إنجيل لوقا

إنجيل لوقا | 10 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل لوقا

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح العاشر

إرسال يسوع السبعين للتبشير ع ١ إلى ١٦

١ «وَبَعْدَ ذٰلِكَ عَيَّنَ ٱلرَّبُّ سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضاً، وَأَرْسَلَـهُمُ ٱثْنَيْنِ ٱثْنَيْنِ أَمَامَ وَجْهِهِ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ حَيْثُ كَانَ هُوَ مُزْمِعاً أَنْ يَأْتِيَ».

متّى ١٠: ١ ومرقس ٦: ٧

بَعْدَ ذٰلِكَ أي بعد الحوادث المذكورة في الأصحاح السابق.

لم يذكر أحد من البشيرين إرسال السبعين إلا لوقا ولا نعلم علّة أن متّى ومرقس لم يذكراه إلا أن يكون ذلك الإرسال كان في أثناء خدمة المسيح الأخيرة في بيرية فإن إنباؤهما بحوادث تلك المدة كانت على غاية الاختصار.

سَبْعِينَ هذا وفق عدد الشيوخ الذين اختارهم موسى لسياسة بني إسرائيل (خروج ٢٤: ١ وعدد ١١: ١٦ و١٧) وكثر المسيح عدد المرسلين لأن بلاد بيرية التي أرسلهم إليها واسعة ولأن الوقت الباقي للتبشير كان قصيراً.

آخَرِينَ أي غير الاثني عشر الذين ذُكروا في العدد الأول من الأصحاح التاسع. وكانت وظيفة السبعين تختلف عن وظيفة الاثني عشر في أن وظيفة السبعين كانت وقتيه ووظيفة الاثني عشر كانت دائمة. وأن الاثني عشر أرسلوا خاصة إلى خراف إسرائيل الضالة لجعل الاثني عشر سبطاً ملكوتاً جديداً (متّى ١٠: ٥ و٦). لكن إرسال السبعين كان عاماً لليهود والوثنيين الساكنين معاً. وفي ذلك إشارة إلى أن بركات الإنجيل عامة معدة لكل من يقبلها من أمم الأرض. وبما أن إنجيل لوقا كُتب لفائدة الأمم وافق مقصده ذكر إرسال أولئك السبعين. ومن تقاليد اليهود أن أصل عدد أمم الأرض سبعون بناء على ما جاء في سفر التكوين (تكوين ص ١٠) ولا نعلم هل التفت المسيح إلى ذلك أو لا والظن الراجح أنه لم يلتفت إليه.

أَمَامَ وَجْهِهِ لما أراد المسيح أن يجول في الجليل أرسل الاثني عشر أمام وجهه (متّى ١٠: ١) ولما قصد أن يجول في بيرية أرسل التلاميذ قدامه ليمهدوا الطريق لقبوله.

وسميت البلاد شرقي الأردن بيرية «περεα» من «περα» وهي كلمة يونانية معناها عبر أي عبر الأردن وعبر بحر طبرية وتشتمل تلك الأرض على بلاد باشان وجلعاد وهي التي كانت لسبطين ونصف سبط من بني إسرائيل وهم رأوبين وجاد ونصف سبط منسى. وكانت تلك البلاد في عصر المسيح كثيرة السكان وكان بعضهم يهوداً وبعضهم من الأمم. وكتب لوقا عشرة أصحاحات في جولان المسيح في تلك البلاد ولكن متّى لم يكتب في ذلك سوى الأصحاح التاسع عشر وستة عشر عدداً من الأصحاح العشرين ولم يكتب مرقس في ذلك سوى جزء من الأصحاح العاشر وهو من ع ١ – ٣١.

إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ لم ينههم المسيح كما نهى الاثني عشر بقوله «إلى طريق أمم لا تمضوا» لأن اليهود والأمم كانوا ساكنين معاً في بيرية.

٢ «فَقَالَ لَـهُمْ: إِنَّ ٱلْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَلٰكِنَّ ٱلْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَٱطْلُبُوا مِنْ رَبِّ ٱلْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ».

متّى ٩: ٣٧ و٣٨ ويوحنا ٤: ٣٥ و٢تسالونيكي ٣: ١

أكثر الأوامر التي أمر بها المسيح السبعين كالأوامر التي أمر بها الاثني عشر وقد مرّ الكلام على ذلك في الشرح (متّى ١٠: ٧ – ١٥).

ٱلْحَصَادَ كَثِيرٌ ذكر المسيح مثل هذا قبل أن أرسل الاثني عشر وسبق تفسيره في الشرح (متّى ٩: ٣٧ و٣٨).

فَٱطْلُبُوا الخ في ما قاله المسيح للرسل السبعين ثمانية أمور ذات شأن الأول وجوب الصلاة وقد أمر المسيح التلاميذ بالصلاة قبل كل الأوامر إشارة إلى أنها خير الوسائط لانتشار إنجيله.

٣ «اِذْهَبُوا. هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ مِثْلَ حُمْلاَنٍ بَيْنَ ذِئَابٍ».

متّى ١٠: ١٦

بيّن المسيح هنا للسبعين الأخطار المتعلقة بالمناداة بالإنجيل وكذا كان في كل عصور الكنيسة المسيحية (١يوحنا ٣: ١٣ و١بطرس ٣: ٨). ولنا من هذا الأمر الثاني الذي قصد المسيح أن ينتبه التلاميذ له هو أن يتوقعوا الاضطهاد والضيقات في تبشيرهم.

٤ «لاَ تَحْمِلُوا كِيساً وَلاَ مِزْوَداً وَلاَ أَحْذِيَةً، وَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي ٱلطَّرِيقِ».

متّى ١٠: ٩ و١٠ ومرقس ٦: ٨ وص ٩: ٣، ٢ملوك ٤: ٢٩

(انظر الشرح متّى ١٠: ٩ و١٠) في هذا العدد الأمر الثالث وهو وجوب أن يعتزلوا كل ما يعيقهم عن التبشير من الرفاهية والأُلفة.

وَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي ٱلطَّرِيقِ لم يجئ هذا النهي في سوى بشارة لوقا. وكانت التحيات اليهودية كثيرة ظاهرة قليلة المعنى تشغل وقتاً طويلاً فمنع يسوع أولئك عن مثل ذلك تنبيهاً على أن وقتهم قصير وعملهم مهم يحتاج إلى السرعة وانتهاز كل فرصة لنشر بشارتهم وأن لا وقت لهم يشغلونه بالاحتفالات العادية وهذا كتوصية أليشع النبي خادمه جيحزي (٢ملوك ٤: ٢٩). وليس في ذلك من منافاة لقول الرسول «كونوا لطفاء» (١بطرس ٣: ٨).

٥ – ٨ «٥ وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلاَمٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ. ٦ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ ٱبْنُ ٱلسَّلاَمِ يَحِلُّ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَيَرْجِعُ إِلَيْكُمْ. ٧ وَأَقِيمُوا فِي ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ آكِلِينَ وَشَارِبِينَ مِمَّا عِنْدَهُمْ، لأَنَّ ٱلْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ. لاَ تَنْتَقِلُوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ. ٨ وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ، فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ».

متّى ١٠: ١٢، متّى ١٠: ١٠ و١١ و١كورنثوس ٩: ٤ الخ و١٠: ٢٧ و١تيموثاوس ٥: ١٨ ص ٩: ٢، متّى ٣: ٢ و٤: ١٧ و١٠: ٧ وع ١١

انظر الشرح (متّى ١٠: ١١ – ١٣). هنا الأمر الرابع وهو وجوب القناعة.

سَلاَمٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ (ع ٥) هذا تحية عادية ١(صموئيل ٢٥: ٦ ومزمور ١٢٢: ٧ و٨).

ٱبْنُ ٱلسَّلاَمِ اي المستحق أن يبشر بالسلام.

ٱلْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ (ع ٧) هذه العبارة هي القول الوحيد الذي اقتبس في الرسائل من أقوال المسيح في البشائر.

لاَ تَنْتَقِلُوا (ع ٧) بغية الطعام الطيب والإكرام الزائد فإن الولائم الكثيرة تشغل الأوقات الثمينة.

فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ (ع ٨) أي اكتفوا به.

٩ «وَٱشْفُوا ٱلْمَرْضَى ٱلَّذِينَ فِيهَا، وَقُولُوا لَـهُمْ: قَدِ ٱقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ»

ص ٩: ٢، متّى ٣: ٢ و٤: ١٧ و١٠: ٧ وع ١١

ٱشْفُوا ٱلْمَرْضَى هنا الأمر الخامس وهو وجوب إقامة براهين مرسليتهم بالعجائب النافعة.

وَقُولُوا لَـهُمْ الخ هنا الأمر السادس وهو موضوع تبشيرهم وذلك أنه قد تمت المواعيد بمجيء المسيح.

١٠ – ١٢ «١٠ وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ، فَٱخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا: ١١ حَتَّى ٱلْغُبَارُ ٱلَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ. وَلٰكِنِ ٱعْلَمُوا هٰذَا أَنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ. ١٢ وَأَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَكُونُ لِسَدُومَ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ ٱلْمَدِينَة».

متّى ١٠: ١٤ وص ٩: ٥ وأعمال ١٣: ٥١ و١٨: ٦، متّى ١٠: ١٥ ومرقس ٦: ١١

مرّ الكلام على ذلك في شرح متّى ١٠: ١٤ و١٥ وفيه الأمر السابع وهو الإنباء بإثم الذين يرفضون شهادتهم.

وَلٰكِنِ ٱعْلَمُوا الخ اقترب ملكوت الله من الناس بواسطة المرسلين قبلوا شهادتهم أم رفضوها فالدينونة يوم الدين تبنى على رفضهم تلك البشارة بعد تقديمها لهم فإعلان الله إن قُبل كان بشارة وإلا فهو إنذار وعلّة دينونة.

١٣ – ١٥ «١٣ وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ ٱلْقُوَّاتُ ٱلْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا، لَتَابَتَا قَدِيماً جَالِسَتَيْنِ فِي ٱلْمُسُوحِ وَٱلرَّمَادِ. ١٤ وَلٰكِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ يَكُونُ لَـهُمَا فِي ٱلدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً مِمَّا لَكُمَا. ١٥ وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومُ ٱلْمُرْتَفِعَةُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، سَتُهْبَطِينَ إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ».

متّى ١١: ٢١، حزقيال ٣: ٦، متّى ١١: ٢٣، تكوين ١١: ٤ وتثنية ١: ٢٨ وإشعياء ١٤: ١٣ وإرميا ٥١: ٥٣، حزقيال ٢٦: ٢٠ و٣٢: ١٨

انظر الشرح متّى ١١: ٢١ – ٢٣). ذكر المسيح نبأ هاتين المدينتين صور وصيدا عبرة للأشرار. وكانت كورزين وبيت صيدا وكفرناحوم مشابهات لهما في الشر لأنها قاومت الإنجيل. نعم إن شر هذه الثلاث أعظم من شر صور وصيدا فتكون عاقبتها أردأ. والأرجح أن المسيح قال هذا الكلام مرتين الأولى في الجليل وهو يبشر فيها ويصنع المعجزات. والثانية عند تركه للجليل أخيراً.

١٦ «اَلَّذِي يَسْمَعُ مِنْكُمْ يَسْمَعُ مِنِّي، وَٱلَّذِي يُرْذِلُكُمْ يُرْذِلُنِي، وَٱلَّذِي يُرْذِلُنِي يُرْذِلُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي».

متّى ١٠: ٤٠ ومرقس ٩: ٣٩ ويوحنا ١٣: ٢٠، ١تسالونيكي ٤: ٨، يوحنا ٥: ٢٣

راجع الشرح متّى ١٠: ١٤. في هذا العدد الأمر الثامن وهو الأخير في خطاب المسيح للسبعين وهو الشرف الذي يكون لهم من الله باعتبار أنهم سفراء المسيح لأنهم يكونون شركاء المسيح في الكرامة مقابلة لإهانة الناس لهم كما ذُكر في ع ٣.

رجوع السبعين ع ١٧ إلى ٢١

١٧ «فَرَجَعَ ٱلسَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، حَتَّى ٱلشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِٱسْمِكَ».

ع ١

فَرَجَعَ ٱلسَّبْعُونَ الأرجح أنه لم يكن سوى زمن قصير بين ذهاب السبعين للتبشير ورجوعهم فإن كثرتهم سهلت لهم أن يزوروا أماكن كثيرة في وقت واحد لأنهم ذهبوا اثنين اثنين فأمكنهم أن يبشروا في ٣٥ مكاناً في حين واحد. ولعلّ المسيح توقع رجوعهم وهو في بيرية في المكان الذي أرسلهم منه. ولا يلزم من النبإ أن السبعين رجعوا معاً بل يحتمل أنهم رجعوا على التوالي حسب المسافة التي انتهوا إليها.

بِفَرَحٍ هذا الفرح هو الكلمة ذات الشأن في هذه الآية فإن كل فرقة منهم عادت مسرورة تعجب من نجاح مرسليتها.

حَتَّى ٱلشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا كان ذلك الخضوع أنهم كانوا يخرجون من الناس بأمر التلاميذ. وحسب السبعون ذلك من أعظم المعجزات. ولم يذكروا هل قبل الناس تبشيرهم أولاً ويحتمل أنهم ذكروا شيئاً من ذلك لم ير لوقا ذكره ضرورياً لمقصده. وكان نجاحهم دليلاً على قوة إيمانهم لأن بعض الاثني عشر عجز عن مثل ذلك لضعف إيمانه (متّى ١٧: ٢١). وكان المسيح قد أوصاهم عند إرساله إياهم أن يشفوا المرضى (ع ٩) وهذا يتضمن الوعد بقوة على ذلك ولما استعملوا تلك القوة واختبروا نتائجها قوي إيمانهم حتى أنهم تجرأوا على عمل ما هو أعظم من شفاء المرضى وقدروا لأن المسيح وهب لهم سلطاناً على قدر الإيمان. ولا موجب للظن أنهم فرحوا بمجد أنفسهم لحصولهم على ذلك السلطان وأن المسيح اعتبرهم نواباً عنه. فالأولى أن تحكم أنهم فرحوا به لنفعهم الناس بتحريرهم من رق الشيطان الهائل ولتمجيدهم المسيح لأنهم فعلوا المعجزات باسمه فتبين أن سيدهم ابن الله المسيح الحق.

بِٱسْمِكَ اعطوا كل المجد للمسيح باعتبار أنه مصدر كل سلطانهم.

١٨ «فَقَالَ لَـهُمْ: رَأَيْتُ ٱلشَّيْطَانَ سَاقِطاً مِثْلَ ٱلْبَرْقِ مِنَ ٱلسَّمَاءِ».

إشعياء ١٤: ٩ إلى ١٥ ويوحنا ١٢: ٣١ و١٦: ١١ ورؤيا ٩: ١ و١٢: ٧ إلى ١٢

رَأَيْتُ رأى المسيح لكونه هو الله تأثير تبشير السبعين ونتيجة أعمالهم في عالم الأرواح التي لم يروها هم. وهو رأى تلك النتيجة قبل أن أتوا وأخبروه بأعمالهم. وهم شاهدوا أعمال متفرقة وهو نظر نتيجة واحدة عظيمة من تلك الأعمال.

ٱلشَّيْطَانَ هو رئيس الشياطين الذين أخرج السبعون بعضهم من الناس.

سَاقِطاً… مِنَ ٱلسَّمَاءِ أي هابطاً من مقام الكرامة والسلطان إلى هاوية الهوان والهلاك. لأن الشيطان كان بواسطة انتصاره على البشر وقوده إياهم إلى حب العالم والإثم كأنه ارتفع إلى عرش عالٍ من السلطان. وذلك وفق قول الرسول على الشيطان وجنوده «أَجْنَادِ ٱلشَّرِّ ٱلرُّوحِيَّةِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ» (أفسس ٦: ١٢). فكأن المسيح قال للسبعين أنتم مصيبون بأنكم فرحتم بإخضاع الشياطين لأن نتائج ذلك الإخضاع أعظم مما ظننتم وموضوع الفرح كذلك لأنكم ظننتم أن أفراد الأبالسة خضعوا وأن أفراد النفوس البشرية عتقت من عبوديتهم والحق أنه قد هُدم جزء من ملكوت الظلمة وابتدأت شوكة رئيس تلك المملكة تنكسر. فانتصاركم دائم لا وقتي وهو بداءة سقوط مملكة الشيطان كلها. فالمسيح أتى لكي ينقض أعمال الشيطان (١يوحنا ٣: ٨) ورأى عمل السبعين جزءاً من ذلك النقض وعربون إتمامها فجمع نتيجة أعمالهم إلى كل نتائج أعماله في هذا العالم واحتماله تجربة إبليس في البرية وتبشيره ومعجزاته وموته وقيامته وإرساله الروح القدس ومقاومته للشيطان بواسطة كنيسته وغاية ذلك كله هدم ملكوت الشيطان وبنيان ملكوته.

و «سقوط الشيطان من السماء» كناية عن هدم كل مملكة الشر (إشعياء ١٤: ١٢ ورؤيا ٩: ١ انظر أيضاً يوحنا ١٢: ٣١ ورؤيا ١٢: ٧ – ٩ و٢٠: ٢ و٣ و٧ – ١٠).

مِثْلَ ٱلْبَرْقِ في السرعة.

١٩ «هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَاناً لِتَدُوسُوا ٱلْحَيَّاتِ وَٱلْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ ٱلْعَدُوِّ، وَلاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ».

تكوين ٣: ١٥ ومزمور ٩١: ١٣ ومرقس ١٦: ١٨ وأعمال ٢٨: ٥

أُعْطِيكُمْ سُلْطَاناً وعد المسيح السبعين بدوام السلطان الذي منحهم إياه وتوسيع نطاقه لكي يعزيهم في أتعابهم المستقبلة ومقاساتهم المقاومة والاضطهاد.

لِتَدُوسُوا ٱلْحَيَّاتِ وَٱلْعَقَارِبَ لعلّ المسيح قصد أن يفهموا هذا الكلام حقيقة كقوله في بشارة مرقس «يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ» (مرقس ١٦: ١٨) وتم ذلك فعلاً (أعمال ٢٨: ٣). والأرجح أنه أشار بالحيات والعقارب إلى أعدائهم الروحية وقوات الشر الضارة المكروهة. فوعدهم أنه يحميهم منها ومن الأضرار الجسدية التي يستطيعها الشياطين. ومثل هذا قوله تعالى «هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ» (تكوين ٣: ١٥). وقول المرنم «عَلَى ٱلأَسَدِ وَٱلصِّلِّ تَطَأُ» (مزمور ٩١: ١٣) وعلى ذلك يكون دوس الحيات والعقارب كسقوط الشيطان من السماء مثل البرق.

وَكُلَّ قُوَّةِ ٱلْعَدُوِّ العدو هنا الشيطان وهو رئيس كل المقاومين ولذلك ذُكر مفرداً وهو تفسير للحيات والعقارب فهي مجاز وهو حقيقة. ومن فعل قوة العدو الإضرار الجسدي والنوازل الطبيعية كالزلازل والأنواء وما شاكلها وتهييج الأشرار وتجارب إبليس الهائلة.

لاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ تم هذا الوعد مراراً بأن أنقذ المسيح عبيده من أيدي أعدائهم ووقاهم الأضرار الطبيعية. فإن سمح ربنا بنزول شيء من المصائب الجسدية لا يسمح بشيء من الأذى الروحي فما يكون ضرراً لأجساد تلاميذه يكون ربحاً لنفوسهم.

٢٠ «وَلٰكِنْ لاَ تَفْرَحُوا بِهٰذَا أَنَّ ٱلأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ، بَلِ ٱفْرَحُوا بِٱلْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».

خروج ٣٢: ٣٢ ومزمور ٦٩: ٢٨ وإشعياء ٤: ٣ ودانيال ١٢: ١ ورومية ٨: ١٦ وفيلبي ٤: ٣ وعبرانيين ١٢: ٢٣ ورؤيا ١٣: ٨ و٢٠: ١٢ و٢١: ٢٧

لاَ تَفْرَحُوا بِهٰذَا أَنَّ ٱلأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لا تتخذوا قوتكم على صنع أعظم المعجزات معظم فرحكم أو علته الوحيدة لأن كثيرين من فعلة الإثم صنعوا مثل تلك المعجزات (متّى ٧: ٢٢). وكان ليهوذا الاسخريوطي مثل تلك القوة. ولا بد من أن يكون من حصل على مثل تلك القوة عرضة للافتخار والكبرياء.

بَلِ ٱفْرَحُوا بِٱلْحَرِيِّ ذكر لهم يسوع علّة فرح حقيقي لائق بهم لا خطر لصاحبه من أن يتعرض للكبرياء.

أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هذا مجاز وهو أن أسماء عبيد الله سُطرت في سفر ومعنى ذلك أنه تعالى يعترف بأنهم أولاده وورثته لأنهم من أهل المدينة السماوية وكثيراً ما جاء مثل هذا المجاز في الكتاب المقدس ومنه ما جاء في سفر الخروج ٣٢: ٣٢ و٣٣ ودانيال ٢١: ١ وملاخي ٣: ١٦ وفيلبي ٤: ٣ وعبرانيين ١٢: ٢٣ ورؤيا ٣: ٥ و١٣: ٨ و٢٠: ١٢ و٢١: ٢٧. فتكون علّة فرح التلاميذ أنهم نالوا الرحمة والمغفرة بواسطة المسيح وأن خلاصهم الأبدي لا ريب فيه. ونتيجة ذاك أن هبة النعمة أفضل من هبة القوة وأن المواهب السماوية أفضل من المواهب الأرضية مهما عظمت. وأي علّة فرح لمن ينقذ أجساد الناس من سلطة الشيطان الوقتية وتبقى نفسه في قيود الشيطان ويكون شريكاً له في العذاب الأبدي.

وعلّة الفرح المشار إليه هنا ليست القداسة الشخصية ولا حسن المعرفة ولا الأعمال الصالحة بل وعد المسيح بالحياة الأبدية لكل من يؤمن به وشهادة الإنسان لنفسه بالإيمان.

فرح يسوع ٢١ إلى ٢٤

٢١ «وَفِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِٱلرُّوحِ وَقَالَ: أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ، رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ عَنِ ٱلْحُكَمَاءِ وَٱلْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا ٱلآبُ، لأَنْ هٰكَذَا صَارَتِ ٱلْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ».

متّى ١١: ٢٥

تَهَلَّلَ يَسُوعُ أي فرح فرحاً عظيماً أظهر بالكلام ولا ريب في أنه ظهر من الإمارات على وجهه وهو عربون الفرح الذي وعد الله المسيح به في قوله «مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ» (إشعياء ٥٣: ١١). وليس في الإنجيل غير هذا الموضع ذكر فيه أن المسيح تهلل.

أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ ذُكر مثل هذه الآية في بشارة متّى ١١: ٢٥ و٢٦. وكانت الأحوال هناك مختلفة عن الأحوال هنا ولا عجب من أن المسيح ذكره مرتين.

لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ… وَأَعْلَنْتَهَا ذكر المسيح هنا عملين من أعمال الآب وهما الإخفاء والإعلان واتخذ كلاً منهما موضوعاً للشكر. فالأول إجراء العدل في حجب نور الحق عن الذين أغمضوا عيونهم ورفضوا الحق وأبغضوه واحتقروه. والثاني إجراء الرحمة في إيضاح الحق لبسطاء القلوب الذين يحبونه وقد فتحوا قلوبهم لقبول التعليم الإلهي. والإشارة بقوله «هذه» في هذه الجملة إلى ما آمن به السبعون وبشروا به مع إتيان المسيح والخلاص به. والمراد بالحكماء والفهماء هنا أرباب الحكمة والفهم حقاً في الدنيويات وأرباب ذلك على وهمهم في الروحيات وهم ممن اشتهروا بالحكمة والفهم عند أكثر العالم ولكنهم ليسوا كذلك في عيني الله. وأمثال هؤلاء الفريسيون. وقول المسيح هنا وفق قول الرسول (١كورنثوس ١: ٢٧ – ٣١).

لِلأَطْفَالِ أي للسبعين وأمثالهم الذين حسبهم العالميون أطفالاً في الحكمة والفهم وهم ليسوا أقوياء في أنفسهم بل متواضعين قابلين للتعليم مستعدين للطاعة وقد اختارهم الله آلات لأعظم أعماله. وشهد المسيح لتلاميذه لما أظهروه من الإيمان والغيرة والإدراك الروحي.

نَعَمْ أَيُّهَا ٱلآبُ أظهر المسيح مسرته بمقاصد الله وأعماله واعتبر أنها عادلة مقدسة صالحة وإن كانت مخالفة للحكمة البشرية باختيار البسطاء لنشر تعاليم دين جديد.

٢٢ «وَٱلْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ ٱلابْنُ إِلاَّ ٱلآبُ، وَلاَ مَنْ هُوَ ٱلآبُ إِلاَّ ٱلابْنُ، وَمَنْ أَرَادَ ٱلابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَـهُ».

متّى ٢٨: ١٨ ويوحنا ٣: ٣٥ و٥: ٢٧ و١٧: ٢، يوحنا ١: ١٨ و٦: ٤٤ و٤٦

جاء مثل هذا الكلام في بشارة متّى ١١: ٢٧ فراجع الشرح هناك.

كُلُّ شَيْءٍ أي كل ما في السماء وعلى الأرض من ضروريات عمل الفداء.

وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الخ صرّح المسيح هنا بأمرين:

(١) أن الله وحده يعلم سر تجسد المسيح تمام العلم وأن لا أحد يستطيع أن يدرك حقيقة المسيح أي أنه ابن الله وابن الإنسان ما لم يعلّمه الآب.

(٢) أن لا أحد يعرف الآب تمام المعرفة إلا بواسطة الابن الذي أتى إلى العالم ليخبر بذلك (يوحنا ١: ١٨).

فالتلاميذ السبعون الذين عرفوا أن يسوع هو المسيح ابن الله هم من «الأطفال» الذين أعلن لهم الآب الحق المخفي عن الفريسيين المتكبرين الحكماء والفهماء في عيون أنفسهم.

٢٣، ٢٤ «٢٣ وَٱلْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ عَلَى ٱنْفِرَادٍ وَقَالَ: طُوبَى لِلْعُيُونِ ٱلَّتِي تَنْظُرُ مَا تَنْظُرُونَهُ، ٢٤ لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ وَمُلُوكاً أَرَادُوا أَنْ يَنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَلَمْ يَنْظُرُوا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا».

متّى ١٣: ١٦، تكوين ٤٩: ١٨ و٢صموئيل ٢٣: ١ إلى ٥ و١بطرس ١: ١٠

هذا مثل ما ذكر في بشارة متّى ١٣: ١٦ و١٧ والاختلاف في الحال والزمن. وتكرار هذا الوعد حسن.

ٍإِلَى تَلاَمِيذِهِ عَلَى ٱنْفِرَاد كلام المسيح هنا موجه للمؤمنين به دون غيرهم ولعلهم كانوا يشتملون على الاثني عشر والسبعين وغيرهم.

طُوبَى لِلْعُيُونِ الخ هذا التطويب ليس لمن نظروا المسيح بالعيون الجسدية لأن الفريسيين غير المؤمنين نظروه كذلك بل لمن نظروه بعيون الإيمان ورأوه المسيح ابن الله مخلص العالم.

مُلُوكاً عبّر عنهم متّى بالأبرار وهم أبرار الملوك كداود وسليمان وحزقيا. وزاد حظ تلاميذ المسيح كثيراً على حظ إبراهيم وموسى وداود وسليمان وإشيعاء ودانيال من معرفة صفات الله ومقاصد رحمته بواسطة ابنه يسوع المسيح. ويتضمن ما مرّ من التطويب على تلك المعرفة السماوية النصح أن يعتبروها ويتمسكوا بها ويجتهدوا أن يتقدّموا فيها.

سؤال الناموسي وجواب المسيح له وقصة السامري الحنون ع ٢٥ إلى ٣٧

٢٥ «وَإِذَا نَامُوسِيٌّ قَامَ يُجَرِّبُهُ قَائِلاً: يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ؟».

متّى ١٩: ١٦ و٢٢: ٣٥ ومرقس ١٢: ٢٨ الخ

نَامُوسِيٌّ هو إنسان عالم في شريعة موسى. والناموسيين فرقة من الكتبة. والحادثة هنا لم يذكرها أحد من الإنجيليين سوى لوقا. فيجب أن نميز بينها وبين حادثة الرئيس الغني المذكورة في هذه البشارة (ص ١٨: ١٨ – ٣٠ وبشارة متّى ١٩: ١٦ – ٢٤ وبشارة مرقس ١٠: ١٧ – ٣١). فالسؤال فيهما واحد وأول الجواب كذلك ويجب أن نميز أيضاً بينها وبين الحادثة التي ذُكرت في بشارة متّى ٢٢: ٣٥ – ٤٠ وبشارة مرقس ١٢: ٢٨ – ٣٤.

يُجَرِّبُهُ لا يلزم من هذا أن الناموسي أراد أن يصطاد المسيح بكلمة. فيحتمل أنه قصد امتحان معرفته باعتبار أنه معلم وكشف ما في تعليمه ليرى هل فيه شيء يخالف شريعة موسى. ولعله سأله ذلك وهو يعتقد برّ ذاته (كما يظهر من ع ٢٩) منتظراً أن جواب المسيح يثبت مدحه لنفسه بأنه عمل كل ما يقتضيه ميراث الحياة الأبدية.

مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ هذه المسئلة من أهم المسائل يجب على كل إنسان أن يسألها. ووجّهها الناموسي إلى أفضل من يستطيعون جوابها وهي عين المسئلة التي سألها الرئيس (ص ١٨: ١٨ ومتّى ١٩: ٢٦). والأرجح أن الناموسي توقع أن المسيح يأمره بعمل من الأعمال الخيرية فوق ما فعل منها وبنكران الذات أو الزهد.

٢٦ «فَقَالَ لَـهُ: مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلنَّامُوسِ. كَيْفَ تَقْرَأُ؟».

مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عرف المسيح غاية الناموسي من سؤاله أي أن «يجربه» وجاوبه بما لا وجه فيه للاعتراض. وخلاصة جوابه أن مطلوبك أيها الناموسي في الناموس الذي قد درسته وعلمته.

كَيْفَ تَقْرَأُ اصطلح الربانيون على هذا السؤال عندما كانوا يسألون تلاميذهم عما قرأوه من كلمات التوراة بحروفه.

٢٧ «فَأَجَابَ: تُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ».

تثنية ٦: ٥، لاويين ١٩: ١٨

أظهر الناموسي بهذا الجواب قوة إدراكه خلاصة الشريعة وبلاغته في الإيجاز بدلاً من أن يذكر الأوامر والمناهي تفصيلاً. واقتبس جوابه من (تثنية ٦: ٥ ولاويين ١٩: ١٨).

والذي عرفه هذا الناموسي من تلقاء نفسه التزم يسوع أن يعلمه ناموسياً آخر في أورشليم (متّى ٢٢: ٣٧ – ٣٩). فظهر أن معرفته الشريعة أعظم من معرفته نفسه.

٢٨ «فَقَالَ لَـهُ: بِٱلصَّوَابِ أَجَبْتَ. اِفْعَلْ هٰذَا فَتَحْيَا».

لاويين ١٨: ٥ ونحميا ٩: ٢٩ وحزقيال ٢٠: ١١ و١٣ و٢١ ورومية ١٠: ٥

اِفْعَلْ هٰذَا فَتَحْيَا سبق تفسير هذا في الشرح (متّى ٢٢: ٣٧ – ٤٠). ومعنى المسيح أن فعل الناموس على هذا الأسلوب علامة أن الفاعل وارث الحياة الأبدية لأن الذي يحب الله فوق كل شيء ويحب قريبه كنفسه يكون ممن نشأت في قلبه الحياة الأبدية. ولكن لا أحد من البشر فعل ذلك على الأرض أو سيفعله عليها. وخاطب يسوع الناموسي بكلمات الشريعة تمهيداً لكلمات الإنجيل وتنبيهاً له على أنه لم يحفظ الناموس كما يجب ولم يكن وارث الحياة الأبدية وهذا وفق قول الرسول «كَانَ ٱلنَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية ٣: ٢٤). ولم يكن الناموسي مستعداً لكلام الإنجيل لأنه لم يشعر بعجزه عن حفظ كل وصايا الناموس وبأنه مفتقر إلى برّ المسيح بالإيمان. فالذين استعدوا لقبول الإنجيل جاوبهم المسيح بغير ذلك (يوحنا ٦: ٢٨ و٢٩).

٢٩ «وَأَمَّا هُوَ فَإِذْ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّرَ نَفْسَهُ، سَأَلَ يَسُوعَ: وَمَنْ هُوَ قَرِيبِي؟».

ص ١٦: ١٥ و٢كورنثوس ١٠: ١٨

أَنْ يُبَرِّرَ نَفْسَهُ إما أن يبرئ نفسه من عدم حفظ شريعة المحبة على اختلاف مطاليبها بناء على أن قول المسيح «افعل هذا» يستلزم أنّه لم يحفظ تلك الشريعة وإمّا أن يبرّئ نفسه من الجهل اللازم من سؤاله مسئلة بسيطة جوابها واضح.

مَنْ هُوَ قَرِيبِي على فرض أنه أراد تبرئة نفسه من عدم حفظ الجزء الثاني من شريعة المحبة واعتقد أنه يحب الله كما يجب حتى لم يتصور أن المسيح يتهمه بعدم حفظه الجزء الأول من تلك الشريعة يكون كأنه قال للمسيح لا بد من أن تكون علّة ظنك عدم حفظي الجزء الثاني أنك فهمت أنت من «قريبي» معنى غير المعنى الذي فهمته أنا منه. لأني أعتقد أن قريبي هو اليهودي لا السامري ولا الوثني أفلستَ تعتقد هكذا؟ فإن كان قد قصد تبرير نفسه بهذا فقد دانها بتضييق دائرة المحبة فكان يجب أن يتركها على ما هي عليه دون تحديده. وقد أخطأ كما أخطأ بطرس بسؤاله الرب «كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَـهُ» (متّى ١٨: ٢١). وعلى فرض أنه أراد تبرئة نفسه من الجهالة لإتيانه ذلك السؤال البسيط يكون كأنه قال لم يهُن أن نعرف من هو القريب لأن آراء العلماء في ذلك تختلف كثيراً.

٣٠ «فَأَجَابَ يَسُوعُ: إِنْسَانٌ كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا، فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ، فَعَرَّوْهُ وَجَرَّحُوهُ، وَمَضَوْا وَتَرَكُوهُ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيِّتٍ».

أَجَابَ يَسُوعُ كان جوابه المثل المعروف بمثل السامري الصالح وهو ليس جواب سؤال الناموسي «من قريبي» على خط مستقيم لكن جواب سائل يقول من يحفظ الجزء الثاني من شريعة المحبة حفظاً تاماً أي من يحب قريبه كما يجب. فكأن المسيح قال للناموسي لا تنظر إلى صنوف الناس لتتحقق من هو قريبك بل انظر إلى أعمال الذين يدعون أنهم يحبون القريب وعواطفهم لتتحقق من هو قريبك الذي يحبه حباً صحيحاً.

إِنْسَانٌ نعلم من القرينة أن هذا الإنسان يهودي وإلا لم يصدق أنه نازل من أورشليم.

مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا بين أورشليم وأريحا مسافة نحو سبع ساعات أي عشرين ميلاً وكانت أورشليم أعلى من أريحا بنحو ٣٤٠٠ قدم لأن أورشليم تعلو سطح البحر بنحو ٢٥٠٠ قدم واريحا أوطأ منه بنحو ٩٠٠ قدم ولهذا قال «كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا». وضرب المسيح تلك القصة مثلاً لبيان تعليمه لا يمنع من أنها كانت من الواقعات.

فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ معظم الأرض بين أورشليم وأريحا صخري جديب لا يحسن للحراثة فلذلك خلا من السكان وفيه أودية عميقة تكثر الكهوف في صخورها يكمن بها اللصوص للمسافرين. وكانت أريحا يومئذ مدينة كبيرة غنية فكان المسافرون إليها والطريق بين المدينتين اشتهرت منذ العصور الخالية بكثرة اللصوص حتى سُميت «بالطريق الحمراء» أو الدموية.

فَعَرَّوْهُ أظهر اللصوص قساوتهم بعد اكتفائهم بأخذ نقوده وبضاعته بأن نزعوا عنه ثيابه وأخذوها.

وَجَرَّحُوهُ ربما فعلوا ذلك في أول هجومهم عليه ليمنعوه من المقاومة أو لأنه أخذ يدفع عن نفسه وعن ماله أو ليمنعوه عن أن يتتبع آثارهم ويجد من يساعدونه على رد ما سلبوه ولعلهم جرحوه لمجرد قساوة قلوبهم وحبهم أذى الغير.

وَمَضَوْا غير مكترثين بموته أو حياته.

بَيْنَ حَيٍّ وَمَيِّتٍ فكان عاجزاً عن أن يسير إلى حيث يجد من يعتني به وفي حال توجب له شفقة كل من يمر به.

٣١ «فَعَرَضَ أَنَّ كَاهِناً نَزَلَ فِي تِلْكَ ٱلطَّرِيقِ، فَرَآهُ وَجَازَ مُقَابِلَـهُ».

خروج ٢٣: ٤ و٥ وتثنية ٢٢: ١ إلى ٤ ومزمور ٣٨: ١١ وإشعياء ٥٨: ٧

فَعَرَضَ أي اتفق أو كان بلا قصد سابق للاعتناء بذلك الجريح.

كَاهِناً أحد أبناء هارون. وكانت أريحا مقام كثيرين من الكهنة واللاويين حين فراغهم من خدمة الهيكل. قيل أن عددهم هنالك بلغ في أيام المسيح نحو ١٢٠٠٠ فلزم طبعاً أن يمرّوا كثيراً بين المدينتين ذهاباً وإياباً.

فَرَآهُ على البعد.

وَجَازَ مُقَابِلَـهُ أي لم يقترب منه ليقف على أمره أو ليساعده أو ليسمع استغاثة الجريح. وعلّة ذلك إما أنه لم يرد أن يُعاق ويكلف نفسه نفقة وتعباً وإما أنه خاف من نجاسة طقسية إن كان هو ميتاً ودنا من جثته وإما أنه خاف من أن يتهمه أحد بقتله إذا رآه قريباً منه.

وهذا الكاهن خالف بما أتاه شريعة المحبة. وكان عليه لكونه خادماً لله ونائبه على الأرض أن يتمثل به تعالى لقوله «إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً» (هوشع ٦: ٦) ولكونه معلماً تلك الشريعة أن يكون قدوة في إظهار المحبة والشفقة لكنه خالف شريعة المحبة التي أمرت بالشفقة على العدو وبرد بهائمه أو إقامتها (خروج ٢٣: ٤ و٥) فهي بالأولى أن تأمر بالشفقة على حياة إنسان ليس بعدو له.

٣٢ «وَكَذٰلِكَ لاَوِيٌّ أَيْضاً، إِذْ صَارَ عِنْدَ ٱلْمَكَانِ جَاءَ وَنَظَرَ وَجَازَ مُقَابِلَـهُ».

لاَوِيٌّ أحد أبناء لاوي وهم مساعدو بني هارون في خدمة الهيكل (عدد ٨: ٥ – ٢٢). وهذا الموضع الوحيد في البشائر الذي ذُكر فيه لاوي. واللاويين كانوا موقوفين لخدمة الله كالكهنة ومجبرين على أن يظهروا الشفقة على الناس أكثر ممن سواهم.

جَاءَ وَنَظَرَ رغبة في الوقوف على الواقع. ولا بد من أنه عرف شدة احتياج ذلك الجريح إلى المساعدة لأن حياته كادت تنتهي من كثرة ما سال من دمه فأذنب بعدم عنايته به أكثر من الكاهن لأنه قسى قلبه بمخالفته الشريعة والطبيعة والأول لم يخالف سوى الشريعة.

وَجَازَ مُقَابِلَـهُ كما فعل الكاهن، فلو لم يكن الجريح يهودياً لصرّح بذلك بياناً لتركه من كل من الكاهن واللاوي. وكانا كلاهما من علماء الشريعة ومفسريها ومدعي حفظها. فلا يقام بالناموس بمجرد العلم والادعاء.

٣٣ «وَلٰكِنَّ سَامِرِيّاً مُسَافِراً جَاءَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ».

يوحنا ٤: ٩

سَامِرِيّاً كان السامريون وثنيين آمنوا بشريعة موسى وقاموا ببعض رسوم الشريعة (انظر الشرح متّى ١٠: ٥) ولم يُذكر أن هذا السامري أتى من أورشليم. ويحتمل أنه كان آتياً من بيت إيل أو جرزيم فمرّ في بعض الطريق بين أورشليم وأريحا وهو مسافر للتجارة. وذكر المسيح هذا السامري لكي يعلم أن الأجنبي الذي يطيع شريعة المحبة خير من خادم الدين الحق الذي يخالفها لا ليكرم السامريين ولا ليهزأ بالكهنة واللاويين.

جَاءَ إِلَيْهِ كان يمكن السامري ان يعتذر بما لا بد من أن اللاوي والكاهن اعتذرا به لكونه كان مجبراً على الإسراع وخائفاً من رجوع اللصوص وسلبهم إياه والتهمة بقتل ذلك الإنسان إن مات لكنه احتمل كل تلك الأخطار ولم يبال بها طوعاً لشريعة المحبة.

تَحَنَّنَ أي رقّ له وكان ذلك علّة صنيعه من أعمال إنكار الذات والتعب والنفقة كما أن عدم رقة الكاهن اللاوي سبب عدم الاكتراث بذلك الجريح. ومما يحقق لنا أن الجريح كان يهودياً أنه لو كان سامرياً لذكر ذلك بياناً لاعتناء السامري به دون غيره. وكان من عوائد السامريين وممّا ربوا عليه أن يبغضوا اليهود. ولكن هذا السامري لم يسمح أن تكون عوائده وما رُبي عليه علّة ليقسّي قلبه على يهودي مفتقر إلى شفقته وعنايته.

٣٤ «فَتَقَدَّمَ وَضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ، وَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتاً وَخَمْراً، وَأَرْكَبَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَأَتَى بِهِ إِلَى فُنْدُقٍ وَٱعْتَنَى بِه».

ضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ لعله فعل ذلك برُبُط فصّلها من ثيابه.

زَيْتاً وَخَمْراً كانوا قد اعتادوا يومئذ أن يعالجوا الجراح بالزيت والخمر (إشعياء ١: ٦) والمقصود من المعالجة بهما قطع جريان الدم وتسكين الألم بمنع الهواء عن الجراح. فالظاهر أن السامري كان قد حمل الزيت والخمر استعداداً لنفعه الخاص فأنفقه على الجريح إحساناً.

وَأَرْكَبَهُ بعد أن عالجه وقطع جريان دمه حتى لا تؤذيه الحركة.

عَلَى دَابَّتِهِ فاضطر أن يمشي ويقاسي تعباً شديداً ليمسكه وقاية له من السقوط في تلك الأرض الصخرية المنحدرة.

فُنْدُقٍ أي خان.

وَٱعْتَنَى بِهِ لم يكتف بأن أوصله إلى هناك بل زاد على ذلك أنه خدمه على قدر الاقتضاء.

٣٥ «وَفِي ٱلْغَدِ لَمَّا مَضَى أَخْرَجَ دِينَارَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا لِصَاحِبِ ٱلْفُنْدُقِ، وَقَالَ لَـهُ: ٱعْتَنِ بِهِ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ أَكْثَرَ فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ».

متّى ٢٠: ٢

أَخْذَ دِينَارَيْنِ أي نحو تسعة غروش ولكن قيمة النقود يومئذ كانت أعظم من قيمتها اليوم وكان ذلك أجرة فاعلين على عمل يومين (متّى ٢٠: ٢ و٩). وكان ثمن طعام يكفي خمسين نفساً دفعة على قياس ما في الآية ٣٧ من ص ٦ من بشارة مرقس. فقام ذلك السامري بالنفقة على الجريح في الحال وبعض المستقبل.

فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ توقع السامري أن يرجع في تلك الطريق ولم يكتف بما أنفق على الجريح فوعد الفندقي أنه يحاسبه بما ينفقه فوق ذلك فاعتنى به في الحضور والغيبة.

٣٦ «فَأَيُّ هٰؤُلاَءِ ٱلثَّلاَثَةِ تَرَى صَارَ قَرِيباً لِلَّذِي وَقَعَ بَيْنَ ٱللُّصُوصِ؟».

أَيُّ هٰؤُلاَءِ ٱلثَّلاَثَةِ المراد بهؤلاء الثلاثة الكاهن واللاوي والسامري فالأولان عرفا شريعة المحبة وعلّماها الناس ولم يعملا بمقتضاها ولكن الآخر أي السامري جرى بمقتضاها سواء كان يعرف لفظها أم لا. والناموسي سأل عن أنه «من هو قريبي» الذي أنا ملزوم أن أظهر له المحبة أليس هو الذي مثلي في الاعتقاد ونسيبي في الدم وصاحبي الذي يستطيع أن ينفعني إذا نفعته فلم يجبه المسيح على ذلك رأساً بل ضرب له مثل ذلك السامري الذي لم يقل «من هو قريبي» بل أظهر المحبة تبرعاً لإنسان وليس بقريب له على مذهب الناموسي في معنى القريب.

صَارَ قَرِيباً الخ كنا نتوقع أن يقول المسيح من حسب السامري قريبه. وأن يجاب بأنه هو الجريح. ولكنه قلب السؤال حتى كان الجواب أنه السامري لا الجريح وعلّة ذلك القلب صدق القرابة على كل منهما وإرادة المسيح بيان أن السامري اعتبر حقيقة تلك القرابة بما فعله.

فإن قيل لماذا أجاب المسيح سؤال الناموسي أي قوله «من هو قريبي» بسؤال آخر وهو قوله «أي هؤلاء الثلاثة ترى الخ» قلنا إرادته أن ينبه ضمير السائل ليحكم بالصواب وليقتنع الناس من شهادة وجدانه لا من جواب المسيح.

٣٧ «فَقَالَ: ٱلَّذِي صَنَعَ مَعَهُ ٱلرَّحْمَةَ. فَقَالَ لَـهُ يَسُوعُ: ٱذْهَبْ أَنْتَ أَيْضاً وَٱصْنَعْ هٰكَذَا».

ٱلَّذِي صَنَعَ مَعَهُ ٱلرَّحْمَةَ لم يرد الناموسي أن يصرّح بمدح السامري فأشار إليه معنى لا لفظاً. وهذا جواب نقله عن ضميره يضاد مبادئه اليهودية التي رُبي عليها. والأرجح أنه لولا هذا المثل لم يسلم بأن السامري قريب الجريح.

وَٱصْنَعْ هٰكَذَا هذا هو غاية المسيح من المثل. أمر الناموسي أن يصنع كما صنع السامري للجريح لأنه بذلك يعمل بمقتضى شريعة المحبة.

ولنا من هذا المثل وجوب أن نحسب كل الناس أقرباء بقطع النظر عن الأمة أو الملة وأن نحب الجميع وأن نظهر محبتنا بأعمالنا وقت الحاجة. والذي فسر هذا المثل بفعله أكثر ممن سواه هو المسيح. ولا أحد يقدر أن يعمل بمقتضاه ما لم يتعلّم من المسيح.

إن الكنيسة المسيحية بطاعتها لهذا المثل ولأمر المسيح ولمثاله صارت ملاك رحمة للعالم وحملت له البركات الجسدية والروحية كإبطال النخاسة (أي الاتجار بالعبيد) ومنع القساوة على المسجونين وأسرى الحرب وتوزيع الطعام على الجياع من كل ملة ولسان وتشييد المستشفيات للمرضى وبث بشرى الخلاص في كل أرض.

يسوع في بيت مريم ومرثا ع ٣٨ إلى ٤٢

٣٨ «وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ دَخَلَ قَرْيَةً، فَقَبِلَتْهُ ٱمْرَأَةٌ ٱسْمُهَا مَرْثَا فِي بَيْتِهَا».

يوحنا ١١: ١ و١٢: ٢ و٣

سَائِرُونَ أي مسافرون إلى أورشليم السفر الذي ذُكرت بداءته في ص ٩: ٥١.

قَرْيَةً لا ريب أن هذه القرية بيت عنيا وهي على سفح جبل الزيتون الشرقي بينها وبين أورشليم مسافة نحو ثلاثة أرباع الساعة (متّى ٢٦: ٦ ومرقس ١٤: ٣ ويوحنا ١١: ١ و١٢: ١ و٢). وتسمى اليوم بالعازارية. ولم يتحقق زمان الحادثة المذكورة هنا. كان يسوع في أورشليم في عيد المظال في تشرين الأول من السنة الأخيرة من حياته على الأرض (يوحنا ٧: ١٠) وكان أيضاً في عيد التجديد في كانون الأول من تلك السنة (يوحنا ١٠: ٢٢). فتلك الحادثة إما في الزيارة الأولى أو الزيارة الثانية فهي لم تُذكر باعتبار زمانها لأن الكلام هنا على خدمة المسيح في بيرية.

ٱمْرَأَةٌ ٱسْمُهَا مَرْثَا هي أخت مريم ولعازر والأرجح أنها أكبر من كل منهما. ويحتمل أن سمعان الأبرص (متّى ٢٦: ٦) أبوهم أو زوج إحدى الأختين. والأرجح أنه كان في أيام تبشير المسيح ميتاً أو غائباً لأنه لم يُذكر من أمره سوى اسمه. ولأسباب لم نعلمها كان كلام كل من متّى ومرقس ولوقا على تلك العائلة في بيت عنيا تلميحاً لا تصريحاً وأما يوحنا الذي كتب بعدهم فذكر اسم لعازر واسم القرية التي هو فيها وهذا لم يذكره غيره من البشيرين.

مَرْثَا لم يذُكر مثل هذا الاسم في العهد القديم وهو سرياني معناه سيدة وهي تلميذة مؤمنة اعتبرها المسيح (يوحنا ١١: ٥).

فِي بَيْتِهَا أي قبلته فيه ضيفاً احتراماً له وكذا فعلت في آخر أسبوع من حياته الأرضية.

٣٩ «وَكَانَتْ لِهٰذِهِ أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَمَ، ٱلَّتِي جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلاَمَهُ».

ص ٨: ٣٥ وأعمال ٢٢: ٣ و١كورنثوس ٧: ٣٢ الخ

مَرْيَمَ اسم عبراني معناه مرارة أو مرُّ البحر وكذا كان اسم أم يسوع واسم أخت موسى.

جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ الخ أي جلوس التلاميذ لدى المعلم. وأظهرت إكرامها للمسيح بترك كل أعمال البيت وأصغت إلى تعليمه. والأرجح أن موضوع ذلك التعليم كان الملكوت الذي أتى يسوع ليؤسسه في قلوب الناس وكان جلوسها المذكور قبل العشاء لأن أختها مرثا كانت قد أخذت في إعداده.

٤٠ «وَأَمَّا مَرْثَا فَكَانَتْ مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ، فَوَقَفَتْ وَقَالَتْ: يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدِمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي!».

مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ اعتبرت مرثا يسوع علاوة عن اعتبارها إياه صديقاً أنه رباني مشهور ونبي الله. واختارت الطريق لإظهار إكرامها إياه إعداد مأدبة فاخرة. وهي خلاف الطريق التي اختارتها مريم لذلك. فكانت غاية كلتيهما واحدة وهي احترام المسيح. ولعلّ مرثا ظنت أن الطعام البسيط دون قدر يسوع. وارتبكت بتلك الخدمة العظيمة لتعد مائدة تليق بضيفها الجليل.

وَقَفَتْ وَقَالَتْ كانت علّة ذلك أنها رأت أختها جالسة مستريحة بلا هم من جهة أتعاب البيت وقد أعيت هي من مشقة الخدمة. والمرجح أنها تكلمت بسرعة وحدّة.

يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي في هذا شيء من اللوم ليسوع بأنه لم ينتبه لكثرة ارتباكها ولم يسأل مريم مساعدتها. ولمرثا شيء من العذر بجراءتها على هذا الكلام لأن غايتها من ذلك كله الاهتمام بإعداد ما يليق بربها.

أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي يدل هذا على أن مريم كانت تعمل مع مرثا في أول الأمر ثم سمعت بعض حديث المسيح وهي مارة فلذّ لها فجلست تصغي إليه ونسيت أعمالها وأختها وما يجب عليها للضيف.

فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي كأن مريم لا يحسن أن ترجع إلى العمل إلا بإذن يسوع وأمره.

٤١ «فَأَجَابَ يَسُوعُ: مَرْثَا مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ».

مَرْثَا مَرْثَا تكرير المسيح اسمها يجعل لها توبيخ الصديق لا توبيخ الديّان فهذا مثل قوله «سمعان سمعان» (ص ٢٢: ٣١) و «شاول شاول» (أعمال ٩: ٤). ولا شيء يسكّن المضطرب مثل مناداته باسمه. ولا بد من أن يكون في ذلك التكرير تنبيهاً على أهمية الكلام.

أَنْتِ تَهْتَمِّينَ الخ لم يوبخها المسيح على خدمتها بل على زيادة اهتمامها بها وارتباكها فيها. ولم يقل ذلك إلا بعد أن سألته أن يلوم أختها. وقوله هنا كقوله للتلاميذ سابقاً «لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ الخ» (متّى ٦: ٢٥). وكان خطأوها أنها اهتمت اهتماماً زائداً بالواجبات الدنيوية ولكنها أصابت بذكر همومها للمسيح وفقاً لقول الرسول «مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ» (١بطرس ٥: ٧).

٤٢ «وَلٰكِنَّ ٱلْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَٱخْتَارَتْ مَرْيَمُ ٱلنَّصِيبَ ٱلصَّالِحَ ٱلَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا».

مزمور ٢٧: ٤

ٱلْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ يحتمل هذا الكلام معنيين الأول الحرفي وهو أنك تعدّين أشياء كثيرة لخدمتي ضيفاً ولكني لا أحتاج إلا إلى قليل أو صنف واحد من الأطعمة. والثاني المعنى الروحي وهو العناية بالنفس. أو الإصغاء لصوت المسيح الذي هو الوسيلة إلى ذلك. أو قبول المسيح نفسه في القلب بالإيمان بدلاً من قبوله ضيفاً يُخدم «بأمور كثيرة». فمن الخطأ أن نقصر مراد المسيح على الأول لأنه لا بد من أن يكون قد قصد الثاني فتكلم بما يصدق على الاثنين لكي ينبه بالمعنى الحرفي على المعنى الروحي.

ثم إن استماع مريم للمسيح كان نفعاً لها لا له وخدمة مرثا كانت نفعاً له ففضل المسيح العطاء على الأخذ وفقاً لقوله «أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ» (متّى ٢٠: ٢٨). فهو يؤثر محبة القلوب على ربوات الذبائح.

ٱلنَّصِيبَ ٱلصَّالِحَ هذا مجاز بُني على تقسيم الميراث على الورثة الذين خُيروا في أخذ النقود أو الحقول أو الآثاث أو البيوت. والمعنى هنا كمعنى قوله «الحاجة إلى واحد» وهو الحياة الأبدية التي هي موهبة الله والميراث السماوي. وهذا النصيب خير من الأنصبة وهو صالح في الصحة وفي المرض وفي الشبيبة وفي الشيخوخة وفي الراحة وفي المشقة وفي الحياة وفي الموت وفي هذا الزمان وفي الأبدية.

لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا لأن الحياة الأبدية نصيب لا يزول وميراث لا يفنى. وسمع مريم لكلام المسيح وإيمانها به هما شربها من ماء الحياة وأكلها من خبز الحياة بدليل قول المسيح «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَـهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ» (يوحنا ٦: ٥٤). وصرّح المسيح لمرثا أنه لا يفعل شيئاً يصرف أختها عن طلب ذلك الخير الأعظم الذي اختارته نصيباً وأخذت تجتهد في إصابته. والنصيب الذي لا ينزع ممن يقتنيه وهو المشار إليه هنا يختلف عن كل الأنصبة الدنيوية أنها تنزع من أربابها عند موتهم فيفارق الملوك قصورهم والأغنياء أموالهم ويقفون عراة أمام الله.

وفي ما قاله المسيح لمريم ومرثا فوائد جزيلة لكل مسيحي:

  • الأولى: أنه لا يحسن أن نعتني كل الاعتناء بواجبات الدين الخارجية ولو كانت من أعمال الإحسان إلى المساكين ونهمل الواجبات الروحية من تلاوة كتاب الله والتأمل والصلاة مع أن الواجبات الثانية أصل الواجبات الأولى ومصدرها. فيحب أن نقتدي بالمسيح في أنه اعتنى بعض الاعتناء بأجساد الناس بشفاء أمراضهم وإطعامه لكنه اهتم أكثر بتعليمهم الدين لخلاص نفوسهم.
  • الثانية: أنه لا يجوز للمسيحيين أن يسمحوا ان يمنعهم الاعتناء بالحاجات الزمنية عن الاهتمام بخلاص نفوسهم.
  • الثالثة: أن الجلوس عند أقدام المسيح أفضل طريق لشغل الوقت وذلك أن نكون من طلبة كلامه ونصغي إلى صوته القدوس في قلوبنا.
  • الرابعة: أنه يجب على الوالدين أن يجتهدوا في أن يحببوا إلى أولادهم أن يختاروا النصيب الصالح أكثر مما يحبّبون إليهم تحصيل العلوم والمناصب والثروة وأن يحذروا من تعريضهم للتجربة أن يهملوا خير نفوسهم باهتمامهم بمجرد خير أجسادهم وعقولهم. فإن كان كلام المسيح هنا تنبيهاً لكل المسيحيين فهو أجدر أن يكون كذلك للدنيويين لكي لا يكتفوا بأن يطلبوا لأجسادهم «أموراً كثيرة» من العالميات التي تفنى ونحن نستعملها بل لكي يطلبوا الحياة الأبدية لنفوسهم بالمسيح.

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى