إنجيل لوقا

إنجيل لوقا | 23 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل لوقا

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الثالث والعشرون

وقوف يسوع أمام بيلاطس وهيرودس ع ١ إلى ٢٥

١، ٢ «١ فَقَامَ كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلاَطُسَ، ٢ وَٱبْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: إِنَّنَا وَجَدْنَا هٰذَا يُفْسِدُ ٱلأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ».

متّى ٢٧: ٢ ومرقس ١٥: ١ ويوحنا ١٨: ٢٨، أعمال ١٧: ٧، متّى ١٧: ٢٧ و٢٢: ٢١ ومرقس ١٢: ١٧، يوحنا ١٩: ١٢

لم ينجح اليهود في مقصودهم الأول أن يجعلوا بيلاطس يحكم على المسيح بالموت دون فحص كما طلبوا إكراماً لهم (يوحنا ١٨: ٣٠) فحاولوا أن يقنعوا الوالي بأن يسوع مهيّج للشعب على الحكومة الرومانية.

وَجَدْنَا هٰذَا الخ ادّعوا غيرة عظيمة لحكومة قيصر وأنهم وجدوا يسوع بعد الفحص مذنباً في تهييج الشعب عليه وهذه الدعوى لم تُذكر في مجلس اليهود ليلاً ولا صباحاً إنما حكموا عليه لعلّة أخرى (متّى ٢٧: ٦٥) وكانت شكواهم كاذبة. نعم قال يسوع أنه مسيح ملك ولكنه لم يهيج الأمة على قيصر ولم يدع أنه ملك اليهودية بدلاً من قيصر لأن ملكوته روحي في قلب الناس لا ينافي ملك قيصر (ص ٢٠: ٢٢ ويوحنا ١٨: ٣٧).

٣، ٤ «٣ فَسَأَلَـهُ بِيلاَطُسُ: أَنْتَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟ فَأَجَابَهُ: أَنْتَ تَقُولُ. ٤ فَقَالَ بِيلاَطُسُ لِرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْجُمُوعِ: إِنِّي لاَ أَجِدُ عِلَّةً فِي هٰذَا ٱلإِنْسَانِ».

متّى ٢٧: ١١ و١تيموثاوس ٦: ١٣، ١بطرس ٢: ٢٢

ذكر يوحنا ما جرى بين يسوع وبيلاطس في هذه المحادثة بأكثر إيضاح (يوحنا ١٨: ٣٣ – ٣٨).

وجرى ذلك في دار الولاية بانفراد عن الناس وأبان المسيح فيه أن ملكوته ليس من هذا العالم وأقنع بيلاطس بأن دعواه لا تنافي سلطان قيصر.

٥ «فَكَانُوا يُشَدِّدُونَ قَائِلِينَ: «إِنَّهُ يُهَيِّجُ ٱلشَّعْبَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ مُبْتَدِئاً مِنَ ٱلْجَلِيلِ إِلَى هُنَا».

ظنوا أنهم يهيجون غضب بيلاطس على يسوع بتكرير شكواهم بحدة ذاكرين أنه شرع في المناداة بدعواه في الجليل وهي البلاد التي اشتهرت بكثرة الفتن وادّعوا أنه ذهب إلى هنالك بغية تهييج الفتنة.

يُعَلِّمُ فِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ صدقوا بقولهم انه يعلّم لكنهم كذبوا بنسبتهم إليه أنه يهيّج الفتنة.

وكان رياء اليهود فاحشاً في تلك الشكوى لأنهم اعتقدوا أن المسيح الحقيقي يكسر شوكة الرومانيين ويعتق اليهود من نيرهم ومعظم علّة رفضهم أن يسوع هو المسيح أنه لم يوافقهم على ذلك الأمر. وليس بيلاطس جاهلاً إلى ذلك الحد حتى أنه يصدقهم لأنه كان متيقناً أن اليهود يبغضون حكومة قيصر وأنه لو كانت شكواهم على يسوع صحيحة ما رفعوها إليه. وعرف أنهم ما اشتكوا عليه إلا حسداً (متّى ٢٧: ١٨).

٦، ٧ «٦ فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ ذِكْرَ ٱلْجَلِيلِ، سَأَلَ: هَلِ ٱلرَّجُلُ جَلِيلِيٌّ؟ ٧ وَحِينَ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ سَلْطَنَةِ هِيرُودُسَ، أَرْسَلَـهُ إِلَى هِيرُودُسَ، إِذْ كَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْكَ ٱلأَيَّامَ فِي أُورُشَلِيمَ».

ص ٣: ١

هَلِ ٱلرَّجُلُ جَلِيلِيٌّ الظاهر أن الناس أجابوه «نعم» على زعمهم أن وطنه ناصرة الجليل.

أَرْسَلَـهُ إِلَى هِيرُودُسَ هذا ظلم من بيلاطس وهو أنه أرسل إنساناً تحقق أنه بريء إلى غيره ليحاكمه. ولم يذكر هذا الأمر غير لوقا. وهيرودس هذا هو أنتيباس والي الجليل وبيريّة قاتل يوحنا المعمدان انظر الشرح متّى ١٤: ١. ومن أسباب إرسال بيلاطس يسوع إليه إظهار الإكرام له والاعتبار للشريعة الرومانية التي تجيز إرسال متهم بذنب ليحاكم في وطنه أو في المكان الذي أدعى أنه أذنب فيه وطرح المسؤولية عن نفسه في المحاكمة المتعبة لأنه لم يرد أن يحكم على إنسان بريء ولم يرد أن يغيظ اليهود بإطلاقه. والأرجح أن السبب الأخير هو الأولى.

كَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْكَ ٱلأَيَّامَ فِي أُورُشَلِيمَ لأنه أتى إلى هناك ليعيّد عيد الفصح.

