إنجيل لوقا

إنجيل لوقا | 15 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل لوقا

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الخامس عشر

تذمر الفريسيين على المسيح لقبوله الخطاة ع ١ و٢

١، ٢ «١ وَكَانَ جَمِيعُ ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ. ٢ فَتَذَمَّرَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلْكَتَبَةُ قَائِلِينَ: هٰذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُم».

متّى ٩: ١٠، أعمال ١١: ٣ وغلاطية ٢: ١٢

جَمِيعُ ٱلْعَشَّارِينَ أي كثيرين منهم وهم أكثر الجمع. وقد مرّ الكلام عليهم في الشرح متّى ٩: ١٠ و١١.

يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ كانوا يأتون إلى المسيح على التوالي لا ليشاهدوا معجزاته فقط بل ليسمعوا تعليمه أيضاً. وأظهروا باقترابهم إليه رغبتهم في الفائدة لأنهم شعروا بإثمهم واحتياجهم إلى مغفرة الله ولم يجدوا في تعليم رؤساء اليهود ما يدلهم على طريق المصالحة لله كما في تعليم المسيح. لأن أولئك الرؤساء حسبوا هؤلاء العشارين أشراراً نجسين لا يستحقون أن يدنوا منهم ويتعلّموا وأنه لا فائدة من تعليمهم إذ لا يُرجى أن يدخلوا السماء.

فَتَذَمَّرَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلْكَتَبَةُ ادعى هؤلاء طهارة عجيبة وبراً سامياً (انظر الشرح متّى ٥: ٢٠). فاحتقروا العشارين وأبغضوهم لأجل مهنتهم وقبح سيرتهم. وأظهروا ذلك بتذمرهم في قلوبهم أو بمخاطبة بعضهم بعضاً.

هٰذَا قالوا ذلك استخفافاً به كأنه لم يستحق أن يلقب بمعلم أو رباني أو نبي لأنه كان يعلّم العشارين.

يَقْبَلُ خُطَاةً أي يلطف بهم ويأذن لهم في أن يتعلّموا منه. ودل كلامهم على كبريائهم وتعجبوا من عمل المسيح وهزئهم به. فليس لهم شفقة على أولئك الخطاة ولا رغبة في خلاصهم ولم يأتوا أدنى الوسائط إلى ترجيعهم إلى الله والقداسة. ولم يستطيعوا أن يدركوا مقاصد المسيح بقبوله إياهم. واستنتجوا من فعله أنه خاطئ كسائر العشارين زعماً أنه لو لم يكن كذلك ما عاشرهم. وأنه لو كان نبياً مقدساً لطلب معاشرة القديسين والأبرار كالفريسين أنفسهم وتجنب معاشرة أولئك النجسين لكن فعل ما فعل بغية خلاصهم. فالذي حسبه اليهود عاراً على المسيح حسبه المسيح شرفاً عظيماً وهو خير لنا لأننا خطاة محتاجون إلى قبوله إيانا. وشكوى الفريسيين عينها برهان على أن يسوع هو المسيح.

وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ فعل ذلك في الجليل كما ذُكر في متّى ٩: ١٠ و١١. ولعله فعل مثله في بيرية حينئذ لتكون له فرصة لتعليمهم وإقناعهم بخلوص حبه لهم (انظر رؤيا ٣: ٢٠).

وتذمر الفريسيون عليه قبلاً لهذه العلّة عينها وجاوبهم بضربه مثل الطبيب والمرضى وقد مرّ تفسير ذلك في شرح ص ٥: ٢١. وجاوبهم هنا بضرب ثلاثة أمثال تبريراً لذاته بما فعل وإظهاراً لرحمة الله للخطاة التائبين. وكتب لوقا إنجيله لفائدة الأمم وكانت غايته أن يؤكد لهم استعداد الله لقبولهم ولذلك أكثر من إيراد الأمثال التي تظهر رحمة الله.

مثل الخروف الضال ع ٣ إلى ٧

٣، ٤ «٣ فَكَلَّمَهُمْ بِهٰذَا ٱلْمَثَلِ: ٤ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَـهُ مِئَةُ خَرُوفٍ، وَأَضَاعَ وَاحِداً مِنْهَا، أَلاَ يَتْرُكُ ٱلتِّسْعَةَ وَٱلتِّسْعِينَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، وَيَذْهَبَ لأَجْلِ ٱلضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟».

خروج ٣٤: ٦ و١١ إلى ١٥ ومتّى ١٠: ٦ و١٨: ١٢

ورد هذا المثل في بشارة متّى ١٨: ١٢ – ١٤. والغاية منه هنالك إظهار قيمة خروف واحد والغاية من إيراده هنا إظهار شفقة الراعي في طلبه.

أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ أي غايتي من هذا السؤال أن أبين لكم أنه إذا كان أحد منكم لا يكره أن يتعب هذا التعب لرد خروف ضال أفمن الغريب أن أتعب أنا لإنقاذ نفس ضالة.

فِي ٱلْبَرِّيَّةِ المراد بالبرية هنا أرض لم تفلح ترعى فيها الغنم ويمكن أن تضل فيها لفرط اتساعها.

وَيَذْهَبَ لأَجْلِ ٱلضَّالِّ هذا مما يجب على الراعي أن يفعله. وكان يجب على المسيح أن يفعل مثله للناس الضالين تتميماً لواجباته باعتبار كونه راعي النفوس (إشعياء ٤٠: ١٧ وحزقيال ٣٤: ٦ و١١ – ١٥).

حَتَّى يَجِدَهُ أشار المسيح بذلك إلى كل ما عمله لأجل الخطأة وتألم من أجلهم منذ ترك السماء ووُلد في بيت لحم إلى أن رجع إلى السماء بعد موته على الصليب. فلم يرسل المسيح ملاكاً أو رئيس ملائكة ليجد الضالين لكنه ذهب هو نفسه ليجدهم.

٥ «وَإِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحاً».

حمله الخروف على منكبيه ضرروي لأن الخروف الضال كان قد أعيا من الجولان فلم يضربه الراعي بل حمله فكان في راحة وأمن. كذلك المسيح بمعاشرته العشارين والخطاة طلب أن يردهم إلى القداسة والنجاة من الهلاك الأبدي. ويعتني بتعليمهم بالرفق. وأن يصونهم من تجارب الشيطان ويوصلهم إلى السماء ويسر بكل ما فعل من ذلك.

٦ «وَيَأْتِي إِلَى بَيْتِهِ وَيَدْعُو ٱلأَصْدِقَاءَ وَٱلْجِيرَانَ قَائِلاً لَـهُمُ: ٱفْرَحُوا مَعِي، لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي ٱلضَّالَّ».

إشعياء ٤٠: ١١ ومتّى ٩: ٣٦ و١بطرس ٢: ١٠ و٢٥

يَدْعُو ٱلأَصْدِقَاءَ وَٱلْجِيرَانَ لم يذكر المسيح هؤلاء في ضربه لهذا المثل قبلاً (متّى ١٨: ١٢ – ١٤) ومن مقتضيات الطبع أن الذي يجد خروفه يدعو أصدقاءه إلى الفرح معه. وذكر المسيح ذلك لكي يعطي فرصة ليقابل الفرح بوجدان الخروف بفرح السماء بخلاص خاطئ.

٧ «أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هٰكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ».

ص ٥: ٣٢

فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ يعرف القديسون والملائكة قيمة النفس وعظمة العذاب الذي يقع على النفس الهالكة وعظمة السعادة التي تنالها النفس الخالصة. ويعرفون محبة المسيح للخطاة وما احتمله لأجل خلاصهم ولذلك يفرحون عند توبة الخاطئ.

ويقابل المسيح هنا فرح السماء لتوبة خاطئ واحد بتذمر الفريسيين والكتبة عليه لطلبه خلاص الخطأة.

بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ ذكر في المثل فعل الراعي فقط لأن الخروف لا يتوقع أنه يندم ولكنه ذكر هنا توبة الخاطئ لأنها شرط ضروري لخلاصه وهو قادر على ذلك وواجب عليه.

وفي هذا العدد إشارة إلى عظمة فرح السماء أخيراً حين يجتمع فيها ربوات وربوات لا تحصى من الخطاة التائبين الذين يفرحون مع المسيح.

وعلّم المسيح في هذا المثل كنيسته أن تتمثل به في طلب الضالين في برية العالم الواسعة وأن يفرحوا بسمعهم أنباء الإنجيل بين الأمم وقبولهم الخلاص.

مثل الدرهم المفقود ع ٨ إلى ١٠

٨ «أَوْ أَيَّةُ ٱمْرَأَةٍ لَهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، إِنْ أَضَاعَتْ دِرْهَماً وَاحِداً، أَلاَ تُوقِدُ سِرَاجاً وَتَكْنِسُ ٱلْبَيْتَ وَتُفَتِّشُ بِٱجْتِهَادٍ حَتَّى تَجِدَهُ؟».

أمثال ٢٠: ٢٧ وصفنيا ١: ١٢

معنى هذا المثل كمعنى المثل السابق وهو إظهار محبة المسيح وشفقته في طلب الخطأة الضالين وفرحه بنجاتهم.

أَيَّةُ ٱمْرَأَةٍ لا مقصد من ذكر المرأة بدل الإنسان إلا أن كنس البيت من أعمال المرأة غالباً ولا من ذكر البيت خاصة ولا من ذكر عدد العشرة دون غيره ولا من ذكر السراج إلا بيان قيمة المفقود ورغبة صاحبته في وجدانه وفرحها بذلك.

عَشَرَةُ دَرَاهِمَ الدرهم نقد يوناني قيمته كقيمة الدينار الروماني (انظر الشرح متّى ٢٠: ٢) وقيمة الدينار أربعة غروش ونصف غرش وهو أجرة الفاعل في اليوم فقيمة عشرة دراهم خمسة وأربعون غرشاً.

أَضَاعَتْ دِرْهَماً وَاحِداً قيمة درهم لامرأة لها عشرة دراهم أعظم من قيمة خروف لصاحب مئة خروف.

أَلاَ تُوقِدُ سِرَاجاً الخ أوقدت المصباح لكي تفتش عن الدرهم في بعض زوايا البيت المظلمة التي لم يقع عليها ضوء الشمس وكنست البيت لكي يقع نظرها على كل جزء من أجزاء أرض البيت وهذان العملان يظهران اهتمام المرأة بالدرهم المفقود وفرط رغبتها واجتهادها في إصابته. وكل ذلك إشارة إلى قيمة نفوس الخطأة عند الرب وحزنه على فقدان واحدة منها فإنه ترك السماء لينشد النفوس الضالة ويخلصها.

٩، ١٠ «٩ وَإِذَا وَجَدَتْهُ تَدْعُو ٱلصَّدِيقَاتِ وَٱلْجَارَاتِ قَائِلَةً: ٱفْرَحْنَ مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ ٱلدِّرْهَمَ ٱلَّذِي أَضَعْتُهُ. ١٠ هٰكَذَا أَقُولُ لَكُمْ يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ».

تَدْعُو ٱلصَّدِيقَاتِ وَٱلْجَارَاتِ مشاركة هؤلاء لتلك المرأة في فرحها إشارة إلى مشاركة جنود السماء للمسيح في مسرته بخلاص الخاطئ. وفي ذلك توبيخ آخر للفريسيين على عدم اكتراثهم بخلاص نفوس العشارين والخطأة وتبرير آخر لعمله بقبوله إياهم وأكله معهم لكي يفيدهم.

مثل الابن الضال ع ١١ إلى ٣٢

١١ «وَقَالَ: إِنْسَانٌ كَانَ لَـهُ ٱبْنَانِ».

حُسب هذا المثل تاج أمثال المسيح كلها وإنجيلاً مختصراً ضمن إنجيل يُظهر محبة الله المنقذة التي هي غاية الإنجيل كله.

ومقصود المسيح به كمقصوده في المثلين السابقين إظهار رحمة الله للخطأة ورغبته في قبول الراجعين إليه بالتوبة والتوبيخ للفريسيين المتذمرين عليه. ولم يتلفظ المسيح بالنتيجة بل تركها لتأمل السامع والقارئ.

ولهذا المثل تقدم على المثلين السابقين في إيضاح قيمة النفس. فالمفقود في الأول واحد من مئة وفي الثاني واحد من عشرة وفي الثالث واحد من اثنين وقيمة خروف لدى صاحب مئة خروف دون قيمة درهم لدى صاحبة عشرة دراهم ولكن قيمة الولد لدى أبيه أعظم من كل تلك الخراف والدراهم بما لا يقاس.

وله التقدم عليهما في إظهار عواطف الله للضالين. وفي الأول بيان أن أتعاب ابن الله وآلامه من أجل الخاطئ مبنية على شفقته كشفقة الراعي على الخروف الضال الذي صار عرضة لافتراس المهلك. وفي الثاني بيان اهتمام المسيح بإصابة المفقود ورغبته في ذلك بناء على قيمة النفس التي أعطاه الآب إياها كاهتمام المرأة ورغبتها في إصابة درهمها الثمين في عينيها. وفي الثالث اشتياق الله الآب إلى رجوع الخاطئ إليه كاشتياق الوالد الحنون إلى ابنه الضال.

وفي المثل الثالث أمران زائدان على ما في كل من المثل الأول والمثل الثاني.

الأول: بيان ما يجب أن يعمله الخاطئ نفسه لكي يرجع وهو التوبة وهذا لا يمكن بيانه في مثل الخروف الضال ومثل الدرهم المفقود.

الثاني: بيان أن الخطيئة ليست بمانع من رجوع الخاطئ ولا من مسرة الله برجوعه فإنه لا يصح أن يُنسب إلى الخروف والدرهم ذنب يوجب غضب الراعي على خروفه وغضب المرأة على درهمها حتى لا يعودا يسألان عنهما. وأما الابن الضال فعلم أنه أخطأ إلى أبيه وأن لأبيه حقاً أن يغضب عليه ويرفضه ولكنه مع ذلك رحب به حين رجع كذلك الله يرحب بالخطأة التائبين.

إِنْسَانٌ المراد به هنا الآب السماوي الذي «كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ» (٢كورنثوس ٥: ١٩).

ٱبْنَانِ المراد بالأكبر منهما الفريسيون والكتبة وبالأصغر العشارون والخطاة. ويصح أن يراد بالأكبر اليهود وبالأصغر الأمم. ويصح أيضاً أن يراد بالأول كل المتكبرين المتكلين على برّ أنفسهم يهوداً وأمماً وبالثاني كل الذين يعترفون بآثامهم ويرجعون عنها إلى نهاية الزمان.

١٢ «فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي ٱلْقِسْمَ ٱلَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ ٱلْمَالِ. فَقَسَمَ لَـهُمَا مَعِيشَتَهُ».

تثنية ٢١: ١٧، مرقس ١٢: ٤٤

أَعْطِنِي ٱلْقِسْمَ هذا طلب غير شرعي ولا يحسن بالابن أن يطلبه من أبيه. ولا دليل على أن ذلك كان سائغاً في الشريعة اليهودية نعم إنّ إبراهيم قسم ماله على أولاده في حياته لكنه أتى ذلك اختياراً منعاً لانشقاق العائلة (تكوين ٢٥: ٥ و٦) وطلب هذا الابن ذلك القسم ليمكنه الإنفاق على شهواته الجسدية. وهذا إشارة إلى أول خطوة من خطى الإنسان في سبيل الخطية وخلاصته أن يتحرر من الله وشريعته ويكون إلهاً لنفسه تابعاً ميل قلبه (تكوين ٣: ٥). فكل إنسان إذا تبع ميله الطبيعي كان كالابن الأصغر في رغبته في لذات العالم والخطيئة.

فَقَسَمَ لَـهُمَا مَعِيشَتَهُ اختياراً وتلطفاً لا على رغمه. وكان ثلثا المال للأكبر والثلث للأصغر حسب شريعة موسى (تثنية ٢٧: ١٧) فأعطى الابن الأصغر قسمه وأبقى عنده قسم الأبن الأكبر. كذا الله يترك الإنسان حراً ولا يجبره على خدمة غير مرضية ليختبر هل عبوديته لشهواته وللشيطان أهون من الخدمة لله تعالى (رومية ١: ٢١ و٢٨).

١٣ «وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ ٱلابْنُ ٱلأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ، وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَـهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ».

جَمَعَ… كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ لعلّ حادثة مثل هذه ليست بغريبة في تلك الأيام وهي أن شاباً يهودياً يترك اليهودية ويسافر إلى إسكندرية أو كورنثوس أو رومية ويبلغ أهله أنه ينفق أمواله على الزواني (ع ٣٠) غير مكترث بدينه ولا مهتم بأبيه. والمراد بالكورة البعيدة نسيان الله بالبعد القلبي لا البعد المكاني. وهذا البعد يتبع حالاً الاستقلال عن الله ومحبة الخليقة تنزع من القلب محبة الخالق.

بَذَّرَ مَالَـهُ لا أحد مسرف كالخاطئ فإنه ينفق على شهواته القوة والمواهب والبركات التي منحه الله إياها لمجده تعالى ولخير الناس وهذا عاقبة الاستقلال عن الله.

بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ لأن الخطيئة استولت عليه فكان كالخروف في حال ضلاله والدرهم وهو مفقود.

١٤ «فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ، حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ ٱلْكُورَةِ، فَٱبْتَدَأَ يَحْتَاجُ».

حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ لم يكن حدوث المجاعات في الأيام القديمة من غرائب الأمور لأنه لم تكن السفن ووسائط نقل الطعام كثيرة كما في هذه الأيام (انظر أعمال ١١: ٢٨).

فَٱبْتَدَأَ يَحْتَاجُ كان تمتع الابن بحريته وتصرفه حسب شهواته إلى حين ثم كثرت عليه النوائب فأفلس في وقت المجاعة وجاع كثيراً. وهذا يدلنا طبعاً على أن أصحابه الأشرار تركوه. والمراد بتلك المجاعة عدم إمكان لذّات هذا العالم أن تشبع النفس فإنها تشتهي محبة الله والحق وراحة الضمير والخبز من السماء (يوحنا ٦: ٣٢). وجوع الجسد ليس شيئاً بالنسبة إلى جوع النفس التي شعرت ببعدها عن الله (إرميا ٢: ١٩ و١٧: ٥ و٦). فشعور النفس باحتياجها إلى الله هو فعل الله عينه وذلك الشعور كصوت الله يدعو الضال إلى وطنه السماوي.

١٥، ١٦ «١٥ فَمَضَى وَٱلْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ ٱلْكُورَةِ، فَأَرْسَلَـهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. ١٦ وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلَأَ بَطْنَهُ مِنَ ٱلْخُرْنُوبِ ٱلَّذِي كَانَتِ ٱلْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ، فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ».

ص ١٦: ٢١

وَٱلْتَصَقَ بِوَاحِدٍ لم يكن ذلك عملاً شريراً فإنه أتى ذلك رغبة في إصلاح شأنه. فخير له أن يجوع وهو مع الخنازير من أن يشبع في ولائم الزواني. وكان يجب عليه عند ذلك أن يرجع إلى بيت أبيه ولكنه استحيا أن يفعل ذلك لكبريائه حينئذ فظن أنه يحصّل وسائط معاشه بتعبه فذهب أمله عبثاً.

فَأَرْسَلَـهُ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ طلب هذا الابن التخلص من خدمة أبيه الخفيفة فاضطر إلى خدمة أجنبي ثقيلة تُعد عند اليهود أنجس وأكره خدمة.

ٱلْخُرْنُوبِ ٱلَّذِي كَانَتِ ٱلْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ يستدل بهذا أن عمله كان أن يذهب إلى البرية حيث شجر الخرنوب ويجني ثمره ويطرحه للخنازير.

فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ أي لم يعطه أحد طعاماً غير الخرنوب واضطر إلى أكل ذلك لأنه لم يهتم أحد به. ولم يشبع من ذلك الثمر لأنه ليس من المغذيات الحسنة الموافقة للإنسان. على أن تلك الحال الرديئة كانت خيراً له من حاله وهو يهيم في أودية شهواته لأنه لو بقي في حال الترفة لظل بعيداً عن بيت أبيه لكن مصائبه كانت بركات له إذ قادته إلى التوبة والرجوع. وخلاصة نتائج ضلاله أنه بدل صرّح أبيه بالبرية وعشرة أهله بعشرة الخنازير وخيرات ذلك الصرح بالخرنوب وشبعه بالجوع. والمعنى الروحي من ذلك هو أن الإنسان بعدما يشعر بأن لذات هذا العالم ليست كافية لتشبع نفسه وبان بعده عن الله علّة الشقاء يجتهد أن يصلح نفسه بالآداب الظاهرة دون الديانة القلبية فيكون معتمده حفظ أعمال الناموس بغية راحة الضمير فيجد أنه أردأ من ذي قبل بدلاً عمّا رامه من الإصلاح.

١٧ «فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ ٱلْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً!».

فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ لأنه كان في حال جهله كالمجنون (جامعة ٩: ٣). فمن ينقاد لشهواته يشبه البهيمة بل المجنون.

فرجوع الابن إلى نفسه الخطوة الأولى من رجوعه إلى أبيه ورجوع الخاطئ إلى نفسه استعداد لرجوعه إلى الله لأنه يسير حينئذ بمقتضى العقل والضمير لا الشهوات.

كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي ذكر الابن حال بيت أبيه وقابلها بحالته التعيسة فإنه صار أجيراً ولكنه دون الأجراء في بيت أبيه. ولس للأجراء في هذا المثل من معنى روحي سوى الأصاغر في بيت الله. فالخاطئ يقابل حاله بحال واحد منهم فيحزن لعظمة الفرق بينهما.

يَفْضُلُ عَنْهُ ٱلْخُبْزُ بدل الخرنوب. وزيادة الخبز على أجراء أبيه مقابل الجوع الذي يهلكه.

أَنَا أَهْلِكُ جُوعاً ذلك إشارة إلى نتيجة الخدمة للعالم بدلاً من الخدمة لله فالشعور بالشقاء استعداد للرجوع إليه تعالى.

١٨ «أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَـهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ».

أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي نتج هذا العزم من تأمله في سوء الحال التي صار إليها وذكره أن له أباً وثقته بمحبة أبيه وبأنه يغفر له فلم ييأس ويهلك كبعض الضالين. كذلك الخاطئ الذي يشعر بأنه هالك لبعده عن الله يعزم على الرجوع إليه بالتوبة ولكنه لا يفعل ذلك إلا بأن يجذبه الآب السماوي ولا يستطيعه إلا بوسيط أعده الآب (عبرانيين ١٠: ١٩ – ٢٢).

أَخْطَأْتُ الاعتراف بالخطيئة شرط ضروري للمغفرة ولا تكون التوبة صحيحة بدونه (١يوحنا ١: ٩ و١٠).

ولم يعتذر الابن بشبيبته وطيشه وجهله وقوة التجربة بل اعترف بذنبه. وهكذا يليق بكل أثيم أن يصلّي قائلاً كالعشار «اللهم ارحمني أنا الخاطئ».

إِلَى ٱلسَّمَاءِ أي إلى الله. علامة التوبة الحقيقية هي شعور الخاطئ بأنه أخطأ إلى الله وأن ذلك أعظم جرماً من الإخطاء إلى الناس. كذا كانت توبة داود بدليل قوله «إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ وَٱلشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ» (مزمور ٥١: ٤).

وَقُدَّامَكَ لأنه تركه واستهان بنصائحه وعيّره بسيرته الردية وبدّد ماله. فمن أخطأ إلى الله والناس وجب أنه بعد اعترافه لله يعترف لمن أخطأ إليه من الناس وإن صعب عليه أن يتضع أمامهم أكثر مما يصعب عليه الاتضاع أمام الله.

١٩ «وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ».

لَسْتُ مُسْتَحِقّاً الخ من علامات التوبة الحقيقية التواضع وأفضل برهان على أن الإنسان مستحق القبول رؤيته أنه غير مستحق.

٢٠ «فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ، فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَه».

أعمال ٢: ٣٩ وأفسس ٢: ١٣ و١٧ ويعقوب ٤: ٨

فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ أظهر بأعماله الصالحة صحة توبته وإيمانه فكل انفعالاته ودموعه ومقاصده الخيرية لم تنفعه لو لم يعمل بموجبها فالذي فعله الابن في المثل كالذي فعله العشارون والخطاة بإتيانهم إلى المسيح (ع ١). وكل خاطئ يولد ثانية حيثما يترك العالم ويشرع في الرجوع إلى الله وإلى القداسة وإلى السماء.

وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ يظهر من هذا أن أباه كان يتوقع رجوعه ويرقبه.

فَتَحَنَّنَ عرف ابنه حالاً مع كل ما صار إليه من سوء الحال. ولم يحتج إلى ما يعطف قلبه على ابنه من التضرعات فإنه رقّ له بلا واسطة.

وَرَكَضَ لعلّ الابن كان بطيء السير لخجله فلم يصبر أبوه إلى أن يصل إليه فلاقاه سائراً جزءاً من الطريق دلالة على مسرته برجوعه.

وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ علامة حبه له (تكوين ٤٥: ١٤ و٤٦: ٢٩ و٢صموئيل ١٤: ٣٣).

وَقَبَّلَـهُ كان ذلك علامة الصفح والسلام والمحبة (تكوين ٣٣: ٤ و٢صموئيل ١٤: ٣٣ ومزمور ٢: ١٢).

وفي هذا بيان عظمة محبة الله للخطأة واستعداده لقبول الراجعين إليه بالتوبة فإن الله يراقبهم في كل تيههم وهو الذي يخلق فيهم الرغبة في الرجوع إليه. ومحبة الآب هي علّة عمل الفداء «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ الخ» (يوحنا ٣: ١٦).

وهذا المثل شرح لهذه الآية. فركض الوالد لملاقاة ولده إشارة إلى إرسال الله ابنه يسوع من عرشه السماوي إلى هذه الأرض ومحل اجتماعه بالخاطئ هو الصليب على الجلجثة وقبله الصفح إشارة إلى تمام المصالحة التي هي غاية الفداء.

٢١ «فَقَالَ لَـهُ ٱلابْنُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً».

مزمور ٥١: ٤

لم يشر الآب إلى خطيئة ولده بشيء من إمارات وجهه ولا بلفظة من كلامه. وحقق رضاه عليه بقبلة المغفرة ومع ذلك كله اعترف الابن بذنبه لأن إظهار الآب محبته لابنه جعلته يشعر كل الشعور بما ارتكبه من الإثم بعصيانه على والده الرؤوف. فالمسيحيون الحقيقيون لا يزالون مدة الحياة يعترفون بخطاياهم ويحزنون عليها كلما أظهر الله محبته لهم. وقد جاء مثل ذلك في نبوءة حزقيال فإنه بعدما حقق الله لبني إسرائيل تجديد قلوبهم وتطهيرهم من كل نجاساتهم وأصنامهم وإحيائهم وتليين قلوبهم وسكون روحه فيهم (حزقيال ٣٦: ٢٥ – ٢٧) قيل فيهم «فَتَذْكُرُونَ طُرُقَكُمُ ٱلرَّدِيئَةَ وَأَعْمَالَكُمْ غَيْرَ ٱلصَّالِحَةِ، وَتَمْقُتُونَ أَنْفُسَكُمْ أَمَامَ وُجُوهِكُمْ مِنْ أَجْلِ آثَامِكُمْ» (حزقيال ٣٦: ٣١).

ولم يكمّل الابن ما قصد أن يقوله هو «اجعلني كأحد أجرائك» إما لأن أباه لم يدعه يكمل الجملة وإما لأن أباه اعتنقه وقبله واعترف فعلاً بأنه ابنه فلم يبق محل لطلبه أن يكون بمنزلة الأجير. فلو طلب ذلك لكان طلبه دليلاً على شكه في مغفرة أبيه له. أو على كبريائه بأنه لم يرد أن يقبل النعمة مجاناً أو كان ذلك اتضاعاً ليس في محله.

٢٢ «فَقَالَ ٱلأَبُ لِعَبِيدِهِ: أَخْرِجُوا ٱلْحُلَّةَ ٱلأُولَى وَأَلْبِسُوهُ، وَٱجْعَلُوا خَاتِماً فِي يَدِهِ، وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ».

إشعياء ٦١: ١٠ وزكريا ٣: ٤ و٥ ورؤيا ٣: ١٨، زكريا ١٠: ١٢ وأفسس ٦: ١٥

ٱلْحُلَّةَ ٱلأُولَ… خَاتِماً فِي يَدِهِ هما علامة الرضى التام والإكرام (تكوين ٤١: ٤٢ وأستير ٣: ١٠ وإرميا ٢٢: ٢٤ ودانيال ٥: ٢٩ ويعقوب ٢: ٢).

وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ كان لبس الحذاء تمييزاً للبنين عن العبيد لأنهم كانوا حفاة. وفي هذا كله مقابلة حاله في الغربة بحاله في بيت أبيه فصار له بدل العري الحلة الأولى وبدل الخدمة القاسية الخاتم والحذاء اللائقين بالابن والعجل المسمن بدل الخرنوب.

ومعنى كل ما ذُكر أن الله يقبل التائب إليه بعلامات المحبة والرضى برفعه عنه كل الدينونة ويغفر له كل المغفرة ويهب له كل حقوق الابن ويعامله كأنه لم يضل عنه بل يعامله كأنه مستحق الثواب لأجل نفسه بل إكراماً ليسوع المسيح. وليس لنا أن نجد تفسيراً مخصوصاً للحلة والخاتم والعجل المسمن فهي كلها علامة رضى الله يهب بعضها للمؤمنين على الأرض وبعضها في السماء.

٢٣، ٢٤ «٢٣ وَقَدِّمُوا ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ وَٱذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ، ٢٤ لأَنَّ ٱبْنِي هٰذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ. فَٱبْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ».

ع ٣٢ وأفسس ٢: ١ و٥: ١٤ ورؤيا ٣: ١

ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ هو عجل يُطعم في البيت إما لوليمة أو تقدمة. وكان هنا للوليمة. وتلك الوليمة إشارة إلى فرح الوالد برجوع ولده. فكان قصده من ذلك كقصد الراعي من دعوة أصدقائه وجيرانه للفرح معه على وجدانه خروفه الضال (ع ٦) وكقصد المرأة من دعوى صديقاتها وجاراتها لتشاركها في فرحها على وجدان الدرهم المفقود (ع ٩).

لأَنَّ ٱبْنِي اعترف بقوله هذا بابنه أمام الحاضرين وصرّح بأن له كل حقوق الابن.

كَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ هذا شرح لما سبقه وهو قوله «كان ميتاً فعاش» لأنه حسب بعده عنه وهو خاطئ موتاً وحزنه عليه كحزنه على ميت. وكانت تلك الوليمة إشارة إلى فرح الله بالخاطئ الذي نال منه المغفرة وفرح الخاطئ بنواله المغفرة. فنتيجة هذا المثل كنتيجة كل من المثلين السابقين وهي أنه «يَكُونُ فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ» (ع ٧ و١٠).

وما قيل في الابن من أنه «كان ميتاً فعاش» يليق كثيراً أن يقال في الخاطئ قبل توبته وبعدها لأنه كان ميتاً بالنظر إلى الله وإلى القداسة وإلى رجاء السماء (١يوحنا ٣: ١٤ وأفسس ٢: ١ – ٦ و١بطرس ٢: ٢٥) وهنا نهاية المثل من جهة تعلقه بالخاطئ.

٢٥ «وَكَانَ ٱبْنُهُ ٱلأَكْبَرُ فِي ٱلْحَقْلِ. فَلَمَّا جَاءَ وَقَرُبَ مِنَ ٱلْبَيْتِ، سَمِعَ صَوْتَ آلاَتِ طَرَبٍ وَرَقْصاً».

ٱبْنُهُ ٱلأَكْبَرُ قصد المسيح بالابن الأكبر الكتبة والفريسيين الذين تذمروا عليه (ع ٢) وهو أيضاً كناية عن كل من يدّعي البرّ الذاتي ونظره إلى الخطاة كنظر هؤلاء إليهم.

ادّعى الكتبة والفريسيون أنهم حافظو الناموس. وكان يمكن كلاً منهم بالنظر إلى اعتقاده برّ نفسه أن يقول للآب السماوي كما قال الابن الأكبر لأبيه «قط لم أتجاوز وصيتك» فالمسيح أجابهم على فرض صحة دعواهم وبين لهم على ذلك الفرض أنه لا محل لتذمرهم عليه.

فِي ٱلْحَقْلِ كان هناك ليراقب الفعلة فلم يتأخر عن خدمة خارجية لأبيه مع أنه لم يعتبره حق الاعتبار ولم يكن له روح الطاعة كما يظهر من ع ٢٩.

صَوْتَ آلاَتِ طَرَبٍ وَرَقْصاً ذلك من علامات الفرح ومكملات الوليمة. وكان الذين يأتون مثل ذلك يُستأجرون غالباً.

٢٦ «فَدَعَا وَاحِداً مِنَ ٱلْغِلْمَانِ وَسَأَلَـهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هٰذَا؟».

هذا من الإمارات التي دلت على شراسة أخلاقه لأنه لم يدخل حالاً ويشارك المبتهجين في ابتهاجهم بل أرسل يستخبر عن علّة الفرح كأنه لا حق لأهل البيت أن يأتوا مثل ذلك في غيبته.

٢٧ «فَقَالَ لَـهُ: أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ أَبُوكَ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ، لأَنَّهُ قَبِلَـهُ سَالِماً».

اعتقد الخادم أن ابن سيده الأكبر يفرح معهم متى عرف العلّة.

٢٨ «فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ».

فَغَضِبَ أظهر بذلك رداءة أخلاقه وأن لا محبة في قلبه لأخيه ولا اعتبار لائق لأبيه. فلو شارك أباه في شعوره لرحب بأخيه الراجع وفرح مع الفارحين. فكان ذلك منه بمنزلة تذمر الكتبة والفريسيين على المسيح لقبوله الخطاة.

لَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ ذلك لغيظه فإنه أبى أن يدخل بيتاً أخوه فيه.

فَخَرَجَ أَبُوهُ الخ أظهر أبوه بذلك حلمه وتنازله لأنه ترك الوليمة والضيوف وابنه الأصغر وخرج ليطلب إلى ابنه الأكبر أن يدخل كأن السرور لا يكمل وأحد ولديه حزين.

والآب السماوي رغب في أن يدخل الكتبة والفريسيون ملكوت السماء كما دخل العشارون والخطأة وأظهر طول أناته وشدة رغبته في إتيانهم إليه كما فعل ذلك الأب الأرضي.

٢٩ «فَقَالَ لأَبِيهِ: هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هٰذَا عَدَدُهَا، وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ، وَجَدْياً لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي».

يذكرنا هذا الجواب صلاة الفريسي في الهيكل (ص ١٨: ١٠ و١٢). وهو كلام إنسان مدّع البرّ الذاتي.

جَدْياً هو أقل قيمة من العجل ولا سيما العجل المسمّن فتذمر الابن الأكبر بأنه لم يأخذ ما هو الأرخص مع أن أخاه نال ما هو الأغلى.

٣٠ «وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ ٱبْنُكَ هٰذَا ٱلَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ ٱلزَّوَانِي، ذَبَحْتَ لَـهُ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ».

ٱبْنُكَ لم يتنازل إلى أن يدعوه أخاه فأظهر بهذا إهانته لابيه وتمرده على إرادته وشدة محبته لذاته.

أَكَلَ مَعِيشَتَكَ أي أسباب معاشك. وذكر ذلك ليدل على أن ما أتلفه علّة الخسارة العظمى لكن الآب مع علمه بما أتاه ابنه الأصغر غفر له لأنه تاب فكان على أخيه أن يفعل كذلك.

مَعَ ٱلزَّوَانِي لم يذكر هذا سابقاً في المثل. وأتى به الابن الأكبر ليجعل أخاه مكروهاً في عيني أبيه ولا نعلم أحقٌ هو أم باطل وعلى كلا الحالين تاب الابن الأصغر ونال مغفرة أبيه فليس للابن الأكبر حق أن يغضب ويأبى المغفرة.

ذَبَحْتَ لَـهُ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ كأنه كله لمجرد بهجة أخيه. والحق أنه ذبح لكل أهل البيت وكانت الوليمة إظهاراً للفرح العام. ونتيجة كلامه اتهام أبيه بالمحاباة بدعوى أنه شح عليه (ع ٢٩) وجاد على أخيه.

٣١ «فَقَالَ لَـهُ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ، وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ».

يَا بُنَيَّ دعاه ابناً مع أنه لم يدعه أباً. وأظهر بذلك لطفه وحلمه لكي يطفئ نار غيظه وحسده. ولم يلمه على خشونته وقساوته.

أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ قال ذلك بياناً لعدم إيلام وليمة له كأنه قال له أنت لم تغب عن البيت قط ولم تقرب من الهلاك حتى تحتاج إلى الابتهاج المخصوص والوليمة لرجوعك سالماً.

وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ هذا بيان أنه يجب أن لا يخاف خسراناً برجوع أخيه لأن كل المال له وليس بعد ذلك من قسمة أخرى. وليس في هذا من معنى روحي إلا البيان أن لا حق للفريسيين والكتبة في أن يتذمروا فالله لم يظلمهم بقبول العشارين والخطاة وهم لم يخسروا بذلك شيئاً لأن عهود الله باقية لهم كاملة ولهم الناموس والأنبياء وطقوس الديانة الموسوية وتعليم العلماء. وكل وسائط النعمة مباحة لهم إذا شاءوا استعمالها.

٣٢ «وَلٰكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ، لأَنَّ أَخَاكَ هٰذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ».

ع ٢٤

كَانَ يَنْبَغِي برّر الآب نفسه في ما فعله لأن العلّة التي حملته على ذلك كافية وهي أمران الأول أن المفقود وُجد والثاني أن الميت عاش.

أَخَاكَ أنكر الابن الأكبر هذه النسبة بقوله لأبيه «ابنك» (ع ٣٠) فذكره أبوه إياها دليلاً على وجوب أن يشترك في الفرح. والعشارون والخطاة إخوة للكتبة والفريسيين لأنهم كلهم أولاد آدم وزادهم قرابة أنهم جميعاً أولاد يعقوب فكان يجب عليهم أن يفرحوا بخيرهم ويحزنوا على خطاياهم.

والمسيح لم يتمم المثل لكي نعلم هل اقتنع الابن الأكبر من أبيه ورضي بأخيه أو لا لكننا نعرف أن الكتبة والفريسيين المقصودين بالابن الأكبر بقوا متكبرين يحتقرون غيرهم ولا يكترثون بخلاصهم.

فإن اعتبرنا الأمة اليهودية الآن بمنزلة الابن الأكبر وسائر أهل الأرض بمنزلة الأبن الأصغر رأينا الابن الأكبر بعد ما ينيف على ١٨٠٠ سنة لا يزال واقفاً خارج كنيسة المسيح مغتاظاً حسداً مستنكفاً من مشاركة المؤمنين من الأمم المتمتعين بالوليمة الروحية السماوية.

ويصح أيضاً أن نأخذ الابن الأكبر رمزاً إلى كل الناس المدعين البر الذاتي في كل زمان ومكان وهم كل من يتكلون على التقوى الخارجية وينظرون إلى الذين خطاياهم ظاهرة للناس كانهم مقطوعون عن رجاء الخلاص.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى