أعمال الرسل | 18 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح سفر أعمال الرسل
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح الثامن عشر
بولس في كورنثوس ع ١ إلى ١٧
١ «وَبَعْدَ هٰذَا مَضَى بُولُسُ مِنْ أَثِينَا وَجَاءَ إِلَى كُورِنْثُوسَ».
وَبَعْدَ هٰذَا أي بعد حوادث أثينا والمدة مجهولة لكن يُستنتج من القرينة وما في (ص ١٧: ١٦) أنها كانت قصيرة.
مَضَى بُولُسُ مِنْ أَثِينَا لأنه لم يتوقع النجاح فيها.
جَاءَ إِلَى كُورِنْثُوسَ مدينة على غاية خمسين ميلاً من أثينا غرباً هي قصبة أخائية أحد قسمي بلاد اليونان كما أن فيلبي قصبة مكدونية القسم الآخر. كانت مبنية على برزخ ضيق لها فرضتان غربية واسمها ليكيوم وشرقية واسمها كنخريا هدمها الرومانيون سنة ١٤٦ ق. م لأن أهلها أهانوا سفراءهم وبقيت خربة نحو مئة سنة ثم بناها يوليوس قيصر. ولما زارها بولس كان قد مر على تجديدها سبع وثمانون سنة وكان مجدها حينئذ أعظم من مجدها الأول. واشتهرت بعظمة متجرها وغناها وبهاء صروحها وهياكلها وفجورها بدليل قول المؤرخين أنه كان في هيكل موقوف للزهرة ألف كاهنة زانية حصلت المدينة على كثير من ثروتها من دخل ذلك الهيكل من التقدمات. وأشار بولس في بعض رسائله إلى تلك الحالة الأدبية (١كورنثوس ٥: ١ و٦: ٩ و١١ و١٣ – ١٩). قصد بولس التبشير في هذه المدينة لوفرة أهلها وكثرة زوارها وغزارة اليهود المهاجرين إليها. ولا ريب في أن الروح القدس الذي دعاه إلى مكدونية أومأ إليه أن يأتي إلى كورنثوس. وصارت هذه المدينة مركزاً رابعاً للديانة المسيحية تنتشر منه أشعة الإنجيل في آخائية. بقي فيها بولس سنة ونصف سنة (ع ١١) وكتب فيها الرسالتين إلى تسالونيكي.
٢ «فَوَجَدَ يَهُودِيّاً ٱسْمُهُ أَكِيلاَ، بُنْطِيَّ ٱلْجِنْسِ، كَانَ قَدْ جَاءَ حَدِيثاً مِنْ إِيطَالِيَا، وَبِرِيسْكِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ لأَنَّ كُلُودِيُوسَ كَانَ قَدْ أَمَرَ أَنْ يَمْضِيَ جَمِيعُ ٱلْيَهُودِ مِنْ رُومِيَةَ. فَجَاءَ إِلَيْهِمَا».
رومية ١٦: ٣ ١كورنثوس ١٦: ١٩ و٢تيموثاوس ٤: ١٩
فَوَجَدَ يَهُودِيّاً ٱسْمُهُ أَكِيلاَ أي يهوديا في الأصل لكنه كان حينئذ مسيحياً تنصر في رومية على أرجح الأقوال من تأثير حوادث يوم الخمسين (ص ٢: ٩).
بُنْطِيَّ ٱلْجِنْسِ أي ممن ولدوا في بنطس من متشتتي اليهود الذين كتب بطرس رسالته الأولى إليهم (١بطرس ١: ١) وهي بلاد في القسم الشمالي الشرقي من آسيا الصغرى.
بِرِيسْكِلاَّ مصغر بريسكا في الرومانية وهذا يدل على أن هذه المرأة رومانية وذُكرت بلا تصغير في (٢تيموثاوس ٤: ١٩). فهذه وزوجها أكيلا علّما أبلّس وبذلك نستدل على أنها كانت امرأة عاملة مختبرة الكتاب المقدس ذُكر اسمها غالباً قبل اسم زوجها (ع ١٨ ورومية ١٦: ٣ و٢تيموثاوس ٤: ١٩).
لأَنَّ كُلُودِيُوسَ… مِنْ رُومِيَةَ كلوديوس هو أمبراطور رومية الرابع ملك من سنة ٤١ ب. م إلى سنة ٥٤. ذكر سويتونيوس المؤرخ الروماني أنه نفى اليهود من رومية لكثرة فتنهم.
فَجَاءَ إِلَيْهِمَا أي إلى مسكنهما كأنه عرفهما صديقين وفي ذلك ما يثبّت أنهما تنصرا قبل مشاهدته.
٣ «وَلِكَوْنِهِ مِنْ صِنَاعَتِهِمَا أَقَامَ عِنْدَهُمَا وَكَانَ يَعْمَلُ، لأَنَّهُمَا كَانَا فِي صِنَاعَتِهِمَا خِيَامِيَّيْنِ».
ص ٢٠: ٣٤ و١كورنثوس ٤: ١٢ و١تسالونيكي ٢: ٩ و٢تسالونيكي ٣: ٨
اعتاد اليهود جميعاً أن يعلموا أولادهم الصنائع حتى الموقوفين منهم للعلم والشريعة والدين لكي يستطيعوا المعاش بها إذا اقتضت الحال ويخلصوا من تجارب البطالة. قيل في التلمود جواباً لقولهم «ما الواجبات على الوالد لولده» أن يختنه ويفقهه بالتوارة ويعلمه صناعة.
وَكَانَ يَعْمَلُ للحصول على أسباب المعاش له وللذين معه كما عمل في أفسس (ص ٢٠: ٣٤ و١كورنثوس ٢: ٩ و٢تسالونيكي ٣: ٨).
خِيَامِيَّيْنِ كانت الخيام تُصنع قديماً إما من الجلود وهو مما ندر وإما من منسوجات شعر المعزى وهذا مما غلب. وكان هذا الشعر كثيراً في كيليكية ولم يزل اسم نسيح هذا الشعر في الفرنسية والإسبانية والإيطالية ما معناه كيليكياً ولعل بولس مولود كيليكية تعلم تلك الصناعة هنالك.
٤ «وَكَانَ يُحَاجُّ فِي ٱلْمَجْمَعِ كُلَّ سَبْتٍ وَيُقْنِعُ يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ».
ص ١٧: ٢
هذا مثل ما فعل في سلاميس (ص ١٣: ٥). وفي أنطاكية (١٣: ١٤). وإيقونية (ص ١٤: ١) وتسالونيكي (ص ١٧: ٢). وبيرية (ص ١٧: ١٠). وأثينا (ص ١٧: ١٧).
يُونَانِيِّينَ متهودين أو مائلين إلى الدين اليهودي.
٥ «وَلَمَّا ٱنْحَدَرَ سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسُ مِنْ مَكِدُونِيَّةَ، كَانَ بُولُسُ مُنْحَصِراً بِٱلرُّوحِ وَهُوَ يَشْهَدُ لِلْيَهُودِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ».
ص ٧: ١٤ و١٥ أيوب ٣٢: ١٨ وص ١٧: ٣ وع ٢٨
سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسُ مِنْ مَكِدُونِيَّةَ أي من تسالونيكي إحدى مدنها. انتظرهما بولس في أثينا (ص ١٧: ١٦) فأتى إليه تيموثاوس وهو فيها فأرجعه إلى تسالونيكي وقتياً (١تسالونيكي ٣: ١ و٢).
مُنْحَصِراً بِٱلرُّوحِ اشتدت روحه غيرة للشهادة بما للمسيح لشدة محبته له ولشدة حاجة الكورنثيين إلى تلك الشهادة لتوقف خلاصهم عليها وأنشأ الروح القدس فيه هذه الغيرة. وصريح العبارة أن سيلا وتيموثاوس وجداه في تلك الحال. والكلمة في الأصل اليوناني تشير إلى شدة انفعالاته وقتئذ وهذا مثل قول المسيح في نفسه «لِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا، وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟» (لوقا ١٢: ٥٠).
بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أي أن المسيح الموعود به في العهد القديم هو يسوع وهذه خلاصة محاجته في الآية الرابعة.
٦ «وَإِذْ كَانُوا يُقَاوِمُونَ وَيُجَدِّفُونَ نَفَضَ ثِيَابَهُ وَقَالَ لَهُمْ: دَمُكُمْ عَلَى رُؤُوسِكُمْ. أَنَا بَرِيءٌ. مِنَ ٱلآنَ أَذْهَبُ إِلَى ٱلأُمَمِ».
ص ١٣: ٤٥ و١بطرس ٤: ٤ نحميا ٥: ١٣ ومتّى ١٠: ١٤ وص ١٣: ٥١ لاويين ٢٠: ٩ و١١ و١٢ و٢صموئيل ١: ١٦ وحزقيال ١٨: ١٣ و٣٣: ٤ حزقيال ٣: ١٨ و١٩ و٣٣: ٩ وص ٢٠: ٢٦ ص ١٣: ٤٦ و٢٨: ٢٨
شدة غيرته للحق أنشأت فيهم مثلها للمقاومة كما حدث في أنطاكية بيسيدية (ص ١٣: ٥٤ – ٥٧).
يُجَدِّفُونَ يحتمل الأصل اليوناني أنهم شتموا بولس ورفاقه وحقروهم أو خطئوا إلى الله بأن نكروا لاهوت المسيح.
نَفَضَ ثِيَابَهُ كما في (ص ١٣: ٥١) وذلك إشارة إلى أن الله رفضهم لأنهم رفضوا الحق وإلى أن بولس فعل كل ما في طاقته ليقنعهم ولكنهم أبوا تركهم في العماية التي اختاروها وللهلاك الذي استحقوه. وهذه الإشارة من مصطلحات اليهود أمر المسيح رسله بها (متّى ١٠: ١٤).
دَمُكُمْ عَلَى رُؤُوسِكُمْ أي اللوم على أنفسكم في هلاككم. والعبارة من (حزقيال ٣٣: ٤) وبمثل هذا الكلام حمل اليهود على أنفسهم وأولادهم مسؤولية قتل المسيح (متّى ٢٧: ٢٥).
أَنَا بَرِيءٌ هذا تفسير لمراده من نفض ثيابه أي ليس عليّ شيء بهلاككم.
مِنَ ٱلآنَ أَذْهَبُ باعتبار كوني رسولاً ومبشراً. وكلامه مقصور على يهود كورنثوس كما قُصر على يهود أنطاكية بيسيدية في (ص ١٣: ٣٦).
٧ «فَٱنْتَقَلَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى بَيْتِ رَجُلٍ ٱسْمُهُ يُوسْتُسُ، كَانَ مُتَعَبِّداً لِلّٰهِ، وَكَانَ بَيْتُهُ مُلاَصِقاً لِلْمَجْمَعِ».
ٱنْتَقَلَ مِنْ هُنَاكَ أي من المجمع حيث كان يحاجّ اليهود المجدفين.
وَجَاءَ إِلَى بَيْتِ اتخذه بمنزلة مجمع لمقابلة الناس وتعليمه إيّاهم فلا يلزم من هذا أنه ترك منزله مع أكيلا.
يُوسْتُسُ اسم روماني.
كَانَ مُتَعَبِّداً لِلّٰهِ أي الإله الحق. واصطلح لوقا على الإشارة بمثل هذه العبارة إلى الأمم الذين تهودوا وعبدوا يهوه كما جاء في (ص ١٣: ٤٣ و٥٠ و١٦: ١٤ و١٧: ٤ و١٧). وزاد ويستس على إيمانه بالله اعتقاده أن يسوع هو المسيح.
بَيْتُهُ مُلاَصِقاً لِلْمَجْمَعِ اختار بولس هذا البيت لمناسبته لاجتماع الناس ولإعلان انفصاله عن يهود ذلك المجمع المقاومين المجدفين.
٨ «وَكِرِيسْبُسُ رَئِيسُ ٱلْمَجْمَعِ آمَنَ بِٱلرَّبِّ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ، وَكَثِيرُونَ مِنَ ٱلْكُورِنْثِيِّينَ إِذْ سَمِعُوا آمَنُوا وَٱعْتَمَدُوا».
١كورنثوس ١: ١٤
كِرِيسْبُسُ اسم روماني لكن من الواضح أن كريسبس كان يهودياً أصيلاً أو دخيلاً. وكونه دخيلاً لم يكن عند اليهود مانعاً أن يكون رئيس مجمع.
آمَنَ بِٱلرَّبِّ أي أن يسوع هو المسيح الحق وأنه رب ومخلص.
مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ أي أهل بيته من كبير وصغير.
إِذْ سَمِعُوا بشارة الإنجيل.
آمَنُوا أي تنصروا.
وَٱعْتَمَدُوا كان ممن اعتمدوا واحد عمده بولس بيده على خلاف عادته وهو كريسبس (١كورنثوس ١: ١٤). ومن البينات على قوة تأثير الإنجيل أنه انتصر هذا الانتصار في تلك المدينة الشريرة وانتظمت فيها كنيسة ناجحة. فيجب أن لا نيأس من مثل ذلك التأثير أين بُشر بالإنجيل وليس من مكان مظلم لا يقدر الإنجيل على إنارته ولا من مكان نجس لا يقدر على تطهيره.
٩ «فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِبُولُسَ بِرُؤْيَا فِي ٱللَّيْلِ: لاَ تَخَفْ، بَلْ تَكَلَّمْ وَلاَ تَسْكُتْ».
ص ٢٣: ١١
الرؤيا هنا إعلان من الله ولا نعلم هل ظهر له المعلن أو لا.
لاَ تَخَفْ في هذا إشارة إلى أن بولس كان حينئذ عرضة للخوف واليأس نظراً لشدة مقاومة اليهود وللشر المستولي على تلك المدينة. نعم إن بولس كان شجاعاً كثير الأمل لكنه كان إنساناً فلا عجب من احتياجه أحياناً إلى التعزية والتشجيع وهو محاط بالتجارب والبلايا كما أشار إلى ذلك بقوله «كُنْتُ عِنْدَكُمْ فِي ضَعْفٍ وَخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ كَثِيرَةٍ» (١كورنثوس ٢: ٣).
١٠ «لأَنِّي أَنَا مَعَكَ، وَلاَ يَقَعُ بِكَ أَحَدٌ لِيُؤْذِيَكَ، لأَنَّ لِي شَعْباً كَثِيراً فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ».
إرميا ١: ١٨ و١٩ ومتّى ٢٨: ٢٠
أبان أن كونه معه وحمايته إياه علة الاطمئنان.
أَنَا مَعَكَ بنوع خاص للإعانة والوقاية. ووعد المسيح رسله بمثل هذا الوعد في (متّى ٢٨: ٢٠).
لاَ يَقَعُ بِكَ أَحَدٌ لِيُؤْذِيَكَ أي لا يوقع بك ضراً. وما أراد الرب بذلك أنه لا يقاومه أحدٌ لأنه قاومه كثيرون بعد ذلك (ع ١٢ – ١٧) إنما أراد أن المقاومين لا يستطيعون إضراره أو منعه من التبشير.
لأَنَّ لِي شَعْباً كَثِيراً هذا علة أن يكون شجاعاً يتكلم بجراءة. قصد الله أن يأتي بكثيرين من أهل كورنثوس إلى الإيمان والخلاص وأن يكون ذلك بواسطة تبشير بولس. وبإعلانه هذا القصد لبولس أكد له أنه لا يقدر أحد أن يقتله فيبطل قصد الله. ولا شيء ينشط المبشر كأمل النجاح بإرشاد الناس إلى المسيح. ولم تكن علة رجاء إيمان الوثنيين في كورنثوس إلا قصد الله خلاصهم ولا علة لتوبة خطاة العالم وإيمانهم بالمسيح وخلاصهم إلا قصد المنعم الأزلي خلاص المختارين. وقول الله «أن ليس شعباً» الخ لتشجيع بولس يذكرنا قوله تعالى لتشجيع إيليا النبي «قَدْ أَبْقَيْتُ فِي إِسْرَائِيلَ سَبْعَةَ آلاَفٍ، كُلَّ ٱلرُّكَبِ ٱلَّتِي لَمْ تَجْثُ لِلْبَعْلِ» (١ملوك ١٩: ١٨).
١١ «فَأَقَامَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ يُعَلِّمُ بَيْنَهُمْ بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ».
يظهر من هذا أن بولس صدق الوعد وأطاع الأمر.
أَقَامَ مستريحاً مطمئناً.
سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ هذا أطول وقت تقضّى عليه في موضع واحد منذ ابتدأ أسفاره للتبشير إلى تلك الساعة وأتى فيه الأعمال الوافرة التي أشار إليها في رسالتيه إلى أهل كورنثوس وهي أنه جمع المؤمنين في تلك المدينة ونظمهم كنيسة وبشر أهل المدن والقرى المجاورة لها ومن ذلك تأسيسه كنيسة في كنخريا (رومية ١٦: ١) ويؤيد ذلك قوله في مقدمة رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس «كَنِيسَةِ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي فِي كُورِنْثُوسَ، مَعَ ٱلْقِدِّيسِينَ أَجْمَعِينَ ٱلَّذِينَ فِي جَمِيعِ أَخَائِيَةَ» وأخائية نحو نصف بلاد اليونان. وفوق هذا كله كتب في تلك المدة رسالتيه إلى أهل تسالونيكي اللتين لم يقصر نفعهما على تلك الكنيسة بل عم كل الكنائس المسيحية منذ ذلك العهد إلى هذه الساعة.
بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ أي بشارة الخلاص بيسوع المسيح.
١٢ «وَلَمَّا كَانَ غَالِيُونُ يَتَوَلَّى أَخَائِيَةَ، قَامَ ٱلْيَهُودُ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى بُولُسَ، وَأَتَوْا بِهِ إِلَى كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ».
غَالِيُونُ هو أخو سنيكا الرواقي الفيلسوف الروماني المشهور الذي كان استاذ نيرون الأمبراطور. تولى كورنثوس سنة ٥٣ ب. م. شهد مؤرخو ذلك العصر بجودة أخلاقه وحسن سجاياه وبأنه كان حليماً مترفقاً بالجميع محبوباً إلى الجميع غير مداهن ولا مراء. ولعله تولى يوم كان بولس يبشر هنالك. وطمع اليهود لحلمه في أنهم يقدرون على الإيقاع ببولس ورفقائه كما يريدون.
أَخَائِيَةَ القسم الجنوبي من قسمي بلاد اليونان اللذين قسمهما إليهما الرومانيون بعد استيلائهم عليها وكانت كورنثوس قاعدتها.
قَامَ كما فعل اليهود في أنطاكية بيسيدية (ص ١٣: ٥٠). ويهود تسالونيكي (ص ١٧: ٥).
كُرْسِيِّ ٱلْوِلاَيَةِ اعتاد الولاة الرومانيين أن يطوفوا في أيام معينة في ساحة المدن المتولين عليها ليسمعوا دعاوي عامة الناس وينظروا فيها. ونقل بعضهم كرسي الحكومة ليجلس عليه عند الحكم وكان عندهم لذلك الكرسي شأن عظيم واحترام خاص فانتهز اليهود الفرصة حين جلس غاليون على كرسيه فقبضوا على بولس وأتوا به إليه وشكوه له.
١٣ «قَائِلِينَ: إِنَّ هٰذَا يَسْتَمِيلُ ٱلنَّاسَ أَنْ يَعْبُدُوا ٱللّٰهَ بِخِلاَفِ ٱلنَّامُوسِ».
بِخِلاَفِ ٱلنَّامُوسِ إن الذي أغاظ اليهود هو تعليم بولس تعليماً يخالف ناموس موسى لكنهم لم يصرحوا بذلك لغاليون فتركوا لفظة الناموس مبهمة آملين أنه يفهم بها الشريعة الرومانية المانعة من كل الأديان الحديثة التي لم يأذن أرباب الحكومة الرومانية فيها. وهذه مثل الشكوى على بولس وسيلا في فيلبي وعليها ضُربا وسُجنا بأمر الولاة.
١٤ «وَإِذْ كَانَ بُولُسُ مُزْمِعاً أَنْ يَتَكَلَّمَ، قَالَ غَالِيُونُ لِلْيَهُودِ: لَوْ كَانَ ظُلْماً أَوْ خُبْثاً رَدِيّاً أَيُّهَا ٱلْيَهُودُ، لَكُنْتُ بِٱلْحَقِّ قَدِ ٱحْتَمَلْتُكُمْ».
ص ٢٣: ٢٩ و٢٥: ١١ و١٩
أَنْ يَتَكَلَّمَ للمحاماة عن نفسه ولدفع الشكوى.
قَالَ غَالِيُونُ المرجح أنه حكم وقتاً كافياً هنالك ليسمع أنباء بولس وتعليمه ولا بد من أنه علم تعصب اليهود وميلهم إلى التشويش. وكان مضمون جوابه أن الدعوى باطلة بنفسها فلا حاجة للمشكو عليه ان يتفوه بشيء للدفع عن نفسه وأن ما اتهموه به ليس بجرم بمقتضى الشريعة الرومانية.
لَوْ كَانَ فرض غير الواقع.
ظُلْماً تعدياً على أحد في ماله أو شخصه أو شيء من حقوقه.
خُبْثاً رَدِيّاً معظم الفرق بين الظلم والخبث هنا أن الأول تعدٍّ ظاهر والثاني تعدٍّ خفي وأن الخبث أكثر ما يكون في الأدبيات والظلم أكثر ما يكون في الماديات. ويشتمل الاثنان على كل أنواع الجرائم التي ينظر فيها الرومانيون بمقتضى شريعتهم ويعاقبون عليها.
بِٱلْحَقِّ قَدِ ٱحْتَمَلْتُكُمْ أي سمعت دعواكم مهما كانت طويلة أو مما يثقل سمعها لأن ذلك من مقتضيات رتبتي وفي كلامه تعريض بأنه كان يستثقل كل دعاوي اليهود.
١٥، ١٦ «١٥ وَلٰكِنْ إِذَا كَانَ مَسْأَلَةً عَنْ كَلِمَةٍ، وَأَسْمَاءٍ، وَنَامُوسِكُمْ، فَتُبْصِرُونَ أَنْتُمْ. لأَنِّي لَسْتُ أَشَاءُ أَنْ أَكُونَ قَاضِياً لِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ. ١٦ فَطَرَدَهُمْ مِنَ ٱلْكُرْسِيِّ».
إِذَا كَانَ هذا تسليم بالواقع لا فرض غير الواقع كالسابق.
مَسْأَلَةً أراد بها البحث أو الجدال.
كَلِمَةٍ أراد بالكلمة القول تمييزاً للعمل كالظلم والخبث فاعتبر المسائل الدينية مجرد ألفاظ.
وَأَسْمَاءٍ ليست أموراً محسوسة حقيقية. ولا ريب في أن غاليون عرف أن اليهود اغتاظوا من تسمية بولس يسوع الناصري بالمسيح ولم يرد أن يحكم بينهم وبين بولس بأنه هل كان يسوع يستحق ذلك الاسم أو لا.
وَنَامُوسِكُمْ أي شريعتكم اليهودية. فأوضح لهم أنه لم يُخدع بما أتوه من الإبهام في الشكوى بلفظة الناموس. ويظهر أيضاً أنه كان عارفاً الجماعة المسيحية ولم يعتبرها سوى فرقة من اليهود وأن المسيحيين كما لليهود من الحقوق.
فَتُبْصِرُونَ أَنْتُمْ فهذا كقول رؤساء الكهنة ليهوذا الاسخريوطي حين ندم على تسليمه يسوع ورد أجرة الخيانة (متّى ٢٧: ٣ – ٥). والمعنى أن الشريعة الرومانية لا تعاقب الإنسان على آرائه في الدين فمن متعلقات الشريعة اليهودية أن تثبت إن كان يسوع هو المسيح أو أن تنفي ذلك. فكأنه قال لهم انظروا في ذلك بموجب شريعتكم واقضوا بمقتضاها. وهو كقول بيلاطس لليهود في أمر المسيح «خُذُوهُ أَنْتُمْ وَٱحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُمْ» ولكنهم أبوا ذلك لأنهم أرادوا أن تكون الدعوى جنائية عقابها الموت لا دينية عقابها القطع من المجمع (يوحنا ١٨: ٣١).
لَسْتُ أَشَاءُ… قَاضِياً لِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ أراد «بهذه الأمور» مجادلات اليهود الدينية ولا سيما جدالهم في شأن يسوع ورفضهم إياه. ولم يخطر على بال غاليون أن تلك المسئلة التي استخف بها كأنها مما لا يستحق الالتفات إليها ولو دقيقة واحدة هي من أعظم المسائل التي تعرض للعقل البشري. ولم يعرف أن يسوع الناصري موضوع هذا الجدال الذي حسبه يهودياً حقيراً هو ملك الملوك ورب الأرباب وأنه «تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ» (فيلبي ٢: ١٠ و١١).
فَطَرَدَهُمْ مِنَ ٱلْكُرْسِيِّ عامله بمقتضى قوله لهم. أبى أن يسمع كلامهم بعد وأن يحتمل حضورهم أمامه. وقوله «طردهم» يدل على أنهم ذهبوا على رغمهم.
١٧ «فَأَخَذَ جَمِيعُ ٱلْيُونَانِيِّينَ سُوسْتَانِيسَ رَئِيسَ ٱلْمَجْمَعِ، وَضَرَبُوهُ قُدَّامَ ٱلْكُرْسِيِّ، وَلَمْ يَهُمَّ غَالِيُونَ شَيْءٌ مِنْ ذٰلِكَ».
١كورنثوس ١: ١
ٱلْيُونَانِيِّينَ إن هؤلاء الوثنيين أبغضوا اليهود دائماً وشاهدوا اضطهادهم لبولس وسمعوا شكواهم عليه ولم يرضوا بشيء من ذلك ولما رأوا أن غاليون حكم ببطلان دعوى اليهود واستخف بهم انتهزوا الفرصة لأن يتشفوا من بغضهم إياهم.
سُوسْتَانِيسَ رَئِيسَ ٱلْمَجْمَع اعتبروه نائب سائر اليهود ولعله كان قائد المضطهدين لبولس.
وَضَرَبُوهُ قُدَّامَ ٱلْكُرْسِيِّ فعلوا به ما قصد اليهود أن يُفعل ببولس.
وَلَمْ يَهُمَّ غَالِيُونَ لم يتعرض لإنقاذ سوستانيس ولا لمنع اليونانيين عن ارتكابهم ما يخالف النظام. والظاهر أنه لعلة لا نعرفها لم يصعب عليه ضربهم لذلك الرئيس. وقلما أهم الرومانيين أن يهان اليهود.
كان معظم علماء الرومانيين في عصر بولس غير مكترث بأمور الديانة إذ تحققوا ما في عبادتهم الوثنية من الجهالة ولم يتعلموا شيئاً مما يتعلق بالإله الحق وعبادته الروحية. ولكنه لم يتضح من تصرف غاليون في هذه المسئلة شيء سوى أنه اعتبرها دعوى دينية لا علاقة لها بالشريعة الرومانية. وكذا أبى فيلكس وفستوس واليا سورية أن يحكما على بولس بما أراده اليهود بناء على أن تلك الأمور ليست من متعلقات الشريعة الرومانية (ص ٢٤ وص ٢٦).
رجوع بولس إلى سورية ع ١٨ إلى ٢٣
١٨ «وَأَمَّا بُولُسُ فَلَبِثَ أَيْضاً أَيَّاماً كَثِيرَةً، ثُمَّ وَدَّعَ ٱلإِخْوَةَ وَسَافَرَ فِي ٱلْبَحْرِ إِلَى سُورِيَّةَ، وَمَعَهُ بِرِيسْكِلاَّ وَأَكِيلاَ، بَعْدَمَا حَلَقَ رَأْسَهُ فِي كَنْخَرِيَا لأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ».
عدد ٦: ١٨ وص ٢١: ٢٤ رومية ١٦: ١
فَلَبِثَ أَيْضاً بعد سكوت هياج اليهود ولم يكن من معارض له.
ٱلإِخْوَةَ أي المؤمنين من أهل كورنثوس الذين انتظموا كنيسة مسيحية.
فِي ٱلْبَحْرِ أي بحر إيجيا وهو جزء من البحر المتوسط فاصل بين اليونان وآسيا.
إِلَى سُورِيَّةَ قاصداً أنطاكية مقامه الذي ابتدأ السفر منه ولكنه كان عازماً أن يزور أورشليم أولاً للعيد القادم (ع ٢١).
بِرِيسْكِلاَّ وَأَكِيلاَ المذكورين في (ع ٢). وقدم الكاتب هنا بريسكلا على زوجها ولعل ذلك لأنها أكثر منه علماً ونباهة لأن ذلك لا يكون بلا علة فلا نعلم غير العلة المذكورة.
بَعْدَمَا حَلَقَ رَأْسَهُ الضمير هنا لبولس ولو كان الذي حلق رأسه أكيلا لم يكن من داع أن يذكر لوقا ذلك إذ هو إنسان غير مشهور ولا ممن يهم الناس أمرهم.
كَنْخَرِيَا هي فرضة كورنثوس الشرقية كان فيها كنيسة مسيحية (رومية ١٦: ١).
عَلَيْهِ نَذْرٌ النذر هو الوعد لله والمرجّح أن نذره كان مقصوراً على شخصه لعلة ما. وهل كان ذلك النذر لنجاة من خطر أو لنجاح في تبشيره أو ليُري اليهود أنه لم يكره الديانة اليهودية وأنه ليس عدواً لها كما اتهموه ذلك لا نعلمه. وأمثال النذور الشخصية كثيرة في الكتاب المقدس منها ما في (تكوين ٢٢: ٢٠ ولاويين ٢٧: ٢ وعدد ٣٠: ٢ وتثنية ٢٣: ٢١ وقضاة ١١: ٣٠ و١صموئيل ١: ١١ و٢صموئيل ١٥: ٧ ومزمور ٦٥: ١ وجامعة ٥: ٤). وكان حلق الراس عند نهاية مدة النذور من الرسوم المتلعقة بإيفائه كما هو مفصل في (عدد ٦: ١ – ٢١ انظر أيضاً أعمال ٢١: ٢٤). وليس في ما أتاه بولس ما ينافي إيمانه وأعماله المسيحية. نعم أنه لم يرد أن يجبر مؤمني الأمم على حفظ الرسوم الناموسية ولم يحسبها ضرورية للخلاص إلا أنه استحسن أن يمارسها هو كعادته منذ صغره.
١٩ «فَأَقْبَلَ إِلَى أَفَسُسَ وَتَرَكَهُمَا هُنَاكَ. وَأَمَّا هُوَ فَدَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ وَحَاجَّ ٱلْيَهُودَ».
أَفَسُسَ مدينة كبيرة في آسيا الصغرى (انظر الكلام عليها في شرح ص ١٩: ١). المرجّح أن السفن كانت قد اعتادت أن تُرسي في مرفإها بين مرسى كورنثوس ومرسى أفسس يومان أو ثلاثة أيام.
وَتَرَكَهُمَا هُنَاكَ أي أن بولس ترك بريسكلا وأكيلا في أفسس وظل سائراً إلى سورية.
وَأَمَّا هُوَ بعد أن ذكر لوقا ترك بولس رفيقيه في أفسس عاد إلى ذكر ما فعله بولس مدة تربصه القصيرة في أفسس.
فَدَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ يظهر من ذلك أن رغبته في خلاص أمته اليهودية لم تفتر بجور يهود كورنثوس عليه واعتزاله اجتماعاتهم (ع ٦).
حَاجَّ سبق شرح هذا في (ع ٤ وص ١٧: ٢ و١٧.
قال يوسيفوس إن اليهود كانوا كثيرين في أفسس وحصلوا على مثل حقوق الرومانيين المدنية كسائر سكان كورنثوس.
٢٠، ٢١ «٢٠ وَإِذْ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ زَمَاناً أَطْوَلَ لَمْ يُجِبْ. ٢١ بَلْ وَدَّعَهُمْ قَائِلاً: يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنْ أَعْمَلَ ٱلْعِيدَ ٱلْقَادِمَ فِي أُورُشَلِيمَ. وَلٰكِنْ سَأَرْجِعُ إِلَيْكُمْ أَيْضاً إِنْ شَاءَ ٱللّٰهُ. فَأَقْلَعَ مِنْ أَفَسُسَ».
ص ١٩: ٢١ و٢٠: ١٦ ١كورنثوس ٤: ١٩ وعبرانيين ٦: ٣ ويعقوب ٤: ١٥
الظاهر أن يهود أفسس استحسنوا وعظ بولس حتى سألوه أن يبقى عندهم واعظاً.
يَنْبَغِي… ٱلْعِيدَ ٱلْقَادِمَ فِي أُورُشَلِيمَ ظن أكثر المفسرين أن ذلك العيد كان عيد الخمسين وعلى ذلك أنه نذر السفر في ذلك البحر قبل عيد الفصح لشدة الخطر على السفن لأنها كانت شراعية يومئذ وكان يؤمَن بعد الفصح. والذي يسافر بحراً من هنالك حينئذ يمكنه أن يصل أورشليم قرب عيد الخمسين. ولا نعلم علة عزمه الشديد على أن يحضر ذلك العيد في أورشليم ولعلها رغبته في اجتماعه باليهود الكثيرين الآتين أورشليم في ذلك الحين من كل أقطار المسكونة وتبشيره إياهم بالمسيح ومشاهدته مؤمني اليهود هنالك ليشجعهم ويثبتهم في إيمانهم ويخبرهم بنتائج تبشيره الأمم أو لعلها مما أوجبته متعلقات نذره. قال يوسيفوس أن الشريعة اليهودية أوجبت على الناذرين أن يحضروا أورشليم ويقوموا ببعض الرسوم الدينية في الهكيل قبل مرور ثلاثين يوماً من حلق رؤوسهم فلو فاته عيد الخمسين في أورشليم لم يكن له عيد آخر قبل تشرين الأول وحينئذ يكون «السفر في البحر خطراً» (ص ٢٧: ٩).
سَأَرْجِعُ كما فعل (ص ١٩: ١) ومكث هنالك ثلاث سنين (ص ٢٠: ٣١).
٢٢ «وَلَمَّا نَزَلَ فِي قَيْصَرِيَّةَ صَعِدَ وَسَلَّمَ عَلَى ٱلْكَنِيسَةِ، ثُمَّ ٱنْحَدَرَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ».
قَيْصَرِيَّةَ انظر شرح (ص ٨: ٤٠) وكانت يومئذ مينا أورشليم كيافا اليوم. ولا ريب في أن بولس ابتهج بمشاهدة فيلبس المبشر هناك (ص ٨: ٤٠ و٢١: ٨).
صَعِدَ إلى أورشليم وهذه زيارته الرابعة إيّاها بعد تنصره.
سَلَّمَ عَلَى ٱلْكَنِيسَةِ أي كنيسة أورشليم أم الكنائس فأظهر بذلك احترامه ومودته لها. وفي هذا غاية الاختصار لأنباء هذه الزيارة ولا بد من أن اجتماعه بالرسل وسائر الإخوة كان ساراً جداً بعد تلك المفارقة الطويلة.
ٱنْحَدَرَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ أي أنطاكية سورية التي سبق ذكرها في (ص ١١: ١٩ و٢٦) وبوصوله إليها انتهى سفره الثاني للتبشير وشغل بهذا السفر نحو ثلاث سنين وهي من سنة ٥١ إلى سنة ٥٤ ب. م وهذه الزيارة آخر زيارات بولس لأنطاكية.
٢٣ «وَبَعْدَمَا صَرَفَ زَمَاناً خَرَجَ وَٱجْتَازَ بِٱلتَّتَابُعِ فِي كُورَةِ غَلاَطِيَّةَ وَفِرِيجِيَّةَ يُشَدِّدُ جَمِيعَ ٱلتَّلاَمِيذِ».
غلاطية ١: ٢ و٤: ١٨ ص ١٤: ٢٢ و١٥: ٣٢ و٤١
هذا بداءة سفر بولس الثالث للتبشير شغل به نحو أربع سنين من سنة ٥٤ إلى سنة ٥٨.
غَلاَطِيَّةَ وَفِرِيجِيَّةَ كورتان في آسيا الصغرى أسس بولس في مدنهما كنائس مسيحيّة في سفره السابق (ص ١٦: ٦).
يُشَدِّدُ جَمِيعَ ٱلتَّلاَمِيذِ عقلاً وروحاً. لا ريب في أن الكنائس حصلت على تعزية ومساعدة من تلك الزيارة وأنها كلفت بولس تعباً ليس بقليل. والمرجّح أنه لم تحدث حينئذ حوادث ذات شأن ولذلك لم يذكر لوقا شيئاً منها لكنه أسرع إلى ذكر الجزء الأهم من أتعاب بولس مدة إقامته الطويلة في أفسس.
أبلّوس الاسكندري ع ٢٤ إلى ٢٨
٢٤ «ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى أَفَسُسَ يَهُودِيٌّ ٱسْمُهُ أَبُلُّوسُ، إِسْكَنْدَرِيُّ ٱلْجِنْسِ، رَجُلٌ فَصِيحٌ مُقْتَدِرٌ فِي ٱلْكُتُبِ».
١كورنثوس ١: ١٢ و٣: ٥ و٦ و٤: ٦ وتيطس ٣: ١٣
هذا الفصل مقدمة مجيء بولس إلى أفسس.
يَهُودِيٌّ أصلاً وتربية.
إِسْكَنْدَرِيُّ اسكندرية مدينة في مصر نُسبت إلى بانيها اسكندر الكبير وكانت وقتئذ المدينة الثانية عظمة واشتهاراً في المملكة الرومانية. اشتهرت بوفرة متجرها وإحكام مدارس العلوم اليونانية والعلوم العبرانية فيها. سكنها كثيرون من اليهود منذ عهد الملوك البطليموسيين خلفاء اسكندر وفيها اختلطت عقائدهم الدينية بالفلسفة اليونانية. وكان الشروع في ذلك سنة ٢٨٥ ق. م. وعُرفت تلك الترجمة بترجمة السبعين. وكان في تلك المدينة مكتبة هي أعظم مكاتب العالم في ذلك العصر.
فَصِيحٌ أي قادر على التعبير عن المراد بأحسن كلام وأسلوب وتحتمل الكلمة اليونانية أيضاً أنه كان قد أحكم كل العلوم ولا سيما علم التاريخ.
مُقْتَدِرٌ فِي ٱلْكُتُبِ أي ممتازاً بمعرفة أسفار الله واستطاعة تفسيرها ليشعروا بقوتها.
٢٥ «كَانَ هٰذَا خَبِيراً فِي طَرِيقِ ٱلرَّبِّ. وَكَانَ وَهُوَ حَارٌّ بِٱلرُّوحِ يَتَكَلَّمُ وَيُعَلِّمُ بِتَدْقِيقٍ مَا يَخْتَصُّ بِٱلرَّبِّ. عَارِفاً مَعْمُودِيَّةَ يُوحَنَّا فَقَطْ».
رومية ١٢: ١١ ص ١٩: ٣
كَانَ هٰذَا خَبِيراً قبل مجيئه إلى أفسس.
فِي طَرِيقِ ٱلرَّبِّ أي ديانة المسيح كما في ص ٩: ٢ و١٩: ٩ و٢٣ و٢٢: ٤ و٢٤: ١٤ و٢٢.
حَارٌّ بِٱلرُّوح شعر قلبه بما أدركه عقله ومن كان كذلك فلا بد أن يظهر حرارة روحه قولاً وفعلاً.
يَتَكَلَّمُ وَيُعَلِّمُ عبر بذلك عن محادثته أفراد الناس ووعظه الجماعات.
بِتَدْقِيقٍ على قدر ما عرف من الإنجيل.
مَا يَخْتَصُّ بِٱلرَّبِّ مما عرف من إنجيل يسوع المسيح.
عَارِفاً مَعْمُودِيَّةَ يُوحَنَّا فَقَطْ أي يوحنا المعمدان. كانت معمودية يوحنا أمراً امتازت به خدمته عن خدمة من سلفه ولذلك لُقب بالمعمدان (متّى ٣: ١). وأُطلقت المعمودية على كل خدمته من باب تسمية الكل باسم الجزء ولأن الذين اعتقدوا اعتقاد يوحنا أظهروا ذلك بقبولهم معموديته. ولا نعلم أتعلّم أبلوس من يوحنا المعمدان رأساً أم تعلّم من تلاميذه الذين ذهبوا إلى مصر. وإذ كان لم يعرف من أمر يسوع سوى ما عرفه واختبره يوحنا مدة حياته لم يكن كفوء للتبشير المسيحي. نعم أن يوحنا علم أن المسيح قد أتى لأنه عمّده وشهد له وتحقق أنه صنع معجزات. ولا بد من أن أبلّوس بلغه في اسكندرية نبأ صلب يسوع وقيامته. والمرجح أنه لم يبلغه خبر حلول الروح القدس يوم الخمسين وما عرفه التلاميذ وقتئذ من روحانية ملكوت المسيح أي أنه لم يكن ملكاً ظاهراً منتصراً على الأرض كما ظن قبلاً التلاميذ كلهم من تلاميذ يوحنا وتلاميذ يسوع. ولم يكن عالماً بأن موت المسيح كفارة عن خطايا العالم وأن الناس استغنوا به عن كل ذبائح الهيكل وسائر رسوم الشريعة الموسوية.
٢٦ «وَٱبْتَدَأَ هٰذَا يُجَاهِرُ فِي ٱلْمَجْمَعِ. فَلَمَّا سَمِعَهُ أَكِيلاَ وَبِرِيسْكِلاَّ أَخَذَاهُ إِلَيْهِمَا، وَشَرَحَا لَهُ طَرِيقَ ٱلرَّبِّ بِأَكْثَرِ تَدْقِيقٍ».
يُجَاهِرُ فِي ٱلْمَجْمَعِ الظاهر من هذا أن أبلّوس حضر المجمع بمنزلة رباني (Rabbi) على سنن بولس وأبان أن عنده نبأ يريد قصه على أهل المجمع فدعاه الشيوخ إلى التكلم كعادتهم في مثل هذه الاحوال (ص ١٣: ١٥). وكان فحوى خطابه كفحوى مناداة يوحنا المعمدان في البرية ودعاهم إلى التوبة والإيمان بالمسيح على قدر معرفته.
سَمِعَهُ أَكِيلاَ وَبِرِيسْكِلاَّ يتضح من ذلك أنهما كانا يحضران المجمع ليسمعا أبلّوس. ولعل أكيلا اعتاد أن يخاطب الناس هنالك.
شَرَحَا لَهُ طَرِيقَ ٱلرَّبِّ الخ أي أوضحا له كل التعليم الإنجيلي كما تعلماه من بولس ومن ذلك أن المسيح قد أكمل الناموس كله وأن موته كان فداء للعالم وأنه لم يبق من حاجة إلى ذبائح الهيكل. وأنبآه بموهبة الروح القدس وبأن التبرير بالإيمان بمعنى المعمودية المسيحية والعشاء الرباني. وإصغاء أبلوس إلى هذين ورضاه أن يعلماه دليل قاطع على فرط تواضعه وشدة رغبته في معرفة الحق لأنه كان عالماً فصيحاً متعلماً في مدارس الاسكندرية العليا وهما بالنسبة إليه بسيطان جداً.
٢٧ «وَإِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَجْتَازَ إِلَى أَخَائِيَةَ كَتَبَ ٱلإِخْوَةُ إِلَى ٱلتَّلاَمِيذِ يَحُضُّونَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوهُ. فَلَمَّا جَاءَ سَاعَدَ كَثِيراً بِٱلنِّعْمَةِ ٱلَّذِينَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا».
١كورنثوس ٣: ٦
إِلَى أَخَائِيَةَ لا ريب أن أبلّوس قصد كورنثوس قصبة أخائية بناء على أخبار أكيلا وبريسكلا إياه بنجاح الكنيسة هناك ويؤيد ذلك ما في (ص ١٩: ١ و١كورنثوس ١: ١٢)
كَتَبَ ٱلإِخْوَةُ هذا أول ذكر رسائل التوصية في الإنجيل التي اعتادتها الكنيسة كثيراً بعد ذلك (٢كورنثوس ٣: ١) لأن المسيحيين كانوا يومئذ يكثرون الجولان يجول بعضهم للتبشير والبعض هرباً من الاضطهاد. فالذي كان يحمل رسالة توصية من كنيسة مسيحية يجد الترحيب به في غيرها من الكنائس حين يقدم لها الرسالة. وإعطاء الإخوة في أفسس تلك الرسالة لأبلّوس دليل على اعتبارهم إياه كثيراً. واتخذ حزب أبلّوس بعدئذ إتيانه إليهم بتلك التوصية دليلاً على أنه أفضل من بولس لأنه أتاهم بلا توصية فأجاب بولس على ذلك بقوله أنه لم يحتج إلى مثلها لأن الكنيسة التي أسسها هي نفسها رسالته وأوضح ذلك بقوله «أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا، مَكْتُوبَةً فِي قُلُوبِنَا، مَعْرُوفَةً وَمَقْرُوءَةً مِنْ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ» (٢كورنثوس ٣: ٢).
سَاعَدَ كَثِيراً بِٱلنِّعْمَةِ الخ أي أن النعمة الخاصة التي وهبها له الروح القدس قدرته على نفع كنيسة كورنثوس كثيراً لا مجرد عمله وفصاحته. وشهد بولس لجودة خدمته الرب هناك بقوله لكنيسة كورنثوس «أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى الخ» (١كورنثوس ٣: ٦ – ١٠). وساعد المؤمنين إما بتقويته إيّاهم في المعرفة والإيمان وإما بمحاورته عنهم اليهود غير المؤمنين.
٢٨ «لأَنَّهُ كَانَ بِٱشْتِدَادٍ يُفْحِمُ ٱلْيَهُودَ جَهْراً، مُبَيِّناً بِٱلْكُتُبِ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ».
ص ٩: ٢٢ و١٧: ٣ وع ٥
لأَنَّهُ هذا تعليل لمساعدته الكثيرة وهو دليل على أن معظم مساعدته للكنيسة كان بمناظرته اليهود الذين لم يؤمنوا. والذي أعده لذلك تمرّنه في مدارس الاسكندرية المشهورة واقتداره في أسفار الوحي (ع ٣٤). وكان بولس قد اعتزل المجمع لشدة مقاومة أهله له وعنادهم. والظاهر أن ذلك العالم الإسكندري الفصيح كان قوي الحجة متقلداً سيف الروح الذي هو كلمة الله فغلبهم وقطع حجتهم فلم يستطيعوا جواباً. وفي هذه الآية والتي قبلها صفتان ضروريتان للمبشر المسيحي. الأولى القدرة على إفادة المؤمنين والثانية القوة على إقناع غير المؤمنين.
وما هنا كل ما ذكره لوقا من أمر أبلّوس لكنا نعلم من رسائل بولس أنه كان مكرماً معتبراً في كنيسة كورنثوس حتى صار له حزب فيها (١كورنثوس ١: ٢٢). ولما كتب بولس من أفسس رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس كان أبلّوس معه في أفسس وألحّ عليه أن يرجع إلى كورنثوس فلم يُرد ولعل ذلك لخوفه من التحزب فيها لكنه وعده أن يرجع بعد حين (١كورنثوس ١٦: ١٢). ثم ذكره بولس قرب نهاية حياته نحو ٦٥ ب. م بقوله «جَهِّزْ زِينَاسَ ٱلنَّامُوسِيَّ وَأَبُلُّوسَ بِٱجْتِهَادٍ لِلسَّفَرِ» (تيطس ٣: ١٣) وهذا يدلنا على أن الصداقة بينهما بقيت شديدة إلى آخر حياة بولس وذلك نحو عشر سنين.
السابق |
التالي |