٨ «وَأَمَّا هِيرُودُسُ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ فَرِحَ جِدّاً، لأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مِنْ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَنْ يَرَاهُ، لِسَمَاعِهِ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَتَرَجَّى أَنْ يَرَاهُ يَصْنَعُ آيَةً».

ص ٩: ٩، متّى ١٤: ١ ومرقس ٦: ١٤

فَرِحَ جِدّاً سمع بمعجزاب يسوع واشتهى أن يراه متأملاً أن يشاهد معجزة منه.

٩ «وَسَأَلَـهُ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ».

وَسَأَلَـهُ من جهة دعوى أنه المسيح آملاً أن يعمل المعجزة إثباتاً لدعواه.

فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ لتبرير ذاته وإثبات دعواه. وعلّة سكوت المسيح علمه أن لا فائدة من الكلام وأنهم لا بدّ من أن يقتلوه وأن هيرودس سمع الحق من يوحنا المعمدان ولم يستفد منه. وعرف يسوع أن هيرودس لم يقصد معرفة الحق وأنه لم يستفد منه. ما سأل هيرودس عن براءة المسيح أو ذنبه وهو الوحيد من قضاته الذي لم يجبه المسيح بكلمة.

١٠ «وَوَقَفَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ بِٱشْتِدَاد».

رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ أرسلهم بيلاطس ليشهدوا على يسوع (ع ١٥) والأرجح أنهم فرحوا بالإذن في أنهم يشتكون عليه وأملوا أن يحكم عليه هيرودس بالموت بإذن بيلاطس بدعوى أنه جليلي (ع ٦). وأظهر هيرودس بعدم حكمه عليه أنه لم يصدق شكوى اليهود عليه. ولو صدق أن يسوع هيّج الفتنة مبتدئاً من الجليل لحكم عليه.

١١ «فَٱحْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ عَسْكَرِهِ وَٱسْتَهْزَأَ بِهِ، وَأَلْبَسَهُ لِبَاساً لاَمِعاً، وَرَدَّهُ إِلَى بِيلاَطُسَ».

إشعياء ٥٣: ٣

أذن هيرودس لعسكره أن يهزأوا بالمسيح إرضاء لرؤساء الكهنة وشفاء لغيظه لأن يسوع لم يجبه على شيء من سؤالاته ولم يصنع معجزة أمامه. وهذا الاستهزاء هو الاستهزاء الثاني بالمسيح وكان الأول في دار رئيس الكهنة من خدامه ومن جنود الهيكل والثالث من العساكر الرومانيين في دار الولاية.

أَلْبَسَهُ لِبَاساً لاَمِعاً استهزاء بدعوى أنه ملك لأن ذلك كان مما اعتاد الملوك أن يلبسوه.

وَرَدَّهُ إِلَى بِيلاَطُسَ لكي يحكم عليه هو فأكرم بيلاطس بذلك أي بعدم ادعائه السلطة على يسوع لكونه جليلياً. والأرجح أنه اقتنع كما اقتنع بيلاطس بتبرئة يسوع ولم يرد أن يغيظ رؤساء اليهود بإطلاقه ولا أن يجعل على نفسه دماً زكياً إذا قضى على يسوع بالموت.

١٢ «فَصَارَ بِيلاَطُسُ وَهِيرُودُسُ صَدِيقَيْنِ مَعَ بَعْضِهِمَا فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ، لأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ قَبْلُ فِي عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا».

أعمال ٤: ٢٧

علّة هذه العداوة غير معروفة ولعلها تتعلق بحقوق المحاكمة. وإرسال يسوع من الواحد إلى الأخر بيان أن أحدهما لم يرد أن يعتدي على الثاني في حقوقه السياسية.

١٣، ١٤ «١٣ فَدَعَا بِيلاَطُسُ رُؤَسَاءَ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْعُظَمَاءَ وَٱلشَّعْبَ، ١٤ وَقَالَ لَـهُمْ: قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ ٱلشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هٰذَا ٱلإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ».

متّى ٢٧: ٢٣ ومرقس ١٥: ١٤ ويوحنا ١٨: ٣٨ و١٩: ٤، ع ١ و٢ ع ٤

دعا بيلاطس رؤساء اليهود إلى الاجتماع القانوني وصرّح لهم أن المسيح بريء من تهييج الفتنة فكرر شرعاً ما قاله قبلاً على غير هذا السبيل (ع ٤).

١٥ «وَلاَ هِيرُودُسُ أَيْضاً، لأَنِّي أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ. وَهَا لاَ شَيْءَ يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ صُنِعَ مِنْه».

وَلاَ هِيرُودُسُ إرجاع هيرودس يسوع إلى بيلاطس بدون حكم عليه برهان أنه حسبه بريئاً ولو حسبه مذنباً لم يرجعه فإذاً المسيح تبرر بحكم اثنين ملكٍ ووالٍ.

١٦ «فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ».

متّى ٢٧: ٢٦ ويوحنا ١٩: ١

فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ هذا ظلم محض لأنه اعترف أنه لم يجد فيه علّة ولا هيرودس فكان عليه لأنه قاض أن يطلقه بلا أذىً. ومعنى قوله «أودبه» أجلده. وكان الجلد عند الرومانيين مؤلماً جداً. وقصد ذلك إرضاء لرؤساء اليهود لكي يسلّموا بإطلاقه لكن نتج عن ذلك أنهم زادوا جراءة عليه بطلب قتل يسوع.

١٧ «وَكَانَ مُضْطَرّاً أَنْ يُطْلِقَ لَـهُمْ كُلَّ عِيدٍ وَاحِداً».

متّى ٢٧: ١٥ ومرقس ١٥: ٦ ويوحنا ١٨: ٢٩

ارجع إلى الشرح متّى ٢٧: ١٥ ومرقس ١٥: ٦.

كان الولاة الرومانيون في أول أمرهم يأتون ذلك تبرعاً ثم صار على توالي السنين ضربة لازبٍ.

١٨، ١٩ «١٨ فَصَرَخُوا بِجُمْلَتِهِمْ قَائِلِينَ: خُذْ هٰذَا وَأَطْلِقْ لَنَا بَارَابَاسَ! وَذَاكَ كَانَ قَدْ طُرِحَ فِي ٱلسِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ حَدَثَتْ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَقَتْلٍ».

أعمال ٣: ١٤

علّة صراخ الشعب تهييج رؤساء الكهنة (متّى ٢٧: ١٦ – ١٩ ومرقس ١٥: ٧ – ١٠).

٢٠ «فَنَادَاهُمْ أَيْضاً بِيلاَطُسُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُطْلِقَ يَسُوع».

خاطب بيلاطس هنا الشعب كأنه حوّل الأمر من الرؤساء إليه آملاً أن يحكم بإطلاق يسوع وكان موضوع خطابه أن يسوع بريء بدليل قوله «وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ» (متّى ٢٧: ٢٢ و٢٣).

٢١ «فَصَرَخُوا: ٱصْلِبْهُ! ٱصْلِبْهُ!».

اتفق الشعب مع الرؤساء في ما رغبوا فيه وعلّة طلبهم الصلب دون غيره من صنوف القتل لأنه كان عقاب الخارجين على قيصر.

٢٢ «فَقَالَ لَـهُمْ ثَالِثَةً: فَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ هٰذَا؟ إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهِ عِلَّةً لِلْمَوْتِ، فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ».

هذا تصريح ثالث من بيلاطس ببراءة المسيح.

٢٣ «فَكَانُوا يَلِجُّونَ بِأَصْوَاتٍ عَظِيمَةٍ طَالِبِينَ أَنْ يُصْلَبَ. فَقَوِيَتْ أَصْوَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ».

غلب صراخهم الحق والعدل وضمير القاضي (يوحنا ١٩: ٨) وحكمه المقرر ثلاثاً وتضرّع امرأته (متّى ٢٧: ١٩). وشهد بيلاطس بذلك على نفسه بأنه جبان وظالم وقاس.

٢٤ «فَحَكَمَ بِيلاَطُسُ أَنْ تَكُونَ طِلْبَتُهُم».

متّى ٢٧: ٢٦ ومرقس ١٥: ١٥ ويوحنا ١٩: ١٦

أخذ بيلاطس قبل هذا الحكم ماء وغسل يديه ليُري أنه بريء من قتل يسوع وأخذ اليهود الإثم على أنفسهم (متّى ٢٧: ٢٤ و٢٥).

٢٥ «فَأَطْلَقَ لَـهُمُ ٱلَّذِي طُرِحَ فِي ٱلسِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ وَقَتْلٍ، ٱلَّذِي طَلَبُوهُ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ لِمَشِيئَتِهِمْ».

كُرر وصف بارباس المذكور في الآية التاسعة عشرة بياناً لغرابة ما كان وهو أنهم فضلوا إنساناً شريراً كهذا على يسوع البارّ فأطلقوا الأول وسلّموا الثاني إلى الموت.

الصلب ع ٢٦ إلى ٤٩

٢٦ «وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ أَمْسَكُوا سِمْعَانَ، رَجُلاً قَيْرَوَانِيّاً كَانَ آتِياً مِنَ ٱلْحَقْلِ، وَوَضَعُوا عَلَيْهِ ٱلصَّلِيبَ لِيَحْمِلَـهُ خَلْفَ يَسُوعَ».

متّى ٢٧: ٣٢ ومرقس ١٥: ٢١ ويوحنا ١٩: ١٧

هزئ العسكر الروماني قبل ذلك بيسوع وجلدوه (متّى ٢٧: ٢٦ – ٣٠ ومرقس ١٥: ١٥ – ١٩) ثم أوقفه بيلاطس أمام الشعب والدم يسيل من جراحه بغية أن يحرك شفقة قلوبهم ليطلبوا إطلاقه ولكن ذلك كله ذهب عبثاً (يوحنا ١٩: ١٤ و١٥).

الفرق بين نبإ الصلب في مرقس وما ذكره متّى زهيد جداً وأما نبأ لوقا فيزيد عليهما أربعة أمور:

  • الأول: خبر الباكيات عليه من نساء أورشليم (ع ٢٧ – ٣١).
  • الثاني: طلب يسوع المغفرة لقاتليه (ع ٣٤).
  • الثالث: توبة أحد اللصين (ع ٣٩ – ٤٣).
  • والرابع: استيداع يسوع روحه في يدي أبيه (ع ٤٦).

سِمْعَانَ، رَجُلاً قَيْرَوَانِيّاً راجع الشرح متّى ٢٧: ٣٢.

٢٧ «وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلشَّعْبِ، وَٱلنِّسَاءِ ٱللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضاً وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ».

جُمْهُورٌ كَثِيرٌ هذا الجمهور ليس من تلاميذ المسيح بل هو إخلاط من الناس كالذين يخرجون من مدينة كبيرة لمشاهدة منظر غير عادي.

وَٱلنِّسَاءِ هؤلاء النساء لسن من المؤمنات اللواتي وقفن عند الصليب (ع ٤٩) لأن المذكورات هن من «بنات أورشليم» (ع ٢٨) وأولئك «من الجليل». ولا عجب أن وجدت النساء بين «جمهور كثير» في مثل تلك الحال. وكان منهن من هنّ رقيقات الأفئدة يبكين على يسوع ولعلهن لم يعلمن أن مجلس السبعين حكم على يسوع بالموت وشفقن عليه لأنه يهودي مثلهن ولأنهن ظنن علّة قتله قساوة الرومانيين. ويحتمل أنه كان بين أولئك النساء من شاهدن بعض معجزات المسيح في أورشليم وسمعن تعليمه وآمنّ به.

٢٨ «فَٱلْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ: يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ٱبْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ».

يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ تدل القرينة على أن المسيح أشار بنسبة البنات إلى أورشليم إلى أنهن عرضة للأتعاب والأوجاع والنوازل التي حكم الله بوقوعها على تلك المدينة.

لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ لم يفتكر المسيح في أوجاعه بل في الأحزان الآتية على الأمة اليهودية. إنه سكت في وقت الاستهزاء عليه والبصق في وجهه وجلده ولكن أنطقته دموع النساء ومعرفته ضيقاتهم المستقبلة.

بَلِ ٱبْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ لا ريب في أن بعضهنّ عشن أربعين سنة بعد ذلك واختبرن أهوال حصار المدينة ولكن أكثر تلك النوازل وقع على أولادهن (متّى ٢٧: ٢٥) وليست تلك النوازل وحدها موضوعاً يستحق البكاء بل كل الضيقات التي وقعت على نسلهن من ذلك الوقت إلى اليوم وهو متفرق بين شعوب الأرض. وأعظم من ذلك أن الله رفض اليهود من أن يكونوا شعبه المختار لخطاياهم وعدم إيمانهم وهم بلا ملك ولا كهنوت ولا مدينة ولا وطن وأعظم الكل الدينونة الهائلة في اليوم الأخير.

٢٩ «لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَٱلْبُطُونِ ٱلَّتِي لَمْ تَلِدْ وَٱلثُّدِيِّ ٱلَّتِي لَمْ تُرْضِعْ».

متّى ٢٤: ١٩ وص ٢١: ٣٣

هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي أشار بذلك إلى حوادث خراب مدينة أورشليم المستقبلة.

يَقُولُونَ أي يقول سكان أورشليم في أثناء الخراب.

طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ الخ كان اليهود يفرحون بالنسل أكثر من نساء الشعوب واعتبروا الأولاد علامة رضى الله عنهم فيكون من أوضح الأدلة على شدة مصابهم تطويبهم للعواقر فما كان محسوباً عندهم لعنة صار في ضيق تلك الأيام بركة. وخاطب المسيح النساء بأنباء المستقبل بما يؤثر في أفكارهن ويجعلهن شاعرات بشدة الضيق يومئذ.

٣٠ «حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: ٱسْقُطِي عَلَيْنَا وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا».

إشعياء ٢: ١٩ وهوشع ١٠: ٨ ورؤيا ٦: ١٦ و٩: ٦

الكلام هنا مبني على ما جاء في نبوة هوشع ١٠: ١٨ ويدل على وقوع نوازل عظيمة وخوف الناس وطلبهم الملاجئ. وأُشير بمثل هذا الكلام إلى أهوال يوم الدين (رؤيا ٦: ١٦ و١٧).

واختبأ اليهود في زمن خراب أورشليم في أسراب المدينة وأجواف الأرض التي تحت المدينة. ولعلّ في الكلام هنا إشارة إلى طلب الموت بغتة بسقوط الأسوار عليهم لأنهم فضلوا موت الفجاءة على الموت جوعاً وخوفاً ومرضاً.

٣١ «لأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِٱلْعُودِ ٱلرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هٰذَا، فَمَاذَا يَكُونُ بِٱلْيَابِسِ؟».

أمثال ١١: ٣١ وإرميا ٢٥: ٢٩ وحزقيال ٢٠: ٤٧ و٢١: ٣ و٤ و١بطرس ٤: ١٧

هذا كلام جارٍ مجرى المثل ومن المعلوم أن النار تحرق الحطب الأخضر بصعوبة ولكنها تحرق اليابس بسهولة إحراقاً شديداً. والمراد بالنار هنا قساوة الرومانيين وحماستهم في القتل والهدم والمراد بالعود الرطب المسيح البريء من الفتنة الذي أمر تلاميذه بالطاعة للحكام وحكم الوالي ببراءته. والمراد باليابس اليهود الذين عصوا بعد ذلك الرومانيين وأعلنوا الحرب عليهم وقتلوا عساكرهم. فإذا كان الرومانيون يقتلونني خلافاً للعدل وأنا بارّ فكم بالحري اليهود المذنبين. فإذا قتلوني وأنا لم أغظهم فكم بالأجدر يقتلوهم وهم يغيظونهم بطرق مختلفة.

وفسر بعضهم هذه الآية بأنه إذا ارتكب اليهود الفظائع مثل قتلهم إياي وخوفهم من الرومانيين يكفهم عن ارتكاب كل الشر فعن أي شر يعدلون بعد أن يلقوا عنهم نير الرومانيين ويسلموا أنفسهم إلى الشهوات.

وفسر بعضهم النار بعموم الضيقات والعود الرطب بالأتقياء والعود اليابس بالأشرار وأن مقصوده أنه إذا أذن الله في وقوع مثل تلك المصائب عليّ أنا التقي فكم بالحري يأذن في وقوعها عليكم أيها اليهود الأشرار حين يفتقدكم الله للدينونة.

٣٢، ٣٣ «٣٢ وَجَاءُوا أَيْضاً بِٱثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مُذْنِبَيْنِ لِيُقْتَلاَ مَعَهُ. ٣٣ وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ ٱلْمُذْنِبَيْنِ، وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَٱلآخَرَ عَنْ يَسَارِه».

إشعياء ٥٣: ١٢ ومتّى ٢٧: ٣٨، متّى ٢٧: ٣٣ ومرقس ١٥: ٢٢ ويوحنا ١٩: ١٧ و١٨

انظر الشرح متّى ٢٧: ٣٣ – ٣٨ ومرقس ١٥: ٢٠ – ٢٦.

٣٤ «فَقَالَ يَسُوعُ: يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَـهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ. وَإِذِ ٱقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ ٱقْتَرَعُوا عَلَيْهَا».

متّى ٥: ٤٤ وأعمال ٧: ٦٠ و١كورنثوس ٤: ١٢، أعمال ٣: ١٧ و١كورنثوس ٢: ٨، متّى ٢٧: ٣٥ ومرقس ١٥: ٢٤ ويوحنا ١٩: ٢٣

لم يذكر صلاة المسيح إلا لوقا. وتلفظ المسيح بها حين سمّره العسكر على الصليب. فلما قدّم نفسه ذبيحة عن الخطاة شفع فيهم أيضاً كالحبر الأعظم إتماماً لقول النبي «وشفع في المذنبين» (إشعياء ٥٣: ١٢).

ولم يتبين من الكلام أي الناس قصد المسيح في تلك الصلاة والأرجح أنه قصد العكسر الرومانيين الذين أطاعوا أمر قائدهم وهم لا يعرفون شيئاً. ولعلها أيضاً شملت جمهور الذين اشتركوا في قتله برضاهم عمل الرؤساء وبصراخهم قائلين اصلبه طوعاً لأمر الرؤساء لأنهم قيدوا لهم كالعميان ولم يعرفوا أن يسوع ابن الله ولذلك لم يشعروا بفظاعة الإثم الذي ارتكبوه. وهذا وفق قول بطرس «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ، كَمَا رُؤَسَاؤُكُمْ أَيْضاً» (أعمال ٣: ١٧). وقول بولس «لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ ٱلْمَجْدِ» (١كورثنوس ٢: ٨) وقلما تشمل رؤساء الكهنة الذين سمعوا تصريحه بأنه المسيح ابن الله ورفضوه عمداً. ولا بد من أنها تشمل كل الخطاة في كل عصر فإن خطاياهم علّة تعليق المسيح على الصليب.

ولنا في تلك الصلاة أربع فوائد:

  • الأولى: أنه يجب على المسيحيين أن يغفروا لأعدائهم ويصلّوا لأجلهم كما فعل سيدهم الإلهي.
  • والثانية: أنه يمكن أعظم الخطاة أن ينالوا مغفرة خطاياهم.
  • والثالثة: أن الذي يخطئ بجهالة إثمه أخفّ من إثم الذي يرتكب الخطأ عمداً.
  • والرابعة: أن هذه الصلاة تؤكد لنا أن المسيح يشفع الآن في السماء في جميع الخطاة الذين يطلبون شفاعته ودليل ذلك أنه لم ينفك يشفع وهو مسمّر على الصليب يقاسي آلام الموت فكم بالحري أنه لا ينفك كذلك وهو جالس عن يمين الله.

٣٥ – ٣٨ «٣٥ وَكَانَ ٱلشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ، وَٱلرُّؤَسَاءُ أَيْضاً مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: خَلَّصَ آخَرِينَ، فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ ٱلْمَسِيحَ مُخْتَارَ ٱللّٰهِ. ٣٦ وَٱلْجُنْدُ أَيْضاً ٱسْتَهْزَأُوا بِهِ وَهُمْ يَأْتُونَ وَيُقَدِّمُونَ لَـهُ خَلاًّ، ٣٧ قَائِلِينَ: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ ٱلْيَهُودِ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ. ٣٨ وَكَانَ عُنْوَانٌ مَكْتُوبٌ فَوْقَهُ بِأَحْرُفٍ يُونَانِيَّةٍ وَرُومَانِيَّةٍ وَعِبْرَانِيَّةٍ: هٰذَا هُوَ مَلِكُ ٱلْيَهُود».

مزمور ٢٢: ١٧ وزكريا ١٢: ١٠، متّى ٢٧: ٣٩ ومرقس ١٥: ٢٩، متّى ٢٧: ٣٧ ومرقس ١٥: ٢٦ ويوحنا ١٩: ١٩

ارجع إلى الشرح متّى ٢٧: ٤١ – ٤٤.

قَائِلِينَ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الخ (ع ٣٧) تعلّم العسكر ذلك من هزء الرؤساء به ومن العنوان الذي فوق الصليب وهو أن المسيح ملك اليهود.

وَكَانَ عُنْوَانٌ (ع ٣٨) انظر الشرح متّى ٢٧: ٣٨.

٣٩ «وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْمُذْنِبَيْنِ ٱلْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلاً: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!».

متّى ٢٧: ٤٤ ومرقس ١٥: ٣٢

وَاحِدٌ مِنَ ٱلْمُذْنِبَيْنِ ذكر متّى ومرقس ان اللصين جدفا على يسوع (متّى ٢٧: ٤٤ ومرقس ١٥: ٣٢) وأما لوقا فذكر هنا تجديف واحد منهما فقط ولا يلزم من ذلك التناقض بين الخبرين لاحتمال أنه بعد أن جدف الاثنان تغير فكر أحدهما فعدل عن التجديف إلى الصلاة.

يُجَدِّفُ عَلَيْهِ كان المستهزئون بيسوع كثيرين وهم العسكر ورؤساء اليهود والكتبة والشيوخ والعامة واقتدى بهم اللصان (متّى ٢٧: ٤١ – ٤٤) وتجديف اللص هو قوله في آخر هذه الآية.

إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ أي إن صدقت بدعواك. وهو كفر واستهزاء في صورة الشرط وإلا لم يكن تجديفاً..

فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا أي نجنا من الموت. فلم يطلب سوى النجاة من الموت الجسدي ولو طلب إلى المسيح نجاة نفسه من الهلاك الأبدي لاستجابه حالاً. فنرى من هذه أن ليس للآلام الجسدية في نفسها أن تلين القلب وتقود الإنسان إلى التوبة والإيمان وليس لمشاهدة المسيح على الصليب قوة تخليص ما لم تقترن نعمة الله والإيمان القلبي بذلك.

٤٠ «فَٱنْتَهَرَهُ ٱلآخَرُ قَائِلاً: أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ ٱللّٰهَ، إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هٰذَا ٱلْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟».

فَٱنْتَهَرَهُ ٱلآخَرُ نعلم من أنباء متّى أنه ابتدأ في التجديف كرفيقه (متّى ٢٧: ٤٤) ثم عدل عن ذلك إلى الصلاة والأرجح أن علّة ذلك التغير هي تأثير صبر المسيح وحلمه فيه والصلاة التي نطق بها المسيح من أجل قاتليه وقوة الروح القدس التي قادته إلى التوبة والإيمان.

أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ ٱللّٰهَ أي أيحسن أن تكون كسائر المشاهدين في عدم خوف الله وأنت ستقف سريعاً قدام ذلك الديّان الذي يعاقب كل الذين هزئوا بهذا الإنسان البار.

تَحْتَ هٰذَا ٱلْحُكْمِ بِعَيْنِهِ أي حكم الموت فإذاً لا حق لك بالنظر إلى ما أنت فيه أن تدينه أو تلومه. وكان يجب أن يحملك شعورك بمثل آلامه على الشفقة عليه ومخاطبته بكلام العزاء والتشجيع.

٤١ «أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ، لأَنَّنَا نَنَالُ ٱسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هٰذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّه».

أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ هما لصان علما أنهما تعدّيا الشريعة المدنية وأنهما استحقا بموجب تلك الشريعة العقاب الذي وقع عليهما وشهد ضمير الواحد منهما بأنهما مذنبان أمام الله ومستحقان عقابه أيضاً.

وَأَمَّا هٰذَا فَلَمْ يَفْعَلْ الخ إن قيل كيف علم ذلك قلنا لعله سمع نبأ يسوع قبلاً ولعله وقف في المحكمة للمحاكمة حين كان يسوع هنالك وسمع بيلاطس يقول «إن هذا الإنسان لم يفعل شيئاً ليس في محله» أو لعله استنتج ذلك من كلام الواقفين حول الصليب ومنظر المسيح حقق له أنّه بريءٌ.

ومن الغريب أنه لما قام أكثر الناس على المسيح أقام الله شاهداً ببراءته من أحد المصلوبين معه. وأقام الله أيضاً أربعة شهود غيره لم نكن نتوقع شهادتهم له في ذلك النهار عينه. الأول يهوذا الذي أسلمه والثاني امرأة بيلاطس والثالث بيلاطس الذي حكم عليه والرابع قائد العكسر الذي سمره على الصليب (ع ٤٧).

٤٢ «ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: ٱذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ».

ٱذْكُرْنِي يَا رَبُّ لم يسأل النجاة من الموت على الصليب لكنه ألقى نفسه على محبة المسيح ورحمته لكي يعتني به كما يحسن في عيينه.

مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ آمن بأن يسوع ملك وأنه سوف يأتي في مجد وسلطان وغير ذلك مما يليق بالملك. والأرجح أنه لم يدرك أن ملكوت المسيح روحي فظن كسائر اليهود أن ملكه أرضي زمني لكن مع ذلك كان إيمانه أقوى من إيمان الرسل أنفسهم.

وأظهر هذا اللص صحة توبته بما وجهه من كلمات التوبيخ إلى رفيقه وأبان صحة إيمانه بصلاته إلى المسيح في هذا العدد.

٤٣ «فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي ٱلْفِرْدَوْسِ».

هذا الثاني من الأقوال السبعة التي نطق بها المسيح على الصليب (انظر الشرح متّى ٢٧: ٥٠)، أخذ يسوع ساعة صلبه أن يمارس كل الوظائف الثلاث المتعلقة بكونه وسيطاً أي وظيفة نبي (ع ٢٠) ووظيفة الكاهن (ع ٣٤) ووظيفة الملك (ع ٤٢ و٤٣).

ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ هذا الكلام دليل على السلطة وغايته التأكيد.

إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي (ع ٤١) يتضمن هذا الوعد أن المسيح واللص يموتان وأن كليهما يكونان معاً في الفردوس. ويتحقق اللص أنه ينال الراحة والفرح سريعاً.

طلب اللص أن يسوع يذكره في وقت ما في المستقبل ولكن يسوع أكد له أن يذكره في ذلك اليوم عينه بأخذه إياه معه إلى الفردوس. ولا ريب أن وعد المسيح ونعمته المقترنة به عزى نفس اللص وقواها وهو متألم على الصليب إلى أن مات.

فِي ٱلْفِرْدَوْسِ هذا الاسم فارسي الأصل ومعناه جنة وأشار به اليهود إلى جنة عدن ثم أخذوا يشيرون به إلى مسكن المتوفين من الأتقياء قبل قيامة الأجساد والدينونة.

خاطب يسوع اللص بكلام اعتاده فيمكنه أن يدركه فأشار به إلى محل الراحة والأمانة والسعادة. فمعناه «حضن إبراهيم» (متّى ١٦: ٢٢). وذُكر أيضاً في إحدى رسائل بولس (٢كورنثوس ١٢: ٤ وفي سفر الرؤيا ٢: ٧) وفي هذه القصة عدة فوائد نذكر أربعاً منها:

  • الأولى: إن وسائط الخلاص تكون لبعض الناس «رائحة موت لموت» وللبعض «رائحة حياة لحياة» (٢كورنثوس ٢: ١٦). فكلا اللصين شاهدا المسيح مصلوباً ولكن واحداً منهما قسّى قلبه وظل يجدف والآخر ليّن قلبه وصلّى.
  • والثانية: أنه إن تاب أحد عن خطيته وآمن بالمسيح ولو في آخر ساعة من حياته نال الخلاص وإن لم تكن فرصة لأن يعتمد أو يتناول عشاء الرب أو أن يعمل أعمالاً صالحة. ولكن ليس في حادثة اللص ما يؤمن أحداً أن ينال الخلاص إن أبطأ عن التوبة إلى ساعة الموت لأنّه ليس من دليل على أن ذلك اللص عرف المسيح قبلاً وأنه حصل على فرصة للتوبة والإيمان قبل الساعة التي آمن فيها وتاب. وخلاص ذلك اللص عند الموت يعلّمنا أنه لا يحسن أن ييأس أحد من نوال الخلاص قرب موته. وعدم وجود غير هذه الحادثة يعلّمنا أن لا نطمع ونبطئ عن الاستعداد للموت.
  • والثالثة: أن نفوس المؤمنين تبقى حيّة بعد انفصالها عن الجسد وليست في سبات لا تشعر معه في شيء إلى يوم القيامة لكنها تدخل على أثر الموت محل المجد والسعادة. وإن غاية تلك السعادة وجودها مع المسيح (فيلبي ١: ٢٣ ويوحنا ١٧: ٢٤).
  • والرابعة: إن هذه القصة تحقق لنا عظمة قوة المسيح واستعداده لتخليص الخطاة لأنه في ساعة آلامه وموته كانت أذنه مفتوحة لسمع صلاة الإيمان ويده قوية على خطف الأسير من يد الشيطان ووفدائه وتقديسه وإقامته إلى فردوس الله.

فإذا كان قد أظهر قوته وحنوه في ساعة اتضاعه فكم بالحري يظهر مثل ذلك في حين ارتفاعه إذ «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ» (متّى ٢٨: ١٦ ويوحنا ٦: ٣٧).

٤٤ – ٤٦ «٤٤ وَكَانَ نَحْوُ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ، فَكَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى ٱلأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ. ٤٥ وَأَظْلَمَتِ ٱلشَّمْسُ، وَٱنْشَقَّ حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ مِنْ وَسَطِهِ. ٤٦ وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي. وَلَمَّا قَالَ هٰذَا أَسْلَمَ ٱلرُّوحَ».

متّى ٢٧: ٤٥ ومرقس ١٥: ٣٣، متّى ٢٧: ٥١ و مرقس ١٥: ٣٨، مزمور ٣١: ٥ و١بطرس ٢: ٢٣ و٤: ١٩، متّى ٢٧: ٥٠ ومرقس ١٥: ٣٧ ويوحنا ١٩: ٣٠

انظر الشرح متّى ٢٧: ٤٥ – ٥١ ومرقس ١٥: ٢٦ و٣٣ – ٣٨.

ٱنْشَقَّ حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ ذكر لوقا هذا بقطع النظر عن ترتيب الحوادث لأن ذلك كان على أثر موته كما يظهر من نبأي متّى ومرقس.

يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي (ع ٤٦) لم يذكر لوقا قول المسيح الثالث وهو على الصليب حين سلم أمه إلى يوحنا ليعتني بها ولا قوله الرابع «إيلي إيلي لما شبقتني؟» ولا قوله الخامس «أنا عطشان» ولا قوله السادس «قد أكمل» واقتصر على ذكر ثلاثة من أقوال المسيح على الصليب وهو الأول والثاني والسابع وهو المذكور هنا.

٤٧ «فَلَمَّا رَأَى قَائِدُ ٱلْمِئَةِ مَا كَانَ، مَجَّدَ ٱللّٰهَ قَائِلاً: بِٱلْحَقِيقَةِ كَانَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ بَارّاً!».

متّى ٢٧: ٥٤ ومرقس ١٥: ٣٩

راجع الشرح متّى ٢٧: ٥٢ – ٥٥.

مَجَّدَ ٱللّٰهَ كان قائد المئة رومانياً ومع ذلك أثرّ فيه ما رآه وسمعه في مشهد صلب المسيح حتى سبّح الإله الحق وعبده. ولعلّ الذي أثرّ فيه حلم المسيح وصلاته من أجل قاتليه ومخاطبته اللص التائب واستيداعه نفسه في يدي أبيه والآيات في عالم الطبيعة من كسوف الشمس وغيره.

كَانَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ بَارّاً نقل متّى ومرقس أنه قال «حقاً كان هذا ابن الإنسان» وأن أربعة من العسكر وافقوه على ذلك (متّى ٢٧: ٥٤ ومرقس ١٥: ٣٩). والأرجح أنه قال القولين على أن القول الثاني يستلزم القول الأول لأن اليهود أسلموه إلى الموت كمذنب لأنه قال أنه ابن الله ولأنه دعا الله مرتين وهو على الصليب أباه فتحقق القائد أنه بار وأنه تكلم بالحق وكان ما ادعاه وأنكره اليهود حقاً وهو أنه ابن الله.

٤٨ «وَكُلُّ ٱلْجُمُوعِ ٱلَّذِينَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِهٰذَا ٱلْمَنْظَرِ، لَمَّا أَبْصَرُوا مَا كَانَ، رَجَعُوا وَهُمْ يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ».

وَكُلُّ ٱلْجُمُوعِ صُلب يسوع في أسبوع عيد الفصح وكان عدد المجتمعين في أورشليم في مثل ذلك الوقت كثيراً فكان يبلغ أحياناً ألفي ألف أو ثلاثة آلاف ألف. وزاد عدد الذين احتشدوا لمشاهدة صلب يسوع باشتهار أنه نبي في كل تلك البلاد وبحدوث ظلمة غير عادية يوم ذلك الصلب بقيت ثلاث ساعات.

لَمَّا أَبْصَرُوا مَا كَانَ أي الزلزلة (متّى ٢٧: ٥٢) والظلمة (ع ٤٤) ولعلهم سمعوا نبإ انشقاق حجاب الهيكل (ع ٤٥).

يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ بياناً لحزنهم وتأنيب ضمائرهم (أعمال ٢: ٣٧) وخوفهم من وقوع دينونة الله عليهم لاشتراكهم في قتل ذلك البار (٢٣). والمرجح أن الأعداء كفوا عن الهزء بيسوع منذ بداءة الظلمة.

٤٩ «وَكَانَ جَمِيعُ مَعَارِفِهِ، وَنِسَاءٌ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَهُ مِنَ ٱلْجَلِيلِ، وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ يَنْظُرُونَ ذٰلِكَ».

مزمور ٣٨: ١١ ومتّى ٢٧: ٥٥ ومرقس ١٥: ٤٠ ويوحنا ١٩: ٢٥

جَمِيعُ مَعَارِفِهِ لا بد من أن عدد هؤلاء كان كثيراً وهم من الذين أتوا للعيد من الجليل وبيرية وقرى اليهودية حيث جال المسيح نحو ثلاث سنين ونصف سنة يبشر ويصنع معجزات.

نِسَاءٌ (متّى ٢٧: ٥٥) ليست هؤلاء النساء «بنات أورشليم» المذكورات في الآية الثامنة والعشرين.

وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ كذا فعل أكثرهم ولكن بعضهم اقتربوا إلى صليبه (يوحنا ١٩: ٢٥).

يَنْظُرُونَ ذٰلِكَ أي الآيات المقترنة بموته. وبقوا هنالك بعد ما انفض الجمع وعادوا بخوف إلى المدينة ولا بد من أن أولئك المعارف كانوا في خيبة وحيرة ورغبوا في القيام بواجبات دفن المسيح مع الخوف من إعلان رغبتهم.

دفن جسد المسيح ع ٥٠ إلى ٥٦

٥٠ – ٥٦ «٥٠ وَإِذَا رَجُلٌ ٱسْمُهُ يُوسُفُ، وَكَانَ مُشِيراً وَرَجُلاً صَالِحاً بَارّاً ٥١ هٰذَا لَمْ يَكُنْ مُوافِقاً لِرَأْيِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَهُوَ مِنَ ٱلرَّامَةِ مَدِينَةٍ لِلْيَهُودِ. وَكَانَ هُوَ أَيْضاً يَنْتَظِرُ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ. ٥٢ هٰذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ، ٥٣ وَأَنْزَلَـهُ، وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ، وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ مَنْحُوتٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ وُضِعَ قَطُّ. ٥٤ وَكَانَ يَوْمُ ٱلاسْتِعْدَادِ وَٱلسَّبْتُ يَلُوحُ. ٥٥ وَتَبِعَتْهُ نِسَاءٌ كُنَّ قَدْ أَتَيْنَ مَعَهُ مِنَ ٱلْجَلِيلِ، وَنَظَرْنَ ٱلْقَبْرَ وَكَيْفَ وُضِعَ جَسَدُهُ. ٥٦ فَرَجَعْنَ وَأَعْدَدْنَ حَنُوطاً وَأَطْيَاباً. وَفِي ٱلسَّبْتِ ٱسْتَرَحْنَ حَسَبَ ٱلْوَصِيَّةِ».

متّى ٢٧: ٥٧ ومرقس ١٥: ٤٢ ويوحنا ١٩: ٣٨، مرقس ١٥: ٤٣ وص ٢: ٢٥ و٢٨، متّى ٢٧: ٥٩ ومرقس ١٥: ٤٦، متّى ٢٧: ٦٢، ص ٨: ٢ مرقس ١٥: ٤٧، مرقس ١٦: ١، خروج ٢٠: ١٠

أنظر الشرح متّى ٢٧: ٥٧ – ٦١ ومرقس ١٥: ٤٢ – ٥٧.

مُشِيراً (ع ٥٠) أي عضواً من أعضاء مجلس السبعين.

رَجُلاً صَالِحاً بَارّاً (ع ٥٠) زاد لوقا هذين الوصفين على أنباء متّى ومرقس فإنهما اقتصرا على ذكر وظيفته من سائر صفاته.

لَمْ يَكُنْ مُوافِقاً لِرَأْيِهِمْ (ع ٥١) أي لرأي قيافا (يوحنا ١١: ٤٩) ولرأي المجلس أي قتله بعد إقامته لعازر من الموت (يوحنا ١١: ٥٣) ولاتفاقهم مع يهوذا الاسخريوطي على تسليمه ولحكمهم عليه في المجلس وشكواهم إياه إلى بيلاطس.

يَنْتَظِرُ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ كزكريا وسمعان الشيخ. انظر الشرح (مرقس ١٥: ٤٣).

وزاد يوحنا في نبإ يوسف على ما أنبأ به غيره من البشيرين أنه «كان تلميذاً ليسوع ولكن خفية لسبب الخوف من اليهود» وأن نيقوديموس كان شريكه في دفن جسد المسيح (يوحنا ١٩: ٣٨).

يَوْمُ ٱلاسْتِعْدَادِ (ع ٥٤) أي يوم الجمعة. انظر الشرح (متّى ٢٧: ٥٢ ومرقس ١٥: ٤٢).

وَٱلسَّبْتُ يَلُوحُ أي قرب غروب يوم الجمعة والسبت يبتدئ من الغروب (لاويين ٢٣: ٣٢).

والمدة بين موت المسيح والغروب نحو ٣ ساعات. وفي تلك المدة ذهب رؤساء الكهنة والفريسيون إلى بيلاطس وسألوه فرقة من العسكر ليحرسوا القبر فأعطاهم وخُتم القبر (متّى ٢٧: ٦٢ – ٦٦).

وَتَبِعَتْهُ نِسَاءٌ (ع ٥٥) ذكر متّى ومرقس أسماء بعض هؤلاء النساء (متّى ٢٧: ٥١ ومرقس ١٥: ٤٧). وأظهرت هؤلاء النساء شجاعتهن ومحبتهن ليسوع بما فعلن.

وَأَعْدَدْنَ حَنُوطاً (ع ٥٦) على قدر ما استطعن قبل غروب يوم الجمعة. واشترين ما نقصت الحنوط من اللوازم يوم السبت بعد الغروب أي بداءة يوم الأحد (مرقس ١٦: ١) وظهر مما فعلنه أنهن لم يأملن قط قيامة المسيح في اليوم الثالث بعد موته.

حَسَبَ ٱلْوَصِيَّةِ اي الوصية الرابعة من وصايا الله العشر وهي «اُذْكُرْ يَوْمَ ٱلسَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ» الخ (خروج ٢٠: ٨).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى