إنجيل لوقا | 16 | الكنز الجليل
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل
شرح إنجيل لوقا
للدكتور . وليم إدي
الأصحاح السادس عشر
مثل وكيل الظلم ع ١ إلى ١٣
١ «وَقَالَ أَيْضاً لِتَلاَمِيذِهِ: كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَـهُ وَكِيلٌ، فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَـهُ».
لِتَلاَمِيذِهِ أي للمؤمنين به على سمع الفريسيين أيضاً (ع ١٤) لا للاثني عشر فقط. وكان بعض أولئك التلاميذ من العشارين والخطاة. وكان ما سبق في ص ١٥ موجهاً خصوصاً إلى الكتبة والفريسيين المتذمرين عليه.
ولم يذكر هذا المثل إلا لوقا وغايته بيان حكمة استعداد الإنسان لما تحتاج إليه نفسه في المستقبل أي أن يتخذ الخيرات الزمنية وسيلة إلى السعادة الأبدية.
إِنْسَانٌ غَنِيٌّ ليس لهذا من معنى روحي. فالمقصود تمثيل إنسان دنيوي يقيس كل أمر بمقياس أهل العالم. والظاهر من سياق الحديث أن هذا الإنسان الغني لم يتولَّ أمور أملاكه بل سلمها إلى وكيل يعتني بها ويجمع له حاصلاتها.
وَكِيلٌ ليس لهذا معنى روحي أيضاً. وكانت نسبته إلى الغنى كنسبة أليعازر لإبراهيم (تكوين ٢٤: ٢ – ١٢) وكنسبة يوسف إلى فوطيفار (تكوين ٣٩: ٤) فأخذ من الفعلة ما لسيده من الغلال وحاسب السيد بها. وكان أكثر أمثاله الوكلاء عبيداً لكن هذا كان حراً (ع ٣ و٤) وكانت وظيفته مما تمكنه من اختلاس ما شاء لأنه أُمِّن على أموال كثيرة وعين سيده لم ترقبه دائماً.
فَوُشِيَ بِهِ لم يصرّح المثل أحقّة كانت تلك الوشاية أم باطلة والأرجح أنها حقّة لأنه لم ينكرها وتصرفه بعد ذلك أثبت أنه غير أمين على مال سيده.
بَذِّرُ أَمْوَالَـهُ ينفقها على لذاته بدل أن يعطيها سيده.
٢ «فَدَعَاهُ وَقَالَ لَـهُ: مَا هٰذَا ٱلَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ».
مَا هٰذَا ٱلَّذِي أَسْمَعُ ليس هذا استفهاماً عن حقيقة الوشاية بل تعجباً وتوبيخاً من أمر واقع لا يستطيع الوكيل إنكاره.
عَنْكَ بعد أن اتكلت عليك بكل ثقة.
أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ الخ هذا دليل على أنه لم يكن للسيد من وسيلة إلى الاستيلاء على ما له إلا بطرد الوكيل من وكالته وأمره إياه بتقديم صورة الحساب.
وليس في تلك المعاملة من إشارة إلى معنى روحي كالموت أو يوم الدينونة. إنما هي دلالة على أن الخيانة ليست بنافعة للإنسان ولو في هذا العالم لأنها عرضة للظهور أبداً وخسران للخائن إذ يضيع بها مركزه وصيته.
٣ «فَقَالَ ٱلْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي ٱلْوَكَالَةَ. لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ».
مَاذَا أَفْعَلُ أظهر هذا الوكيل في حيرته واضطرابه الحكمة. أولاً بأنه شغل وقتاً بتأمله حسناً في ما يجب أن يعمله. فصار بذلك مثالاً لأبناء النور لأنه ما من شيء أضر من العمل بلا روية.
لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ أي لم أتعود العمل الشاق كالأجير الذي ينقب الأرض وليس لي قدرة على تحصيل أسباب المعاش بمثل هذا العمل.
وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ منعته كبرياؤه أن يحصّل ما يحتاج إليه بالتسول بعد شرف وظيفته ولا عذر له في الاستعطاء من آفة أو مرض ومع ذلك لم يستح أن يسرق مال سيده ففضل أن يسميه الناس لصاً على أن يسموه مستعطياً.
٤ «قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ، حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ عَنِ ٱلْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ».
قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ هذا يدل على انتهاء حيرته واضطرابه إذ خطر على باله المهرب من ذلك فعزم حالاً على الجري فيه. وكان يجب أن يقوده كشف خيانته وخسارته مركزه إلى التوبة والاعتراف بذنبه لسيده ورد ما اختلسه. لكنه عزم بدلاً من ذلك على الخيانة إلى آخر فرصة بقيت له وعلاوة على تبذير مال سيده سابقاً اعتمد نهبه أيضاً لسبيل نفعه في المستقبل وانتقاماً من سيده على طرده إياه.
ولنا من ذلك أن الخطية الواحدة تقود إلى خطية أخرى طبعاً وأن الذي يبتدئ يخون في القليل تقوده شهواته وإبليس أخيراً إلى أن يخون في الكثير ما لم يخطفه روح الله من شفير هاوية الهلاك.
٥ «فَدَعَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِي سَيِّدِهِ، وَقَالَ لِلأَوَّلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟».
من الواضح أن ما جرى هنا كان في غيبة السيد قبل أن سلم الوكيل إليه الحساب والصكوك التي على أرباب العمل في عقاره. ولم يكن سبب سؤاله لمديوني سيده عن مقدار ديونهم جهله إياه لأن الصكوك في يده لكنه قصد أن ينبه المديونين على ذلك المقدار.
٦ «فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَـهُ: خُذْ صَكَّكَ وَٱجْلِسْ عَاجِلاً وَٱكْتُبْ خَمْسِينَ».
إشعياء ٥: ١ وحزقيال ٤٥: ١٠ و١١ و١٤
مِئَةُ بَثِّ البث مكيال عبراني للسوائل يساوي الإيفة أو نحو اثنتين وعشرين أقة وثلاثة أرباع الأقة ولا نعلم هل كان هذا كل ما كان عليه من الدين بعد المحاسبة أو كان المرتّب عليه كل سنة من أجرة الأرض وهذا هو الأرجح.
زَيْتٍ كانوا يأكلون الزيت وقتئذ ويصطبحون به ويتّجرون كما في هذه الأيام. والظاهر أن هذا الرجل كان مستأجراً من ذلك السيد أرضاً فيها أشجار الزيتون وما ذكره كان نصيب السيد من غلتها.
خُذْ صَكَّكَ كان الصك في يد الوكيل فأعطاه المستأجر لكي يبدله بغيره ويكتب خمسين بدل المئة ويصدقه الوكيل بخطه أو توقيعه.
عَاجِلاً أي قبل أن يأخذ سيده الصكوك منه كما أنذره. ولم يكن لذلك الوكيل حق في تغيير هذا الصك فكان عليه أن يصون كل حقوق سيده لكنه خسره نصف دخله من الزيت وربح الأجير ذلك وجعله ممنوناً له وشريكاً في الاختلاس حتى لا يستطيع أن يشكوه إلى سيده في ما بعد إذا ثقل عليه. فارتكب إثماً فوق إثم فإنه اختلس وجعل غيره مختلساً.
٧ «ثُمَّ قَالَ لآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَـهُ: خُذْ صَكَّكَ وَٱكْتُبْ ثَمَانِينَ».
١ملوك ٤: ٢٢ و٢أيام ٢: ١٠ و٢٧: ٥ وحزقيال ٤٥: ١٣
ثُمَّ قَالَ لآخَرَ هذا فلاح استأجر من السيد أرضاً للزرع.
مِئَةُ كُرِّ الكرّ هو الحومر ويعدل نحو مئة وأربعين أقة.
ٱكْتُبْ ثَمَانِينَ الأرجح أن ذلك كان أجرة الأرض في السنة. وفعل الوكيل هنا كما فعل في السابق اختلس وجعل غيره يختلس. فخسر السيد خُمس غلة الأرض من الحنطة.
ولم يذكر المثل ما فعله الوكيل لسائر الفعلة بل ترك للقارئ أن يقيس ما بقي على ما مرّ.
٨ «فَمَدَحَ ٱلسَّيِّدُ وَكِيلَ ٱلظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ، لأَنَّ أَبْنَاءَ هٰذَا ٱلدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ ٱلنُّورِ فِي جِيلِهِمْ».
يوحنا ١٢: ٣٦ ورومية ١٣: ١٢ وأفسس ٥: ٨ و١تسالونيكي ٥: ٥
فَمَدَحَ ٱلسَّيِّدُ وَكِيلَ ٱلظُّلْمِ لينتبه القارئ أن الذي مدح الوكيل ليس هو المسيح بل سيد الوكيل. ولم يصوب المسيح ذلك الوكيل بدليل أنه دعاه وكيل الظلم. والسيد الذي مدحه هو أحد «أبناء هذا الدهر». ولم يذكر المثل بأي واسطة علم السيد بتغيير الصكوك أو هل عرف كل ذلك بالتفصيل إنما رأى بعد طرد وكيله من الوكالة أن الفعلة قبلوه في بيوتهم واعتنوا به فحكم بأن ذلك لا يكون إلا باتفاق بينهم وبينه قبل عزله ولا يكون ذلك إلا بواسطة الاختلاس.
فأظهر الوكيل بما أتاه صفتين من صفاته الخيانة والحكمة. أما الحكمة فتدبيره وسائط راحته في المستقبل. ولم يذكر في المثل شيء من قول السيد في أمر الخيانة لكنه اقتصر على أنه مدح الوكيل على حكمته.
أَبْنَاءَ هٰذَا ٱلدَّهْرِ أي الذين يحيون لهذا الدهر وحده ويختارون نصيبهم في هذا العالم وتتعلق قلوبهم بالمقتنيات الدنيوية أحكم في اكتساب المال من المسيحي في اكتساب الكنز السماوي. فليس المعنى أن الدنيويين أحكم من المسيحيين في الأمور الدنيوية.
أَبْنَاءِ ٱلنُّورِ هذا لقب للمسيحيين لأنهم يسيرون في نور كتاب الله وروحه القدوس ولأنهم متنورون من السماء ولأنهم يحبون النور ويتبعونه (يوحنا ١٢: ٣٦ و١تسالونيكي ٥: ٥ وأفسس ٥: ٨). إن الله نور والمسيحيين هم أبناء الله فلذلك هم أبناء نور (١يوحنا ١: ٦). وسمّوا أبناء النور مقابلة لأبناء هذا الدهر الذين أعمالهم أعمال الظلمة كعمل وكيل الظلم المذكور.
فِي جِيلِهِمْ أي في معاملتهم لأمثالهم من محبي العالم. ومعنى الآية كلها وهي قوله «لأن أبناء هذا الدهر الخ» إن أهل الدنيا يظهرون الحكمة في أمورهم الدنيوية أكثر مما يظهره المسيحيون منهم في الأمور الروحية. وذلك في ثلاثة أشياء:
- الأول: العزم الثابت. قال وكيل الظلم «قد علمت ماذا أفعل» وبقي على ذلك إلى النهاية.
- الثاني: استنباط الوسائل إلى بلوغ الغاية.
- الثالث: الغيرة والاجتهاد في استعمال تلك الوسائل بانتهاز الفرص والانتباه. ومن المعلوم أن أهل هذا العالم يجتهدون في اكتساب المال أكثر مما يجتهد المسيحيون في خلاص نفوسهم.
٩ «وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ٱصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ ٱلظُّلْمِ، حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي ٱلْمَظَالِّ ٱلأَبَدِيَّةِ».
دانيال ٤: ٢٧ ومتّى ٦: ١٩ و١٩: ٢١ وص ١١: ٤١ و١٢: ٣٣ و١تيموثاوس ٦: ١٧ إلى ١٩
أَنَا أَقُولُ لَكُمُ أي أيها التلاميذ (خلافاً لقول وكيل الظلم لنفسه) أنتم أولاد النور ولا شركة لكم في أعمال الظلمة والخيانة ومع ذلك تقدرون أن تتعلّموا شيئاً من أعمال أولئك الخائنين.
ٱصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ لم يقل المسيح اصنعوا أموال الظلم أصدقاء أي أحببوها بل اصنعوا الأصدقاء بواسطتها. ولم يقل أخزنوا الأموال أو اقتنوا بواسطتها البيوت والحقول والثياب الفاخرة وأولموا الولائم لكن قال اصنعوا «أصدقاء». وقوله «اصنعوا لكم أصدقاء» مبني على قول وكيل الظلم في العدد الرابع فإنه قصد أن يجعل له أصدقاء بواسطة مال سيده ليقبلوه في بيوتهم. وقال المسيح أنه يجب على المسيحيين أن يتمثلوا به في استعمال أمواله لكي يحصلوا على السعادة المستقبلة لكن يأتون ذلك بوسائط عادلة. فإن أنفقنا أموالنا على فقراء المسيح وسددنا حاجاتهم جعلناهم أصدقاءنا إلى الأبد. وإن أنفقنا مالنا في طريق يؤدي إلى خلاص النفوس الهالكة كان الذين خلصوا بواسطتنا أصدقاءنا في السماء. وعلى هذا يكون الملائكة الذين يفرحون بتوبة كل خاطئ يتوب أصدقاءنا لأننا وسطاء توبتهم. والمسيح الذي مات لأجلهم يكون صديقاً لنا وكذلك الآب الذي أحبهم وأرسل المسيح ليخلصهم.
مَالِ ٱلظُّلْمِ أي المال المعتاد. وأضيف إلى الظلم لا لأن كل مال نتيجة الظلم لكن لكثرة ما يكون كذلك. وسمي كذلك مقابلة بالمال الباقي. ولأن المال فان خادع يعِد الإنسان بالسعادة ولم يُنله إياها. ومعنى الجملة كلها وفي قوله «اصنعوا لكم الخ» انفقوا مالكم بطريق يكون بها شاهداً لكم في السماء يوم الدين لا عليكم. فيكون ذلك إن أنفقتموه على الفقراء إكراماً لله وإن أنفقتموه في سبيل انتشار الإنجيل وخدمة الله وكنيسته وخلاص العالم. فتعلّمنا صريحاً أن الإنسان يمكنه أن ينفق ماله في سبيل يزيد بها سعادته السماوية لا بأن يشتري بماله رضى الله ومغفرة الخطايا ومنزلة في السماء فيمكننا أن نزيد سعادتنا السماوية بواسطة أمانتنا في التصرف بأموالنا. وذلك وفق قول المسيح «ٱكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي ٱلسَّمَاءِ» (متّى ٦: ٢٠) وقول الرسول «وَأَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ فِي أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، وَأَنْ يَكُونُوا أَسْخِيَاءَ فِي ٱلْعَطَاءِ… مُدَّخِرِينَ لأَنْفُسِهِمْ أَسَاساً حَسَناً لِلْمُسْتَقْبَلِ» (١تيموثاوس ٦: ١٨ و١٩).
حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ أي متم.
يَقْبَلُونَكُمْ أي الأصدقاء المذكورون آنفاً الذين ربحتموهم بواسطة أموالكم فإن كانوا من الفقراء الذي أنفتقتم عليهم أم ممن اهتدوا إلى الخلاص بواسطة ما أنفقتموه على المقاصد الدينية فهم ينتظرونكم في السماء ليرحبوا بكم. (فالمثل صوّر لهم كل من الفريقين توفّي قبلهم). ولكن ينبغي أن نعلم أن أولئك المحسن إليهم لا يفتحون أبواب السماء للمحسنين إنما يرحبون بهم وهم داخلون بواسطة إيمانهم بالمسيح.
ٱلْمَظَالِّ ٱلأَبَدِيَّةِ أي السماء ونعتت هذه المظال بأنها أبدية مقابلة لها بالمساكن الأرضية الزائلة.
اتخذ وكيل الظلم بخيانته وحكمته أصدقاء دنيويين قبلوه في بيوتهم الأرضية (ع ٤) فيجب على المسيحيين أن يتخذوا بتصرفهم في الأموال بالحكمة والعدل أصدقاء سماويين يقبلونهم في المواطن السماوية.
وخلاصة مثل وكيل الظلم ثلاثة أمور. الأول: والأعظم وجوب النظر في المستقبل. فإن كان الأشرار يبذلون ما في وسعهم من الحكمة بغية اقتناء البيوت الزائلة بالخداع فكم بالحري يجب على تلاميذ المسيح أن يستفرغوا كل ما عندهم من الحكمة لكي يقتنوا المساكن الباقية. والثاني وجوب إنفاق المال بالحكمة فإن كان ذلك الوكيل الشرير تصرف في ما وصلت إليه يده من المال في سبيل أدت به إلى غايته اللئيمة فكم يجب على تلاميذ المسيح أن يتصرفوا في أموالهم بالحكمة لكي يربحوا الخير الأبدي. لكن يجب أن لا يستنتج من ذلك أن الخطأة يستطيعون الحصول على المغفرة والسماء بواسطة صدقاتهم فخطاب المسيح كان لتلاميذه الذين هم أبناء النور وورثة السماء بإيمانهم به. والثالث وجوب أن يحسب كل إنسان نفسه وكيل الله تعالى وأن ماله ليس له بل لربه. وإن لم يصح أن نحسب المراد بالغني الله. ووكيل الظلم كل إنسان. وأنه لا بد من أن تأتي ساعة يدعو السيد فيها كل إنسان للمحاسبة. فمن أسمى طرق الحكمة أن نستعمل مال الله الذي وكله إلينا في طريق ترضيه تعالى وتؤدي بنا إلى السعادة الأبدية ويجب أن نشكره تعالى على أنه أوجد طريقاً نستطيع بها أن نبدل مال الظلم بمال الحق والكنز الفاني بالكنز الباقي.
١٠ «اَلأَمِينُ فِي ٱلْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضاً فِي ٱلْكَثِيرِ، وَٱلظَّالِمُ فِي ٱلْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضاً فِي ٱلْكَثِيرِ».
متّى ٢٥: ٢١ وص ١٩: ١٧
أوصى المسيح تلاميذه في الكلام السابق بأن يتصرفوا في أموالهم بالحكمة وأوصى في هذه الآية واثنتين غيرها بالأمانة لكي لا يظن أحد أن المسيح مدح خيانة وكيل الظم ولكي لا يتوهم السامع أن المال ذو شأن عظيم في نفسه. والكلام في هذه الآية جار مجرى المثل. فقد غلب أن الذي يصدق في الأمور الصغيرة يصدق في الكبيرة والذي يخدع ويكذب في الأولى يخدع ويكذب في الأخرى إذا مكنته الفرصة. لأن تصرفه في الأمور الصغيرة التي لا يفحص عنها يظهر طبيعته الحقيقية ومبادئه التي يسلك بمقتضاها.
فِي ٱلْقَلِيلِ المقصود بذلك الأمور العالمية كالمال وهي مما لا قيمة له بالنسبة إلى البركات الروحية التي عبّر عنها هنا «بالكثير». وغاية التعليم في هذه الآية أن الإنسان الأمين حق الأمانة في الزمنيات يكون أميناً في الروحيات. والأمين للناس يكون أميناً لله. وأن الله يمتحن الإنسان بواسطة الأمور الدنيوية الزهيدة لكي يتبين هل هو مستحق أن يدخل ملكوت السماء ويؤمن على غناه. وهذا مثل ما جاء في متّى ٢٥: ٢١ ولوقا ١٩: ١٧.
١١ «فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَالِ ٱلظُّلْمِ، فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى ٱلْحَقِّ؟».
مَالِ ٱلظُّلْمِ (انظر ع ٩) أي مال هذا العالم وسماه مال الظلم لان كثيراً منه يُجمع ظلماً ويُنفق باطلاً ويُحبس بخلاً ولأنه يخدع مقتنيه ويقود إلى الخطية وليس فيه خير بالذات وكله فانٍ.
مَنْ يَأْتَمِنُكُمْ أي لا أحد يأتمنكم لأنه لا أحد غير الله يقدر على أن يعطي الإنسان الغنى الحقيقي ويستحيل أن يعطيه غير أمين على المال الدنيوي. ولأن الذي لم يتصرف في أمور هذا العالم بأمانة وصدق وسخاء واستقامة ليس من الأتقياء ولا من الراجين دخول السماء.
ٱلْحَقِّ اي الغنى الحقيقي الذي هو رضى الله وكنز السماء (متّى ٦: ١٩ و٢٠) وميراث القديسين والملكوت المعد منذ تأسيس العالم. ويعطينا الله مال الظلم ليتبين هل نحن مستحقون نوال «الحق» أي المال الحق.
١٢ «وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَا هُوَ لِلْغَيْرِ، فَمَنْ يُعْطِيكُمْ مَا هُوَ لَكُمْ؟».
هذه الآية تقرير للسابقة وتفسير لها.
مَا هُوَ لِلْغَيْرِ هذا ما أشار إليه في الآية السابقة بمال الظلم وسُمي ما هو للغير لأن لا أحد من الناس يحق له ادعاء أن ماله لنفسه فالمال لله والإنسان وكيله ملزوم أن ينفقه كما أمره الله. وسُمي كذلك أيضاً لأنه ينتقل أبداً من إنسان إلى إنسان فلا يستطيع أن يمسكه وهو حي لأن السوس والصدأ يأكلانه وأن السارقين يسرقونه ولا أن يأخذه وهو ميت (متّى ٦: ١٩ و١تيموثاوس ٦: ١٩).
مَا هُوَ لَكُمْ أي الغنى السماوي الذي يبقى لكم إلى الأبد بعد أن يهبه الله لكم. وعبّر عنه بطرس بقوله «مِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ» (١بطرس ١: ٤).
ويجري السادة الأرضيون على هذا المبدإ وهو أنهم يجربون أمانة خدمهم بالأمور الحقيرة قبل أن يأتمنوهم على الأمور العظيمة والله السيد الأعظم كذلك. فالمسئلة هنا هي أنه كيف يقدر الله أن يعطينا كنزاً سماوياً يبقى لنا إلى الأبد ونحن لسنا بأمناء على الكنز الأرضي الذي أُعطيناه عارية وقتاً قصيراً والمحقق أنه لا يعطينا إياه لأنه يعرف أننا لا نؤتمن عليه.
١٣ «لاَ يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ ٱلْوَاحِدَ وَيُحِبَّ ٱلآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ ٱلْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ ٱلآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا ٱللّٰهَ وَٱلْمَال».
متّى ٦: ٢٤
قد مرّ إيضاح ذلك في الشرح متّى ٦: ٢٤. أتى المسيح بهذا أولاً في وعظه على الجبل وكرره هنا ليبين ما هي الأمانة التي يطلبها وهي اختيار الله رباً عظيماً لا المال أو ليدفع وهم من يظن أنه يقدر أن يرضي في وقت واحد إله هذا العالم وإله السماء ويتمتع بغنى كل من الأرض والسماء وليظهر لتلاميذه ما يجب عليهم من جهة المال الذي يأتمنهم الله عليه فلا يجوز أن يخدموه باعتبار أنه إلههم بل يجب أن يستعملوه في خدمة إله السماء حسب أمره.
توبيخ المسيح للفريسيين ع ١٤ إلى ١٨
١٤ «وَكَانَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضاً يَسْمَعُونَ هٰذَا كُلَّهُ، وَهُمْ مُحِبُّونَ لِلْمَالِ، فَٱسْتَهْزَأُوا بِه».
متّى ٢٣: ١٤
وَكَانَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضاً يَسْمَعُونَ وجه المسيح كلامه إلى تلاميذه (ع ١) ولكن الفريسيين كانوا حاضرين فسمعوه.
هٰذَا كُلَّهُ أي كل الكلام على قلة قيمة المال.
وَهُمْ مُحِبُّونَ لِلْمَالِ كانت محبة المال من أخص صفات الفريسيين.
فَٱسْتَهْزَأُوا بِهِ لأنهم حسبوا كلام المسيح توبيخاً لهم على حبهم المال. وعلّة استهزائهم ما قاله المسيح في الآية التاسعة في استعمال المال لخير الغير لكي يكون المحسنون أغنياء في السماء وما قاله في الآية الثانية عشرة من أن أموال الناس ليست لهم وأنهم وكلاء الله على ماله وما قاله في الآية الثالثة عشرة من خدمة السيدين وتعذر أن يحب الإنسان الله والمال معاً وعلى زعم الفريسيين أن المسيح لم يصدق بذلك لأنهم تحققوا أنهم يدخلون السماء وينالون رضى الله مع فرط محبتهم للمال. ولا عجب من استهزائهم لأن مبادئ الحكمة السماوية يظهر أبداً للدنيويين أنها جهالة.
١٥ «فَقَالَ لَـهُمْ: أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تُبَرِّرُونَ أَنْفُسَكُمْ قُدَّامَ ٱلنَّاسِ! وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ يَعْرِفُ قُلُوبَكُمْ. إِنَّ ٱلْمُسْتَعْلِيَ عِنْدَ ٱلنَّاسِ هُوَ رِجْسٌ قُدَّامَ ٱللّٰهِ».
ص ١: ٢٩، مزمور ٧: ٩، ١صموئيل ١٦: ٧
تُبَرِّرُونَ أَنْفُسَكُمْ ادعى الفريسيون القداسة وقلوبهم مملوءة بخلاً وطمعاً واجتهدوا في أن يظهروا للناس أنهم أبرار ولم يسألوا عن أحوال قلوبهم قدام الله.
ٱللّٰهَ يَعْرِفُ قُلُوبَكُمْ هذا وفق ما جاء في ١صموئيل ١٦: ٧ ومزمور ٧: ٩ وإرميا ١٧: ١٠. فالناس ينظرون أعمال غيرهم ويسمعون أقوالهم وينخدعون من جهة طبيعة الإنسان الحقيقية لكن الله ينظر إلى القلب ويعلم الحقيقة فكأن المسيح قال لهم أن الله يعرف رياءكم. وهذا تحذير لهم وتنبيه على أن تقواهم الظاهرة باطلة في عيني الله لأنه تعالى لا يُخدع.
إِنَّ ٱلْمُسْتَعْلِيَ عِنْدَ ٱلنَّاسِ الخ ليس المعنى أن كل ما يعتبره الناس ويفتخرون به يكرهه الله بل أن ما يفعله الإنسان بنيّة رديئة هو رجس عند الله وإن كان ذلك العمل حسناً بالذات. ومن أمثلة ذلك أكثر أعمال الفريسيين لأنهم كانوا يأتون صلواتهم وصدقاتهم ويمارسون أحوالهم لكي يراهم الناس.
وقول المسيح حق لأن الله وحده يعرف القلب فهو يحكم بخلاف ما يحكم الناس لأنهم لا يستطيعون أن يدركوا سوى الظواهر. وكان الفريسيون يرون حبهم المال أمراً حسناً مع أنه عند الله عبادة أوثان (كولوسي ٣: ٥) ورجس قدامه. وتقواهم الظاهرة رآها الناس شيئاً ورآها الله شيئاً آخر.
١٦ «كَانَ ٱلنَّامُوسُ وَٱلأَنْبِيَاءُ إِلَى يُوحَنَّا. وَمِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ يُبَشَّرُ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَغْتَصِبُ نَفْسَهُ إِلَيْهِ».
متّى ٤: ١٧ و١١: ١٢ و١٣ وص ٧: ٢٩ و١٥: ١
انظر الشرح متّى ١١: ١٢.
العلاقة بين بعض أقوال المسيح هنا والبعض ليس بواضح. وعبّر لوقا عنها في هذا الفصل بالإيجاز.
كَانَ ٱلنَّامُوسُ وَٱلأَنْبِيَاءُ إِلَى يُوحَنَّا معنى ذلك أن كل ما كتب وقيل في زمن العهد القديم من أول نبي إلى آخر أنبيائه أي من موسى إلى يوحنا المعمدان تمهيد لملكوت الله في العصر المسيحي.
وَمِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ أي منذ مجيء يوحنا إلى الآن وهو المدة التي بشر فيها يسوع وتلاميذه بملكوت الله.
كُلُّ وَاحِدٍ أي كثيرون من كل صنف حتى أدنى العشارين والخطاة.
وقول المسيح في هذه الآية توبيخ للفريسيين فكأنه قال أنتم تفتخرون بناموس العهد القديم وطقوسه وتتكلون عليه وتظنون أنكم داخل ملكوت الله وأن العشارين والخطاة خارجه والحق أنهم سبقوكم إليه ودخلوا وبقيتم أنتم في الخارج.
١٧ «وَلٰكِنَّ زَوَالَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِ».
مزمور ١٠٢: ٢٦ و٢٧ وإشعياء ٤٠: ٨ و٥١: ٦ ومتّى ٥: ١٨ و١بطرس ١: ٢٥
انظر الشرح متّى ٥: ١٨.
أظهر المسيح أنه لم يأت لكي يبطل الناموس بما قاله هنا وهو كلامه على أبديته فدفع بذلك أعظم اعتراضات الفريسيين عليه.
١٨ «كُلُّ مَنْ يُطَلِّقُ ٱمْرَأَتَهُ وَيَتَزَوَّجُ بِأُخْرَى يَزْنِي، وَكُلُّ مَنْ يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ مِنْ رَجُلٍ يَزْنِي».
متّى ٥: ٣٢ و١٩: ٩ ومرقس ١٠: ١١ و١كورنثوس ٧: ١٠ و١١
انظر الشرح متّى ٥: ٣١ و٣٢ و١٩: ٣ – ٩.
لعلّ العلاقة بين هذه الآية والتي قبلها تبيينه للفريسيين بطلان برهم الذاتي (ع ١٥). فكأنه قال لهم أنتم متكلون على الناموس لتتبرروا وتخلصوا فانظروا أنكم مخالفون لذلك الناموس في أمر الطلاق وقس على ذلك ما بقي.
ولعلّ المسيح قصد بهذا القول أن يبيّن لأهل بيرية التعليم الصحيح في شأن الزيجة أي ثبوت عقد الزيجة وشر الطلاق.
مثل الغني ولعازر ع ١٩ إلى ٣١
١٩ «كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ وَكَانَ يَلْبَسُ ٱلأُرْجُوَانَ وَٱلْبَزَّ وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَرَفِّهاً».
رؤيا ١٨: ١٢
يسوغ لنا أن نسمي ما قاله يسوع في هذا الفصل مثلاً على أنه ليس كالمثل في كل شيء وليست حوادثه كلها مجازية فيحتمل أن بعضها حقيقي تاريخي. وهو قسمان:
الأول: بيان حالَي شخصين على الأرض (ع ١٩ – ٢١).
الثاني: بيان حاليهما بعد الموت (ع ٢٢ – ٣١).
وغاية المسيح من هذا المثل توبيخ الفريسيين على حب المال والذات واحتقار القريب وإظهاره لهم بطلان رجائهم ودعواهم ببيان عاقبتهم.
وغايته منه أيضاً بيان ما قاله في شأن استعمال المال وإثباته فرفع الحجاب بين العالم الحاضر وعالم الأرواح ليبين أن سوء استعمال الإنسان لماله في مدة حياته علّة شقائه الأبدي وليعلن جهل وخطاء الإنسان الذي يكتفي أن يترفه في هذه الدار ولا يكترث بحاجات نفسه بعد الموت.
إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لعلّ المسيح قصد به إنساناً معلوماً لم يذكر اسمه إكراماً لأقربائه أو لعله قصد غير معيّن لكثرة أمثاله.
ٱلأُرْجُوَانَ وَٱلْبَزَّ هما من الملبوسات الجميلة الفاخرة وكثيراً ما ذكرا معاً كأنهما مما يختص بالملوك على أن الأغنياء لبسوهما أيضاً (أستير ١: ٦ و٨: ١٥ ورؤيا ١٨: ١٢). وكان يأتي الأرجوان غالباً من صور والبز من مصر. وكان يلبسهما هذا الغني كل يوم لا في أيام الاحتفالات والأعياد فقط وهذا دليل الافتخار والتنعم.
يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ أي يتلذذ يوماً فيوماً بولائم نفيسة. وخلاصة ما قيل من جهة هذا الإنسان أنه غير مهتم بشيء من ارتكاب الفواحش وأنه لم يحصل ماله بغير الحق ولكنه كان من أبناء هذا الدهر (ع ٨) وممن يعتنون باللذات الجسدية دون اللذات الروحية وحاجات النفس هنا وفي الآخرة وأنه لم يفتكر في واجباته لله ولا في واجباته للمحتاجين الذين مثل لعازر المطروح قدام بيته فلم يصنع له أصدقاء من مال الظلم (ع ٩) إنما عاش للذته وأهلك نفسه.
٢٠ «وَكَانَ مِسْكِينٌ ٱسْمُهُ لِعَازَرُ، ٱلَّذِي طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوباً بِٱلْقُرُوحِ».
مِسْكِينٌ ٱسْمُهُ لِعَازَرُ وهو غير لعازر أخي مريم ومرثا. وكان هذا الاسم شائعاً يومئذ بين اليهود. ذكر الله في كتابه اسم الفقير وترك اسم الغني وهذا خلاف ما يفعل الناس. ومعنى «لعازر» الله عون.
طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ الذين طرحوه هنالك أقرباؤه أو أصحابه وهذا يدلنا على أنه كان عاجزاً عن الإتيان بنفسه وقصدوا بطرحه هناك أن ينظره الغني فيحسن إليه وكانوا معتادين أن يضعوا الفقراء على أبواب الأغنياء والهياكل (أعمال ٣: ٢). فامتحن الله الغني بواسطة ذلك المسكين لكي يعطيه فرصة ليصنع له أصدقاء من ماله بواسطته رحمته له.
مَضْرُوباً بِٱلْقُرُوحِ كان علاوة على فقره وعجزه معذباً بقروح مؤلمة وكانت تلك القروح نتيجة فقره وعدم الاكتراث به.
٢١ «وَيَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ ٱلْفُتَاتِ ٱلسَّاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ ٱلْغَنِيِّ، بَلْ كَانَتِ ٱلْكِلاَبُ تَأْتِي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ».
يَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ ٱلْفُتَاتِ هذا كان اشتهائه واشتهاء أقربائه ولم يقل المثل أَحصل على ذلك أم لا. والظاهر من القصة أنه لم يرج من الغني سوى الفتات الذي كان يسقط من مائدة الغني ويحمله الخدام إلى لعازر من تلقاء أنفسهم لا بأمر الغني.
وذكر الفُتات هنا مقابلة للنفائس التي كان يتنعّم بها الغني كل يوم.
كَانَتِ ٱلْكِلاَبُ تَأْتِي الخ كانت الكلاب تأتي إلى هنالك بغية ما ابتغاه لعازر أي الفتات. وذكر المثل لحس الكلاب قروح لعازر بياناً لتعاسة حاله التي بلغت مبلغاً عظيماً حتى حملت الكلاب على الشفقة وإظهاراً لكونه كان عارياً لا ممرّض له سوى الكلاب تلميحاً إلى أن الغني لم يكترث به البتة. والذي زاد إثم الغني بإهماله ذلك المسكين ثلاثة أمور:
- الأول: أن المسكين كان عند بابه فكان لا بد له من أن يراه ويعرف سوء حاله.
- والثاني: أن لعازر كان متروكاً من الناس وفي غاية الاحتياج إلى ذلك الغني.
- والثالث: أن كل ما كان يحتاج إليه ذلك المسكين كان كالعدم بالنسبة إلى غناه.
فإذا قابلنا أحوال الغني بأحوال لعازر رأينا الأول مكتسياً بالأرجوان والبز والثاني عارياً ظاهر القروح. والأول يتنعم كل يوم بوليمة والثاني يشتهي الفتات. والأول له خدم كثيرة تقوم بقضاء كل حاجاته والثاني لا خادم له سوى الكلاب. وهذا حال كل منهما في هذا العالم (ع ٢١).
٢٢ «فَمَاتَ ٱلْمِسْكِينُ وَحَمَلَتْهُ ٱلْمَلاَئِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ ٱلْغَنِيُّ أَيْضاً وَدُفِنَ».
متّى ١٣: ٤١ و١٨: ١٠ وعبرانيين ١: ١٤
فَمَاتَ ٱلْمِسْكِينُ لم يقل المثل شيئاً من أمر جنازته أو دفنه لعدم اهتمام الناس به.
حَمَلَتْهُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أي حملت نفسه وهذا وفق اعتقاد اليهود لأنهم اعتقدوا أن الملائكة تحمل أنفس المتوفين الأتقياء ولا ريب في أن ذلك حق بدليل قول الكتاب «أَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ (أي الملائكة) أَرْوَاحاً خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ ٱلْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا ٱلْخَلاَصَ» (عبرانيين ١: ١٤). ولا أهمية لأي نوع كان من أنواع الدفن لجسد لعازر إذ كانت الملائكة حملت نفسه إلى السماء.
إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ كان إبراهيم أبا كل الأمة اليهودية واعتقد اليهود أن الحلول في حضن إبراهيم حظ كل يهودي مؤمن. والكلام مأخوذ من عوائد الولائم لأنه كان كل من المدعوين يتكئ على حضن غيره كما اتكأ يوحنا البشير على حضن المسيح في العشاء الرباني (يوحنا ١٣: ٢٣) ومنه القول أن المسيح في حضن الآب (يوحنا ١: ١٨) فالاتكاء في حضن إبراهيم إشارة إلى نوال الراحة التامة والإكرام الزائد واللذة الكاملة. وكثيراً ما يعبّر الكتاب عن السماء كأنه محل وليمة وأن القديسين يتكئون هنالك مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب (متّى ٨: ١١). وحضن إبراهيم هنا مثل الفردوس في ص ٢٣: ٤٣.
فما أعظم التغير الذي طرأ على حال لعازر فإنه انتقل من باب حيث أحاطت الكلاب به إلى الفردوس السماوي وذلك ليس لأنه كان فقيراً على الأرض بل لأنه كان تقياً كما يظهر من القرينة.
وَمَاتَ ٱلْغَنِيُّ أَيْضاً لم يمنع الغنى الموت عنه.
وَدُفِنَ حصل جسده بعد موته على الإكرام الذي كان له في حياته. ولم ينقصه شيء من الاحتفال والنفقة على جثته. وهذا كل ما أمكن ماله أن يهبه له ونهاية منفعته منه وهو غير شاعر بشيء من ذلك. ولم يقل المثل أن الملائكة حملته إلى العالم الآخر كما حملت لعازر.
٢٣ – ٢٥ «٢٣ فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَهُوَ فِي ٱلْعَذَابِ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ، ٢٤ فَنَادَى: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ ٱرْحَمْنِي، وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي، لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هٰذَا ٱللَّهِيبِ. ٢٥ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا ٱبْنِي ٱذْكُرْ أَنَّكَ ٱسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَكَذٰلِكَ لِعَازَرُ ٱلْبَلاَيَا. وَٱلآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ».
مزمور ٩: ١٧ ومرقس ٩: ٤٣ ورؤيا ١: ١٨، زكريا ٤: ١٢، إشعياء ٦٦: ٢٤ ومرقس ٩: ٤٤ الخ، أيوب ٢١: ١٣ وص ٦: ٢٤
في هذه الآيات مجاز أعلنت به أمور حقيقية مهمة في أحوال عالم الأرواح عبّر عنها المسيح بأسلوب المحادثة بين إبراهيم ولعازر كما يمكن أن يحدث في هذا العالم بين اثنين تفصل بينهما حفرة عميقة ونسب إلى أرواح الموتى ما لا يصدق إلا على الناس الأحياء على الأرض. فعلينا أن ننتبه للحقائق الجوهرية المقصودة بهذا القول ولا نعتبر أن صورة الكلام هي الأمر الجوهري متذكرين أولاً أن المجاز الأرضي لا يوضح الحقائق الروحية كل الإيضاح. وثانياً إنا لا نعلم من أمر عالم الأرواح ما يقدّرنا على أن نحكم بما يمكن أن يحدث هناك وبما لا يمكن حدوثه كذلك.
فِي ٱلْهَاوِيَةِ (ع ٢٣) هو «هادس» في اليونانية و «شأول» في العبرانية. ويشار به غالباً إلى مسكن أرواح الموتى قبل القيامة. واعتقد اليهود غالباً واليونانيون الوثنيون أن فيه محل راحة ومحل عذاب تبقى في كل منهما ما فيه من النفوس إلى يوم القيامة وحينئذ يُنقل الأتقياء إلى السماء والأشرار إلى جهنم (رؤيا ٢٠: ١٤). فالمسيح صاغ مثله على اصطلاح الفريقين ولم يصدق ذلك الاعتقاد.
وَهُوَ فِي ٱلْعَذَابِ لا لأنه كان غنياً في دنياه إذ لا خطية في الغنى فإن إبراهيم كان من أغنى أهل الشرق وكذلك أيوب وداود لكن لأنه عاش لهذا العالم فقط ولم يتب إلى الله كما سترى في (ع ٣٠) من أنه طلب إلى إبراهيم أن يرسل من ينهي إخوته عن أن يفعلوا كما فعل هو.
وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ… وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ ذكر هذا بياناً أن شقاء الأشرار يعظم بمقابلته بسيادة الأبرار.
يَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ (ع ٢٤) اتخذ ما كان له من النسبة الأرضية إلى إبراهيم حجة على استحقاقه شفقة إبراهيم الخاصة وإجابته لطلبه. وهذا على وفق زعم اليهود أن كل مختون يأمن من عذاب الجحيم.
أَرْسِلْ لِعَازَرَ قال ذلك كأن طرح لعازر عند بابه على الأرض كان مستلزماً العلاقة بينهما.
لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ الخ زعم اليهود أن المتوفين يستطيعون أن يرى بعضهم بعضاً في عالم الأرواح ويعرفه ويخاطبه فتكلم المسيح هذا على وفق زعمهم توصلاً إلى تعليم الحقائق المتعلقة بذلك العالم.
وعبّر عن شدة العذاب في الجحيم بما اعتاد الناس على الأرض أن يعبّروا به عن الآلام وعن طلب الراحة بالوسائط التي يتوصل بها إليها في الدنيا.
ومعظم الفرق بين حال الغني وحال لعازر في العالمين يتضح مما ذكر أنه كما اشتهى لعازر الفتات من مائدة الغني كذلك اشتهى الغني قطرة مما يتمتع به لعازر. ولو قيل للغني حين كان كلاهما على الأرض «هل تحتاج إلى شيء من هذا المسكين المطروح تكسوه القروح» لأنف من ذلك شديد الأنفة ولكن حين صار لعازر في حضن إبراهيم بلغ من التنعم مبلغاً عظيماً حتى تمنى الغني أن يحصل على أقل شيء من سعادته.
ولم يطلب الغني شفقة الله لعلمه أن وقت ذلك قد فات ولم يطلب النجاة من العذاب والدخول إلى حيث لعازر لتيقنه أن ذلك محال.
وهذه هي الصلاة الوحيدة التي ذُكر في الكتاب المقدس أنها وُجهت إلى قديس في السماء فلير القارئ أي نفع كان منها.
يَا ٱبْنِي (ع ٢٥) لم ينكر إبراهيم نسبة الغني إليه لكنه لم يسلّم بأنها علّة استحقاقه المساعدة. ومما يتبين شدة عذابه أن الذي كان يتنعم بالولائم كل يوم على الأرض طلب في الجحيم قطرة واحدة من الماء ولم يحصل عليها.
ٱذْكُرْ من أشد عذاب الأشرار في الجحيم أن يذكروا حوادث حياتهم على الأرض كالمراحم التي لم يشكروا الله عليها وفرص الخلاص التي لم ينتهزوها والخطايا التي ارتكبوها ونذورهم التي لم يفوا بها فإن ضميرهم يوبخهم على كل ما يذكرون من ذلك (أمثال ٥: ١٢ – ١٤).
وليس كلام إبراهيم هنا قدحاً في الغني ولم ينتج عن قساوة لكنه يقطع رجاء الغني كل نجاة.
ٱسْتَوْفَيْتَ (متّى ٦: ٢) شاع استعمال هذه العبارة بياناً لنوال الإنسان كل ما له حق أن يتوقعه من ديون أو هبات وغيرها. والمعنى هنا أن لا حق له أن ينتظر بعد ذلك شيئاً من البركات الإلهية لأن زمان نوالها قد انتهى.
خَيْرَاتِكَ العطايا الزمنية كالغنى وأمثاله. ونُسب الخيرات إليه لأنه اختارها نصيباً وفضّلها على كل ما سواها من فوائد الحياة فهو قد زرع للجسد فلم يبق له أن يحصد إلا فساداً (غلاطية ٦: ٨ ولوقا ٦: ٢٤ و١تيموثاوس ٦: ٩ و١٠).
لِعَازَرُ ٱلْبَلاَيَا أي الفقر والمرض والألم. ولم يُنسب البلايا إلى لعازر كما نسب الخيرات إلى الغني لأن لعازر لم يختر البلايا نصيباً بل قبلها من يد الله. ولعله لم يحسبها مصائب بل سرّ بها كما سرّ بولس بضيقاته (٢كورنثوس ١٢: ٩ و١٠) ولا شك أنها كانت امتحاناً له وإعداداً لنوال الخيرات. فالغني لم يرحم غيره في حياته فلم يُرحم بعد موته. ولم يصنع له أصدقاء من مال الظلم فلم يُقبل «في المظال الأبدية».
٢٦ «وَفَوْقَ هٰذَا كُلِّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ، حَتَّى إِنَّ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْعُبُورَ مِنْ هٰهُنَا إِلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ، وَلاَ ٱلَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا».
وَفَوْقَ هٰذَا كُلِّهِ أي علاوة على كون شقائك نتيجة توغلك في الشهوات الدنيوية وحب الذات.
هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ أشار بهذا إلى الفاصل الأبدي بين المخلصين والهالكين فلم يبقَ لأهل الجحيم من وسيلة للعبور لا برحمة الله ولا بتوبتهم.
أُثْبِتَتْ بإرادة الله وقضائه بناء على عدله. فحكمه بذلك أبدي لا يتغير.
مِنْ هٰهُنَا إِلَيْكُمْ لكي يعزّي الهالكين شفقة عليهم.
وَلاَ ٱلَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ الخ بغية النجاة من العذاب فعلى من يتوقعون اليوم نفع صلواتهم من أجل الموتى أو قرابينهم أن يراجعوا قول إبراهيم للغني.
٢٧، ٢٨ «٢٧ فَقَالَ: أَسْأَلُكَ إِذاً يَا أَبَتِ أَنْ تُرْسِلَـهُ إِلَى بَيْتِ أَبِي، ٢٨ لأَنَّ لِي خَمْسَةَ إِخْوَةٍ، حَتَّى يَشْهَدَ لَـهُمْ لِكَيْلاَ يَأْتُوا هُمْ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِ ٱلْعَذَابِ هٰذَا».
بعد أن يئس الغني من استجابة صلاته من أجل نفسه صلّى من أجل أقربائه الأحياء على الأرض. ولا يستلزم ذلك أن الهالكين يسألون عن خلاص أصدقائهم أو يطلبون طلبات كهذه لكن ذُكر هنا سؤال الغني ليكون جواب إبراهيم له وسيلة إلى التعليم الذي أراد المسيح بيانه.
وإذا سلمنا أن الهالكين يسألون مثل هذا فغايتهم من ذلك هي أن لا يزيد عذابهم بمجيء هؤلاء ليبكتوهم بأنهم هم كانوا سبب هلاكهم بما أتوه بسوء القدوة. وليس في كون إخوته خمسة معنى روحي إنما هو من مكملات المثل. والشهادة التي طلب أن يرسل بها إلى إخوته هي بيان أن النفس تحيا بعد الموت. وبيان شقائه إنذاراً لهم بشر عواقب العيش للجسد فقط. وطلب أن يكون لعازر الشاهد لهم لأنهم عرفوا أنه مات فيصدقون أنه أتاهم برسالة من عالم الأرواح.
٢٩ «قَالَ لَـهُ إِبْرَاهِيمُ: عِنْدَهُمْ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءُ. لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ».
إشعياء ٨: ٢٠ و٣٤: ١٦ ويوحنا ٥: ٣٩ و٤٥ وأعمال ١٥: ٢١ و١٧: ١١ ورومية ١٠: ١٧
عِنْدَهُمْ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءُ أي خمسة أسفار موسى وسائر كتب العهد القديم.
لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ أي ليطيعوهم. ولم يقبل إبراهيم هنا كما قال في أمر العبور من الفردوس إلى الجحيم من أن بينهما هوة عظيمة لا يمكن أن تعبّر بل قال ما مضمونه أن لا حاجة إلى إرسال لعازر. وفي قول إبراهيم شهادة بقيمة كتب العهد القديم أن فيها نوراً كافياً ليقود الإنسان إلى السماء إذا استنار به. فيمكن أخوة الغني أن يتعلّموا منها أن العيشة الدنيوية خطية ووجوب التوبة وعبادة الله والاستعداد للموت والأبدية. وإذا صحت هذه الشهادة من جهة موسى والأنبياء فكم بالحري تصح من جهة كتاب الله المشتمل اليوم على أقوال موسى والأنبياء والمسيح ورسله فأي عذر لمن لا يسمع منهم.
٣٠ «فَقَالَ: لاَ يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ. بَلْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ».
طلب الغني مثل طلب اليهود من المسيح آية خاصة إثباتاً للإعلان الإلهي (متّى ١٢: ٣٣ و١٦: ١.
٣١ «فَقَالَ لَـهُ: إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءِ، وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ».
يوحنا ١٢: ١٠ و١١
يُصَدِّقُونَ أي يقتنعون بخطيتهم وجهلهم وحقيقة الخلود ووجوب التوبة والرجوع إلى الله.
وما قيل في هذه الآية من جهة إخوة الغني يصدق بالنظر إلى كل أهل العالم غير المؤمنين أي أن زيادة البراهين على صحة دين الله لا تقنعهم لأن علّة عدم إيمانهم ليست ضعف البراهين أو قلتها بل إغماض عيونهم وقساوة قلوبهم فلو زادت الشمس ضياء لم ينظر الأعمى وزيادة البراهين لا تقنع القلب القاسي.
والذي أثبت ما قيل هنا أنه بعد أن قال المسيح هذا المثل بقليل رجع من عالم الأرواح لعازر بيت عنيا أخو مريم ومرثا ولم يكن تأثير رجوعه في اليهود سوى أن طلبوا أن يقتلوه ليخفوا شهادته (يوحنا ١١: ٤٧ و٥٠). وظن هيرودس أن يسوع هو يوحنا قام من الأموات ولكنه لم يستفد من ذلك شيئاَ. وتحقق رؤساء الكهنة من شهادة عساكرهم أن يسوع قام من الأموات ولكنهم لم يستفيدوا منه البتة (متّى ٢٨: ١١).
وخلاصة التعليم في مثل الغني ولعازر أحد عشر أمراً:
- إن نجاح الإنسان في هذا العالم ليس بدليل على محبة الله له وأن ضيقته ليست بدليل على عدم مسرته به.
- إن الفقر مع محبة الله خير من كل غنى العالم ورضى الناس بدون تلك المحبة.
- إن الموت حكم على كل بشر ينتهي به سرور الغنى الدنيوي وحزن الفقير المؤمن وهذا تعتني بنفسه الملائكة حاملة إياها إلى النعيم.
- إن النفس تحيا بعد موت الجسد.
- إن النفوس في العالم الأخير قسمان المخلصون والهالكون وهما الأخيار والأشرار على هذه الأرض.
- إن سعادة الأخيار وشقاء الأشرار يبتدئان عند الموت ويدومان إلى الأبد. فليس النفس في سبات بين الموت والقيامة.
- إن الإنسان لا يستطيع أن يحصل على اللذات العالمية والسعادة الأبدية.
- إنه لا بد من ثواب الأبرار وعقاب الأشرار وانفصال كل من الفريقين عن الآخر إلى الأبد.
- إن مجرد العيشة الدنيوية بالغفلة عن الواجبات الدينية خطية وتوجب العقاب على مرتكبها.
- إن قوة الذكر تبقى للنفوس في العالم الأخير.
-
إن وسائط النعمة التي منح الله الناس إياها كافية لتنويرهم وخلاصهم فالذين يهملونها يجب أن لا ينتظروا أن الله ينبههم بالمعجزات لكي يتوبوا ويؤمنوا. فمن العبث أن ينتظر الناس رجوع أحد الموتى إليهم ليخبرهم ما سمع ورأى في عالم الأرواح.
السابق |
التالي |