولعل النسبة بين كنيسة أفسس وكنائس آسيا كالنسبة بين كنيسة أورشليم وسائر كنائس اليهودية. ومهما تكن النسبة فإنه عندما خاطبهم بولس خاطب بواسطتهم قسوس كل تلك الكورة بل قسوس كل كنيسة في كل مكان ولذلك كتب هنا بوحي روح الله.

١٨ «فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ دَخَلْتُ أَسِيَّا، كَيْفَ كُنْتُ مَعَكُمْ كُلَّ ٱلزَّمَانِ».

ص ١٨: ١٩ و١٩: ١ و١٠

قَالَ لَهُمْ ليس لنا من خطاب بولس هنا سوى خلاصته على ما يرجح ولكن هذا الخطاب من أهم خطابات بولس المذكورة في هذا السفر في إيضاح واجبات الرعاة المسيحيين لرعاياهم في كل مكان وزمان ويمكننا قسمة هذا الخطاب ثلاثة أقسام:

  • الأول: ذكر ما سلف من سيرته بينهم وأسباب سرعة ذهابه عنهم (ع ١٨ – ٢٤).
  • الثاني: حثه إياهم على الأمانة وتحذيره إياهم من أخطار المستقبل (ع ٢٥ – ٣١).
  • الثالث: تذكيره إياهم أتعابه بينهم وحثهم على الاقتداء به (ع ٣٢ – ٣٥) وختم كلامه باستيداعه إياهم نعمة الله وبذكر شيء من أقوال لم تذكر في غير هذا الموضع.

أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أمانتي وحسن سيرتي وخلوص محبتي فتقدرون أن تحكموا بصدق ما أقول لأنكم قد اختبرتموني ثلاث سنين وإن قال أعدائي خلاف ما أقول. وقول بولس هنا يذكرنا قول صموئيل لبني إسرائيل بعدما اختاروا شاول ملكاً لهم (١صموئيل ١٢: ١ – ٢٥) قابل هذا بخطاب يشوع الوداعي للإسرائيليين (ص ٢٣ وص ٢٤).

مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ دَخَلْتُ منذ ثلاث سنين.

كَيْفَ كُنْتُ مَعَكُمْ باعتبار أني كنت ساكناً بينكم صديقاً ومبشراً ورسولاً ليسوع المسيح.

كُلَّ ٱلزَّمَانِ الذي تقضى عليّ في أفسس.

١٩ «أَخْدِمُ ٱلرَّبَّ بِكُلِّ تَوَاضُعٍ وَدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ، وَبِتَجَارِبَ أَصَابَتْنِي بِمَكَايِدِ ٱلْيَهُودِ».

ع ٣

أَخْدِمُ ٱلرَّبَّ هذا وما بعده تفصيل لقوله «كيف كنت معكم» وهذا مثل قوله «بولس عبد ليسوع المسيح» (رومية ١: ١ وغلاطية ١: ١٠ وفيلبي ١: ١ وتيطس ١:١) والمراد أنه قد قام بكل ما يجب عليه باعتبار كونه مسيحياً ورسولاً.

بِكُلِّ تَوَاضُعٍ استشهدهم أنه لم يتظاهر بشيء من الكبرياء ولم يرغب في أن يمدحه الناس ولا في أن يسود رعية المسيح ولا في أن يفتخر بكونه رسولاً أو بصنعه المعجزات أو بنجاح أتعابه. فالإنسان يغلب أن يزيد تواضعاً كلما زاد علماً وقداسة.

وَدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ علة هذه الدموع شفقته على الذين قاوموا الحق لهلاك أنفسهم وأهانوا المخلص الذي هو أحبه وأن الذين أراد الخير لهم جاوزه بالبغض وفرط رغبته في خلاص الهالكين (٢كورنثوس ٢: ٤ وفيلبي ٣: ١٨ و٢تيموثاوس ١: ٤) وذكر بولس دموعه ثلاث مرات في هذا الخطاب هنا وفي (ع ٣١ وع ٣٧). وكذا بكى المسيح لشعوره بأحزان غيره (يوحنا ١١: ٣٥) ولحزنه على أورشليم لأنها لم تتب (لوقا ١٩: ٤١). ودموع بولس دليل قاطع على رقة قلبه وشعوره مع إخوته بمصائبهم وشدة رغبته في نفعهم ولكن فلاسفة اليونان علموا تلاميذهم أن يميتوا كل هذه الإحساسات وأن يحترسوا كل الاحتراس من إظهارهم أمارتها.

وَبِتَجَارِبَ أي مصائب.

بِمَكَايِدِ ٱلْيَهُودِ أي بذل جهدهم في منع نفعه للناس وإفساد صيته وإتلاف حياته.

إنهم أبغضوه لغيرته ليسوع ولنجاحه في اقتياد الناس إلى الإيمان به ولا سيما شدة رغبته في خلاص الأمم الذين هم أبغضوهم. ولا نبأ بمكايد اليهود في أفسس غير ما ذُكر في (ص ١٩: ٩). ولا ريب في أن عداوتهم لم تقل عن عداوة اليهود في دمشق وكورنثوس وتسالونيكي وأنطاكية بيسيدية وأورشليم.

٢٠ «كَيْفَ لَمْ أُؤَخِّرْ شَيْئاً مِنَ ٱلْفَوَائِدِ إِلاَّ وَأَخْبَرْتُكُمْ وَعَلَّمْتُكُمْ بِهِ جَهْراً وَفِي كُلِّ بَيْتٍ».

ع ٢٧

ما في هذه الآية بيان لأمانة بولس باعتبار كونه مبشراً وراعياً واجتهاده في تعليم الناس كلمة الله وتوبيخه للخطأة.

لَمْ أُؤَخِّرْ شَيْئاً مِنَ ٱلْفَوَائِدِ أي أني لم أترك وسيلة من وسائل النفع لنفوسكم خوفاً من أن أخسر محبتكم وأهيّج غضبكم.

أَخْبَرْتُكُمْ وَعَلَّمْتُكُمْ بِهِ ما أفاده في العبارة السابقة سلباً أفاده هنا إيجاباً والمعنى أنه أعلن لهم الحق كما أعلن في كتاب الله.

جَهْراً في مجمع اليهود في مدرسة تيرانس حيث الاجتماعات العامة.

وَفِي كُلِّ بَيْتٍ أشار بهذا إلى مخاطبته الأفراد على انفراد في شأن نفوسهم. وهذا وما قبله يشتمل على كل وسائل تبليغ الحق للناس فالراعي الأمين لا يكتفي باتخاذ إحدى هاتين الطريقتين دون الأخرى فإن كثيرين من الناس لا يؤثر فيهم كلام الواعظ وهو يخاطبهم مع الجماعة ولكنه يؤثر فيهم حالاً إذا خاطبهم على انفراد قائلاً لهم كما قال ناثان لداود «أنت هو الرجل» (٢صموئيل ١٢: ٧).

٢١ «شَاهِداً لِلْيَهُودِ وَٱلْيُونَانِيِّينَ بِٱلتَّوْبَةِ إِلَى ٱللّٰهِ وَٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

ص ١٨: ٥ مرقس ١: ١٥ ولوقا ٢٤: ٤٧ وص ٢: ٣٨

صرّح بولس في ما سبق أن خدمته بينهم كانت بالتواضع والوداد والاجتهاد والأمانة وبيّن هنا ما كان موضوع مخاطبته لهم.

شَاهِداً كانت خلاصة تعليمه الشهادة للحق على وفق قول المسيح لرسله «تكونون لي شهوداً» (ص ١: ٨).

لِلْيَهُودِ وَٱلْيُونَانِيِّينَ أي لكل صنوف الناس لأنهم كلهم خطأة محتاجون على السواء والإنجيل لكلهم وشروط الخلاص واحدة للجميع.

بِٱلتَّوْبَةِ إِلَى ٱللّٰهِ هذا أول الأمرين اللذين يعمّان كل شهادة بولس للحق وهو ضرورية التوبة وهي الرجوع من الخطيئة إلى القداسة ومن العصيان لله إلى الخضوع له وكانت التوبة «إلى الله» لأن الخاطئ خطئ إليه تعالى والله نفسه يدعو إلى التوبة ويعد بالمغفرة وأنه هو وحده يقدر أن يغفر الخطيئة.

ٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي بِرَبِّنَا الخ هذا الأمر الثاني من تلك الشهادة وهذا الإيمان يتضمن الاتكال على المسيح مخلصاً وشفيعاً «لأنه مات على الصليب من أجل خطايانا وهو جالس الآن عن يمين الله ليشفع فينا وليس بأحد غيره الخلاص» (انظر شرح ص ٤: ١٢ ومرقس ١٦: ١٦). وهذان الأمران أي التوبة والإيمان يشتملان على كل ما يجب على الإنسان لنوال الخلاص ولا ينفصل أحدهما الأخر. فلا يمكن الإيمان الحقيقي ما لم يكن القلب تائباً والتوبة بلا إيمان لا تؤدي إلى اليأس.

٢٢ «وَٱلآنَ هَا أَنَا أَذْهَبُ إِلَى أُورُشَلِيمَ مُقَيَّداً بِٱلرُّوحِ، لاَ أَعْلَمُ مَاذَا يُصَادِفُنِي هُنَاكَ».

ص ١٩: ٢١

انتقل بولس في هذه الآية من التكلم في الماضي إلى التكلم في المستقبل.

مُقَيَّداً بِٱلرُّوحِ مضطراً على القيام بما يخبرني ضميري أنه واجب عليّ غير مكترث بتهديد أعدائي وغير ممنوع من الذهاب بإلحاحات أصدقائي.

لاَ أَعْلَمُ الخ فكونه رسولاً ملهماً ليعلم الناس ويصنع المعجزات وينبئ ببعض المستقبلات لم يقدره على أن يعلم كل الأمور ولا سيما مستقبل حياته.

مَاذَا يُصَادِفُنِي هُنَاكَ أي في أورشليم. لم يعلم نوع الخطر الذي يقع عليه هناك ولا عاقبته أيحيا بعده أو يموت به. فعلى كل مسيحي أن يسير في طريق الواجبات غير مبال بالأهوال فما يسمح الله به وهو سائر في تلك الطريق هو الأفضل.

٢٣ «غَيْرَ أَنَّ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ يَشْهَدُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ قَائِلاً: إِنَّ وُثُقاً وَشَدَائِدَ تَنْتَظِرُنِي».

ص ٢١: ٤ و١١ و١تسالونيكي ٣: ٣

هذا تفسير لما قاله في الآية السابقة والمعنى أن الروح القدس الذي حجب عني النوازل التي تصادفني في أورشليم كشف لي الذي يجب أن اتوقعه بالإجمال حيث توجهت.

فِي كُلِّ مَدِينَةٍ أي في كثير منها لأنه جُلد في بعضها وسُجن في آخر ورُجم في غيره وكان الخطر عليه في كل مكان.

قَائِلاً إما بإعلان له برؤيا أو حلم أو بالإعلان لغيره من الأنبياء فأنبأه به كما في (ص ٢١: ١٠ – ١٢) أو بما اختبره من مصائبه في فيلبي وتسالونيكي وكورنثوس وغيرها فكان دليلاً على ما يتوقعه أيضاً وهذا إنجاز بما أُعلن له يوم آمن بقوله «لأَنِّي سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي» (ص ٩: ١٦).

وُثُقاً كما أصابه في سجن فيلبي وما ذُكر في (٢كورنثوس ١١: ٢٣).

شَدَائِدَ كالجلد والرجم.

تَنْتَظِرُنِي أي معدة لي حتى أتوقع وقوعها عليّ.

٢٤ «وَلٰكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَٱلْخِدْمَةَ ٱلَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ».

ص ٢١: ١٣ ورومية ٨: ٣٥ و٢كورنثوس ٤: ١٦ و١٧ ٢تيموثاوس ٤: ٧ ص ١: ١٧ و٢كورنثوس ٤: ١ و١١: ٥ و٢٣ غلاطية ١: ١ وتيطس ١: ٣

لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ يعني أن توقعه تلك الشدائد لا يغير شيئاً من عزمه على الذهاب. فمحبة بولس للمسيح وغيرته في خدمته جعلتاه ينسى نفسه ولا يهتم بالمخاوف. وهذا موافق لقوله «لِذٰلِكَ أُسَرُّ بِٱلضَّعَفَاتِ وَٱلشَّتَائِمِ وَٱلضَّرُورَاتِ وَٱلٱضْطِهَادَاتِ وَٱلضِّيقَاتِ لأَجْلِ ٱلْمَسِيحِ» (٢كورنثوس ١٢: ١٠ انظر أيضاً فيلبي ١: ٢١ و٣: ٧ – ١٥).

وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي فأنا مستعد أن أبذلها في خدمة المسيح فإن القيام بالواجبات أعدّه أثمن من الحياة. ومثل هذا يجب على كل مسيحي. وإذا خير بين خسارة حياته وترك واجباته وجب أن يختار الأول.

حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي هذا ما عزم عليه عزماً لا يرجعه عنه قيود ولا موت. وعنى «بالسعي» العمل الذي عيّنه الرب له باعتبار كونه مؤمناً ورسولاً (أعمال ٩: ١٥ – ١٧ وغلاطية ١: ١٧). وأراد «بالسعي» هنا العدو والمحاضرة أي السباق. ووجه تشبيه الرسول عمله بالمحاضرة الاجتهاد في إدراك الجعالة والسرور بنوالها فإن هذا الرسول كثيراً ما شاهد المتسابقين في الميدان يوم كان في المدن المعتادة ذلك ولا سيما كورنثوس فأحب إيضاح مراده الروحي باستعارة ما عهدوه في ملاعبهم (قابل هذا بما في ص ١٣: ٣٥ ورومية ٩: ١٦ و١كورنثوس ٩: ٢٤ و٢٦ وغلاطية ٢: ٢ و٥ و٧ وفيلبي ٢: ١٦ و٣: ١٤ وعبرانيين ١٢: ١). ومن ذلك قوله في آخر حياته «قَدْ جَاهَدْتُ ٱلْجِهَادَ ٱلْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ ٱلسَّعْيَ، حَفِظْتُ ٱلإِيمَانَ، وَأَخِيراً قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ ٱلْبِرِّ الخ» (٢كورنثوس ٤: ٧ و٨) وكان فرح بولس بخدمة الرب كفرح السابقين في المحاضرة. وهذا الفرح نتاج راحة ضميره ومدحه إياه ورضى الله به.

وَٱلْخِدْمَةَ هذا تفسير للسعي الذي أراد به الرسولية والتبشير بالإنجيل (انظر ص ١: ١٧ و٢٥ وقابل ذلك بما في رومية ١١: ١٣).

أَخَذْتُهَا مِنَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ دعوة يسوع إيّاه إلى هذه الخدمة جعلتها سارة جداً وأثمن من حياته. وكانت تلك الدعوة عندما آمن (ص ٩: ١٥ و١٧ انظر أيضاً ص ٢٢: ١٥ و٢١).

لأَشْهَدَ تأدية الشهادة ليسوع وبصدق دينه هي الخدمة الرسولية. وكان بولس قادراً على أن يشهد للإنجيل من اختباره تأثيره في نفسه. وتلك التأدية وكلها الله إلى كل خدمه المبشرين.

بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ ٱللّٰهِ وهي أن الله يغفر لكل الذين يؤمنون بالمسيح ويخلصهم وهذا من أسرّ الأنباء لعالم الخطأة الهالكين.

وللرعاة في هذه الآية أربع فوائد:

  • الأولى: إن لكل منهم سعياً يسعاه أي خدمة يقوم بها.
  • الثانية: أنه يجب عليهم أن لا يمتنعوا عن القيام بتلك الخدمة خوفاً من الشدائد أو الموت فمن عمل إرادة الله اطمأن فالخوف على من لم يعلمها ويجعل الله عدواً له.
  • الثالثة: إن على كل منهم أن يسير في سبيل تكون نهايتها سلاماً وفرحاً.
  • الرابعة: إنه يجب على كل منهم أن لا يسأل عن كيفية موته أو وقته بل يجتهدوا في أن يكون إذا أتاه الموت مزاولاً تتميم أمر الرب.

٢٥ «وَٱلآنَ هَا أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَ وَجْهِي أَيْضاً، أَنْتُمْ جَمِيعاً ٱلَّذِينَ مَرَرْتُ بَيْنَكُمْ كَارِزاً بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ».

ع ٣٨ ورومية ١٥: ٢٣

أَنَّكُمْ أنتم قسوس كنيسة أفسس ونوابها.

لاَ تَرَوْنَ وَجْهِي أَيْضاً يتضح من ذلك أن بولس لم ينتظر أن يرجع إلى أفسس أيضاً وأن يراهم بعد فظن أنه يودّعهم ويودّع بلادهم الوداع الأخير وبنى هذا الظن على قصده أن يذهب إلى بلاد أخرى للتبشير وهي إيطاليا وأسبانيا (ص ١٩: ٢١ ورومية ١٥: ٢٣ – ٢٨) وعلى اختباره النوازل والأخطار في الزمن السابق وعلى معرفته بكثرة الأعداء العازمين على قتله ولا سيما الذين في أورشليم التي كان متوجهاً إلها وعلى شهادة الروح المذكورة في (ع ٢٣) وعلى احتمال أنه لا يجدهم كلهم أحياء إن رجع إليهم. والأرجح أن الأمر كان على خلاف ما ظن حينئذ لأنه رجع إلى ترواس (٢تيموثاوس ٤: ١٣) وإلى ميليتس (٢تيموثاوس ٤: ١٣) وإلى أفسس (١تيموثاوس ١: ٣).

بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ أي باستيلائه تعالى على قلوب الناس في الأرض بواسطة المسيح (انظر شرح متّى ٣: ٢).

٢٦ «لِذٰلِكَ أُشْهِدُكُمُ ٱلْيَوْمَ هٰذَا أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ ٱلْجَمِيعِ».

ص ١٨: ٦ و٢كورنثوس ٧: ٢

لِذٰلِكَ أي لما شاهدتم من سيرتي وأتعابي بينكم.

أُشْهِدُكُمُ أني أتكلم بالحق في ما سأقوله.

ٱلْيَوْمَ هٰذَا أي آخر يوم من أيام اجتماعنا هنا.

بَرِيءٌ مِنْ دَمِ أراد بالدم هنا الموت أي موت النفس. ومعنى العبارة أنه إن هلك أحد منهم فلا ذنب عليه لأنه علمهم وأنذرهم. وهذه العبارة مأخوذة من نبوءة (حزقيال ٣: ١٧ – ٢١ و٣٣: ١ – ٩) حيث بيّن الله المسؤولية على الرقيب. ولم يرد بولس بما قاله أنه بلا خطيئة بل إنه أراد أن ضميره مستريح بأنه قام بواجبات رسوليته.

ٱلْجَمِيعِ أي اليهود والأمم.

٢٧ «لأَنِّي لَمْ أُؤَخِّرْ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِكُلِّ مَشُورَةِ ٱللّٰهِ».

ع ٢٠ لوقا ٧: ٣٠ ويوحنا ١٥: ١٥ وأفسس ١: ١١

لأَنِّي لَمْ أُؤَخِّرْ أَنْ أُخْبِرَكُمْ أي لم أمتنع من التكلم خوفاً من غضب الناس أو طمعاً في رضاهم لعلمي أن الحق مكروه بل صرّحت به علناً لكل إنسان. فيمكن أن يخطأ المبشر بسكوته حين يجب أن يتكلم أو بجعله العرضيّات جوهريّات أو الجوهريّات عرضيّات.

بِكُلِّ مَشُورَةِ ٱللّٰهِ مما يتعلق بخلاص النفوس كاحتياج الخاطئ إلى المغفرة والتوبة ومجازاة العالم في يوم الدين على كل ما فعلوه من خير أو شر (ع ٢١). وهذا أساس ما قاله في الآية السابقة من «أنه بريء من دم الجميع». فرفع بولس بمناداته لهم بكل «مشورة الله» ما عليه من المسؤولية ووضعها عليهم. وعلى كل المبشرين اليوم أن ينادوا بكل مشورة الله لأنه تعالى طالب ذلك منهم ولأن السامعين يفتقرون إلى تلك المشورة ليدركوا الخلاص. والذي يجب على المبشرين أن ينادوا به يجب على السامعين أن ينتبهوا له وإلا فلا نفع للمناداة.

