أعمال الرسل | 06 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح سفر أعمال الرسل
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح السادس
تعيين الشمامسة وعلته ع ١ إلى ٨
١ «وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ إِذْ تَكَاثَرَ ٱلتَّلاَمِيذُ، حَدَثَ تَذَمُّرٌ مِنَ ٱلْيُونَانِيِّينَ عَلَى ٱلْعِبْرَانِيِّينَ أَنَّ أَرَامِلَهُمْ كُنَّ يُغْفَلُ عَنْهُنَّ فِي ٱلْخِدْمَةِ ٱلْيَوْمِيَّةِ».
ص ٢: ٤١ و٤: ٤ و٥: ١٤ وع ٧ ص ٩: ٢٩ و١١: ٢٠ ص ٤: ٣٥
فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ لا دليل على طول المدة بين حوادث هذا الأصحاح وحوادث الأصحاح الذي قبله ولعله كان قد مر على الكنيسة ما بين ثلاث سنين وسبع سنين وهو تنمو وتزيد على رغم المضطهدين.
تَكَاثَرَ ٱلتَّلاَمِيذُ عدل لوقا عن تعيين عدد أعضاء الكنيسة منذ بلغوا خمسة آلاف (ص ٥: ١٤). وكانت كثرتهم علة التعسر على الرسل أن يتمموا كل الواجبات الزمنية والروحية للكنيسة حتى لا يُهمل واحدة منها.
حَدَثَ تَذَمُّرٌ أي أُظهر الغضب واللوم. أنه كان للتلاميذ في أول عهد الكنيسة «قلب واحد ونفس واحدة» (ص ٤: ٣٣) واستطاع الرسل أن يوزعوا على فقرائهم عطايا الأغنياء حتى لا يُترك أحد منهم في حاجة (ص ٤: ٣٤) ولكن بعدما كبرت الكنيسة لم يقدر الرسل أن يلتفتوا إلى كل فرد من المحتاجين. ولعله حدث ما يحمل على التذمر وربما تذمر البعض لسبب غير كاف لأن الشيطان مستعد أن يهيج الحسد والطمع في قلوبهم.
مِنَ ٱلْيُونَانِيِّينَ عَلَى ٱلْعِبْرَانِيِّينَ وكلاهما من أعضاء الكنيسة ومن اليهود أصلاً ولكن اليونانيين امتازوا عن العبرانيين بسكنهم في غير اليهودية أي في البلاد الوثنية واتخذوا اللغة اليونانية بمنزلة العبرانية. وسُمي هؤلاء وأمثالهم «شتاتاً» (انظر شرح يوحنا ٧: ٣٥ وانظر يعقوب ١: ١ و١بطرس ١: ١). وأما العبرانيون فكانوا يسكنون اليهودية وبقوا على لغتهم الآرامية وهي العبرانية الممزوجة بالكلدانية. فاليهود العبرانيون اعتبروا أنفسهم أقدس من اليونانيين لأنهم بقوا في أرض الآباء والأنبياء وهي أرض الميعاد حيث الهيكل وممارسة كل الشعائر الدينية وأنهم تكلموا باللغة المقدسة. فالنصرانية لم تُزل كل أسباب الخلاف بينهم فلم يزل بين الفريقين الظنون والريب.
أَرَامِلَهُمْ كُنَّ يُغْفَلُ عَنْهُنَّ في توزيع إحسان الكنيسة الذي كان يُوزع على المحتاجين كل يوم (ص ٤: ٣٥) وكانت الكنيسة أكثر ما تعتني بالأرامل وكذا يجب (١تيموثاوس ٥: ٣ و٩ و١٠ و١٦ ويعقوب ١: ٢٧) ولا يلزم من ذلك أن التوزيع كان مقصوراً على الأرامل لكن لم ينشأ تذمر إلا من جهتين وكان موزعو الإحسان الرسل وهم عبرانيون (ص ٤: ٣٥) ولعلهم وكلوا ذلك إلى بعض أخصائهم والأرجح أنهم كانوا عبرانيين أيضاً. ولم يتضح من سياق الكلام هل كان لذلك التذمر من علة كافية أو لا. ومما لا ريب فيه أنه إن كان قد غُفل عن أولئك الأرامل فذلك ليس عن عمد بل عن سهو وقع لمقتضيات الأحوال ومنها كثرة المحتاجين وقلة الموزعين. ويحتمل أن الأرامل اليونانيات لم يكن معروفاً أنهن محتاجات لكونهنّ غريبات في اليهودية. وهذا خطر ثالث وقعت فيه الكنيسة في طفوليتها فكانت عرضة للانشقاق من الحسد بين الأعضاء المختلفي الجنس. وأنقذها الرسل بالحكمة والتدبير. وكان الخطر الأول من الاضطهاد من خارج ونجت الكنيسة منه بشجاعة الرسل وعناية الله ونصيحة غمالائيل. والثاني من دخول المرائين الطمعين في الكنيسة وهذا نجت منه بعقاب حنانيا وسفيرة.
٢ «فَدَعَا ٱلٱثْنَا عَشَرَ جُمْهُورَ ٱلتَّلاَمِيذِ وَقَالُوا: لاَ يُرْضِي أَنْ نَتْرُكَ نَحْنُ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ وَنَخْدِمَ مَوَائِدَ».
لم يظهر أن الرسل استاءوا من تلك التهمة ولا أنهم اعتذروا إنما اقتدوا بموسى في تدبيره (خروج ١٨: ٢٥) فإنهم وكلوا إلى غيرهم بعض سلطانهم فخففوا عنهم العناء ودفعوا الظنون وأحسنوا العناية بالمحتاجين وأنقذوا الكنيسة من خطر الانشقاق.
جُمْهُورَ ٱلتَّلاَمِيذِ أي أعضاء الكنيسة. ولا يلزم من ذلك أنهم جمعوا كل أفراد المؤمنين الذين بلغ عددهم ألوفاً يومئذ لكنهم جمعوا كثيرين ممن تهمهم تلك المسئلة.
لاَ يُرْضِي أي لا يحسن عند العقلاء.
نَحْنُ أي الرسل.
كَلِمَةَ ٱللّٰهِ أي التبشير.
وَنَخْدِمَ مَوَائِدَ أي نوزع الإحسان على فقراء الكنيسة. «فخدمة الموائد» كناية عن ذلك إما لاستعمال الصيارفة إياها لوضع النقود عليها (متّى ٢١: ١٢ ويوحنا ٢: ١٥) وإما لاتخاذها موضعاً للطعام والشراب (متّى ١٥: ٢٨ ولوقا ٢٢: ٢١) ويتضح مما ذُكر أربعة أمور:
- الأول: أن المسيح لم يرتب نظاماً للكنيسة وكذلك الرسل في أول الأمر فتركوا ذلك لتنتظم حسب مقتضيات الحال بإرشاد الروح القدس. وكان في هذا الأمر فرق عظيم بين الكنيسة اليهودية في أول عهدها والكنيسة المسيحية فإن نظام تلك رتبه الله وأعلنه للشعب على يد موسى وكان واسعاً مدققاً.
- الثاني: أنه على الكنيسة أمران التعليم الديني والاعتناء بالفقراء وكل الأديان توجب الأول ولا يهتم بالثاني كما ينبغي سوى الدين المسيحي. فالكنيسة المسيحية علاوة على اجتهادها في التعليم تعتني كل الاعتناء بالفقراء فكم شادت من المستشفيات والمارستانات والملاجئ والمتصدقات.
- الثالث: أنه لا يستطيع أرباب رتبة واحدة من خدم الكنيسة القيام بالحاجات الروحية والجسدية فإن اعتنت الاعتناء الواجب بالتبشير لزم أن تعمل الاعتناء بتوزيع الإحسان وإن اعتنت كما يجب بالصدقات قصرت عن الواجبات الروحية.
- الرابع: أن الاعتناء بنفوس الناس مقدم على الاعتناء بأجسادهم فيجب على خدم الدين أن يبذلوا الجهد في الأول أكثر مما يبذلونه في الثاني فعلى راعي الكنيسة أن لا يرتبك بالجسديات وعلى الكنيسة أن لا تكلفه بها بل تمهد السبيل إلى ذلك بوسيلة أخرى.
٣ «فَٱنْتَخِبُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ سَبْعَةَ رِجَالٍ مِنْكُمْ، مَشْهُوداً لَهُمْ وَمَمْلُوِّينَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَحِكْمَةٍ، فَنُقِيمَهُمْ عَلَى هٰذِهِ ٱلْحَاجَةِ».
تثنية ١: ١٣ وص ١: ٢١ و١٦: ٢ و١تيموثاوس ٣: ٧
ٱنْتَخِبُوا أي أنتم. وأمروا الشعب بذلك لأمرين:
الأول: أن توزيع الإحسان مما يهمه فقط فلاق أن يعيّن هو الموزعين الذين يريدهم ولكن الرسل أبانوا الصفات الواجبة على الموزعين ورسموهم.
الثاني: تسكيت المتذمرين لأنهم إذا كانوا هم المنتخبين رضوا بتصرف المنتخبين بخلاف ما لو انتخبهم الرسل ولا يبقى بعد ذلك من داع للظنون والتذمر على الرسل.
سَبْعَةَ رِجَالٍ هذا عدد كاف للخدمة المطلوبة ولو زادوا على ذلك لوقع الارتباك. ومن المعلوم أن عدد السبعة من الأعداد المقدسة عند اليهود لكن لا دليل على أنهم اقتنعوا إلى ذلك هنا.
مِنْكُمْ أي الحزبين اليونانيين والعبرانيين.
مَشْهُوداً لَهُمْ بالاستقامة فيجب على كل صاحب رتبة أن يكون حسن الصيت كما هو حسن الصفات.
مَمْلُوِّينَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وعلامة ذلك تقواهم وسيرتهم المقدسة لا فعل المعجزات.
وَحِكْمَةٍ في تدبير الأمور العالمية فالتقوى بلا حكمة لا تكفي أمين صندوق الحسنات. وصفات هؤلاء الخدم فُصلت في (١تيموثاوس ٣: ٨ – ١٠).
فَنُقِيمَهُمْ بوضع الأيادي والصلاة (ع ٦) وبهذا يحصلون على اعتبار الشعب وعلى سلطان من الرسل.
هٰذِهِ ٱلْحَاجَةِ أي توزيع الإحسان على الأرامل وسائر المحتاجين فلم يقيموهم للتبشير. فإذاً لم يكونوا من رتبة الإكليروس التي هي دون رتبة الرسل. ولأن الحاجة التي عيّنوا لها دائمة في الكنيسة دامت رتبتهم أيضاً.
٤ «وَأَمَّا نَحْنُ فَنُواظِبُ عَلَى ٱلصَّلاَةِ وَخِدْمَةِ ٱلْكَلِمَةِ».
ص ٢: ٤٢
هذان الأمران هما الضروريان في الأعمال الرسولية فلم يرد الرسل أن يعيقهم عنهما الأمور الجسدية.
ٱلصَّلاَةِ نستنتج بدلالة القرينة أن المقصود «بالصلاة» هنا الصلاة الجمهورية وهذا لا يمنع من الحكم بأن الرسل واظبوا على الصلاة الانفرادية لأن ذلك مما لا يستغني المسيحي عنه.
وَخِدْمَةِ ٱلْكَلِمَةِ أي التبشير بالإنجيل لأنه الواسطة التي عيّنها الله لإرشاد الناس إلى طريق الخلاص وتقديس نفوسهم. وشرط التبشير الصحيح أن يكون المبشر به كلمة الله وأن يكون المبشرون أناساً مختبرين قوتها. ولا فعل للتبشير إلا بقوة الروح القدس وتلك تُنال بواسطة الصلاة فلذلك ذُكر الأمران معاً فلا تكفي الصلاة بدون التبشير ولا التبشير بدون الصلاة.
٥ «فَحَسُنَ هٰذَا ٱلْقَوْلُ أَمَامَ كُلِّ ٱلْجُمْهُورِ، فَٱخْتَارُوا ٱسْتِفَانُوسَ، رَجُلاً مَمْلُوّاً مِنَ ٱلإِيمَانِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَفِيلُبُّسَ، وَبُرُوخُورُسَ، وَنِيكَانُورَ، وَتِيمُونَ، وَبَرْمِينَاسَ، وَنِيقُولاَوُسَ دَخِيلاً أَنْطَاكِيّاً».
ص ١١: ٢٤ ص ٨: ٥ و٢٦ و٢١: ٨
ٱسْتِفَانُوسَ ذُكر أول السبعة لأنه اشتهر بعد قليل بأنه أول شهداء الكنيسة المسيحية.
رَجُلاً مَمْلُوّاً مِنَ ٱلإِيمَانِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ لا يلزم من هذا أن الستة الباقين وسائر أعضاء الكنيسة لم يكونوا كذلك لكنه امتاز على الجميع في التقوى والإيمان وتأثير الروح فيه.
فِيلُبُّسَ وهذا اشتهر بأنه مبشر السامرة (ص ٨: ٥ – ٢٥) ومبشر خصي كنداكة ملكة الحبش وذُكر أنه كان مبشراً في قيصرية بعد خمس وعشرين سنة من ذلك وأنه كان له أربع بنات يتنبأنَ (أعمال ٢١: ٨).
وَنِيقُولاَوُسَ دَخِيلاً أي أنه كان وثنياً أصلاً ثم هاد واختتن. واستثناؤه بذلك دون غيره يدل على أن الباقين يهود أصلاً. ولا داعي إلى ما ظنه البعض من أنه رئيس شيعة النيقولاويين المذكورة في (رؤيا ٢: ٦ و١٥). وأكثر أسماء السبعة يوناني وهذا لا يوجب قطعاً أنهم يونانيون لأنه كان لكثيرين من اليهود اسمان أحدهما يوناني والآخر عبراني والأرجح أن أكثرهم من اليهود اليونانيين لكي لا يبقى من سبيل إلى التذمر (ع ١).
أَنْطَاكِيّاً انظر شرح (ص ١٣: ١) ولا معرفة لنا بشيء من أمور الباقين من السبعة إذ لم يُذكر بعد هذا شيء منها ولا أسماؤهم.
٦ «ٱلَّذِينَ أَقَامُوهُمْ أَمَامَ ٱلرُّسُلِ، فَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِمِ ٱلأَيَادِيَ».
ص ١: ٢٤ و٨: ١٧ و٩: ١٧ و١٣: ٣ و١تيموثاوس ٤: ١٤ و٥: ٢٢ و٢تيموثاوس ١: ٦
فَصَلُّوا أي طلبوا بركة الله عليهم.
وَوَضَعُوا عَلَيْهِمِ ٱلأَيَادِيَ ذُكر وضع اليد أولاً حين بارك يعقوب ابني يوسف (تكوين ٤٨: ١٣ – ٢٠) ثم حينما عيّن موسى يشوع خليفة له (عدد ٢٧: ١٨) وذُكر في الإنجيل عند منح الروح القدس (ص ٨: ١٧) وفي رسامة خدم الدين (ص ١٣: ٣ و١تيموثاوس ٥: ٢٢ وعبرانيين ٦: ٢) فهو مقترن بالصلاة أبداً وأتاه المصلي إشارة إلى أن البركة التي يطلبها تستقر على الذي وضع هو عليه يده فإذاً لم يقصد به أن البركة من المصلي نفسه.
والمراد بذلك الوضع في الرسامة بيان أن الذي وُضعت الأيدي عليه أخذ سلطاناً من الواضعين على ممارسة الخدمة الدينية. والشمامسة المذكورون هنا مختارون من الشعب لكنهم أخذوا سلطان الممارسة من الرسل. وهذه الإشارة بقيت للكنيسة من أول عهدها مع المعمودية والعشاء الرباني. وهؤلاء لم يُسموا في أعمال الرسل شمامسة بل «السبعة» وإنما ذُكر اسم الشماس وصفاته وعمله وما يجب عليه في الرسائل (١تيموثاوس ٣: ٨ – ١٢ وفيلبي ١: ١).
٧ «وَكَانَتْ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ تَنْمُو، وَعَدَدُ ٱلتَّلاَمِيذِ يَتَكَاثَرُ جِدّاً فِي أُورُشَلِيمَ، وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْكَهَنَةِ يُطِيعُونَ ٱلإِيمَانَ».
ص ١٢: ٢٤ و١٩: ٢٠ وكولوسي ١: ٦ يوحنا ١٢: ٤٢
في هذه الآية بيان تقدم الكنيسة بعد تخلصها من خطر الانشقاق من تذمر البعض وذكر الكاتب مثل هذا التقدم على أثر تخلص الكنيسة من مخاطر أخرى (ص ٤: ٤ و٥: ١٤).
كَلِمَةُ ٱللّٰهِ أي مناداة الرسل بيسوع المسيح وإنجيله.
تَنْمُو أي الكنيسة بواسطة الكلمة.
جُمْهُورٌ كَثِيرٌ كان عدد الكهنة الذين رجعوا من بابل ٤٢٨٩ ولا بد من أنهم زادوا بعد ذلك.
مِنَ ٱلْكَهَنَةِ هذا أول ما سمعنا أن أحداً من الكهنة آمن بالمسيح وتبعه وهو برهان قاطع على انتصار الإنجيل لأن للكهنة دواعي كثيرة تحملهم على البقاء في الكنيسة اليهودية وممارسة رموزها والخضوع للرؤساء. ومن شأن منزلتهم أن تميل بهم إلى النخر والكبرياء فيكرهوا أن يسلموا بتعليم الجليليين ويقبلوا تعليم الصليب الوضيع. ولعل انشقاق حجاب الهيكل عند موت يسوع على الصليب أثر في قلوبهم فأعدهم لقبول تأثير غيره من الروحيات. وتنصّر أولئك الكهنة خسرهم مقامهم ورتبتهم وأسباب معاشهم.
يُطِيعُونَ ٱلإِيمَانَ أي آمنوا. ومعنى «الإيمان» هنا الدين المسيحي كما في (رومية ١: ٥ و١٦: ٢٦). وسمّي الدين بالإيمان لأن من مبادئه الجوهرية الإيمان بالمسيح غير المنظور وتفضيل الأمور الروحية التي لا ترى (مرقس ١٦: ١٦ ورومية ١٠: ١٦). فإيمان الكهنة بالمسيح رفع عن هذا الاسم العار اللازم عن قول الفريسيين «أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ ٱلرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟» (يوحنا ٧: ٤٨).
٨ «وَأَمَّا ٱسْتِفَانُوسُ فَإِذْ كَانَ مَمْلُوّاً إِيمَاناً وَقُوَّةً، كَانَ يَصْنَعُ عَجَائِبَ وَآيَاتٍ عَظِيمَةً فِي ٱلشَّعْبِ».
موت استفانوس شهيداً بعد هذا وتأثيره العظيم حملا لوقا على ذكره وبيان أسباب قتله. وكان استفانوس ممن انتخبوا لخدمة الكنيسة في الزمنيات لكنه لم يقتصر عليها فبشّر بالكلمة.
مَمْلُوّاً إِيمَاناً أي كثير الثقة بصدق الإنجيل وصحة دعوى يسوع أنه المسيح ابن الله وثبوت مواعيده وهذا جعله غيوراً في المناداة وشجاعاً في تعريض نفسه للخطر ووصفه الكاتب كما وصف برنابا في (ص ١١: ٢٤).
وَقُوَّةً ظهرت في عمل المعجزات.
كَانَ يَصْنَعُ عَجَائِبَ الخ لم يقصر الله نعمته على الرسل ليبشّروا ويفعلوا الآيات.
مقاومة اليهود لاستفانوس ع ٩ إلى ١٥
٩ «فَنَهَضَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْمَجْمَعِ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ مَجْمَعُ ٱللِّيبَرْتِينِيِّينَ وَٱلْقَيْرَوَانِيِّينَ وَٱلإِسْكَنْدَرِيِّينَ، وَمِنَ ٱلَّذِينَ مِنْ كِيلِيكِيَّةَ وَأَسِيَّا، يُحَاوِرُونَ ٱسْتِفَانُوسَ».
فَنَهَضَ لمقاومته فنجاح استفانوس العظيم هيّج ما كان قد سكن من اضطهاد المقاومين.
ٱلْمَجْمَعِ انظر الشرح (متّى ٤: ٢٣) قيل في كتب اليهود أنه كان في أورشليم أربع مئة وثمانون مجمعاً وإذا حكمنا على أن ذلك مبالغة فلا بد من الحامل عليها هو كثرة تلك المجامع لأنه كان لكل صنف من غرباء اليهود الذين كانوا يأتون من بلاد مختلفة لحضور الأعياد في أورشليم مجمع مخصوص أو أكثر.
ٱللِّيبَرْتِينِيِّينَ الأرجح أنهم يهود أصلاً أسرهم الرومانيون وأخذوهم إلى إيطاليا عبيداً ثم حررهم فسموا لذلك «بالليبرتينيين» أي المحرَّرين. وهم كثيرون لأن بمبيوس القائد الروماني لما استولى على اليهودية سنة ٦٣ ب. م. جلب ألوفاً معه إلى رومية.
ٱلْقَيْرَوَانِيِّينَ الذين من القيروان في أفريقية وكان سمعان الذي حمل صليب المسيح من هناك (انظر شرح متّى ٢٧: ٣٢) وهي مدينة كبيرة قال يوسيفوس أن ربع سكانها يهود أخذهم بطليموس لاغوس إلى هنالك. وكان بعضهم في أورشليم للاحتفال بيوم «الخمسين» (ص ٢: ١٠) وذُكروا أيضاً في (ص ١١: ٢٠ و١٣: ١).
وَٱلإِسْكَنْدَرِيِّينَ أي سكان الإسكندرية في مصر وكانت وقتئذ ثانية رومية في العظمة. وهي على مصب نهر النيل الغربي بناها اسكندر الكبير سنة ٣٣٢ قبل الميلاد وكان محيطها يومئذ خمسة عشر ميلاً وكان فيها ثلاث مئة ألف من الأحرار ومثلهم من العبيد. وكانت مركز علم اليونان وتمدنهم في أفريقية. وكثر اليهود في مصر منذ سبي باب وذلك نحو ست مئة سنة قبل الميلاد. وأخذ بطليموس الأول كثيرين من أسرى اليهود إلى الاسكندرية وأمر بترجمة العهد القديم من العبرانية إلى اليونانية في نحو سنة ٣٠٠ قبل الميلاد وسمّيت الترجمة بترجمة السبعين لظنهم أن الذين ترجموها كانوا نحو سبعين. وأعطى اسكندر اليهود ثلث الاسكندرية حين أكمل بناءها وجعلهم مساوين لليونانيين في الحقوق. وقيل أنه كان نحو خُمس سكان تلك المدينة في أيام المسيح من اليهود وبلغ عدد الإسرائيليين يومئذ في كل مصر نحو ألف ألف.
كِيلِيكِيَّةَ ولاية في آسيا الصغرى على الجنوب الشرقي منها شمالي قبرس وتُعرف اليوم ببر الأناضول وكانت قاعدتها طرسوس حيث وُلد شاول الذي هو بولس الرسول (ص ٩: ١١) ولا بد من أنه حضر ذلك المجمع لأنه من كيليكية ويُحتمل أنه جادل استفانوس هناك.
أَسِيَّا هي الجزء الغربي من آسيا الصغرى الذي كانت قاعدته أفسس (ص ٢: ٩) وكان يشتمل على ميسيا وكاريا وليديا.
يُحَاوِرُونَ ٱسْتِفَانُوسَ أي كان علماء تلك المجامع يناظرون استفانوس في أمر يسوع الذي صرح استفانوس أنه المسيح وأن تعليمه تعليم الله أُثبت بنبؤات العهد القديم وبما صنعه هو من المعجزات.
١٠ «وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُقَاوِمُوا ٱلْحِكْمَةَ وَٱلرُّوحَ ٱلَّذِي كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهِ».
خروج ٤: ١٦ وإشعياء ٥٤: ١٧ ولوقا ٢١: ١٥ وص ٥: ٣٩
وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُقَاوِمُوا أي أنهم لم يستطيعوا دفع حججه التي حجّهم بها من كتبهم وأثبتها بأدلته وأوضحها بفصاحة وعلم كأفضل علمائهم. ويمكننا معرفة ما أورده من الحجج من الجدول الآتي:
قابل إشعياء ٤٠: ٣ | مع مرقس ١: ٣ |
ملاخي ٣: ١ | مع متّى ١١: ١٠ |
قابل إشعياء ٨: ١٤ و ٩: ١ | مع متّى ٤: ١٤ |
قابل إشعياء ٦١: ١ | مع لوقا ٤: ١٨ |
قابل مزمور ٧٨: ٢ | مع متّى ١٣: ٣٥ |
قابل مزمور ١١٨: ٢٢ | مع لوقا ٢: ٣٤ وأعمال ٤: ١١ و١٣: ٤١ |
قابل مزمور ٤١: ٩ وزكريا ١١: ١٢ | مع يوحنا ١٣: ١٨ ومتّى ٢٦: ١٥ و٢٧: ٩ و١٠ |
قابل زكريا ١٢: ١٠ | مع يوحنا ١٩: ٣٧ |
قابل إشعياء ٥٣: ٩ ومزمور ٦: ١٠ | مع متّى ١٢: ٤٠ وأعمال ٢: ٢٧ |
قابل مزمور ١١٠: ١ | مع أعمال ٢: ٣٣ وعبرانيين ١: ١٣ |
ٱلْحِكْمَةَ أي معرفة كتب اليهود الدينية وتفاسيرها.
وَٱلرُّوحَ الخ المراد «بالروح» هنا النشاط والرغبة والإخلاص مما بيّن أنه كان متيقناً صحة ما تكلم به وأهميته. ولا ريب في أن ذلك الروح كان من مواهب الروح القدس.
١١ «حِينَئِذٍ دَسُّوا لِرِجَالٍ يَقُولُونَ: إِنَّنَا سَمِعْنَاهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمِ تَجْدِيفٍ عَلَى مُوسَى وَعَلَى ٱللّٰهِ».
١ملوك ٢١: ١٠ و١٣ ومتّى ٢٦: ٥٩ و٦٠
لما عجزوا عن غلبة استفانوس بالحق لجأوا إلى الباطل وشرعوا يهيّجون الشعب المتعصب عليه وهيّجوا بذلك الرؤساء.
حِينَئِذٍ دَسُّوا لِرِجَالٍ أي علموهم سراً أن يسمعوا كلام استفانوس ويحرّفوه ليشهدوا عليه بالرديء كما فعلوا بالمسيح (متّى ٢٦: ٦٠ و٦١).
إِنَّنَا سَمِعْنَاهُ لم يبيّنوا متى سمعوا ذلك والأرجح أنه كان في محاورتهم له في المجامع.
بِكَلاَمِ تَجْدِيفٍ انظر شرح (متّى ٩: ٣) ولا بد من أن قولهم تهمة باطلة لأنه عظّم الله واحترم موسى لكن يمكننا أن نستنتج من دعواهم ما كان يقوله.
عَلَى مُوسَى لعل استفانوس قال أن يسوع مشترع أعظم من موسى وأن الذبائح والتطهيرات وسائر الرموز التي أمر بها قاصرة عن التكفير عن الخطيئة وتبرير الخاطئ وأنه لا بد من زوالها وأن العبادة الروحية القلبية تجوز في كل مكان وزمان ولكنهم حرّفوا كلامه ليجعلوه تجديفاً.
وَعَلَى ٱللّٰهِ لأنه قال أن يسوع ابن الله وهو عندهم تجديف. وما حسبوه تجديفاً على موسى حسبوه تجديفاً على الله الذي أرسله فإنهم لم يعرفوا أن الشريعة ليست سوى «ظل الخيرات العتيدة».
١٢ «وَهَيَّجُوا ٱلشَّعْبَ وَٱلشُّيُوخَ وَٱلْكَتَبَةَ، فَقَامُوا وَخَطَفُوهُ وَأَتَوْا بِهِ إِلَى ٱلْمَجْمَعِ».
وَهَيَّجُوا ٱلشَّعْبَ أتوا ذلك لمعرفتهم أن مقاومتهم له تكون عبثاً إذا كان الشعب معه لأن رضى الشعب عن الرسل منع الرؤساء سابقاً من البطش بهم (ص ٥: ٢٦) فأرسلوا الذين دسوا إليهم الكلام إلى الناس ليتكلموا معهم في المجامع أو البيوت ويقولوا لهم أن استفانوس أهان دينهم وجدّف على نبيّهم فهيّجوا بذلك بغضهم وتعصبهم عليه. وأتى مثل هذا رؤساء الكهنة على المسيح في آخر أسبوع من حياته على الأرض حتى أن الجموع الذين ترحبوا به عند دخوله إلى أورشليم بقولهم «أوصنا الخ» صرخوا بعد أربعة أيام قائلين «اصلبه اصلبه» (متّى ٢٦: ٦٥ و٢٧: ٢٠).
وَٱلشُّيُوخَ من أعضاء المجلس.
وَٱلْكَتَبَةَ انظر شرح (متّى ٢: ٤).
ٱلْمَجْمَعِ أي مجمع السبعين (متّى ٢: ٤) وكان لذلك المجمع حق الحكم في كل أمر من الأمور الدينية. وكان الصدوقيون من أولئك الأعضاء هم خصوم الرسل في أول الأمر لمناداتهم بالقيامة وأما هنا فهاج غضب الفريسيين أيضاً لغيرتهم على شريعة موسى والهيكل.
١٣، ١٤ «١٣ وَأَقَامُوا شُهُوداً كَذَبَةً يَقُولُونَ: هٰذَا ٱلرَّجُلُ لاَ يَفْتُرُ عَنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ تَجْدِيفاً ضِدَّ هٰذَا ٱلْمَوْضِعِ ٱلْمُقَدَّسِ وَٱلنَّامُوسِ، ١٤ لأَنَّنَا سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: إِنَّ يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيَّ هٰذَا سَيَنْقُضُ هٰذَا ٱلْمَوْضِعَ، وَيُغَيِّرُ ٱلْعَوَائِدَ ٱلَّتِي سَلَّمَنَا إِيَّاهَا مُوسَى».
ص ٢٥: ٨ دانيال ٩: ٢٦
شُهُوداً كَذَبَةً هم الذين أُعدوا (ع ١١) ليحرّفوا كلام استفانوس ولذلك التحريف دعاهم الكاتب «كذبة».
ضِدَّ هٰذَا ٱلْمَوْضِعِ ٱلْمُقَدَّسِ أي الهيكل والظاهر من هذا أنهم كانوا مجتمعين حينئذ في إحدى أدور الهيكل.
وَٱلنَّامُوسِ أي شريعة موسى.
ٱلنَّاصِرِيَّ نعتوه بذلك للإهانة.
سَيَنْقُضُ هٰذَا ٱلْمَوْضِعَ سمى لوقا أولئك الشهود «كذبة» فلا برهان على أن استفانوس قال ما اتهموه به لأن المسيح نفسه لم يقله. لكنه ربما ذكر قول المسيح «أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ (أي جرزيم)، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ» (يوحنا ٤: ٢١). ولعله أشار إلى ما أنبأ به المسيح من أن الأمم ستهدم الهيكل (متّى ص ٢٤) فنسبوا إليه ما أسنده في أنبائه إلى الأمم.
وَيُغَيِّرُ ٱلْعَوَائِدَ لا نظن استفانوس قال ذلك لأن الرسل لم يصدقوا حينئذ ذلك التغيير وما اعتقدوه إلا على مرور الزمان وبعد الرؤى السماوية وتعليم الروح القدس واجتماعهم للمشورة (ص ١٠: ١٤ و١١: ٢ و١٥: ٢٠ و٢١: ٢٠). ولا يُظن فضلاً عن أن ذلك لم يكن اعتقاده أن إنساناً مثله «مملوءاً من الحكمة والروح» يعبر عن الحق بأسلوب يهيّج غضب الناس عليه ويمنعهم من قبول التعليم. والمراد «بالعوائد» هنا الذبائح والأصوام والأعياد اليهودية والتمييز بين الأطعمة وتغييرها إما أن يكون بإلغائها أو بإبدالها بغيرها. ولعل اتهامهم إياه بذلك كله مبنيّ على قول المسيح «ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ» (يوحنا ٢: ١٩) وقوله «إِنَّهُ لاَ يُتْرَكُ هٰهُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ» (متّى ٢٤: ٢) ونحو ذلك مما نقله استفانوس عن المسيح.
١٥ «فَشَخَصَ إِلَيْهِ جَمِيعُ ٱلْجَالِسِينَ فِي ٱلْمَجْمَعِ، وَرَأَوْا وَجْهَهُ كَأَنَّهُ وَجْهُ مَلاَكٍ».
وَجْهَهُ كَأَنَّهُ وَجْهُ مَلاَكٍ عبّر العهد القديم بمثل هذا التشبيه عن أرباب الحكمة السامية (تكوين ٣٣: ١٠ و٢صموئيل ١٤: ١٧ و١٩: ٢٧) والأرجح أن المعنى هنا أنه لم يظهر على وجهه شيء من إمارات الخوف أو الغضب أو الكبرياء بل ظهرت عليه علامات الاطمئنان والحلم والرضى والبراءة لأن إحساسات قلبه قد طُبعت على وجهه وسرّ بأنه شهد للحق وامتلأ قلبه رجاء بالسعادة الأبدية وإن عُرف أنه سيقتل في سبيل المسيح.
وذهب البعض أن وجهه كان يلمع كما لمع وجه موسى عندما نزل من جبل سينا (خروج ٣٤: ٢٩ و٣٠ و٢كورنثوس ٣: ٧ و١٣) والأرجح أنه لم يكن شيء من المعجزات في منظره.
السابق |
التالي |