أعمال الرسل | 14 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح سفر أعمال الرسل
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح الرابع عشر
نبأ تبشير الرسولين في أيقونية ع ١ إلى ٧
١ «وَحَدَثَ فِي إِيقُونِيَةَ أَنَّهُمَا دَخَلاَ مَعاً إِلَى مَجْمَعِ ٱلْيَهُودِ وَتَكَلَّمَا، حَتَّى آمَنَ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْيَهُودِ وَٱلْيُونَانِيِّينَ».
دَخَلاَ مَعاً إِلَى مَجْمَعِ ٱلْيَهُودِ كعادتهما لتمكنها بذلك من مخاطبة اليهود والمتعبدين من الأمم.
تَكَلَّمَا، حَتَّى آمَنَ أي بذلا كل ما في وسعهما من الحرارة والقوة مع مساعدة الروح القدس حتى تنصّر كثيرون.
مِنَ ٱلْيَهُودِ لم يفترا عن مخاطبة الذين هادوا مع كل ما أصباهما منهم في أنطاكية بيسيدية.
وَٱلْيُونَانِيِّينَ الوثنيين أصلاً الذين هادوا أو مالوا إلى اليهودية أو الذين أتوا المجمع بغية أن يسمعوا شيئاً جديداً.
٢ «وَلٰكِنَّ ٱلْيَهُودَ غَيْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَرُّوا وَأَفْسَدُوا نُفُوسَ ٱلأُمَمِ عَلَى ٱلإِخْوَةِ».
ٱلأُمَمِ الوثنيين أصلاً واعتقاداً. فهم غير اليونانيين الذين ذكروا في الآية الأولى. وفي هذه الآية أمران يستحقان الاعتبار الأول شدة معاداة اليهود للحق فإنهم لم يقتصروا على رفضه بل أرادوا منع غيرهم من قبوله. والثاني قوة تأثير اليهود في الأمم حتى استطاعوا أن يهيجوهم على المسيحيين. ومما يستوجب الذكر أن كل اضطهادات المسيحيين التي ذُكرت في أعمال الرسل ابتدأها اليهود إلا اضطهادين. وعلة عداوتهم خوفهم أن يخسروا البركات المختصة بهم باعتبار كونهم شعب الله المختار وورثة المواعيد إذا قُبل الأمم في شركة النعمة بالمسيح.
ٱلإِخْوَةِ أي المؤمنين بالمسيح من اليهود والأمم. ومما هيّج غضب اليهود غير المؤمنين دعوة بعض اليهود لبعض الأمم أخوة.
٣ «فَأَقَامَا زَمَاناً طَوِيلاً يُجَاهِرَانِ بِٱلرَّبِّ ٱلَّذِي كَانَ يَشْهَدُ لِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ، وَيُعْطِي أَنْ تُجْرَى آيَاتٌ وَعَجَائِبُ عَلَى أَيْدِيهِمَا».
مرقس ١٦: ٢٠ وعبرانيين ٢: ٤
زَمَاناً طَوِيلاً أي كافياً لإتمام قصد الله تبليغ الحق لأهل أيقونية وتأثيره في بعضهم.
بِٱلرَّبِّ أي بيسوع المسيح. وكانا يجاهران بسلطانه والاتكال عليه وهو الذي شجعهما وجعل كلامهما مؤثراً.
ٱلَّذِي كَانَ يَشْهَدُ أظهر الله رضاه في عمل الرسولين وأن تعليمهما تعليمه.
لِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ أي لإنجيله الذي علّته النعمة الإلهية وغايته إظهارها للخطأة.
آيَاتٌ وَعَجَائِبُ لم يذكر الكاتب أن الرسولين أتيا شيئاً من المعجزات في أنطاكية بيسيدية والظاهر أن إيمان الإخوة في أيقونية نتج عن سماع البراهين لا من مشاهدة الآيات بدليل قوله «تكلما حتى آمن» الخ (ع ١).
٤ «فَٱنْشَقَّ جُمْهُورُ ٱلْمَدِينَةِ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ مَعَ ٱلْيَهُودِ وَبَعْضُهُمْ مَعَ ٱلرَّسُولَيْنِ».
ص ١٣: ٣ و١٧: ٤ و٢٨: ٢٤ و٢٨
فَٱنْشَقَّ جُمْهُورُ ٱلْمَدِينَةِ أن ديانة المسيح ديانة السلام لكن نتيجة إعلانها في العالم الانقسام على وفق أنباء المسيح في (متّى ١٠: ٣٤ و٣٥). وحيث ينجح الحق يهيّج عدوه جنوده على المقاومة.
ٱلْيَهُودِ غير المؤمنين وهم المذكورون في (ع ٢).
ٱلرَّسُولَيْنِ أي بولس وبرنابا وسميّا رسولين (مع أن برنابا ليس من الرسل الأصليين) لأنهما أرسلا للتبشير من كنيسة أنطاكية. وبمثل هذا المعنى جاءت لفظة رسول في (يوحنا ١٣: ١٦ ورومية ١٦: ٧ و٢كورنثوس ٨: ٢٣ وفيلبي ٢: ٢٥).
٥ «فَلَمَّا حَصَلَ مِنَ ٱلأُمَمِ وَٱلْيَهُودِ مَعَ رُؤَسَائِهِمْ هُجُومٌ لِيَبْغُوا عَلَيْهِمَا وَيَرْجُمُوهُمَا».
٢تيموثاوس ٣: ١١
فَلَمَّا حَصَلَ… هُجُومٌ أي قصد الهجوم لأن القرينة تدل على أنهم لم يهجموا فعلاً. والمراد بالرؤساء هنا رؤساء الأمم واليهود كليهما.
لِيَبْغُوا أي ليظلموا ويجوروا ولا يخفى ما في ذلك من قصد الإهانة والأضرار.
وَيَرْجُمُوهُمَا إما تشفياً من غيظهم أو عقاباً على ما اتهموهما به من التجديف في قولهم أن يسوع هو المسيح ابن الله (ص ٧: ٥٧ – ٥٩).
٦، ٧ «٦ شَعَرَا بِهِ، فَهَرَبَا إِلَى مَدِينَتَيْ لِيكَأُونِيَّةَ: لِسْتِرَةَ وَدَرْبَةَ، وَإِلَى ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ. ٧ وَكَانَا هُنَاكَ يُبَشِّرَانِ».
متّى ١٠: ٢٣
شَعَرَا بِهِ أي بما سبق من قصد الهجوم والبغي وعرفا ذلك بطريق لم يذكره الكاتب. كذا علم بولس بمكيدة اليهود في دمشق فهرب (ص ٩: ٢٤). ولم يهربا جبانة بل إطاعة لأمر المسيح (متّى ١٠: ٢٣). نعم إنهما تركا المكان لكنهما لم يتركا التبشير.
لِيكَأُونِيَّةَ ولاية داخلية في آسيا الصغرى تحيط بها فريجية وغلاطية وكبدوكية وكيليكية وفيها سهل هو أكبر سهول آسيا الصغرى.
لِسْتِرَةَ مدينة في جنوبي ليكأونية على أمد نحو أربعين ميلاً من أيقونية وهي مولد تيموثاوس أحد أصدقاء بولس المخلصين واسمها الآن بيك بيركليسة أي ألف كنيسة وكنيسة سُميّت بذلك لكثرة آثار الكنائس فيها.
دَرْبَةَ مدينة شرقي لسترة موقعها مجهول اليوم والأرجح أنها على غاية خمسة وعشرين ميلاً من لسترة. وربح بولس هنالك صديقاً واحداً إن لم يكن قد ربح سواه وهو «غايوس الدربي» (ص ٢٠: ٤).
يُبَشِّرَانِ بالمسيح وخلاصه. وزمان إقامتهما هنالك غير مذكور لكن القرينة تدل على أنه كان كافياً لنشر البشرى في الولاية التي هاتان القصبتان منها. والمرجح أن اليهود كانوا قليلين في تلك الأرض إذ لم يذكر لوقا ما يدل على أنه كان مجمع في لسترة أو دربة وأنهما بشرا في الساحات والأسواق وأن معظم السامعين من الأمم.
تبشير الرسولين في لسترة ودربة وما نشأ عنه ع ٨ إلى ٢٠
٨ «وَكَانَ يَجْلِسُ فِي لِسْتِرَةَ رَجُلٌ عَاجِزُ ٱلرِّجْلَيْنِ مُقْعَدٌ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، وَلَمْ يَمْشِ قَطُّ».
ص ٣: ٢
ذكر لوقا من الحوادث التي جرت للرسولين في خدمتهما في ليكأونية معجزة أتاها بولس في لسترة وما نشأ منها من الرفعة والضعة. ولعلها واحدة من معجزات كثيرة صُنعت في أيقونية (ع ٣).
كَانَ يَجْلِسُ فِي لِسْتِرَةَ رَجُلٌ المرجّح أنه كان جالساً في ساحة في المدينة يحمله إليها أصدقاءه للتسول وأن بولس اتخذ تلك الساحة مكاناً للتبشير لأنها كانت مجتمعاً للناس.
عَاجِزُ ٱلرِّجْلَيْنِ الخ فكان في حال يمتنع فيها الشفاء بوسائط بشرية فلم يكن من أمل أن يمشي البتة.
٩، ١٠ «٩ هٰذَا كَانَ يَسْمَعُ بُولُسَ يَتَكَلَّمُ، فَشَخَصَ إِلَيْهِ، وَإِذْ رَأَى أَنَّ لَهُ إِيمَاناً لِيُشْفَى ١٠ قَالَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: قُمْ عَلَى رِجْلَيْكَ مُنْتَصِباً. فَوَثَبَ وَصَارَ يَمْشِي».
متّى ٨: ١٠ و٩: ٢٨ و٢٩ إشعياء ٣٥: ٦
يَسْمَعُ بُولُسَ يَتَكَلَّمُ في يسوع المسيح وديانته علناً.
فَشَخَصَ إِلَيْهِ أي أمعن بولس النظر فيه لكي يرى على وجهه إمارات تأثير الكلام في قلبه. ولعل الله وهب لبولس قوة غير عادية ليرى خفايا أفكاره.
إِيمَاناً لِيُشْفَى أي ثقة بأن يسوع المسيح قادرٌ أن يشفي أمراض الجسد والنفس وأنه مستعد أن يتحنن عليه. والمرجّح أن بولس كان يذكر في خطابه ما فعله المسيح مما يقوي إيمان السامعين به وينشئ فيهم الرجاء. والإيمان هنا شرط للشفاء كما هو كذلك في أكثر معجزات العهد الجديد.
قَالَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ كما صرخ يسوع لما أمر لعازر بالخروج من القبر (يوحنا ١١: ٤٣). وهذا نتيجة الانفعال الشديد في قلب المتكلم.
فَوَثَبَ أي قفز وهذا من الحركات التي يأتيها الإنسان في أول شروعه في المشي قبل أن يختبره. فأظهر بما أتاه طاعته لأمر بولس وقوة إيمانه والقوة التي وهبها الله لبولس. وهذا يذكرنا بالمُقعد الذي شفي في أورشليم عند باب الهيكل الجميل إلا أن ذاك كان ينتظر قبل الشفاء الصدقة فقط من بطرس ويوحنا وأما هذا فكان يصغي إلى بولس قبله ويتأثر بتعليمه وذاك أمسكه بطرس بيده وأقامه وهذا عند سمعه أمر بولس وثب ومشى.
١١ «فَٱلْجُمُوعُ لَمَّا رَأَوْا مَا فَعَلَ بُولُسُ، رَفَعُوا صَوْتَهُمْ بِلُغَةِ لِيكَأُونِيَّةَ قَائِلِينَ: إِنَّ ٱلآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِٱلنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا».
ص ٨: ١٠ و٢٨: ٦
فَٱلْجُمُوعُ الذين أكثرهم أو كلهم من الوثنيين.
مَا فَعَلَ بُولُسُ وهو شفاء المقعد.
رَفَعُوا صَوْتَهُمْ علامة لدهشتهم ومسرتهم.
بِلُغَةِ لِيكَأُونِيَّةَ لا يُعلم الآن ما تلك اللغة ولكنها كانت تختص بتلك الكورة البربرية. لكن اليونانية التي تكلم بولس بها كانت معروفة هنالك لأنها كانت اللغة العامة في تلك الأيام. ومن الأمور الطبيعية أن الإنسان إذا اشتد فيه الخوف أو العجب أو غيرهما من الانفعالات يظهر انفعاله بلغته الأصلية لا الأجنبية مهما أحكمها ومارسها. وذكر لوقا تكلمهم بلغتهم الخاصة بياناً أن بولس وبرنابا لم يمنعاهم في أول الأمر من قصدهم عند الصراخ من تقديم العبادة لهما لأنهما لم يفهما ما تكلموا به. ولا شيء في ذلك مناف لما ثبت من أنه كان لبولس موهبة التكلم بالألسنة إذ لا دليل على أن تلك الموهبة كانت غير منفكة عمن وُهبت لهم بل نعم أنها كانت آية على أن صاحبها ملهم من الروح القدس وأنها لا تقتضي أن يفهم صاحبها معنى اللغة الأجنبية التي يتكلم بها غيره (١كورنثوس ١٥: ٢٧ و٢٨).
ٱلآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِٱلنَّاسِ الخ اعتقد الوثنيون أن آلهتهم يتخذون أحيانا هيئة الناس ويخالطون البشر. وكتبوا أمثال ذلك في كتب تقاليدهم المعروفة بالميثولوجيا. وفي تلك الكتب أنه ظهر في تلك الناحية زفس وهرمس متنكرين بهيئتي رجلين وأن أهل تلك الناحية الشرسين البخلاء أبوا ضيافتهما لكن قبلهما شخصان فقيران كانا يسكنان في كوخ في الصحراء اسم أحدهما بوخس والآخر فيليمون. وأن ذينك الإلهين سخطا على أهل تلك الأرض فأغرقهم زفس بطوفان عقاباً على ما فعلوا. أما بوخس وفيليمون فأثابهما على كرمهما بأن جعل كوخهما هيكلاً عظيماً لعبادته وجعلهما كاهنين فيه. ولأن أهل لسترة لم يعهدوا قط بشراً يفعل ما فعل بولس وتيقنوا أن ما فعله فوق طاقة البشر استنتجوا ان زفساً افتقدهم كما سبق في تقاليدهم.
١٢ «فَكَانُوا يَدْعُونَ بَرْنَابَا «زَفْسَ» وَبُولُسَ «هَرْمَسَ» إِذْ كَانَ هُوَ ٱلْمُتَقَدِّمَ فِي ٱلْكَلاَمِ» .
زَفْس هو المشتري في العربية وزفس اسمه في اليونانية. وهو جوبيتر الرومانيين وكانوا يعتبرونه ملك الآلهة ويدعونه أبا الآلهة والناس.
هَرْمَسَ هو عطارد في العربية وهرمس اسمه في اليونانية ومركوريوس اسمه في الرومانية. وكان عند الوثنيين رسول الألهة وترجمان زفس وخادمه في زيارته البشر وكان يُعتبر أنه إله الفصاحة.
ٱلْمُتَقَدِّمَ فِي ٱلْكَلاَمِ لم يدعوه هرمس إلا لهذا التقدم. فإنه على اعتقادهم أن من يتوقع زيارته من الآلهة زفس وترجمانه هرمس. وأن هرمس هو الذي يتكلم. فعلى ذلك حسبوا بولس المتكلم هرمس وبرنابا زفس بالضرورة. فلا داعي إلى أن ننسب تسميتهم إياهما إلى شيء من هيئتهما ووقارهما.
١٣ «فَأَتَى كَاهِنُ زَفْسَ ٱلَّذِي كَانَ قُدَّامَ ٱلْمَدِينَةِ بِثِيرَانٍ وَأَكَالِيلَ عِنْدَ ٱلأَبْوَابِ مَعَ ٱلْجُمُوعِ، وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَ».
دانيال ٢: ٤٦
ما رآه أولئك الناس فكراً وأعلنوه قولاً عزموا على أن يجروا ما يقتضيه فعلاً.
زَفْسَ ٱلَّذِي كَانَ قُدَّامَ ٱلْمَدِينَةِ أي صنمه أو الهيكل الذي كان فيه وثنه لأن الوثنيين اعتادوا أن يضعوا تمثال الإله عند مدخل المدينة التي هو معبودها وحاميها.
بِثِيرَانٍ كانت تُعدّ من أنفس الذبائح التي تليق بإله الآلهة عندهم.
وَأَكَالِيلَ كانوا كثيراً ما يستعملونها في العبادة الوثنية ولا تزال مستعملة عند وثنيي الهند اليوم وكانت عندهم زينة للذبيحة الوثنية وكل متعلقاتها من الكهنة والذبائح والهيكل والصنم.
عِنْدَ ٱلأَبْوَابِ أي قرب الهيكل أو الوثن. ولنا من ذلك أن بولس وعظ وصنع المعجزة قرب تلك الأبواب أو أن الناس جذبوه إلى هنالك.
كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَ أي للرسولين لاعتقاده أنهما إلهان متجسدان لو لم يمنعاه لذَبَحَ.
١٤ «فَلَمَّا سَمِعَ ٱلرَّسُولاَنِ، بَرْنَابَا وَبُولُسُ، مَزَّقَا ثِيَابَهُمَا، وَٱنْدَفَعَا إِلَى ٱلْجَمْعِ صَارِخَيْنِ».
متّى ٢٦: ٦٥
سَمِعَ ٱلرَّسُولاَنِ أي سمعا نبأ ما أرادوا إذ لا بد من أنهما سمعا الصراخ قبلاً ولم يفهما المراد فالأرجح أنهما سألا عن ذلك وغايته مما رأيا من الثيران والأكاليل فأُخبرا.
مَزَّقَا ثِيَابَهُمَا هذا من عادة اليهود عند إرادة إظهارهم شدة النفور من الأمر أو الحزن لوقوعه. فقصد الرسولان إعلان اقشعرارهما ونفورهما من أن يقدم لهما العبادة المختصة بالله والحزن على جهل أهل لسترة وإثمهم (٢صموئيل ١: ٢ ومتّى ٢٦: ٦٥). ومنع الرسولين قبول ذلك الإكرام يذكرنا رفض بطرس أن يقبل سجود كرنيليوس (ص ١٠: ٢٥) ويذكرنا أيضاً ما أصاب هيرودس من ضرب الملاك إياه لأنه رضي لنفسه الإكرام المختص بالله (ص ١٢: ٢٢).
وَٱنْدَفَعَا إِلَى ٱلْجَمْعِ صَارِخَيْنِ لأن صراخ الجمهور كان يمنعه من سمع كلامهما ما لم يدخلا فيه ويكفوه عن فعله بالأصوات والإشارات.
١٥ «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، لِمَاذَا تَفْعَلُونَ هٰذَا؟ نَحْنُ أَيْضاً بَشَرٌ تَحْتَ آلاَمٍ مِثْلُكُمْ، نُبَشِّرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا مِنْ هٰذِهِ ٱلأَبَاطِيلِ إِلَى ٱلإِلٰهِ ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاءَ وَٱلأَرْضَ وَٱلْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا».
ص ١٠: ٢٦ يعقوب ٥: ١٧ ورؤيا ١٩: ١٠ و١صموئيل ١٢: ٢١ و١ملوك ١٦: ١٣ وإرميا ١٤: ٢٢ وعاموس ٢: ٤ و١كورنثوس ٨: ٤ و١تسالونيكي ١: ٩ تكوين ١: ١ ومزمور ٢٣: ٦ و١٤٦: ٦ ورؤيا ١٤: ٧
لِمَاذَا تَفْعَلُونَ هٰذَا أي لا تفعلوه فإنه محرّم.
نَحْنُ أَيْضاً بَشَرٌ أي لسنا آلهة كما توهمتم.
تَحْتَ آلاَمٍ مِثْلُكُمْ أي لا فرق بيننا وبينكم في أننا عرضة للجوع والعطش والوجع والمرض والموت مما عُلم أن الإله منزّه عنه. والنتيجة أننا غير مستحقين العبادة الإلهية.
أَنْ تَرْجِعُوا مِنْ هٰذِهِ ٱلأَبَاطِيلِ لعلهما أشارا حينئذ إلى الهيكل والصنم والمذبح الخ وسماهما «أباطيل» لأنها مختصة بالآلهة التي لا حياة لها ولا قوة على نفع عبادها ولا وجود لها إذ هي وهمية لا حقيقية. ومراد الرسولين أنهما أتيا تلك المدينة ليرشدا أهلها إلى الإله الحق الذي تصير معرفتهم إياه سروراً لهم حتى تستحق المناداة به أن تسمى بشارة.
ٱلإِلٰهِ ٱلْحَيِّ هذا وصف ليهوه في العهد القديم للتمييز بينه وبين «الأوثان البكم» التي لا حس لها ولا حياة (١صموئيل ١٧: ٢٦ وتثنية ٥: ٢٦ ويشوع ٣: ١٠ و١تسالونيكي ١: ٩).
ٱلَّذِي خَلَقَ الخ فهو محيي ومصدر كل بركة ولذلك هو الذي يستحق العبادة لا سواه. ولا بد من أن تعليم التوحيد كان تعليماً جديداً عندهم لأنهم اعتقدوا وجود آلهة أُبدعت من لا شيء بكلمة الله.
كان على الناس أن يعرفوا من مشاهدة الخليقة وجود الله وبعض صفاته لكنهم جهلوه وعبدوا المخلوق دون الخالق.
١٦ «ٱلَّذِي فِي ٱلأَجْيَالِ ٱلْمَاضِيَةِ تَرَكَ جَمِيعَ ٱلأُمَمِ يَسْلُكُونَ فِي طُرُقِهِمْ».
مزمور ٨١: ١٢ وص ١٧: ٣٠ و١بطرس ٤: ٣
فِي ٱلأَجْيَالِ ٱلْمَاضِيَةِ أي العصور التي كانت قبل مجيء المسيح وإعلان إنجيله وهي نحو ٤٠٠٠ سنة.
تَرَكَ جَمِيعَ ٱلأُمَمِ المراد بالأمم جميع الناس إلا الإسرائيليين. ومعنى تركه إياهم أنه لم يعلن نفسه لهم بالوحي ولم يمنعهم عما اعتقدوا وفعلوا. ولا يلزم من ذلك أنه رضي اعتقادهم وفعلهم. ولا نعلم علة تركه إيّاهم لإرشاد عقولهم ولأحكامهم ولاختيارهم ما يشاؤون من الدين ولعلها قصده أن يرى عجز العقل عن أن يرشد الإنسان ويحفظه من السقوط إلى شر الضلال وأفظع الآثام وليبرهن شدة افتقاره إلى الوحي.
فِي طُرُقِهِمْ أي لا طريق الله التي أمر بها.
١٧ «مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْراً، يُعْطِينَا مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَمْطَاراً وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً، وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَاماً وَسُرُوراً».
ص ١٧: ٢٧ ورومية ١: ٢٠ ولاويين ٢٦: ٤ وتثنية ١١: ١٤ وأيوب ٥: ١٠ ومزمور ٦٥: ١٠ و١٤٧: ٨ وإرميا ١٤: ٢٢ ومتّى ٥: ٤٥
مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ نعم أن الله لم يرسل إليهم الوحي لكنهم أذنبوا بجهلهم وضلالهم وليس لهم من عذر لأنه كان يبرهن لهم دائماً وجوده وصفاته بأعمال الخليقة والعناية كما أبان بولس في رسالته إلى الرومانيين (رومية ١: ١٨ – ٢١).
يَفْعَلُ خَيْراً هذا بعض الشاهد. ففعله الخير يشهد بأنه محب للناس محسن إليهم يسر بمسرتهم وذلك خلاف الأوثان التي لا تفعل من الخير شيئاً.
أَمْطَاراً وهذه أيضاً تشهد بعنايته وقدرته وحكمته ومحبته لأنه يرسل الماء بالقدر الذي تحتاج الأرض إليه (مرقس ٨: ١٢ ولوقا ٩: ٥٤ و١٧: ٢٩ و٢١: ١١ ويوحنا ٦: ٣١ و٣٢).
وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً وهذا يشهد بجودة الله فإنه يندر أن تكون الأزمنة عقيماً لأنه ثبت قول الرب منذ أيام نوح «مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد وبرد وحر وصيف وشتاء ونهار وليل لا تزال».
طَعَاماً وَسُرُوراً الخصب علة السرور والقحط علة الغمّ فامتلاء القلوب سروراً من امتلاء الأفواه طعاماً شاهد بجودة الله المعتني بالخلق.
إن الرسل حين خاطبوا اليهود كانوا يبرهنون تعليمهم بآيات كتابهم كما جاء في مواضع كثيرة منها (ص ٢: ١٦ – ٣٦ و٣: ٢٢ – ٢٦). وحين كانوا يخاطبون الأمم كانوا يبرهنون مطاليبهم من آيات الخليقة كما جاء هنا وفي خطاب بولس في أثينا (ص ١٧).
١٨ «وَبِقَوْلِهِمَا هٰذَا كَفَّا ٱلْجُمُوعَ بِٱلْجَهْدِ عَنْ أَنْ يَذْبَحُوا لَهُمَا».
هذا إيضاح أن الرسولين نالا مرادهما وهو منع أولئك الناس من تقديم العبادة لهما بعد بذل كل الجهد وأنهم لم يصدقوا تعليمهما وهو أن الأوثان أباطيل وأنهما ليسا بإلهين لأن صنع تلك المعجزة أوهمهم خلاف ذلك. والخلاصة أنهم مُنعوا وما قنعوا.
١٩ «ثُمَّ أَتَى يَهُودٌ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ وَإِيقُونِيَةَ وَأَقْنَعُوا ٱلْجُمُوعَ، فَرَجَمُوا بُولُسَ وَجَرُّوهُ خَارِجَ ٱلْمَدِينَةِ، ظَانِّينَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ».
ص ١٣: ٤٥ و٢كورنثوس ١١: ٢٥ و٢تيموثاوس ٣: ١١
يَهُودٌ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ وَإِيقُونِيَةَ أي من المدينتين اللتين طُردا منهما بواسطتهم. وهؤلاء المضطهدون لشدة غيظهم وحسدهم تبعوهما مسافة طويلة ليفسدوا أفكار الناس ويهيجوهم عليهما.
أَقْنَعُوا ٱلْجُمُوعَ لعل الذي مكّن اليهود من إقناع الأمم بوجوب اضطهاد الرسولين غيظهم من قولهما في أوثانهم المعبودة أنها «أباطيل» وخيبة ظنهم أن الآلهة افتقدوهم ورفضهما إكرامهم إياهما بعلامات النفور وأعظم من كل ذلك افتراء اليهود عليهما أنهما فعلا المعجزة ببعلزبول رئيس الشياطين كما افترى يهود أورشليم على يسوع (متّى ١٢: ٢٤).
فَرَجَمُوا بُولُسَ لم يظهر من الكلام من هم الذين رجموا بولس الأمم أنفسهم أم اليهود بإذنهم والأرجح الثاني لأنهم قصدوا ذلك في إيقونية وما استطاعوه. والرجم عقاب لم يعتده غير اليهود. ورجموا بولس دون برنابا لأنه كان المتقدم في الكلام والعمل. وهذا الرجم ذكره بولس في (٢كورنثوس ١١: ٢٦ و٢تيموثاوس ٣: ١١). ولا يبعد عن الظن أن بولس ذكر وقتئذ يوم رُجم استفانوس لعلة كعلّة رجمه هو وأنه كان من عصابة الراجمين.
وَجَرُّوهُ خَارِجَ ٱلْمَدِينَةِ فإذاً رجموه داخل المدينة بخلاف رجمهم لاستفانوس لأنهما أخرجوه من المدينة قبلما رجموه لاعتبارهم أورشليم مدينة مقدسة تُنَّجس بالقتل داخلها. أما لسترة فكانت مدينة وثنية فلم يعتبروا أنها تتدنّس بذلك. ولم يجرّوا بولس خارجاً بغية دفنه بل ليطرحوه للوحوش طعاماً.
ظَانِّينَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ لا يلزم من هذا أنه مات حقاً أو لم يمت أما هم فقصدوا أن يميتوه بالرجم وحسبوا أنهم نالوا مقصودهم. ونرى من ذلك بطل المجد العالمي وسرعة زواله لأن الذين كانوا مستعدين أن يعبدوا بولس إلهاً قتلوه بعد قليل وطرحوه خارجاً كبهيم لا يستحق الدفن. ومثل هذا أن الذين صرخوا أمام المسيح أوصنا صرخوا بعد قليل قائلين اصلبه اصلبه.
٢٠ «وَلٰكِنْ إِذْ أَحَاطَ بِهِ ٱلتَّلاَمِيذُ قَامَ وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ، وَفِي ٱلْغَدِ خَرَجَ مَعَ بَرْنَابَا إِلَى دَرْبَةَ».
وَلٰكِنْ إِذْ أَحَاطَ بِهِ ٱلتَّلاَمِيذُ أي المسيحيون فمعنى التلاميذ هنا كمعنى الإخوة في (ع ٢) وأحاط به بعضهم للنوح عليه الآخرون ليروا أحيّ هو أم ميت. فبولس لم يشغل هناك سوى وقت قصير ولكنه لم يتعب باطلاً إذ أرشد جماعة إلى الرب والأرجح أن منهم تيموثاوس بدليل قول بولس له «أنت تعلم ما أصابني في لسترة» (٢تيموثاوس ٣: ١١).
قَامَ وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ ظن بعضهم أن بولس كان قد أغمي عليه فظهر أنه قد مات ثم أفاق بعد قليل. وظن بعضهم أنه مات حقيقة ثم قام بمعجزة إلهية. وليس في التاريخ ما يثبت أحد الرأيين والأرجح أن الله حفظه بعناية خارقة العادة حتى لم يمته الرجم ثم قوّاه حتى عاد إلى قوته العادية بعد كل ما أصابه فاستطاع أن يمشي ويسافر ويعظ كعادته.
مَعَ بَرْنَابَا لم يظهر أنه أصاب برنابا شيء من الشر في الهياج الذي حدث في لسترة وعلّة ذلك أنه ترك الكلام لبولس فلم يهيّج على نفسه شيئاً من غضب القوم.
إِلَى دَرْبَةَ (انظر شرح ع ٦). هذا دليل على أن بولس عاد إلى قوته المعتادة حتى استطاع السفر.
رجوع الرسولين في الطريق التي أتيا فيها إلى برجة ومنها إلى أنطاكية سورية ع ٢١ إلى ٢٨
٢١ «فَبَشَّرَا فِي تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ وَتَلْمَذَا كَثِيرِينَ، ثُمَّ رَجَعَا إِلَى لِسْتِرَةَ وَإِيقُونِيَةَ وَأَنْطَاكِيَةَ».
متّى ٢٨: ١٩
فَبَشَّرَا فِي تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ لم نسمع أن بولس اضطُهد في دربة لأن أعداءه اعتقدوا أنه مات فلم يسألوا عنه بعد.
وَتَلْمَذَا كَثِيرِينَ منهم غايوس الدربي (ص ٢٠: ٤). ولا ريب في أن الرسولين تعزيا بما حدث لهما من الراحة والنجاح عما وقع عليهما من بلاء المقاومة في لسترة وغيرهما.
ثُمَّ رَجَعَا إِلَى لِسْتِرَةَ الخ كان الرسولان وهما في دربة على تخم كيليكيّة وكانت المسافة بين دربة وطرسوس مسقط رأس بولس قريبة (بواسطة مضيق طورس) وكذا المسافة بين طرسوس وأنطاكية سورية. لكنهما فضلا الرجوع في طريق أطول من تلك وأكثر مشقة وخطراً لما ذُكر في الآية التالية. ولم نسمع نبأ اضطهادات جديدة في الأماكن التي اضطُهد فيها قبلاً والمرجح أن علة ذلك أنهما لم يعظا جهراً بل اجتمعا مع الإخوة فقط لأن غايتهما تثبيت المؤمنين لا إفحام غير المؤمنين. ولنا من ذلك أنه يجب على الرعاة أن يسقوا بعد أن يزرعوا وأن يبنوا بعد وضع الأساس.
٢٢ «يُشَدِّدَانِ أَنْفُسَ ٱلتَّلاَمِيذِ وَيَعِظَانِهِمْ أَنْ يَثْبُتُوا فِي ٱلإِيمَانِ، وَأَنَّهُ بِضِيقَاتٍ كَثِيرَةٍ يَنْبَغِي أَنْ نَدْخُلَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ».
ص ١١: ٢٣ متّى ١٠: ٣٨ و١٦: ٢٤ ورومية ٨: ١٧ و٢تيموثاوس ٢: ١١ و١٢ و٣: ١٢
يُشَدِّدَانِ أَنْفُسَ ٱلتَّلاَمِيذِ حديثي الإيمان فافتقروا إلى زيادة التعليم في العقائد والأعمال المسيحية وإلى الحث على القيام بها.
أَنْ يَثْبُتُوا فِي ٱلإِيمَانِ هذا كنصح برنابا للتلاميذ في أنطاكية سورية (ص ١١: ٢٣). ووعظ الرسولين في أنطاكية بيسيدية (ص ١٣: ٤٣). وافتقروا إلى ذلك لكثرة التجارب المحيطة بهم.
بِضِيقَاتٍ كَثِيرَةٍ الخ هذا قانون يصدق على المؤمنين في كل زمان ومكان. ذكره الرسولان لهم لكي لا ييأسوا ويرتدوا عند وقوعهم في البلاء لأن وقوع المؤمن في الضيق ليس من غرائب الأمور في اختبار المؤمنين بل مما يجب أن يُتوقع. وليس هو بدليل على أن المبتلي به ضال سخط الله عليه أو أن الله قد نسبه أو تغافل عنه. وهذا القانون وُضع على المسيح وعلى تلاميذه أجمعين حتى أعزّهم فلا يعثر أحد بالرزايا بل ليثبت كالذين سبقوه إلى السماء.
والاضطرار المشار إليه بقوله «ينبغي» مصدره الأول مشيئة الله والثاني ما تقتضيه أحوال المسيحيين في هذا العالم عدوّ الله الحق.
والمراد «بملكوت الله» هنا ملكوته حين يكمل في السماء حيث الثواب والراحة فالذي يستثقل حمل الصليب هنا لا يستطيع أن يتوقع لبس إكليل الحياة هناك (رؤيا ٧: ١٤).
٢٣ «وَٱنْتَخَبَا لَهُمْ قُسُوساً فِي كُلِّ كَنِيسَةٍ، ثُمَّ صَلَّيَا بِأَصْوَامٍ وَٱسْتَوْدَعَاهُمْ لِلرَّبِّ ٱلَّذِي كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِهِ».
ص ٢٠: ١٧ وتيطس ١: ٥
إن الرسولين فضلاً عن تعليم التلاميذ وحثهم في كل مدينة نظموهم كنائس. وهذا النظام ضروري للثبوت والتقدم والاقتدار على النفع ببشرى الإنجيل. نعم أن المسيح لم يعيّن لتلاميذه شروط النظام بل ترك لهم أن يحكموا بما تحتاج إليه الكنيسة بإرشاد الروح القدس الذي حل عليهم.
وَٱنْتَخَبَا لَهُمْ قُسُوساً القسوس جمع قس من قاشيشو في السريانية ومعناه شيخ ويسمون أيضاً أساقفة (قابل الآية السابعة عشرة بالآية الثامنة والعشرين من ص ٢٠ فالذين سموا قسوساً في الأولى سموا أساقفة في الثانية).
انتظمت الكنائس المسيحية الأولى على مثال نظام البيوت الموقرين المتقدمين في السن وكانت وظيفتهم ترتيب العبادة والتعليم والسياسة في الروحيات. ولما انتظمت الكنائس المسيحية اختبر رؤساؤها اختيار رؤساء المجامع وسموا بأسمائهم وقاموا مقامهم ووكل إليهم ما وكل إلى أولئك في الروحيات.
ولم يذكر الكاتب شيئاً من كيفية انتخاب القسوس أبالقرعة كان كما في (ص ١: ٢٦) أم بالصوت الحي ورسم الرسولين كما في (٦: ٥ و٦) أم باختيارهما. ولم يذكر الكاتب شيئاً من طريقة رسمهم قسوساً والذي نعلمه أنهما رسما البعض بالانتخاب والصلاة والصوم لخدمة الكنيسة في التعليم والتعزية والسياسة والتعميد وكسر الخبز في العشاء الرباني وفي دفن الموتى.
ومن البديه أن القسوس في تلك الكنائس لم يكونوا متعلمين كما يقتضيه عملهم الروحي لكنهم كانوا من أفضل المؤمنين يومئذ معرفة وتقوى وكان الروح القدس يكمل نقصهم. والأرجح أنهم لم يتركوا مهنتهم بل كانوا يحصلون بها على كل النفقة أو بعضها وهم يخدمون الكنائس.
فِي كُلِّ كَنِيسَةٍ لا يستلزم الكلام هنا أن الرسولين رسما في كل كنيسة قسيساً واحداً أو قسوساً. ولا يبعد عن الظن أنهما رسما في بعض الكنائس قسيسين أو أكثر كما نعلم أنه كان في كنيسة أفسس قسوس (ص ٢٠: ٧) وكذلك في فيلبي (فيلبي ١: ١).
ثُمَّ صَلَّيَا بِأَصْوَامٍ أتت كنيسة أنطاكية سورية مثل هذا في رسامة بولس وبرنابا لخدمتهما الخاصة (ص ١٣: ٢ و٣). وأتى مثله الرسولان في رسامة أولئك القسوس فنستنتج من ذلك أنه يليق ويجب اقتران الصلاة بالصوم في إفراز الناس للخدمة الروحية لأن إفرازهم بلا صلاة هزءٌ وعبثٌ والصوم مساعد على الصلاة.
تأخر الرسولين عن تنظيم الكنائس إلى حين رجوعهما يحتمل أنه كان عن عمد لتكون للمؤمنين فرصة أن يتقدموا شيئاً في الحياة الروحية وليظهر منهم الذين هم أهل لأن يكونوا مرشدي الباقين وأنه كان عن اضطرار لأن الرسولين طُردا بالسرعة في أول جولانهما.
وَٱسْتَوْدَعَاهُمْ لِلرَّبِّ بالصلاة كأنهم وديعة ثمينة سلمها الرسولان إلى الرب يسوع ليحفظها وكذا فعل بولس في كنيسة أفسس (ص ٢٠: ٣٢) وذلك يدل على ثقة الرسولين بالمسيح ومحبتهما للإخوة.
آمَنُوا بِهِ أي آمنوا بأنه فاديهم.
٢٤، ٢٥ «٢٤ وَلَمَّا ٱجْتَازَا فِي بِيسِيدِيَّةَ أَتَيَا إِلَى بَمْفِيلِيَّةَ، ٢٥ وَتَكَلَّمَا بِٱلْكَلِمَةِ فِي بَرْجَةَ، ثُمَّ نَزَلاَ إِلَى أَتَّالِيَةَ».
فِي بِيسِيدِيَّةَ زائرين أنطاكية قصبتها.
فِي بَرْجَةَ أتياها قبلاً لكنهما لم يبشرا فيها وهنالك تركهما يوحنا مرقس (ص ١٣: ١٣). والظاهر أنهما لم يقاوما فيها ولم ينجحا نجاحاً يُذكر.
أَتَّالِيَةَ مدينة في بمفيلية على شاطئ البحر تُعرف اليوم بأضاليا ولا تزال مدينة كبيرة مشهورة بالتجارة كما كانت يومئذ. ولم يذكر الكاتب أنهما بشرا فيها ولعلهما ذهبا إليها ليجدا سفينة يسافران فيها إلى سورية.
٢٦ «وَمِنْ هُنَاكَ سَافَرَا فِي ٱلْبَحْرِ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، حَيْثُ كَانَا قَدْ أُسْلِمَا إِلَى نِعْمَةِ ٱللّٰهِ لِلْعَمَلِ ٱلَّذِي أَكْمَلاَهُ».
ص ١٣: ١ الخ و١٥: ٤
أَنْطَاكِيَةَ أي أنطاكية سورية.
أُسْلِمَا أي سلمتهما الكنيسة عند انطلاقهما بالصلاة إلى عناية الله المنعم ليحفظهما في سفرهما وأعمالهما وأنها ثابرت على الصلاة من أجلهما في غيابهما. ولم يكن تسليمهم عبثاً لأنهما نجحا في عملهما ورجعا بالسلامة.
لِلْعَمَلِ أي للتبشير بالإنجيل في البلاد الأجنبية وهو العمل الذي دعاهما إليه الروح القدس وأفرزتهما له الكنيسة.
٢٧ « وَلَمَّا حَضَرَا وَجَمَعَا ٱلْكَنِيسَةَ، أَخْبَرَا بِكُلِّ مَا صَنَعَ ٱللّٰهُ مَعَهُمَا، وَأَنَّهُ فَتَحَ لِلأُمَمِ بَابَ ٱلإِيمَانِ».
ص ١٥: ٤ و١٢ و٢١: ١٩ و١كورنثوس ١٦: ٩ و٢كورنثوس ٢: ١٢ وكولوسي ٤: ٣ ورؤيا ٣: ٨
ٱلْكَنِيسَةَ التي أرسلتهما للتبشير بأمر الروح القدس (ص ١٣: ٢ و٣).
أَخْبَرَا كانت وسائط الأخبار بين أنطاكية والأماكن التي ذهب إليها الرسولان نادرة في تلك الأيام فكانت الكنيسة في غيابهما تجهل أمورهما فلا ريب في أنها كانت شديدة الرغبة في سمع خبرهما بالتفصيل.
بِكُلِّ مَا صَنَعَ ٱللّٰهُ مَعَهُمَا أي بواسطتهما كأنهما آلتان له. وهذا مثل ما جاء في (١كورنثوس ٣: ٩) وعليه يكون العامل هو الله وكل المجد له.
وَأَنَّهُ فَتَحَ لِلأُمَمِ بَابَ ٱلإِيمَانِ المؤدي إلى بيت الله السماوي. وهو الباب الذي كان قد أُوصد منذ ١٥٠٠ سنة على الجميع إلا اليهود أو من خضعوا لناموس موسى مثلهم. وفتحه بطرس للأمم شيئاً في أول الأمر فدخل كرنيليوس وأصحابه (ص ١٠: ٤٥). وثم فتحه لهم بولس كل الفتح في جولاته للتبشير وهو لا يزال مفتوحاً لهم. وسمي «باب الإيمان» تمييزاً له عن باب أعمال خلاص النفوس بالإيمان بيسوع المسيح دون حفظ الرسوم الموسوية.
٢٨ «وَأَقَامَا هُنَاكَ زَمَاناً لَيْسَ بِقَلِيلٍ مَعَ ٱلتَّلاَمِيذِ».
زَمَاناً لَيْسَ بِقَلِيلٍ أي ليس أقل من سنتين ويحتمل أن يكون أكثر من سنتين لأنه صعد إلى أورشليم بالإحسان وقت الجوع وموت هيرودس المذكور في (ص ١٢) وكان ذلك سنة ٤٤ ب. م. وشرع في الجولان للتبشير مع برنابا سنة ٤٥ فشغل ما بين سنة ٤٥ وسنة ٥٠ أي خمس سنين بالسفر وبالإقامة المذكورة هنا لأن المجمع الأورشليمي المذكور في (ص ١٥) التأم سنة ٥٠ ب. م.
مَعَ ٱلتَّلاَمِيذِ هذا يفيد أنهما رجعا إلى عملهما الأول بين «الأنبياء والمعلمين» (ص ١٣) ليخدما الكنيسة ويستعدا لعمل آتٍ بين الأمم فلم يقيما بطّالين.
السابق |
التالي |