٢٨ «اِحْتَرِزُوا إِذاً لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ ٱلرَّعِيَّةِ ٱلَّتِي أَقَامَكُمُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً، لِتَرْعَوْا كَنِيسَةَ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي ٱقْتَنَاهَا بِدَمِهِ».

١تيموثاوس ٤: ١٦ و١بطرس ٥: ٢ ع ١٧ أفسس ١: ٧ و١٤ وكولوسي ١: ١٤ وعبرانيين ٩: ١٢ و١٤ و١بطرس ١: ١٩ ورؤيا ٥: ٩

بعد ما صرّح بولس بأمانته حثهم على التمثل به.

اِحْتَرِزُوا أي اهتموا بالغيرة والاجتهاد والمواظبة.

لأَنْفُسِكُمْ أي لخلاصها ولتقوية إيمانها ومحبتها للمسيح وللرسوخ في العقائد الإنجيلية وطهارة السيرة (كولوسي ٤: ١٧ و١تيموثاوس ٤: ١٤). والاحتراز لأنفسهم على هذا الأسلوب شرط ضروري لنفعهم غيرهم ونبههم الرسول هذا التنبيه لعلمه أنهم عرضة لتجارب شديدة.

ٱلرَّعِيَّةِ أي الكنيسة التي أنتم نظارها وبها سمّى المسيح تلاميذه (لوقا ١٢: ٣٢). وبها سمى بطرس جماعة المؤمنين الذين كتب إليهم (١بطرس ٥: ٢ و٣). وكثيراً ما سمى أنبياء العهد القديم شعب الله المختار «بالرعية» (إشعياء ٤٠: ١١ و٦٣: ١١ وإرميا ١٣: ١٧ و٢٣: ٢ و٣١: ١٠ و٥١: ٢٣ وحزقيال ٣٤: ٣ وميخا ٧: ١٤ وزكريا ١٠: ٣ و١١: ٤ و٧: ١٧). وسمّى يسوع نفسه «الراعي الصالح» والمؤمنين «خرافه» (يوحنا ١٠: ١ – ١٦). وسمّى بطرس المسيح «راعي نفوسنا» (١بطرس ٢: ٢٥) و «رئيس الرعاة» ١بطرس ٥: ٤).

أَقَامَكُمُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً لأن الروح القدس هو الذي عيّن هذه الخدمة في الكنيسة وهو الذي يدعو بعض الناس باطناً إليها وهو الذي يهب من دعاهم إليها المواهب التي يقتضيها القيام بما يجب عليهم وأنه هو الذي يرشد الكنيسة إلى أن تنتخب خدمها (ص ٦: ٥) أو لأنه هو الذي ينتخبهم بلا واسطة (ص ١٣: ٢) ولأنهم رُسموا بإرشاد ذلك الروح والصلاة له. والأساقفة هنا هم القسوس في الآية السابعة عشرة فيتضح من هذا أن الرتبة واحدة ويوضح الالتفات إليه أنه كلما ذُكرت أنواع الخدمة في الكنيسة لم يُذكر القسيس والأسقف معاً كأنهما ممتازان.

لِتَرْعَوْا أي لتعملوا وتقوا من الخطر وتسوسوا كما يفعل الراعي لغنمه.

كَنِيسَةَ ٱللّٰهِ أي كنيسة المسيح لأنه إله كما أنه إنسان. ونُسبت الكنيسة هنا إلى الله كما نُسبت إليه في (١كورنثوس ١: ٢ و١٠: ٣٢ و١١: ١٦ و٢٢ و١٥: ٩ و٢كورنثوس ١: ١ وغلاطية ١: ١٣ و١تسالونيكي ٢: ١٤ و٢تسالونيكي ١: ٤ و١تيموثاوس ٣: ٥).

ٱقْتَنَاهَا اي امتلكها بأن بذل حياته من أجلها.

بِدَمِهِ أي بدم المسيح الذي هو إله وإنسان والدم هنا كناية عن الحياة بدليل قول الرسول «ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ» (رومية ٣: ٢٥). فإذاً الكنيسة ثمينة جداً في عيني المسيح نظراً للثمن الذي اشتراها به (١بطرس ١: ١٨ و١٩). وذكر بولس هذا لقسوس أفسس ليرغبهم في الأمانة بخدمة الكنيسة المسلمة إليهم. هذا فوق ما قاله في الآية السابعة والعشرين من أنهم مدعوو الروح القدس. وهذه الآية من الأدلة على لاهوت المسيح.

٢٩ «لأَنِّي أَعْلَمُ هٰذَا: أَنَّهُ بَعْدَ ذَهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى ٱلرَّعِيَّةِ».

متّى ٧: ١٥ و٢بطرس ٢: ١

أَعْلَمُ لم يبيّن أبالوحي كان عالماً أم بما شاهده في كنائس أخرى أم بمعرفته خبث القلب البشري وكثرة التجارب الخارجية.

ذَهَابِي مفارقتي إيّاكم بسفر أو موت. فكان بحضوره بينهم بعناية الله واسطة وقايتهم من الأخطار المتوقعة.

ذِئَابٌ الذئاب أعداء الغنم أبداً فحسن أن يلقب الرسول أعداء الكنيسة الخارجيين بالذئاب كما لقّبها بالرعيّة. وقصد بهؤلاء الأعداء المضطهدين والمعلمين الضارين ولا سيما اليهود منهم. وسبقت في الإنجيل استعارة الذئاب للاشرار (متّى ٧: ١٥ و١٠: ١٦ ولوقا ١٠: ٣ ويوحنا ١٠: ١٢)

خَاطِفَةٌ أي مفترسة مهلكة.

لاَ تُشْفِقُ الخ نقصد أن تبدّدها وتهلكها وقد رأينا إنجاز هذه النبوءة في ما كتبه بولس إلى تيموثاوس بعد ست سنين وهو قوله «أَنْتَ تَعْلَمُ هٰذَا أَنَّ جَمِيعَ ٱلَّذِينَ فِي أَسِيَّا ٱرْتَدُّوا عَنِّي» (٢كورنثوس ١: ١٥). وما كتبه بطرس إليهم وإلى غيرهم وهو قوله «لاَ تَسْتَغْرِبُوا ٱلْبَلْوَى ٱلْمُحْرِقَةَ ٱلَّتِي بَيْنَكُمْ حَادِثَةٌ» (١بطرس ٤: ١٢).

٣٠ «وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا ٱلتَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ».

١تيموثاوس ١: ٢٠ و١يوحنا ٢: ١٩

وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ أي من كنيسة أفسس نفسها. أشار الرسول بهذا إلى الذين يغارون ظاهراً للحق وهم يعلمون الكذب ويأتي بعضهم ذلك محبة للقوة والجاه والرئاسة. وليس للكنيسة أن تخاف من الأعداء الخارجية إذا سلمت من الأعداء الداخلية.

رِجَالٌ تأثيرهم كتأثير الذئاب في الآية السابقة وليسوا بأقل ضرراً منها.

مُلْتَوِيَةٍ أي غير مطابقة لمقياس الحق والاستقامة أي كتاب الله.

لِيَجْتَذِبُوا هذا غاية تعليمهم ونتيجته.

ٱلتَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ أي أنهم يعدلون بتلاميذ المسيح عن العقائد الصحيحة وشركة القديسين إلى عقائدهم المبتدعة المضلة والانشقاق. وما أنبأ به بولس هنا يوافق ما كتبه يوحنا الرسول إلى كنيسة أفسس بعد سنين وهو أن تلك الكنيسة تركت محبتها الأولى للمسيح وأنه دخلها معلمون مفسدون من فرقة النيقولاويين (رؤيا ٢: ٢ – ٧). وما كتبه بولس في خمسة مبتدعين من تلك الكنيسة وهم هيمينايس واسنكدر (١تيموثاوس ١: ٢٠) وفيليتس (٢تيموثاوس ٢: ١٧) وفيجلس وهرموجانس (٢كورنثوس ١: ١٥). ولا يبعد عن الظن أن هيمينايُس وهرموجانس كانا من القسوس الذين خاطبهم حينئذ وقال لهم «منكم أنتم سيقوم الخ».

٣١ «لِذٰلِكَ ٱسْهَرُوا، مُتَذَكِّرِينَ أَنِّي ثَلاَثَ سِنِينَ لَيْلاً وَنَهَاراً، لَمْ أَفْتُرْ عَنْ أَنْ أُنْذِرَ بِدُمُوعٍ كُلَّ وَاحِدٍ».

ص ١٩: ١٠

لِذٰلِكَ أي لما أنبأتكم به من المخاطر.

ٱسْهَرُوا كونوا منتبهين (١تسالونيكي ٥: ٦ و١٠) ومحترزين (١بطرس ٥: ٨).

مُتَذَكِّرِينَ سيرتي بينكم نحو ثلاث سنين (ص ١٩: ٨ – ١٠) واقتدوا بي.

لَيْلاً وَنَهَاراً في كل الأوقات المناسبة للتعليم بلا نظر إلى راحته ولذته (ع ١٩).

لَمْ أَفْتُرْ أي لم أترك فرصة.

أُنْذِرَ أنبه على الخطر وأشير على طريق النجاة. وقصد هنا ما وعظ به الناس على انفراج لا بين الجمهور.

بِدُمُوعٍ هذا بيان لشفقته عليهم وغيرته على خلاصهم فلم يكتف بأن يقنعهم بقوة الحجج بل زاد على ذلك أنه أعلن فرط رغبته في نفعهم وإنقاذهم من الخطر. قال أحد قدماء الشعراء إذا أردت أن تبكيّني فابكِ فقلما أثر في السامعين كلام من أنذر بعذاب جهنم ووصف آلام المسيح فداء للخطأة ومحبة لهم بلا انفعال تظهره إمارات وجهه.

٣٢ «وَٱلآنَ أَسْتَوْدِعُكُمْ يَا إِخْوَتِي لِلّٰهِ وَلِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ، ٱلْقَادِرَةِ أَنْ تَبْنِيَكُمْ وَتُعْطِيَكُمْ مِيرَاثاً مَعَ جَمِيعِ ٱلْمُقَدَّسِينَ».

عبرانيين ١٣: ٩ ص ٩: ٣١ ص ٢٦: ١٨ وأفسس ١: ١٨ وكولوسي ١: ١٢ و٣: ٢٤ وعبرانيين ٩: ١٥ و١بطرس ١: ٤

وَٱلآنَ قال هذا إيماء إلى ختام كلامه.

أَسْتَوْدِعُكُمْ وديعة ثمينة وكل الله إليّ حفظها فأردّها عند ذهابي إليه.

وَلِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ هي الكلمة المنادى بها للخلاص بنعمة الله كما في (ص ٢٤ وفي ص ١٤: ٣٠) وهي الواسطة التي يحفظ الله بها المؤمنين لأنها حية فعالة الخ (عبرانيين ٤: ١٢) أو هي وعد الله بمقتضى النعمة أن يحفظ المؤمنين.

تَبْنِيَكُمْ أحب بولس أن يشبه الحياة المسيحية ببناء على أساس وطيد يعلو شيئاً فشيئاً إلى أن يبلغ الكمال. والمعنى أن كلمة الله تمكن الإنسان من الارتقاء في التقوى مع وفرة الأخطار والتجارب (١كورنثوس ٣: ١٠ و١٢: ١٤ وأفسس ٢: ٢٠ وكولوسي ٢: ٧).

ًمِيرَاثا نصيبهم من المواهب التي يعطيهم الله إيّاها باعتبار أنهم أولاده (أفسس ١: ١١ و٥: ٥ وكولوسي ١: ١٢ و٣: ٢٤).

ٱلْمُقَدَّسِينَ المؤمنين باعتبار أنهم بلغو غاية خلاصهم (١تسالونيكي ٤:٣ وعبرانيين ١٢: ١٤) فلا بد للمخلصين من أن يكونوا مقدسين.

٣٣ «فِضَّةَ أَوْ ذَهَبَ أَوْ لِبَاسَ أَحَدٍ لَمْ أَشْتَهِ».

١صموئيل ١٢: ٣ و١كورنثوس ٩: ١٢ و٢كورنثوس ٧: ٢ و١١: ٩ و١٢: ١٧

قال ذلك دفعاً لاتهام بعض أعدائه إيّاه أنه جعل الديانة ستراً لطمعه في المال (٢كورنثوس ٧: ٢ و١٢: ٧ و٨ و١تسالونيكي ٢: ٥). فإن غايته وهو بينهم لم تكن ربح أموالهم والثواب في قول الرب «نعماً أيها العبد الصالح والأمين». وقول بولس هنا كقول صموئيل في تبرئة نفسه من الطمع (١صموئيل ١٢: ٣).

٣٤ «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ ٱلَّذِينَ مَعِي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ ٱلْيَدَانِ».

ص ١٨: ٣ و١كورنثوس ٤: ١٢ و١تسالونيكي ٢: ٩ و٢تسالونيكي ٣: ٨

احتجّ بمعرفتهم أنه تكلم بالحق كما احتجّ في الآية الثامنة عشرة.

حَاجَاتِي علّم بولس أن المبشرين يستحقون أن يأخذوا أسباب المعاش ممن يبشرونهم لكنه لم يدّع هذا الحق لنفسه خوفاً من أن يتهمه أحد بالطمع فيكون ذلك عثرة في سبيل نفعه (١كورنثوس ٩: ١١ – ١٥ و٢كورنثوس ١١: ٧ – ١٢ و١٢: ١٣ – ١٦ و٢تسالونيكي ٣: ٧ – ١٢). وحصل على تلك الأسباب بعمله في صناعة الخيام (ص ١٨: ٣ و١٨ و١٩). وكتب من أفسس رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس وقال فيها «إِلَى هٰذِهِ ٱلسَّاعَةِ نَجُوعُ وَنَعْطَشُ وَنَعْرَى وَنُلْكَمُ وَلَيْسَ لَنَا إِقَامَةٌ، وَنَتْعَبُ عَامِلِينَ بِأَيْدِينَا» (١كورنثوس ٤: ١١ و١٢).

وَحَاجَاتِ ٱلَّذِينَ مَعِي نستنتج من ذلك أن بعض رفقائه كان ضعيفاً غير قادر على تحصيل أسباب المعاش أو أنه أرسلهم إلى أماكن أخرى للتبشير فشغلوا به أكثر الوقت حتى لم يكن لهم فرصة لتحصيل تلك الأسباب لأن من مبادئ بولس «أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضاً» (٢تسالونيكي ٣: ١٠).

هَاتَانِ ٱلْيَدَانِ لعله رفع يديه أمامهم وهو يتكلم.

٣٥ «فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ وَتَعْضُدُونَ ٱلضُّعَفَاءَ، مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ أَنَّهُ قَالَ: مَغْبُوطٌ هُوَ ٱلْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ ٱلأَخْذِ».

رومية ١٤: ١ و١٥: ١ و١كورنثوس ٩: ١٢ وغلاطية ٢: ١٠ و٦: ٢ وأفسس ٤: ٢٨ و١تسالونيكي ٤: ١١ و٥: ١٤ و٢تسالونيكي ٣: ٨

فِي كُلِّ شَيْءٍ من الأزمنة والوسائل.

هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ كما عملت بيدي اختياراً.

وَتَعْضُدُونَ ٱلضُّعَفَاءَ أي كل المحتاجين إلى المساعدة لعلّة جسديّة أو روحيّة.

مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ لم تُذكر هذه الكلمات في البشائر الأربع ولا نعجب من ذلك إذا قرأنا قول أحد البشيرين «وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ ٱلْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ ٱلْكُتُبَ ٱلْمَكْتُوبَةَ» (يوحنا ٢١: ٢٥). ولا عجب من أن الرسل حفظوا هذه الكلمات وذكرها للناس ودليل ذلك قول بولس «متذكرين» كأنه اعتاد أن يذكرها لهم.

مَغْبُوطٌ هُوَ ٱلْعَطَاءُ الخ كل إنسان يعرف غبطة الأخذ أي القبول من الله ومن إخوته البشر ولكن المسيح حكم بأن العطاء أكثر غبطة وله أن يحكم لأنه لا أحد أعطى مثله إذ بذل حياته عنا فهو حكم مختبر. والذي يُعطي غيره يشارك الله سبحانه في غبطته فإنه تعالى لا يكف عن العطاء بسخاء ويسرّ بذلك. فالذي يعطي المحتاجين يُغبط بمشاهدته النفع الناتج عما أعطى وبتذكره إياه وبثوابه يوم الجزاء بمقتضى الوعد (متّى ٢٥: ٣٤ – ٣٦).

٣٦ «وَلَمَّا قَالَ هٰذَا جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مَعَ جَمِيعِهِمْ وَصَلَّى».

ص ٧: ٦٠ و٢١: ٥

جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ لتأثيره في الروح وحرارته في الصلاة. لو كان من العادة الغالبة الجثوّ في الصلاة لم يكن من حاجة إلى ذكره. ونعلم من كتب المسيحيين الأولين أنهم اعتادوا الوقوف في العبادة الجمهورية في الكنائس وغيرها.

وَصَلَّى أنه تقدمهم في الصلاة نائباً عن الجميع. ولنا مما صلاه من أجل الأفسسيين صلاة (أفسس ٣: ١٤ – ٢١) نستنتج منها ما كانت صلاته حينئذ.

٣٧ «وَكَانَ بُكَاءٌ عَظِيمٌ مِنَ ٱلْجَمِيعِ، وَوَقَعُوا عَلَى عُنُقِ بُولُسَ يُقَبِّلُونَهُ».

تكوين ٤٥: ١٤ و٤٦: ٢٩

ما ذُكر هنا يبين لنا شدة المودة بين بولس وأولئك القسوس باعتبار أنه صديق لهم ووالد ومرشد روحي وشدة حزنهم على فراقه.

قليلون الذين كانوا كبولس في قدر ما كان محبوباً إلى البعض وقدر ما كان مبغضاً إلى الآخرين.

٣٨ «مُتَوَجِّعِينَ، وَلاَ سِيَّمَا مِنَ ٱلْكَلِمَةِ ٱلَّتِي قَالَهَا: إِنَّهُمْ لَنْ يَرَوْا وَجْهَهُ أَيْضاً. ثُمَّ شَيَّعُوهُ إِلَى ٱلسَّفِينَةِ».

ع ٢٥

أنه إذا رُجي اللقاء على الأرض بعد الفراق فذلك تعزية ليست بقليلة ولكنه إذ لم يبق سبيل إلى ذلك فألم الفراق شديد.

ٱلَّتِي قَالَهَا (ع ٢٥) لمثل هؤلاء ومن كان حال كحالهم عزاء في أن المسيح الصديق الأعز يمكث مع الماكثين ويسافر مع المسافرين.

شَيَّعُوهُ إِلَى ٱلسَّفِينَةِ إظهاراً لحبهم وإكرامهم له (ص ١٥: ٣). قال بعضهم أن في هذا الخطاب بيان ما يجب على القسيس عموماً وهو أن يكون «خادماً للرب» (ع ١٩).

وبيان ما يجب عليه خصوصاً وهو أن يكون «محترز لنفسه وللرعية» (ع ٢٨).

وخلاصة ما يجب أن يكرز به من التعليم وهي «التوبة إلى الله والإيمان بالرب» (ع ٢١).

ومواضع الكرازة «جهاراً وفي كل بيت» (ع ٢٠).

وكيفية التبشير وهي أن «لا يفتر من أن ينذر كل واحد» (ع ٣١) «بكل تواضعه ودموع كثيرة» (ع ١٩).

والأمانة وهي أن «لا يؤخر شيئاً من الفوائد» (ع ٢٠) وأن «يكون بريئاً من دم الجميع» (ع ٢٦) وأن يخبر الناس «بكل مشورة الله» (ع ٢٧).

والخلوص وإنكار الذات «غير مشته ذهباً أو فضة أو لباساً» (ع ٣٣).

والصبر والاحتمال غير محتسب لشيء من الشدائد وغير حاسب نفسه ثمينة عنده حتى يتمم بفرح سعيه والخدمة التي أخذها من الرب يسوع (ع ٢٤).

وذكر هنا سببين يوجبان على القسيس أن يخدم الكنيسة كما ذُكر وهما أن الروح القدس أقامه لهذه الخدمة وأن الكنيسة التي يخدمها قد اقتناها المسيح بدمه (ع ٢٨).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى