أعمال الرسل

أعمال الرسل | 11 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح سفر أعمال الرسل 

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الحادي عشر

محاماة بطرس عن نفسه في أورشليم مما أتاه في قيصرية ع ١ إلى ١٨

١ «فَسَمِعَ ٱلرُّسُلُ وَٱلإِخْوَةُ ٱلَّذِينَ كَانُوا فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ أَنَّ ٱلأُمَمَ أَيْضاً قَبِلُوا كَلِمَةَ ٱللّٰهِ».

فَسَمِعَ ٱلرُّسُلُ وَٱلإِخْوَةُ.. فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ الأرجح أنه كان بعض الرسل باقياً في أورشليم وبعضهم جائلاً في غيرها من الأرض المقدسة للتبشير كما كان بطرس حينئذ. وحدوث أمر مثل قبول الأمم في ما يحق لليهود بلا ختان أو غيره من الرسوم الموسوية في مدينة عظيمة كقيصرية مما يتوقع أن يشيع بين كل الكنائس اليهودية المؤلفة من متنصري اليهود الكثيري الغيرة لناموس موسى وأن ينشأ عنه تأثير عظيم فيهم.

أَنَّ ٱلأُمَمَ أَيْضاً قال ذلك لأنهم اعتبروا كرنيليوس وأصحابه نواباً عن كل الأمم وأن ما سُوغ لهم سُوغ للجميع.

قَبِلُوا كَلِمَةَ ٱللّٰهِ أي الإنجيل أو الديانة الجديدة المسيحية باعتبار أنه إعلان الله. ومعنى قبولهم إياه إقرارهم بصدقه وتسليمهم بشروطه لنوال المغفرة والخلاص. وفي هذا تلميح إلى أنهم قُبلوا في شركة الكنيسة.

٢ «وَلَمَّا صَعِدَ بُطْرُسُ إِلَى أُورُشَلِيمَ خَاصَمَهُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَهْلِ ٱلْخِتَانِ».

ص ١٠: ٥٤ وغلاطية ٢: ١٢

وَلَمَّا صَعِدَ بُطْرُسُ من قيصرية.

خَاصَمَهُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَهْلِ ٱلْخِتَانِ أي متنصرو اليهود كما مرّ في (ص ١٠: ٤٥). إلا أنه يتضمن إشارة إلى أن هؤلاء فضلاً عن كونهم من اليهود كانوا ممن اعتبروا الختان من الضروريات الدينية التي لا بد منها وكان أمثال هؤلاء قسماً كبيراً من القسمين اللذين صارت إليهما الكنيسة بعد ذلك. وكانوا يعادون بولس في كل مكان بشّر فيه وهم علة كتابته الرسالة إلى أهل غلاطية (انظر غلاطية ٩: ١٥). والمراد بقوله «خاصمه الخ» أنهم جادلوه جدالاً عادياً بناء على أنهم اعتبروا ما أتاه مخالفاً للشريعة الإلهية التي أعلنها لهم بواسطة موسى.

٣ «قَائِلِينَ: إِنَّكَ دَخَلْتَ إِلَى رِجَالٍ ذَوِي غُلْفَةٍ وَأَكَلْتَ مَعَهُمْ».

ص ١٠: ٢٨ وغلاطية ٢: ١٢

خلاصة شكواهم عليه أنه عمل ما لا يجوز للإسرائيلي لأنه خالط الأمم مخالطته لليهود حتى أنه أكل معهم. وقد أقر بطرس أنه كان مثلهم في الاعتقاد في (ص ١٠: ٢٨). ومن العجب أنهم لم يشكوه بما هو أعظم من ذلك وهو تعميد أولئك الغلف. ولعلم عدلوا عن ذلك للزومه عن الأول لأنه إذا كانت مواكلتهم حراماً فالأولى أن يكون تعميدهم كذلك. أو لعلهم جعلوا ذلك افتتاحاً للشكوى عليه بالأمر الثاني. ولكن تبرير بطرس نفسه من الشكوى الأولى دفع كل اعتراضاتهم على كل ما فعله من الأول إلى الآخر فلم يبق لهم من سبيل إلى الكلام.

ومن الواضح أن أفكار الرسل والكنيسة كانت كأفكار بطرس قبل أن رأى الرؤيا في يافا وأنهم كانوا في حاجة إلى زيادة المعرفة الروحية كما أوضح المسيح بقوله «إِنَّ لِي أُمُوراً كَثِيرَةً أَيْضاً لأَقُولَ لَكُمْ، وَلٰكِنْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا ٱلآنَ. وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ ٱلْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ ٱلْحَقِّ» (يوحنا ١٦: ١٢ و١٣).

ومن الواضح أيضاً أنهم لم يعتبروا بطرس معصوماً من الغلط وإلا ما خاصموه على ما فعل.

٤ «فَٱبْتَدَأَ بُطْرُسُ يَشْرَحُ لَهُمْ بِٱلتَّتَابُعِ قَائِلاً».

لوقا ١: ٣

كان احتجاج بطرس أن ذكر الحوادث كما جرت وختم كلامه بسؤال مبني على تلك الحوادث. وفي مراجعته نبأ تلك الحوادث ذكر كل الأمور الجوهرية وترك العرضيات القليلة.

٥ – ١٠ «٥ أَنَا كُنْتُ فِي مَدِينَةِ يَافَا أُصَلِّي فَرَأَيْتُ فِي غَيْبَةٍ رُؤْيَا: إِنَاءً نَازِلاً مِثْلَ مُلاَءَةٍ عَظِيمَةٍ مُدَلاَّةٍ بِأَرْبَعَةِ أَطْرَافٍ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَأَتَى إِلَيَّ. ٦ فَتَفَرَّسْتُ فِيهِ مُتَأَمِّلاً، فَرَأَيْتُ دَوَابَّ ٱلأَرْضِ وَٱلْوُحُوشَ وَٱلزَّحَّافَاتِ وَطُيُورَ ٱلسَّمَاءِ. ٧ وَسَمِعْتُ صَوْتاً قَائِلاً لِي: قُمْ يَا بُطْرُسُ ٱذْبَحْ وَكُلْ. ٨ فَقُلْتُ: كَلاَّ يَا رَبُّ، لأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فَمِي قَطُّ دَنِسٌ أَوْ نَجِسٌ. ٩ فَأَجَابَنِي صَوْتٌ ثَانِيَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ: مَا طَهَّرَهُ ٱللّٰهُ لاَ تُنَجِّسْهُ أَنْتَ. ١٠ وَكَانَ هٰذَا عَلَى ثَلاَثِ مَرَّاتٍ، ثُمَّ ٱنْتُشِلَ ٱلْجَمِيعُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ أَيْضاً».

ص ١٠: ٩ الخ

(انظر ص ١٠: ٩ – ١٦).

رُؤْيَا اختصر بطرس النبأ بترك وقت الرؤيا وكونها على السطح وأنه كان جائعاً حينئذ إذ لم يكن من ضرورة لذكرها هنا.

مُلاَءَةٍ عَظِيمَةٍ مُدَلاَّةٍ بِأَرْبَعَةِ أَطْرَافٍ (ع ٥) ترك ذكر كونها مربوطة.

إِلَيَّ أي إلى حيث كان (ص ١٠: ١١).

فَتَفَرَّسْتُ فِيهِ مُتَأَمِّلاً (ع ٦) هذا يدلنا على أن الذي رآه كان قريباً منه وأمعن النظر إليه ليميّز ما فيه من أنواع الحيوانات.

لَمْ يَدْخُلْ فَمِي (ع ٨) هذا بمعنى قوله قبلاً «لم آكل قط».

ٱنْتُشِلَ ٱلْجَمِيعُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ (ع ١٠) أي ارتفع (ص ١٠: ١٦).

١١، ١٢ «١١ وَإِذَا ثَلاَثَةُ رِجَالٍ قَدْ وَقَفُوا لِلْوَقْتِ عِنْدَ ٱلْبَيْتِ ٱلَّذِي كُنْتُ فِيهِ مُرْسَلِينَ إِلَيَّ مِنْ قَيْصَرِيَّةَ. ١٢ فَقَالَ لِي ٱلرُّوحُ أَنْ أَذْهَبَ مَعَهُمْ غَيْرَ مُرْتَابٍ فِي شَيْءٍ. وَذَهَبَ مَعِي أَيْضاً هٰؤُلاَءِ ٱلإِخْوَةُ ٱلسِّتَّةُ. فَدَخَلْنَا بَيْتَ ٱلرَّجُلِ».

يوحنا ١٦: ١٩ وص ١٠: ١٩ و١٥: ٧ ص ١٠: ٢٣

(انظر ص ١٠: ١٧ – ٢٣).

وَإِذَا «إذا» هنا فجائية للدلالة على أن ما حدث كان مما لم يتوقع حدوثه.

غَيْرَ مُرْتَابٍ فِي شَيْءٍ ارتياباً يؤدي إليه اعتقادك السابق وعوائدك اليهودية.

هٰؤُلاَءِ ٱلإِخْوَةُ ٱلسِّتَّةُ هذا يدل على أنهم كانوا حاضرين حينئذ وعلمنا هنا عددهم وهو لم يُذكر في النبإ الأول.

ٱلرَّجُلِ لم يذكر بطرس اسمه لعلمهم أنه كرنيليوس المشار إليه بقولهم «دَخَلْتَ إِلَى رِجَالٍ ذَوِي غُلْفَةٍ وَأَكَلْتَ مَعَهُمْ» (ص ١١: ٣).

١٣، ١٤ «١٣ فَأَخْبَرَنَا كَيْفَ رَأَى ٱلْمَلاَكَ فِي بَيْتِهِ قَائِماً وَقَائِلاً لَهُ: أَرْسِلْ إِلَى يَافَا رِجَالاً، وَٱسْتَدْعِ سِمْعَانَ ٱلْمُلَقَّبَ بُطْرُسَ، ١٤ وَهُوَ يُكَلِّمُكَ كَلاَماً بِهِ تَخْلُصُ أَنْتَ وَكُلُّ بَيْتِكَ».

ص ١٠: ٣٠ الخ

ٱلْمَلاَكَ لام التعريف هنا عهدية كما يظهر من الأصل اليوناني فهي تدل على أن بطرس كان يكرر لهم نبأ سمعوه قبلاً. فإذاً لم يذكره هنا على سبيل إفادتهم معرفة مجهول بل على سبيل الاحتجاج وتبرئة نفسه من الخطإ بمخالفته الشريعة الرمزية بمخالطة أولئك الرجال.

فِي بَيْتِهِ حيث لم يكن عرضة لأن يُخدع كما لو كان في مكان غريب.

كَلاَماً بِهِ تَخْلُصُ لا بمجرد سمعه إيّاه بل بالسمع والطاعة. وذلك الكلام لم يكن موضوعه العقائد الدينية فقط بل ما يجب عليه أن يقوم به من التوبة والإيمان والأعمال الصالحة وأنه بقيامه بذلك يخلص الخلاص الأبدي.

فائدة هذه العبارة تستحق أن تكتب بأحرف ذهبية وتُعلق في كل كنيسة مسيحية لإفادة الواعظين والسامعين. ففيها أن غاية الواعظ العظمى أن يتكلم كلاماً به يخلص السامعون وأن غاية السامعين العظمى أن يسمعوا كلاماً به يخلصون.

والكلام في الآية هنا هو ما في قول المسيح «اَلْكَلاَمُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ» (يوحنا ٦: ٦٣). وخلاصته الأنباء بالمسيح مصلوباً (١كورنثوس ٢: ٢) وهو الكلام الذي يصاحبه الروح القدس.

وَكُلُّ بَيْتِكَ فيشاركونك في النعمة لأنهم شاركوك في مخالفة الرب (ص ١٠: ٢). ولا ريب في أنهم كانوا شركاءه في صلواته وصدقاته واشتياقه إلى معرفة طريق الخلاص.

١٥ «فَلَمَّا ٱبْتَدَأْتُ أَتَكَلَّمُ، حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْهِمْ كَمَا عَلَيْنَا أَيْضاً فِي ٱلْبَدَاءَةِ».

ص ٢: ٤

لم يذكر بطرس هنا ما قاله في قيصرية إذ لم يكن مما يبرره من الخطاء بما فعل إذ تبريره متوقف على ما فعله الله لا ما فعله هو.

فَلَمَّا ٱبْتَدَأْتُ أي على أثر شروعي في الكلام.

حَلَّ أي نزل من السماء. ومما يستحق الاعتبار أن الكتاب حين يعبّر عن معمودية الروح القدس يعبّر عنها بإشارات تدل على السكب أو الرش لا على التغطيس.

كَمَا عَلَيْنَا أَيْضاً أي كما حلّ علينا نحن الرسل وعلى سائر المؤمنين الأولين في يوم الخمسين.

فِي ٱلْبَدَاءَةِ أي بداءة الكنيسة المسيحية أو نظام العهد الجديد. كانت بداءة العهد القديم في يوم إعطاء الله الشريعة لموسى على سيناء واعتبر اليهود عيد الخمسين تذكاراً لذلك فعلى اعتبارهم يكون يوم الخمسين بداءة زمن كل من النظامين أو العهدين.

١٦ «فَتَذَكَّرْتُ كَلاَمَ ٱلرَّبِّ كَيْفَ قَالَ: إِنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِمَاءٍ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتُعَمَّدُونَ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».

متّى ٣: ١١ ويوحنا ١: ٢٦ و٣٣ و٢ ١: ٥ و١٩: ٤ إشعياء ٤٤: ٣ ويوئيل ٢: ٢٨ و٣: ١٨

في هذه الآية إشارة إلى ما حدث في آخر اجتماعات يسوع مع تلاميذه (ص ١: ٥).

تَذَكَّرْتُ رأيت ما حدث إنجازاً لمضمون تلك النبوءة.

يُوحَنَّا أي المعمدان. أن معموديته كانت رمزاً إلى المعمودية بالروح القدس والرمز يحمل على توقع المرموز إليه وتلك المعمودية المرموز إليها تمت في يوم الخمسين وتمت أيضاً في بيت كرنيليوس وتتم أيضاً ما دامت الكنيسة على الأرض.

١٧ «فَإِنْ كَانَ ٱللّٰهُ قَدْ أَعْطَاهُمُ ٱلْمَوْهِبَةَ كَمَا لَنَا أَيْضاً بِٱلسَّوِيَّةِ مُؤْمِنِينَ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، فَمَنْ أَنَا؟ أَقَادِرٌ أَنْ أَمْنَعَ ٱللّٰهَ؟».

ص ١٥: ٨ و٩ ص ١٠: ٤٧

فَإِنْ كَانَ ٱللّٰهُ قَدْ أَعْطَاهُمُ غاية كل احتجاجه الوصول إلى هذا القول وهو أن الله هو الذي حكم بما حدث فهو فعله تعالى لا فعل بطرس وتحققه ذلك أقنعة وأقنع رفقاءه من اليهود بتعميد أولئك الأمم.

ٱلْمَوْهِبَةَ كَمَا لَنَا أَيْضاً بِٱلسَّوِيَّةِ في الكمية والماهية.

مُؤْمِنِينَ بِٱلرَّبِّ حال تحتمل أنها واقعة من الضمير المنصوب في «أعطاهم» الراجع إلى الأمم الذين آمنوا أو من ضمير المتكلمين في «لنا» أي اليهود المؤمنين أو منهما والأرجح الآخر لأنهما كانا متساويين في الإيمان والموهبة.

فَمَنْ أَنَا الاستفهام هنا للتحقير فكأنه يقول احكموا هل يسوغ لمثلي أن يؤثر رأيه وما سبق من اعتقاده وعوائده على أمر الله.

أَقَادِرٌ أَنْ أَمْنَعَ ٱللّٰهَ بأن لا أسلم بما أراده جلياً وهذا ما لا يستطيع وإن أستطيع فهذا إثم فظيع.

١٨ «فَلَمَّا سَمِعُوا ذٰلِكَ سَكَتُوا، وَكَانُوا يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ قَائِلِينَ: إِذاً أَعْطَى ٱللّٰهُ ٱلأُمَمَ أَيْضاً ٱلتَّوْبَةَ لِلْحَيَاةِ!».

رومية ١٠: ١٢ و١٣ و١٥: ٩ و١٦

أثر احتجاج بطرس فيهم حالاً وأقنعهم بأن ما فعله كان صواباً وإجابة لأمر الله.

سَكَتُوا، وَكَانُوا يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ هذا يفيد أنهم علاوة على عدولهم عن الخصام اقتنعوا كل الاقتناع وسلموا بوجوب ما خاصموا عليه قبلاً والدليل على ذلك أنهم «مجدوا الله» لما تحققوا من فيضان نعمته على الأمم وفرحوا فرحاً مقدساً لنوال الأمم الخير ولتمجد المسيح بخلاصهم.

إِذاً أي أن النتيجة كانت وقوع ما استبعدنا وقوعه.

ٱلأُمَمَ أَيْضاً أي فضلاً عن اليهود بدون أن يتهودوا كما كنا نعتقد.

ٱلتَّوْبَةَ لِلْحَيَاةِ أي التوبة الضرورية لنوال الحياة الأبدية. وهي هنا تشتمل على الإيمان والأعمال الصالحة التي تليق بالتوبة.

كان الواجب أن ينتهي الأصحاح هنا لأنه نهاية الكلام على الموضوع وما يليه كلام على موضوع جديد.

امتداد الإنجيل إلى أنطاكية وإرسال برنابا إلى هناك ع ١٩ إلى ٢٤

١٩ «أَمَّا ٱلَّذِينَ تَشَتَّتُوا مِنْ جَرَّاءِ ٱلضِّيقِ ٱلَّذِي حَصَلَ بِسَبَبِ ٱسْتِفَانُوسَ فَٱجْتَازُوا إِلَى فِينِيقِيَّةَ وَقُبْرُسَ وَأَنْطَاكِيَةَ، وَهُمْ لاَ يُكَلِّمُونَ أَحَداً بِٱلْكَلِمَةِ إِلاَّ ٱلْيَهُودَ فَقَطْ».

ص ٨: ١

هنا بداءة فصل ذُكر فيه السطوع الرابع لأشعة الإنجيل من أورشليم فكان السطوع الأول منها إلى السامرة (ص ٨). والثاني منها إلى الحبشة بواسطة فيلبس وإلى لدّ ويافا بواسطة بطرس (ص ٩). والثالث منها إلى الأمم في قيصرية. والرابع منها إلى أنطاكية وهو ما في هذا الفصل.

ٱلَّذِينَ تَشَتَّتُوا الكلام هنا متعلق بالكلام في (ص ٨: ٤) وهو قوله «فالذين تشتتوا جالوا مبشرين بالكلمة» وقد ذُكر أمثال ذلك في ما سبق من مقدمة هذا الفصل.

ٱلضِّيقِ ٱلَّذِي حَصَلَ بِسَبَبِ ٱسْتِفَانُوسَ أي بسب غضب اليهود الذي هيّجه وعظ استفانوس وهذا حمل التلاميذ على الهرب من أورشليم (انظر شرح ص ٨: ١). فالله جعل نتيجة هذا الاضطهاد خيراً لأنه بتشتت التلاميذ انتشرت بشرى الخلاص التي حملوها وامتدت الكنيسة وما في هذا الفصل هو من البراهين على ذلك.

فِينِيقِيَّةَ أي أرض النخل وهي اسم يوناني لما سماه أهله كنعان أي الأرض المختصة وهي ساحل البحر المتوسط بين البحر ولبنان أعظم مدنها صور وصيدا وهي تمتد من الرأس الأبيض جنوبي صور إلى اللاذقية شمالاً طولها نحو مئة ميل وعشرين ميلاً وعرضها مختلف من أقل من ميل إلى نحو عشرين ميلاً.

قُبْرُسَ جزيرة كبيرة في بحر الروم غربي سوريا كان فيها كثير من اليهود (انظر شرح ص ٤: ٣٦).

أَنْطَاكِيَةَ مدينة عظيمة على عدوة نهر العاصي وعلى أمد خمسة عشر ميلاً من مصبه. كانت قصبة سورية زمناً طويلاً بناها سلوقس سنة ٣٠١ قبل الميلاد وسماها باسم أبيه أنطيوخس وهي مشهورة بكثرة السكان وثروتهم وترفههم ووفرة أصنامها وهياكلها وبهاء تلك الهياكل وما في عبادتها من الفحشاء وكان أكثر سكانها من الوثنيين وكثيرون منهم يهوداً ذوي امتياز كالرومانيين. والذي جعل هذه المدينة من مشاهير المدن عند النصارى وهو أن المؤمنين بيسوع سُموا أولاً فيها «مسيحيين» وأنها صارت مركز البشارة الثاني لذلك الدين الجديد الذي أورشليم مركزه الأول.

لاَ يُكَلِّمُونَ أَحَداً بِٱلْكَلِمَةِ أي الإنجيل.

إِلاَّ ٱلْيَهُودَ فَقَطْ جرياً على رأي اليهود جميعاً أن بشرى الخلاص لهم دون الأمم. والأرجح أنهم لم يسمعوا نبأ كرنيليوس إذ ذلك حدث بعد الاضطهاد والتشتت.

٢٠ «وَلٰكِنْ كَانَ مِنْهُمْ قَوْمٌ، وَهُمْ رِجَالٌ قُبْرُسِيُّونَ وَقَيْرَوَانِيُّونَ، ٱلَّذِينَ لَمَّا دَخَلُوا أَنْطَاكِيَةَ كَانُوا يُخَاطِبُونَ ٱلْيُونَانِيِّينَ مُبَشِّرِينَ بِٱلرَّبِّ يَسُوع».

قُبْرُسِيُّونَ كبرنابا (ص ٤: ٣٦).

وَقَيْرَوَانِيُّونَ أي من أهل القيروان وهي بلاد شمالي إفريقية تابعة للرومانيين وتُعرف اليوم بتونس وكان فيها يومئذ كثيرون من مهاجري اليهود (متّى ٢٧: ٣٢). ونستنتج من القرينة أن هؤلاء المذكورين كانوا قد استوطنوا أورشليم وآمنوا بالرب فيها واضطروا أن يهربوا منها مع غيرهم من الإخوة زمن الاضطهاد ولجأوا إلى أنطاكية. والأرجح أنه كان منهم مناسون (ص ٢١: ١٦) ولوكيوس (ص ١٣: ١). وبما أن هؤلاء كانوا يهوداً غرباء قل تعصبهم عن تعصب يهود اليهودية.

ٱلْيُونَانِيِّينَ تحتمل هذه الكلمة معنيين الأول أنهم يهود وُلدوا خارج اليهودية يتكلمون باللغة اليونانية. والثاني أنهم يونانيون أصلاً وديناً أي هم من الأمم والأرجح أن المراد هنا المعنى الثاني. لأنه لو كان المراد المعنى الأول لما كان من داع لذكر أن التلاميذ بشروهم لأن ذلك كان عادة الكنيسة منذ نشأتها انظر (ص ١: ٥ و٦: ١ و٩: ٢٩). وإن لم يكن المراد المعنى الثاني أي أن أولئك اليونانيين من الأمم لم يبقَ لنا في الإنجيل من نبإ بدخول الأمم كنيسة أنطاكية والمحقق أنه كان فيها كثيرون من الأمم (ص ١٥: ٣٠ و٣١).

مُبَشِّرِينَ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ كان المؤمنون بالمسيح من اليهود الغرباء أقل تعصباً من يهود اليهودية وأقل منهم خوفاً من الملامة اليهودية ولذلك لم يعتزلوا تبشير اليونانيين على سنن إخوتهم الذين لم يكلموا بالكلمة أحداً إلا اليهود (ع ١٩).

٢١ «وَكَانَتْ يَدُ ٱلرَّبِّ مَعَهُمْ، فَآمَنَ عَدَدٌ كَثِيرٌ وَرَجَعُوا إِلَى ٱلرَّبِّ».

لوقا ١: ٦٦ وص ٢: ٤٧ ص ٩: ٣٥

يَدُ ٱلرَّبِّ أي قوته. وعبّر عنها «باليد» جرياً على اصطلاح العبرانيين في الكتابات. وعبّر عنها أحياناً بالذراع (إشعياء ٥٣: ١ ويوحنا ١٢: ٢٨). وعبّر لوقا في بشارته «بيد الرب» عن قوة عمل المعجزات (لوقا ٤: ٢٩) ولعله لمّح هنا إلى ذلك بها.

مَعَهُمْ أي مع المبشرين للأمم. ففي إظهار تلك القوة الإلهية برهان رضى الله بتبشيرهم الأمم وتشجيع لهم على مزاولة ذلك والمواظبة عليه.

فَآمَنَ عَدَدٌ كَثِيرٌ صارت كنيسة أنطاكية سريعاً كنيسة كبيرة ذات تأثير (ص ١١: ٢٤ و٢٦ و١٣: ١).

إِلَى ٱلرَّبِّ أي يسوع المسيح.

٢٢ «فَسُمِعَ ٱلْخَبَرُ عَنْهُمْ فِي آذَانِ ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّتِي فِي أُورُشَلِيمَ، فَأَرْسَلُوا بَرْنَابَا لِكَيْ يَجْتَازَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ».

ص ٩: ٢٧

ٱلْخَبَرُ أي خبر تبشير الأمم وإيمانهم بالمسيح.

فِي آذَانِ هذا لا يشير إلى الأنباء سراً كما في (متّى ١٠: ٢٧) إنما هو عبارة عبرانية تمثل الجماعة شخصاً ذا جوارح وقوىً.

ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّتِي فِي أُورُشَلِيمَ غلب في الإنجيل الإشارة بالكنيسة إلى كل جماعة الله في كل مكان وزمان ومن ذلك ما في (متّى ١٦: ١٨ وأفسس ١: ٢٢ وكولوسي ١: ١٨) ونذرت الإشارة بها إلى جماعة خاصة كما هنا وفي (١كورنثوس ١: ١ وغلاطية ١: ٢) وكانت كنيسة أورشليم أم الكنائس المسيحية وكانت لم تزل مركز الدين المسيحي في كل العالم وعلة ذلك قدمها وموقعها. وبما أن ما حدث في أنطاكية ظهر لمؤمني أورشليم أنه خارق العادة ومغائر لنظام الكنيسة أخذوا يسألون عن ذلك بالتدقيق كأنه مما يجب عليهم.

فَأَرْسَلُوا أي أهل الكنيسة وهذا يشتمل على الرسل أيضاً كما يظهر من (ص ١٥: ٢). ولعل علة إرسالهم أيضاً أن مسيحي أنطاكية الذين من اليهود أرسلوا إلى كنيسة أورشليم يسألونها الإرشاد إلى ما يجب أن يتصرفوا في شأن الذين آمنوا من الأمم.

بَرْنَابَا سبق الكلام عليه في (ص ٤: ٣٦). والأرجح أنهم اختاروه لهذه الخدمة لما فيه من الصفات التي اقتضتها الحال من الحكمة والمعرفة والتقوى ولشهرته بالوعظ بدليل أنه لقب «بابن الوعظ» فكان قادراً على التعليم وهو قبرسي الجنس فيكون أكثر قبولاً عند مبشري أنطاكية القبرسيين.

لِكَيْ يَجْتَازَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ هذا يدل على أن الكنيسة وكلت إليه أن يبشر في كل مكان يدخله في طريقه لا في أنطاكية فقط.

٢٣ «ٱلَّذِي لَمَّا أَتَى وَرَأَى نِعْمَةَ ٱللّٰهِ فَرِحَ، وَوَعَظَ ٱلْجَمِيعَ أَنْ يَثْبُتُوا فِي ٱلرَّبِّ بِعَزْمِ ٱلْقَلْبِ».

ص ١٣: ٤٣ و١٤: ٢٢

نِعْمَةَ ٱللّٰهِ أي تأثير نعمة الله الذي ظهر بإنارة الأمم وتجديد قلوبهم.

فَرِحَ يحتمل أنه توقع أن يجد ما يوجب الملام لأنه يهودي الأصل والتربية والاعتقاد لكنه لم يجد إلا ما يوجب السرور والمدح. وعلة فرحه مثل ما ذُكر في بشارة لوقا (ص ١٥: ٧ و١٠) من فرح ملائكة السموات.

وَوَعَظَ ٱلْجَمِيعَ الخ اشتهر برنابا بالفصاحة بالوعظ بدليل تلقيبهم إياه «بابن الوعظ» وهو رسول كنيسة أورشليم ونائبها في أمر ذي شأن فيتوقع أن يكون وعظه مما يستحق كل الاعتبار ومما يتخذ قاعدة ومثالاً. وهذا الواعظ لم يوبخ الذين بشروا اليونانيين ولم يشر عليهم بالعدول عن مثل ذلك التبشير ولم يعلم المؤمنين هناك تعليماً جديداً. وما لنا من وعظه هنا سوى بضع كلمات خلاصتها ثلاثة أمور:

  • الأول: الثبات وهذا يبين لنا أهمية هذه الفضيلة في كل زمان ومكان. وكان مؤمنو أنطاكية في حاجة إلى النصح بذلك لأنه كان في تلك المدينة الوثنية تجارب شديدة تحتمل على الارتداد عن الدين الحق.
  • الثاني: الالتصاق بالرب نفسه باعتبار كونه حياً حاضراً فاعلاً بينهم بالروح وإن كان غائباً بالجسد. وهذا يعلمنا أن ما يقتضيه الدين الصحيح الثبات في المسيح نفسه لا مجرد الثبات في كنيسته أو تعليمه وجوهر الغرض من هذه النصيحة أن لا حاجة لهم إلى أن يحملوا نير الشريعة الموسوية ذريعة إلى قبول الإنجيل وأنه يكفيهم الثبات في من آمنوا به.
  • الثالث: أن يكون ذلك الثبات مبنياً على عزم القلب أي على الانفعالات القلبية والقصد الراسخ.

٢٤ «لأَنَّهُ كَانَ رَجُلاً صَالِحاً وَمُمْتَلِئاً مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَٱلإِيمَانِ. فَٱنْضَمَّ إِلَى ٱلرَّبِّ جَمْعٌ غَفِيرٌ».

ص ٦: ٥ ص ٥: ١٤ وع ٢١

لأَنَّهُ كَانَ رَجُلاً صَالِحاً هذا علة لما ذُكر في الآية السابقة والمراد بكونه «صالحاً» أنه مخلص غير ذي ظنة ولا منتقد. ولكونه صالحاً فرح بالصالح أي خلاص الأمم مع أن طريق بلوغهم الخلاص كان غير ما كانت تقتضيه عقائده اليهودية. وكان بعض هذا الصلاح من أخلاقه الطبيعية وبعضه من تأثير النعمة الإلهية. وقد أظهر صلاحه سابقاً ببيع حقله ووضع ثمنه عند أقدام الرسل ليوزعوه على المحتاجين في أورشليم (ص ٤: ٣٧).

وَمُمْتَلِئاً مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَٱلإِيمَانِ هذا علة أخرى لفرحه ووعظه. وليس المراد من «امتلائه بالروح القدس» الوحي أو الإلهام بل كثرة تأثير الروح الإلهي من إنارة وتقديس. ومثل هذا يجعل كل مؤمن صالح الأفكار والأقوال والأعمال.

فَٱنْضَمَّ الخ هذا نتيجة وعظ برنابا وهي زيادة على ما شاهده عند مجيئه وفرح به (ع ٢١) واستمرار للنجاح. وانضمام ذلك الجمع الغفير إلى الكنيسة إن لم يكن قد انضم أولاً إلى الرب بالإيمان فهو قليل النفع.

دعوة برنابا لشاول إلى الاشتراك في التبشير ونتيجة أتعابهما ع ٢٥ و٢٦

٢٥ «ثُمَّ خَرَجَ بَرْنَابَا إِلَى طَرْسُوسَ لِيَطْلُبَ شَاوُلَ. وَلَمَّا وَجَدَهُ جَاءَ بِهِ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ».

ص ٩: ٣٠

طَرْسُوسَ هي مدينة مشهورة كانت قصبة كيليكية في آسيا الصغرى واشتهرت بالتجارة والعلم وبكونها مولد بولس الرسول ووطنه (أعمال ٩: ١١ و٢١: ٣٩ و٢٢: ٣). وجد برنابا أن العمل في كرم الرب بين أمم أنطاكية عظيم حتى احتاج إلى معين. وعلم أهلية شاول لإعانته لأنه عرف ما كان من تجديد قلبه بمعجزة على طريق دمشق وهو الذي عرف الرسل به في أورشليم (ص ٩: ٢٧) وعرف حكمته وغيرته ومجاهرته اليهود في دمشق واليونانيين في أورشليم (ص ٩: ٢٩). والأرجح أنه علم قول الرب له حين أناره «مُنْقِذاً إِيَّاكَ مِنَ ٱلشَّعْبِ وَمِنَ ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ أَنَا ٱلآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ» (ص ٢٦: ١٧). وقوله فيه لحنانيا «هٰذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ ٱسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ الخ» (ص ٩: ١٥). وقوله له في رؤيا أورشليم «ٱذْهَبْ، فَإِنِّي سَأُرْسِلُكَ إِلَى ٱلأُمَمِ بَعِيداً» (ص ٢٢: ٢١). ولا نعلم ما مرّ من الزمان منذ ترك شاول أورشليم وذهب إلى طرسوس (ص ٩: ٣٠) فذهب بعضهم إلى أنه تسع سنين وبعضهم إلى أنه لا يزيد على سنة. ولا نعلم بماذا شغل ذلك الزمان لكن مما اختبرنا من صفاته وتصرفه قبل ذلك وبعده نستنتج أنه لم يقعد بلا عمل. وظن الأكثرون أنه هو الذي أسس كنائس كيليكية التي ذُكرت بعد ذلك بزمن قصير (ص ١٥: ٤١). وأنه فعل وقتئذ الأفعال واحتمل المشقات المذكورة في (٢كورنثوس ١١: ٢٣ – ٢٧) ولا نرى محلاً لها في تاريخ سيرته إلا في ذلك الوقت.

وَلَمَّا وَجَدَهُ هذا يدل على أن برنابا كان غير متحقق أفي طرسوس شاول أم في غيرها يبشر وأنه تعب حتى وجده.

جَاءَ بِهِ الخ لا بد أن تكون علة تسليم شاول بطلب برنابا أن الله دعاه إلى عمل أعظم من العمل الذي كان يعمله فلم يسلم به لمجرد أن يرضي صاحبه برنابا ويساعده.

٢٦ «فَحَدَثَ أَنَّهُمَا ٱجْتَمَعَا فِي ٱلْكَنِيسَةِ سَنَةً كَامِلَةً وَعَلَّمَا جَمْعاً غَفِيراً. وَدُعِيَ ٱلتَّلاَمِيذُ «مَسِيحِيِّينَ» فِي أَنْطَاكِيَةَ أَوَّلاً» .

ٱجْتَمَعَا أي حضرا معاً في بيت الله مع الشعب لقصد العبادة والتعليم وأتيا ذلك نحو سنة وهذا الأمر الأول مما ذُكر من أمور خدمتهما.

جَمْعاً غَفِيراً هذا الأمر الثاني وهو أن الذين سمعوا تعليمهما كانوا كثيرين جداً وهذا وإن لم يلزم منه ضرورة أنهم اقتنعوا وآمنوا وتجددوا يدل مع القرينة على أنهم حصلوا على التعليم الذي هو وسيلة الخلاص وعلى أن التعليم كان مؤثراً.

وَدُعِيَ ٱلتَّلاَمِيذُ «مَسِيحِيِّينَ» الخ هذا هو الأمر الثالث وهو أنه في ذلك الزمان وذلك المكان لقب أتباع يسوع بلقب جديد. ولم يذكر الكتاب من لقبهم به لكن المقام يقتضي أن غيرهم دعاهم به لأنهم هم كانوا يدعوا بعضهم بعضاً إخوة وتلاميذ. ويبعد عن الظن أن اليهود سموهم بذلك لأن به تسليماً بأن يسوع الناصري هو المسيح. وذهب بعضهم إلى أنهم لُقبوا به بالوحي بدليل أن الكلمة التي تُرجمت هنا بلفظة «دُعي» هي في الأصل اليوناني عين الكلمة التي تُرجمت بلفظة «أُوحي» في (متّى ٢: ١٢). وذهب آخرون إلى أن المسيحيين رومانيون بدليل أن صيغة الكلمة Χριστιανοι (أي مسيحيين) رومانية الأصل أي لاتينية. ولا نعلم أللتحقير لقبوهم بذلك أم للتمييز عن سائر اليهود على أن هذا اللقب ذُكر بعد ذلك مرتين كان في كليهما للتحقير (ص ٢٦: ٢٨ و١بطرس ٤: ١٦). ولعل علة تلقيب الرومانيين لأتباع يسوع «بالمسيحيين» كثرة ذكرهم للمسيح الذي هو موضوع تبشيرهم وكانوا ينادون به نبياً وكاهناً وملكاً واتكلوا على موته لنوال التبرير وعلى اسمه لقبول صلواتهم. وكان محور تسبيحهم في أغانيهم الروحية واتخذوا كلامه شريعة لهم وسيرته مثالاً لحياتهم. وانتظروا مجيئه إلى الأرض دياناً للعالم وحفظوا يوم قيامته وقدسوه ودعوه «يوم الرب» واعتمدوا باسمه وذكروا موته بسر العشاء الرباني.

وكان تلقبهم «بالمسيحيين» في نحو السنة العاشرة للصلب في مدينة أنطاكية وهي المدينة الثالثة في العظمة عند الرومانيين (والأولى رومية والثانية الاسكندرية) واشتهرت أنطاكية بعظمتها وحسن موقعها وبهاء أبنيتها ونفاستها وكثرة أصنامها وهياكلها وترفه أهلها وخلاعتهم. وكثيراً ما جلب هذا اللقب على أهله العار والخسارة والموت لكنهم اتحدوا به بالمسيح واشتركوا في بره ومجده.

إرسال برنابا وشاول إلى أورشليم ع ٢٧ إلى ٣٠

٢٧ «وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ ٱنْحَدَرَ أَنْبِيَاءُ مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ».

ص ٢: ١٧ و١٣: ١ و١٥: ٣٢ و٢١: ٩ و١كورنثوس ١٢: ٢٨ وأفسس ٤: ١١

فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي مدة تبشير برنابا وشاول في أنطاكية.

أَنْبِيَاءُ أناس ألهمهم الله أن يُعلنوا إرادته وكان من عملهم أن ينبئوا ببعض الأمور المستقبلة. ولا نعلم هل كان جولانهم للتبشير كما ذُكر هنا من فروضهم العامة أو كان أمراً خاصاً وهو أن ينذروا كنيسة أنطاكية بجوع يأتي ليجمعوا من إحسانهم ما يساعدون به الفقراء من الإخوة في أورشليم.

٢٨ «وَقَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ ٱسْمُهُ أَغَابُوسُ، وَأَشَارَ بِٱلرُّوحِ أَنَّ جُوعاً عَظِيماً كَانَ عَتِيداً أَنْ يَصِيرَ عَلَى جَمِيعِ ٱلْمَسْكُونَةِ ٱلَّذِي صَارَ أَيْضاً فِي أَيَّامِ كُلُودِيُوسَ قَيْصَرَ».

ص ٢١: ١٠

وَقَامَ وَاحِدٌ في أثناء اجتماع الكنيسة ليخاطبهم علناً.

أَغَابُوسُ لم نسمع من أمره غير ما ذُكر هنا وما ذُكر في (ص ٢١: ١٠).

أَشَارَ بِٱلرُّوحِ أي أعلن إعلاناً نبوياً.

أَنَّ جُوعاً عَظِيماً (انظر شرح ص ٧: ١١).

عَلَى جَمِيعِ ٱلْمَسْكُونَةِ جرى الكاتب على اصطلاح اليونانيين والرومانيين من ذكر العام وإرادة الخاص لأنه كان كل من الفريقين يعبر عن بلاده أو مملكته بالمسكونة تعظماً وافتخاراً وعلى ذلك يكون مراد لوقا «بالمسكونة» هنا بلاد سورية وفلسطين لأنه يهودي أو المملكة الرومانية (انظر شرح لوقا ٢: ١). وإذا كان المراد «بالمسكونة» هنا فلسطين كان الجوع المشار إليه ما حدث في السنة الرابعة (وهي سنة ٤٤ ب.م). والخامسة والسادسة من سني ملك كلوديوس قيصر ومات به كثيرون في اليهودية كما شهد المؤرخون يوسيفوس وأوسابيوس وأوروسيوس. وفي السنة التاسعة من ملكه حدث جوع شديد في بلاد اليونان على قول أوسابيوس. وعلمنا مما كتبه المؤرخان الرومانيان تاسيطوس وسويتونيوس أنه حدث جوع في رومية حتى أن أهل المدينة رموا الأمبراطور بالحجارة وهو مار في الطريق. ولحصول هذه المجاعات في أوقات يقرب بعضها من بعض صح أن تُعتبر مجاعة واحدة وأنها عامة جميع المسكونة أي المملكة الرومانية كما سبق.

٢٩ «فَحَتَمَ ٱلتَّلاَمِيذُ حَسْبَمَا تَيَسَّرَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يُرْسِلَ كُلُّ وَاحِدٍ شَيْئاً، خِدْمَةً إِلَى ٱلإِخْوَةِ ٱلسَّاكِنِينَ فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ».

رومية ١٥: ٢٦ و١كورنثوس ١٦: ١ و٢كورنثوس ٩: ١

حَتَمَ ٱلتَّلاَمِيذُ أي حكم مسيحيو أنطاكية وجوباً.

حَسْبَمَا تَيَسَّرَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أي على قدر طاقة كل من الأغنياء والفقراء من مؤمني أنطاكية.

أَنْ يُرْسِلَ… خِدْمَةً أي إحساناً. وهذا يدل على أمرين الأول شدة اتحاد بعض المسيحيين ببعض ومواساة بعضهم لبعض مع اختلافهم في الجنس. والثاني أن مؤمني أنطاكية كانوا أحسن حالاً من مؤمني أورشليم. والظاهر مما سبق ومما يأتي في هذا السفر أن كنائس اليهودية كانت في حاجة دائمة وأن سائر الكنائس كان يُدعى إلى مساعدتها. وكانت كنيسة أنطاكية وسائر الكنائس الأولى توجب على نفسها مساعدة كنيسة أورشليم لأنه أم الكنائس (رومية ١٥: ٢٥ – ٢٧ و١كورنثوس ١٦: ١ – ٤ و٢كورنثوس ٨: ١ – ١٥ و٩: ١ – ١٥).

واعلم أن قانون العطاء الذي سنّه مسيحيو أنطاكية على أنفهسم وهو أن كل واحد يعطي باختياره ما استطاع يجب أن يسنّه كل المسيحيين على أنفسهم في كل زمان ومكان. وبمثل هذا أنبأ بولس كنيسة كورنثوس (١كورنثوس ١٦: ٢ و٢كورنثوس ٨: ١٢).

ٱلإِخْوَةِ أي المؤمنين وهو وصف ثان لهم في هذه الآية ولعل علة وصفهم هنا «بالإخوة» محبتهم الظاهرة في إرسال هذا الإحسان كأنهم أهل بيت واحد.

٣٠ «فَفَعَلُوا ذٰلِكَ مُرْسِلِينَ إِلَى ٱلْمَشَايِخِ بِيَدِ بَرْنَابَا وَشَاوُلَ».

ص ٢٠: ١٧ و٢٨ وتيطس ١: ٥ ص ١٢: ٢٥

فَفَعَلُوا ذٰلِكَ أي أجروا ما قصدوا حالاً وأظهروا محبتهم لأم الكنائس فعلاً.

ٱلْمَشَايِخِ المرجح أن المراد «بالمشائخ» هنا عمدة الكنيسة. ولعلهم كانوا حينئذ يشتملون على الرسل لأن كلاً من الرسولين بطرس ويوحنا دعا نفسه شيخاً من المشائخ (١بطرس ٥: ١ و٢يوحنا ١ و٣يوحنا ١).

وقفنا في الإنجيل على تعيين الرسل وتعيين الشمامسة بين اليهود المتنصرين ولم نقف فيه على تعيين شيخ إنما وقفنا على أن المشائخ كانوا في الكنيسة. والأرجح أن علة عدم ذكر تعيينهم أن رتبة المشائخ كانت دائماً ضرورية في نظام اليهود ديناً وسياسة. ولما انتظمت الكنيسة المسيحية بقيت رتبة المشائخ كالعادة بدون ذكر لذلك. ولكن لم يكن مثل هذا بين الأمم فلما انتظمت كنيسة مسيحية منهم اقتضى أمرها أن تعين المشائخ تعييناً خاصاً (ص ١٤: ٢٣). ومن سماهم اليهود مشائخ استحسن الأمم أن يسموهم قسوساً وأساقفة أي نظاراً. ولما كانت إحدى الكنائس تتألف من اليهود والأمم سموهم مشائخ وأحياناً قسوساً والمعنى واحد (انظر ص ٢٠: ١٧ و١٨ وتيطس ١: ٥ و٧ ويعقوب ٥: ١٤).

بِيَدِ أي بواسطة. لم يبقوا ما جمعوه من الإحسان عندهم إلى عود برنابا إلى أورشليم في نهاية سنة خدمته هنالك (ع ٢٦) بل أرسلوه وشاول بمال الإحسان خاصة (ص ١٢: ٢٥). فيظهر من ذلك أن هذين كانا معتبرين جداً في كنيسة أنطاكية وأن مؤمني أنطاكية اعتبروا توزيع الإحسان من أهم الفروض المسيحية. ويبين من تقديم برنابا على شاول هنا وفي ص ١٣: ١ و٢ أن برنابا كان إلى تلك الساعة أكثر من شاول اعتباراً.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى