إنجيل لوقا

إنجيل لوقا | 02 | الكنز الجليل

الكنز الجليل في تفسير الإنجيل

شرح إنجيل لوقا

للدكتور . وليم إدي

الأصحاح الثاني

ميلاد المسيح في بيت لحم ع ١ إلى ٧

١ «وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ ٱلْمَسْكُونَةِ».

فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي في قرب الزمان الذي وُلد فيه يوحنا المعمدان.

صَدَرَ أَمْرٌ أي أمر ملكي من رومية عاصة مملكة الرومانيين. وكان ميلاد يسوع المسيح على أثر إنفاذ ذلك الأمر في سورية.

أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ وهو أكتافيوس أمبراطور المملكة الرومانية ملك أربعين سنة ومات في سن السادسة والسبعين. وكان يجمع في كل عشر سنين من ملكه بيان أحوال مملكته في قائمة تشتمل على عدد سكان المملكة وثروتهم. ومن مقاصده في ذلك ضرب الجزية عليهم ومعرفة قوة المملكة واقتدارها.

وسبقه عمه الأمبراطور يوليوس قيصر إلى مثل ذلك الاكتتاب والظاهر أنه كان مجرد إحصاء النفوس. وكان هيرودس قد عيّنه أوغسطس ملكاً على سورية فلا بد من أنه بذل الجهد في إرضائه بإنفاذ ذلك الأمر.

كُلُّ ٱلْمَسْكُونَةِ أي كل المملكة الرومانية. وهذا من مصطلح الكتّاب في ذلك العصر لأن أكثر المسكونة المعروفة يومئذ كانت تحت سلطة الرومانيين. واستيلاء الرومانيين على اليهودية حتى عدهم إياهم للجزية برهان على أنه قد حان الوقت المعين لميلاد المسيح حسب نبوءة يعقوب وهي قوله «لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ» (تكوين ٤٩: ١٠).

٢ «وَهٰذَا ٱلاكْتِتَابُ ٱلأَوَّلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ».

أعمال ٥: ٣٧

كِيرِينِيُوسُ ذكر يوسيفوس المؤرخ اليهودي أن كيرينوس كان والياً على اليهودية من السنة السادسة للميلاد إلى السنة الحادية عشرة وأنه حصل سجس في الشعب من الاكتتاب الذي أجراه. وأشار لوقا إلى هذا السجس في سفر الأعمال (أعمال ٥: ٣٧). فظن البعض أن لوقا أخطأ بما قيل في كيرينيوس هنا إذ ذكر ممارسة أعماله في سورية قبل أن استولى بست سنين. لكن يظهر جلياً من شهادة مؤرخي ذلك العصر أن كيرينيوس تولى سورية مرتين. تولى الأولى منذ ثلاث سنين قبل الميلاد إلى سنة بعده. ولو لم يكن كيرينيوس تولى سورية مرتين كما ذكر وأجرى الاكتتاب كذلك لم يكن هنا للوقا من حاجة إلى أن يقول «الاكتتاب الأول».

سُورِيَّة كانت تخوم سورية تتغير من وقت إلى وقت والأرجح أنها كانت يومئذ من جبل طورس والفرات شمالاً إلى مصر جنوباً ومن بادية العرب شرقاً إلى بحر الروم غرباً.

٣ «فَذَهَبَ ٱلْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ».

لو كانت سورية ولاية رومانية أصلية لاكتتب كل في مسكنه بلا التفات إلى مكان ميلاده ولكن لكونها كانت خاضعة للدولة الرومانية في بعض الأمور ومستقلة في البعض جرى الاكتتاب حسب عوائد اليهود بالنظر إلى أسباطهم وقبائلهم. فلزم من ذلك رجوع كل واحد إلى وطن أصله للاكتتاب.

ِإِلَى مَدِينَتِه أي وطن عائلته الأصلي.

٤ «فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضاً مِنَ ٱلْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ ٱلنَّاصِرَةِ إِلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ ٱلَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ، لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ».

١صموئيل ١٦: ١ و٤ ويوحنا ٧: ٤٢، متّى ١: ١٦ وص ١: ٢٧

فَصَعِدَ بيت لحم أعلى من الجليل فالذهاب إليها صعود حقيقة. وغلب أن يسمّوا الذهاب إلى عاصمة البلاد صعوداً.

ٱلْجَلِيلِ… ٱلنَّاصِرَةِ (انظر الشرح ص ١: ٢٦ ومتّى ٢: ٢٢ و٢٣).

مَدِينَةِ دَاوُدَ (١صموئيل ١٦: ١ – ٤).

بَيْتَ لَحْمٍ اسم عبراني معناه بيت الخبز وسُمّيت كذلك لخصب أرضها واسمها الأقدم أفراتة وأفراثة (تكوين ٣٥: ١٩ وراعوث ١: ٢ وميخا ٥: ٢).

وكانت في سهم سبط يهوذا (قضاة ١٧: ٧). ولم يُذكر اسمها بين الأماكن التي عينت لسبط يهوذا في سفر يشوع ولعلّ سبب ذلك حقارتها. وهي واقعة على أمد نحو ستة أميال جنوبي أورشليم.

٥ «لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ ٱمْرَأَتِهِ ٱلْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى».

متّى ١: ١٨

ٱلْمَخْطُوبَةِ ص ١: ٢٧ ومتّى ١: ١٨ و١٩ و٢٤. وكان من عوائد الرومانيين أن تُكتتب النساء كالرجال إجباراً وإلا فما اضطرت مريم أن تذهب إلى بيت لحم مسافة أربعة أيام وهي على تلك الحال. وقضى الله ذلك لإتمام مقاصده ولكي لا يولد المسيح في الناصرة حيث سكنت مريم بل ليولد في بيت لحم حسب النبوءة (ميخا ٥: ٢) وذهاب مريم مع يوسف إلى بيت لحم للاكتتاب أحد الأدلة على أنها من نسل داود.

ولنا من هذا أنه اتفق أوغسطس وهيرودس وكيرينيوس على إتمام مقاصد الله ونبوات العهد القديم المتعلقة بالمسيح وذلك بدون أن يقصد أحد منهم سوى إجراء إرادته. ولم يخطر على بالهم أن يكونوا آلات لتأسيس مملكة تدوم بعد اضمحلال المملكة الرومانية وملاشاة عبادتها الوثنية.

٦ «وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ».

لا شيء في كلام لوقا من الأدلة القاطعة على تعيين الشهر الذي وُلد فيه المسيح إلا أنه كان فصل من السنة يمكّن الرعاة فيه أن يحرسوا غنمهم في البرية ليلاً. ولما ذهب المسيح إلى يوحنا ليعتمد منه كان ذلك اليوم أول السنة الثلاثين من ميلاد المسيح وهو وفق اليوم الذي وُلد فيه. وكان الوقت موافقاً لاجتماع جموع كثيرة من أهل اليهودية في البرية ليسمعوا كرازة يوحنا المعمدان. ولو كانت معرفة يوم ميلاد المسيح جوهرية لألهم الروح القدس لوقا البشير أن يعينه جلياً.

٧ «فَوَلَدَتِ ٱبْنَهَا ٱلْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي ٱلْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَـهُمَا مَوْضِعٌ فِي ٱلْمَنْزِلِ».

متّى ١: ٢٥

قَمَّطَتْهُ اي ربطته بالأقمطة حسب عوائد الشرقيين يومئذ وفي هذا اليوم.

فِي ٱلْمِذْوَدِ معلف الدوابّ.

لَمْ يَكُنْ لَـهُمَا مَوْضِعٌ فِي ٱلْمَنْزِلِ ذكر ذلك علّة لولادة مريم ابنها في محل الدواب. اضطر كثيرون ممن أصلهم من بيت لحم إلى المجيء إليها وليس لهم مسكن فيها إجابة لأمر القيصر بالاكتتاب حتى امتلأ المنزل بالمسافرين. ولعلّ يوسف ومريم وصلاه بعد غيرهم فوجدوا منزل المسافرين غاصاً بالناس فاضطرا إلى أن ينزلا حيث يجدان مأوى. والظاهر أنه لم يفتح أحد من سكان بيت لحم باب بيته لقبول يوسف النجار وخطيبته. فكانت حقارة مولد يسوع موافقة لكل تاريخ حياته الأرضية لأنه لم يكن له فيها أين يضع رأسه في مساكن الناس. ولما مات دُفن في قبر ليس له مع أنه خالق العالمين. وهذا كان جزءاً من اتضاعه لفداء البشر وهو مما يحقق لأشد الناس فقراً أن لهم مخلصاً يمكنه أن يشترك معهم في شعورهم إذ لم يولد في قصر بل في اصطبل ولم يُربّ بين الأمراء بل في بيت نجار من الجليل. والحق أن المسيح بعد أن ترك مجد السماء وسكن على الأرض لم يبقَ من فرق عظيم عنده بين قصر وكوخ.

أما سنة ولادة يسوع فنعرف من بشارة متّى أنها كانت من سني حياة هيرودس وقبل موته بزمن قصير والأرجح أنه جزء من تلك السنة عينها (متّى ٢: ١ – ٦ و١٩). قال يوسيفوس أن هيرودس مات سنة ٧٥٠ لتأسيس رومية. وعيّن التاريخ المسيحي الشائع ديونيسيوس أغزغيوس في القرن السادس للميلاد وحسب سنة الميلاد سنة ٧٥٤ لتأسيس رومية فأخطأ بأربع سنين.

الملائكة والرعاة ع ٨ إلى ٢٠

٨ «وَكَانَ فِي تِلْكَ ٱلْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ ٱللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ».

فِي تِلْكَ ٱلْكُورَةِ أي في الأرض المجاورة لبيت لحم.

رُعَاةٌ الأرجح أن هؤلاء الرعاة كانوا رجالاً أتقياء انتظروا كسمعان الشيخ «تعزية إسرائيل» وأنهم كانوا وهم يحرسون الغنم ليلاً يتذاكرون بنبوءات العهد القديم المتعلقة بالمسيح وكانوا يصلّون ويشتاقون إلى إتمامها كسمعان نفسه (ع ٣٥). فلم يكن إعلان ولادة المسيح لملوك أو أمراء أو فلاسفة أو كهنة أو كتبه أو فريسيين بل لرعاة بسطاء. وهذا وفق قول الرسول «ٱسْمَعُوا يَا إِخْوَتِي ٱلأَحِبَّاءَ، أَمَا ٱخْتَارَ ٱللّٰهُ فُقَرَاءَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ أَغْنِيَاءَ فِي ٱلإِيمَانِ، وَوَرَثَةَ ٱلْمَلَكُوتِ ٱلَّذِي وَعَدَ بِهِ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ» (يعقوب ٢: ٥).

مُتَبَدِّينَ أي كائنين في البادية أي البرية كأهل البدو.

٩ «وَإِذَا مَلاَكُ ٱلرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ ٱلرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَـهُمْ، فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً».

ص ١: ١٢

إِذَا هي إذاً المفاجأة.

مَلاَكُ ٱلرَّبِّ الأرجح أنه كان في هيئة إنسان كما في بشارة مرقس (مرقس ١٦: ٥). وظهر الملائكة لرؤساء الآباء والأنبياء وقواد الجنود وظهروا هنا لرعاة ودعاء وفقاً لقوله «وَٱلْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ» (متّى ١١: ٥).

وَمَجْدُ ٱلرَّبِّ أي نور غريب وهو علامة الإعلان الإلهي في خيمة الاجتماع والهيكل (١ملوك ٨: ١٠ و١١ وإشعياء ٦: ١ – ٣ وأعمال ٩: ٣ و٢٢: ١١) (انظر الشرح متّى ١٧: ٥).

فَخَافُوا غلب أن يكون ظهور الملائكة للناس علّة خوف لهم لأنه أول ما يخطر على البال أنهم أتوا للدينونة (متّى ٢٢: ٥ – ٩ ولوقا ١: ١٣ و٣٠).

١٠ «فَقَالَ لَـهُمُ ٱلْمَلاَكُ: لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ».

تكوين ١٢: ٣ ومتّى ٢٨: ١٩ ومرقس ١: ١٥ وع ٣١ و٣٢ وص ٢٤: ٤٧ وكولوسي ١: ٢٣

أَنَا أُبَشِّرُكُمْ كان هذا الملاك أول مبشر بالمسيح واشتملت بشارته على أنه رُفعت عن العالم الظلمة الروحية التي غطته نحو أربعة آلاف سنة. وأنه قد تم وعد الله بتمهيد الطريق إلى نوال الخاطئ مغفرة الخطايا والمصالحة لله. وإلى سحق رأس الشيطان. والمناداة بالعتق لأسرى الخطيئة وإلى إظهار أنه كيف يكون الله باراً ويبرر الأثمة.

بِفَرَحٍ… لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ أي لجميع الذين يقبلون البشارة والمسيح المبشَّر به. فيمكن كل خاطئ أن يشترك في ذلك الفرح إن أراد. وعرض على اليهود أولاً ثم على جميع الأمم على اختلاف صنوفهم وألسنتهم (ع ٣٢ وص ١: ٧٩).

١١ «أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱلرَّبُّ».

إشعياء ٩: ٦، متّى ١: ٢١، متّى ١: ١٦ و١٦: ١٦ وص ١: ٤٣ وأعمال ٢: ٣٦ و١٠: ٣٦ وفيلبي ٢: ١١

وُلِدَ لَكُمُ أي لكم أيها الرعاة باعتبار أنكم أفراد تتوقعون مجيء المسيح وباعتبار أنكم بشر أي من جنس محتاج إلى مخلص أُرسل إليه. وغاية ولادة المسيح ليس لمجده بل لمنفعة الناس بإنقاذهم من الهلاك الأبدي وبمنحهم الحياة الأبدية. فولادة المسيح هي علّة الفرح الذي ذُكر في العدد العاشر وهي موضوع تبشير الملائكة هنا.

فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ أي في بيت لحم.

مُخَلِّصٌ لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم (متّى ١: ٢١)

ٱلْمَسِيحُ أي الممسوح من الله الآب نبياً وكاهناً وملكاً (انظر الشرح متّى ١: ١).

ٱلرَّبُّ هذا اللقب استعمله لوقا دائماً بمعنى يهوه في العهد القديم (ص ١: ٦ و٩ و١١ و١٥ و١٦ وص ٢٣: ٢ وأعمال ٢: ٣٦) والمسيح هو الرب لأنه خالق وملك (كولوسي ١: ١٦ – ١٨). وبهذا الكلام علّم الملاك الرعاة أن ذلك الطفل هو إله متجسد وأنه هو المسيح المنتظر. فكان إعلان الملاك للرعاة أعظم من الإعلان لمريم وليوسف إذ لم يعلن لهما إلا أن يكون اسمه يسوع وأنه يكون عظيماً وأنه ابن العلي ووارث كرسي داود.

١٢ «وَهٰذِهِ لَكُمُ ٱلْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً فِي مِذْوَدٍ».

عَلاَمَة هي غرابة أن يوضع الولد عند ولادته في مذود أي معلف دوابّ. وعدم الموافقة بين سمو أصله وعظمة وظيفته ودناءة حاله لأنه لا يتوقع أن يكون سرير الملك معلف دواب. وأُعطيت هذه العلامة للرعاة من دون أن يطلبوها كما أنه أعطيت العلامة لمريم من دون طلبها (ص ١: ٣٦). فاحتاج الرعاة إلى علامة لكي يميزوا الطفل من سائر أطفال بيت لحم. وليس من المرجّح أنه وُلد في تلك الليلة أطفال كثيرون في بيت لحم ويقرب من المحال أن يولد آخر ويوضع في المذود أيضاً.

١٣ «وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ ٱلْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ ٱلْجُنْدِ ٱلسَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ ٱللّٰهَ وَقَائِلِينَ».

تكوين ٢٨: ١٢ و٣٢: ١ و٢ ومزمور ١٠٣: ٢٠ و٢١ و١٤٨: ٢ ودانيال ٧: ١٠ وعبرانيين ١: ١٤ ورؤيا ٥: ١١

ٱلْجُنْدِ ٱلسَّمَاوِيِّ هم الملائكة ويعبّر عنهم الكتاب غالباً بجيش يحيط عرش الله (١ملوك ٢٢: ١٩ و٢أيام ١٨: ١٨ ومزمور ١٠٣: ٢١ ودانيال ٧: ١٠ ومتّى ٢٦: ٥٣ ورؤيا ١٩: ١٤) فظهر مع الملاك الذي خاطب الرعاة أولاً كثيرون من الملائكة.

مُسَبِّحِينَ الأرجح أنه لم يسمع هذا التسبيح أحد على الأرض سوى الرعاة.

١٤ «ٱلْمَجْدُ لِلّٰهِ فِي ٱلأَعَالِي، وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ ٱلْمَسَرَّةُ».

ص ١٩: ٣٨ وأفسس ١: ٦ و٣: ١٠ و٢١ ورؤيا ٥: ١٣، إشعياء ٥٧: ١٩ وص ١: ٧٩ ورومية ٥: ١ وأفسس ٢: ١٧ وكولوسي ١: ٢٠، يوحنا ٣: ١٦ و٢كورنثوس ٥: ١٩ وأفسس ٢: ٤ و٧ و٢تسالونيكي ٢: ١٦ و١يوحنا ٤: ٩ و١٠

كان موضوع ترنم الملائكة ميلاد المسيح ويصح أن تحسبه تسبيحاً ودعاء. وكان لهم في ميلاد المسيح ثلاثة أسباب للفرح:

  • الأول: أنه في السماء يمجد الله.
  • الثاني: أنه على الأرض تأسس ملكوت السلام لكي يبطل الخصام بين الناس.
  • الثالث: أنه كان بين السماء والأرض مصالحة فيرضى الله عن الناس والناس يكرمونه ويحبونه.

ٱلْمَجْدُ لِلّٰهِ إن مجد الله غير محدود فهو لا يقبل الزيادة بشيء من الوسائط لكنه يزيد ظهوراً لمخلوقاته بمعلنات جديدة. وهذا المجد هو ما أظهر بالمسيح للخلائق من صفات الآب كالحكمة والعدل والحق والرحمة والمحبة التي لا يمكن ظهورها بغير المسيح.

والمسيح نفسه مجد الله بقداسته وطاعته وصلواته وما أتاه من أعمال الرحمة وتعاليمه وموته إكراماً لشريعته وإنقاذاً للإنسان الساقط. نعم إن عمل الخليقة أظهر مجد الله وترنم به الملائكة وقتئذ (أيوب ٣٨: ٧) لكن ميلاد المسيح كان أكثر إظهاراً لذلك المجد. والجموع الذين احتفلوا بدخول يسوع إلى أورشليم ترنموا كما ترنم الملائكة بقولهم «مجد في الأعالي» (ص ١٩: ٣٨).

فِي ٱلأَعَالِي أي في أعلى السماوات.

وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَمُ أن المسيح هو رئيس السلام (إشعياء ٩: ٥) وذلك لأربعة أمور:

  1. إنّه رسول السلام من السماء إلى الأرض لا رسول النقمة والدينونة.
  2. إنّه منشئ السلام بين إنسان وإنسان (أفسس ٢: ١٤).
  3. إنّه مانح الضمير سلاماً بتحقيق مغفرة الخطايا.
  4. إنّه وسيط السلام بين السماء والأرض أي بين الله والناس. ويشتمل السلام هنا على كل فوائد الفداء.

وَبِالنَّاسِ ٱلْمَسَرَّةُ أي رضى الله عن الناس وهو إظهار محبته لهم بميلاد ابنه (يوحنا ٣: ١٦ وأفسس ١: ٥ و٩ و١٠ وتيطس ٣: ٤). وكانت غاية المسيح من كل أقواله وأفعاله على الأرض إعلان محبة أبيه الفائقة للناس. وأما موته فهو أجلى برهان على تلك المحبة (على أن كل خير في الدنيا نتيجة مسرته تعالى). والمسرة في الجملة الثالثة جزء عظيم من موضحات «السلام» في الجملة السابقة. وكلٌ من السلام والمسرة لا يشين مجد الله بل يوافقه ويؤول إليه.

وترجم بعضهم الجملتين الأخيرتين بجملة واحدة فصارتا و «على الأرض السلام لذوي المسرة» أي مختاري الله.

١٥ «وَلَمَّا مَضَتْ عَنْهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، قَالَ ٱلرُّعَاةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لِنَذْهَبِ ٱلآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هٰذَا ٱلأَمْرَ ٱلْوَاقِعَ ٱلَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ ٱلرَّبُّ».

مَضَتْ… إِلَى ٱلسَّمَاءِ لأن السماء مسكنهم وإنما يأتون إلى الأرض رُسلاً.

إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ أي مدينة داود التي قال الملاك أن المسيح يولد فيها.

وَنَنْظُرْ هٰذَا ٱلأَمْرَ لم تكن غايتهم من ذلك تحقيق خبر الملاك لأنهم صدقوه لكنهم أرادوا اغتنام الفرصة لمشاهدة ذلك الأمر العظيم الذي بشرهم الملاك به. وفي قول الملاك تلميح بأمره لهم بالذهاب (ع ١٢). والقرينة تدل على أنهم عزموا على الذهاب حالما ارتفعت الملائكة عنهم مع أنه كان منتصف الليل وذلك يحملهم على أن يتركوا رعيتهم بلا حارس.

أَعْلَمَنَا بِهِ ٱلرَّبُّ أي بلّغنا إياه بواسطة الملاك.

١٦ «فَجَاءُوا مُسْرِعِينَ، وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَٱلطِّفْلَ مُضْجَعاً فِي ٱلْمِذْوَدِ».

مجيئهم مسرعين يدل على شدة رغبتهم لمشاهدة المسيح. فنستنتج من ذلك أنهم كانوا متوقعين إتيانه ومسرورين بالتبشير به وأقوياء الإيمان ومستعدين للطاعة حالاً فشاهدوا كما قيل لهم في الآية الثانية العشرة. وكانت بيت لحم قرية صغيرة فلم يصعب عليهم أن يجدوا المنزل واصطبله.

١٧ «فَلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي قِيلَ لَـهُمْ عَنْ هٰذَا ٱلصَّبِيِّ».

أَخْبَرُوا أي يوسف ومريم. والأرجح أنهم لم يقتصروا على إخبارهما بل بشروا بذلك في الصباح غيرهم ممن كانوا يتوقعون المسيح توقُعهم. ولا بد أن مريم ويوسف قد فرحا بما أخبروهما وتقوى إيمانهما.

بِٱلْكَلاَمِ الخ أي خبر الملاك لهم وترنم الجند السماوي. ولعلهم أضافوا إلى ذلك في إنبائهم أهل القرية ما سمعوا من مريم ويوسف من رُؤى الملائكة في شأنه قبل ولادته. فكان الملاك أول المبشرين بذلك من أهل السماء وكان الرعاة أول المبشرين به من أهل الأرض ونقلوا إلى أهل بيت لحم وإلينا نبأ ذلك المشهد العظيم وتلك الترنيمة السماوية.

١٨ «وَكُلُّ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَـهُمْ مِنَ ٱلرُّعَاةِ».

كان يجب أن يكون تأثير شهادة الرعاة في سكان بيت لحم عظيماً حتى أنهم يصدقون أن الطفل المولود هو المسيح المنتظر وأن يقبلوه كذلك ولكن لم يكن من تأثير سوى تعجبهم. ولعلّ سبب ذلك دناءة حال هذا المولود بخلاف ما كانوا يتوقعون ولكن إذا جمعنا كل التأثيرات من ولادة المسيح رأيناها خمسة:

  1. تسبيح الملائكة.
  2. شهادة الرعاة بالتمجيد والتسبيح.
  3. حفظ مريم تلك الأمور وتفكرها فيه.
  4. تعجب الملائكة.
  5. اضطراب هيرودس وعزمه على قتل الصبي (متّى ٢: ١٦).

١٩ «وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هٰذَا ٱلْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا».

تكوين ٣٧: ١١ وص ١: ٦٦ وع ٥١

في هذه الآية مقابلة بين مريم وغيرها ممن ذُكروا في الآية التالية فإن الأولين تعجبوا مما كان ونسوه حالاً وأن الآخرين مجّدوا وسبّحوا جهراً. وأما مريم فكانت تحفظ كل ذلك متفكرة فيه أي أنها كانت تذكر ما قاله الرعاة وما سمعته من زكريا وأليصابات باللفظ الواحد. وربما كانت نتيجة تذكرها هذا وصول هذا الخبر المدقق إلينا مما نقله لوقا عن لسانها بعد ذلك (ص ١: ٢ و٣).

وقوله «في قلبها» متعلق بقوله «تحفظ».

مُتَفَكِّرَةً بِهِ أي متأملة فيه لكي تعلم حقيقة ذلك المولود حق العلم وما يجب عليها له. وتجسد الله في شخص يسوع سر عظيم لم يمكن مريم أن تدركه دفعة بل عرفته بعض المعرفة شيئاً فشيئاً بكل معجزة وشهادة جديدة. والتفكر في الحقائق العظيمة هو أفضل وسيلة إلى حفظها في الذاكرة.

٢٠ «ثُمَّ رَجَعَ ٱلرُّعَاةُ وَهُمْ يُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ وَيُسَبِّحُونَهُ عَلَى كُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ كَمَا قِيلَ لَـهُمْ».

رَجَعَ ٱلرُّعَاةُ أي عادوا إلى حيث كانوا.

ُيُمَجِّدُونَ ٱللّٰهَ وَيُسَبِّحُونَه هؤلاء الرعاة مثال لنا في الإيمان والطاعة والشكر لله والتسبيح له والرغبة في أن يسمع غيرهم ما سمعوه من البشارة.

مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ أي ما سمعوا من الملائكة ويوسف ومريم ومما رأوه بأعينهم.

ختان يسوع وتقديمه في الهيكل ع ٢١ إلى ٣٩

٢١ «وَلَمَّا تَمَّتْ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ لِيَخْتِنُوا ٱلصَّبِيَّ سُمِّيَ يَسُوعَ، كَمَا تَسَمَّى مِنَ ٱلْمَلاَكِ قَبْلَ أَنْ حُبِلَ بِهِ فِي ٱلْبَطْنِ».

تكوين ١٧: ١٢ ولاويين ١٢: ٣ وص ١: ٥٩ وفيلبي ٣: ٥ وعبرانيين ٢: ١٧، متّى ١: ٢١ و٢٥ وص ١: ٣١

لِيَخْتِنُوا ٱلصَّبِيَّ إطاعة لشريعة موسى وهي أنه «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّامِنِ يُخْتَنُ لَحْمُ غُرْلَتِهِ» (لاويين ١٢: ٣). والختان كماء المعمودية علامة التطهير وختم أهل الله. وكان ختان المسيح كمعموديته في الغاية أي تكميل كل برّ (متّى ٣: ١٥) ولولا ختانه لم يقبله اليهود كواحد من شعب الله ولم يسمحوا له بالدخول إلى الهيكل ولم يسمعوا له كمعلم فاختتن المسيح لأنه كان «مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ» (غلاطية ٤: ٤ و٥).

واختتن لكي «يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» (عبرانيين ٢: ١٧) مع أنه كان بلا خطية فلا يحتاج بذاته إلى التطهير ولا إلى علامته (عبرانيين ٤: ١٥ و١يوحنا ٣: ٥).

فالمسيح أكرم بذلك طقوس الديانة الخارجية وكان مثالاً لنا فيه. ومن هنا نستنتج وجوب وقف الأولاد جهاراً لله بالمعمودية ودخولهم كذلك في أول الحياة في التعهد لله وكنيسته. وختان الجسد رمز إلى ختان القلب أي نزع الشهوات الجسدية وهو ضروري لنا بخلاف المسيح لأنه لم يكن في حاجة إليه.

سُمِّيَ يَسُوعَ مرّ تفسير هذا في متّى ١: ٢١ وأظهر يوسف ومريم بتسميته كذلك إيمانهما وطاعتهما (متّى ١: ٢١ و٢٥ ولوقا ١: ٣١).

وليسوع ألقاب كثيرة بالنسبة إلى وظائفه المتنوعة كملك ونبي وكاهن وديّان الخ. وفضل المسيح استعمال يسوع (أي المخلص) منها لأنه يشير إلى عمله على الأرض أكثر مما سواه. والذين سمّوا في الكتاب قبل أن يولدوا ستة إسماعيل (تكوين ١٦: ١١). وإسحاق (تكوين ١٧: ١٩). ويوشيا (١ملوك ١٣: ٢). وكورش (إشعياء ٤٤: ٢٨). ويوحنا المعمدان (لوقا ١: ١٣). ويسوع (ص ١: ٣١).

٢٢، ٢٣ «٢٢ وَلَمَّا تَمَّتْ أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا، حَسَبَ شَرِيعَةِ مُوسَى، صَعِدُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيُقَدِّمُوهُ لِلرَّبِّ،٢٣ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ ٱلرَّبِّ: أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ فَاتِحَ رَحِمٍ يُدْعَى قُدُّوساً لِلرَّبِّ».

لاويين ١٢: ٢ إلى ٦، خروج ١٣: ٢ و٢٢: ٢٩ و٣٤: ١٩ وعدد ٣: ١٣ و٨: ١٧ و١٨: ١٥

أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا لاويين ١٢: ١ – ٨.

كانت المدة بين الولادة ويوم التطهير أربعين يوماً أو ثلاثة وثلاثين يوماً بعد الختان (لاويين ١٢: ٤). وكانت الأم تُحسب قبل نهاية تلك المدة نجسة أي غير جائز لها أن تدخل الهيكل. والأرجح أن مريم بقيت في هذه المدة كلها في بيت لحم.

صَعِدُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ ذهبوا به إلى أورشليم لأن الهيكل هنالك. وكان ذلك قبل مجيء المجوس لا محالة لأنه لو لم يكن كذلك لكان على الصبي خطر عظيم من هيرودس لحسده وقصده قتل يسوع بعد مجيء المجوس ولأن يوسف ذهب بالصبي حالما انصرف المجوس من بيت لحم.

لِيُقَدِّمُوهُ لِلرَّبِّ كان ذلك مفروضاً على أبكار الذكور. لأن الله بعد أن ضرب كل أبكار المصريين وجاز عن أبكار الإسرائيليين صرّح بأن كل الأبكار الذكور له أي بوجوب أن يخدموه كهنة (خروج ١٣: ٢ و١٢ وعدد ٣: ١٣). ثم أخذ كل سبط لاوي بدل الأبكار كلهم لكي يكونوا كهنة له (عدد ٣: ١٢). ولأن ذكور اللاويين كانوا دون أبكار إسرائيل عدداً أمر أن يُفدى كل بكر بالدراهم (عدد ٣: ٢٦ و٢٧ و٨: ١٣ و١٨ و١٨: ١٦ و١٧). وكان مبلغ الفداء عن كل بكر خسمة شواقل أي نحو ثمانين غرشاً تجارياً. ووفقاً لذلك الأمر أتوا بيسوع إلى الهيكل في ذلك الوقت. والأرجح أنهم أدوا عنه ذلك المبلغ مع أنه كان رئيس الأحبار والهيكل الحقيقي. وهذا من جملة أمور تنازله. ولم تطالب أبكار المسيحيين بذلك لأنهم بواسطة المسيح صاروا كهنة لله (١بطرس ٢: ٩ ورؤيا ٥: ١٠).

فَاتِحَ رَحِمٍ أي بكراً.

قُدُّوساً لِلرَّبِّ أي مفروزاً لخدمته تعالى (خروج ١٣: ٢).

٢٤ «وَلِكَيْ يُقَدِّمُوا ذَبِيحَةً كَمَا قِيلَ فِي نَامُوسِ ٱلرَّبِّ، زَوْجَ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ».

لاويين ١٢: ٢ و٦ و٨

هذا العدد متعلق بالعدد الثاني والعشرين وما بينهما معترض.

ذَبِيحَةً كانت ذبيحة التطهير للمرأة خروفاً حولياً أي ابن سنة يحرق وفرخ حمامة أو يمامة يذبح عن الخطيئة (لاويين ١٢: ٦). وإذا كان الوالدان فقيرين رُضي منهما بدل ذلك بيمامتين أو فرخي حمام أحدهما محرقة والآخر ذبيحة خطية. وتقدمة مريم تدل على أنها كانت فقيرة لأنها قدّمت ما كان على الفقير. وهذا أيضاً من تنازل المسيح لأجلنا (٢كورنثوس ٨: ٩). فمريم وإن عجزت عن أن تقدّم للرب خروفاً قدّمت في الهيكل أفضل من ذلك أي حمل الله.

٢٥ «وَكَانَ رَجُلٌ فِي أُورُشَلِيمَ ٱسْمُهُ سِمْعَانُ، كَانَ بَارّاً تَقِيّاً يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ، وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ».

إشعياء ٤٠: ١ ومرقس ١٥: ٤٣ وع ٣٨

سِمْعَانُ ظن بعضهم أن سمعان هذا ابن هليل الرباني المشهور وأبو غمالائيل معلم بولس (أعمال ٥: ٣٤). ولكن لا دليل على ذلك سوى التسمية والوقت لأنه ذكر في كتاب اليهود أن سمعان بن هليل كان في ذلك الوقت.

بَارّاً تَقِيّاً أي حافظاً شريعة موسى حفظاً تاماً ومجتهداً في القيام بكل واجباته لله وللناس (أعمال ٢: ٥ و٨: ٢).

تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ أي المسيح لأن اليهود انتظروا أنه يعزيهم متى جاء على كل بلاياهم. وهذا وفق تسمية بولس للمسيح بأنه «رجاء إسرائيل» (أعمال ٢٨: ٢٠). وقوله ينتظر تعزية إسرائيل وفق قوله «المنتظرين فداء في أورشليم» (ع ٣٨). ولا ريب في أن المسيح أعظم تعزية لكل الذين يعرفونه ويقبلونه وهو دعا نفسه كذلك ووعدهم بإرساله معزياً آخر هو الروح القدس (يوحنا ١٤: ١٦).

وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ تفسير هذا العدد التالي أي أنه كان ملهماً من الروح القدوس.

٢٦ «وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ أَنَّهُ لاَ يَرَى ٱلْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ ٱلرَّبِّ».

مزمور ٨٩: ٤٨ وعبرانيين ١١: ٥

أُوحِيَ إِلَيْهِ لم يخبر لوقا بأي طريق أوحى إليه الروح أحلماً كان ذلك أم رؤيا أم صوتاً مسموعاً.

لاَ يَرَى ٱلْمَوْتَ أي لا يموت (مزمور ٨٩: ٤٨ ويوحنا ٨: ٥١) ويلزم من هذا أنه كان طاعناً في السن وزاد عمره على الوقت المعين للبشر وأنه يموت على أثر ما يرى المسيح. ولعلّ وعد الله إياه بذلك كان جواباً لصلواته.

مَسِيحَ ٱلرَّبِّ أي الذي وعد الرب به وأرسله ومسحه بروحه.

٢٧ «فَأَتَى بِٱلرُّوحِ إِلَى ٱلْهَيْكَلِ. وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِٱلصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ، لِيَصْنَعَا لَـهُ حَسَبَ عَادَةِ ٱلنَّامُوسِ».

متّى ٤: ١

فَأَتَى بِٱلرُّوحِ أي أن الروح القدس حمله حينئذ على إتيان الهيكل. وربما أوحى إليه أن إنجاز ما وُعد به يكون في ذلك الوقت.

إِلَى ٱلْهَيْكَلِ أي إلى دار الهيكل التي يقدّم الأولاد فيها وهي دار النساء.

أَبَوَاهُ أي يوسف ومريم وعبّر لوقا عنهما بالأبوين جرياً على ما شاع بين عامة الناس يومئذ بقطع النظر عن الحقيقة.

لِيَصْنَعَا لَـهُ الخ أي أن يقدّماه للرب ويؤديا الفداء عنه.

٢٨ «أَخَذَهُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَبَارَكَ ٱللّٰهَ وَقَالَ».

أَخَذَهُ لم يخبر أحد من الناس سمعان بميلاد ذلك الصبي وما كان من غرائب ذلك الميلاد إنما أنبأه بذلك الروح القدس. ولم يكتف بأن يراه حسب وعد الله بل مسكه بيده وحمله زيادة ليقينه ومحبة له وسروراً به.

وَبَارَكَ ٱللّٰهَ أي سبح الله وشكره.

٢٩ «ٱلآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ».

تكوين ٤٦: ٣٠ وفيلبي ١: ٢٣

كان الذين نطقوا بكلمات الوحي الشعرية في أمر ميلاد المسيح خمسة وهم زكريا وأليصابات ومريم وسمعان وحنة.

ٱلآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ أشار سمعان بهذا الكلام إلى أن حياته كانت مشقة وعبودية وأن موته راحة وعتق من خدمة عجز عن إتمامها لهرمه. وإلى أنه طال عمره لمجرد مشاهدة المسيح وأجيبت صلاته بتلك المشاهدة وأنجز له وعد الله ونال ما توقعه ولم يبق له شيء من المشتهيات في هذه الحياة ليرغب فيها. فرغب في الرحيل من هذا العالم إلى العالم الأبدي إذا أذن له الرب.

حَسَبَ قَوْلِكَ أي الوحي الذي ذُكر في العدد السادس والعشرين.

بِسَلاَمٍ أي مسرتهِ بمشاهدة المسيح ونوال مشتهاه واتخاذه ذلك علامة رضى الله به والاطمئنان في المستقبل.

ولنا من ذلك أن الله لا يخيّب رجاء من يتكل على وعده. وأنه لا شيء يزيل رعب الموت ويهيء الإنسان للانطلاق من هذه الحياة مثل مشاهدة المسيح بعين الإيمان فادياً ومخلصاً.

٣٠ «لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ».

إشعياء ٥٢: ١٠ وص ٣: ٦

خَلاَصَكَ أي المخلص الذي وعدت به وأرسلته ليمنح الخلاص.

٣١ «ٱلَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ».

جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ أي القسمين المذكورين في العدد الآتي. فعلم سمعان أن خلاص المسيح للبشر عموماً لا لليهود وحدهم.

٣٢ «نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْداً لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ».

إشعياء ٩: ٢ و٤٢: ٦ و٤٩: ٦ و٦٠: ١ و٢ و٣ ومتّى ٤: ١٦ وأعمال ١٣: ٤٧ و٢٨: ٢٨

إن ما في هذا العدد شرح للخلاص في العدد الثلاثين.

نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ أي أن المسيح يعلن للأمم ما لله وطريق الحياة الأبدية بدم نفسه. ويعبّر الكتاب عن الأمم بالجالسين في ظلمة الجهالة والخطية وأن المسيح هو شمس المعرفة والبرّ لهم (إشعياء ٩: ٢ و٦٠: ١ – ٦ وملاخي ٤: ٢).

وَمَجْداً لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ كان المجد لإسرائيل لأنهم أعطوا المواعيد بمجيء المسيح أولاً. وأن المسيح وُلد منهم وأنه علّم وعمل بينهم معجزاته وبشرهم أولاً بخلاصه (ص ٢٤: ٤٧ ويوحنا ٤: ٢٢). وحُجب عنهم هذا المجد وقتياً لأنهم رفضوا مسيحهم لكنهم سوف يقبلون المسيح فتكون آخرتهم ممجدة.

٣٣ «وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ».

يُوسُفُ وَأُمُّهُ أظهر لوقا صريحاً أن يوسف ليس بأبيه حقيقة. وهو قرينة جلية على المجاز في قوله «أبوه» في العدد السابع والعشرين.

يَتَعَجَّبَانِ الخ علّة تعجبهما ما قاله سمعان في عظمة ذلك الطفل مع ما هو ظاهر من ضعفه. ويتبين من هذا أن يوسف ومريم لم يدركا كل معنى ما سمعاه من الملاك والرعاة. نعم فهما من ذلك أن الطفل سيكون عظيماً ولكنهما لم يفهما أنّ عظمته تبلغ المبلغ الذي أبانه سمعان. ويحتمل أنهما تعجبا أيضاً من معرفة سمعان الشيخ كل تلك الحقائق المتعلقة بيسوع عند أول مشاهدته إياه مع أنه غريب عنهما. ولعلهما تعجبا أيضاً من قول سمعان أن الأمم يشاركون اليهود في فوائد مجيء المسيح.

٣٤ «وَبَارَكَهُمَا سِمْعَانُ، وَقَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ: هَا إِنَّ هٰذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ، وَلِعَلاَمَةٍ تُقَاوَمُ».

إشعياء ٨: ١٤ وهوشع ١٤: ٩ ومتّى ٢١: ٤٤ ورومية ٩: ٣٢ و٣٣ و١كورنثوس ١: ٢٣ و٢٤ و٢كورنثوس ٢: ١٦ و١بطرس ٢: ٧ و٨، أعمال ٢٨: ٢٢

وَبَارَكَهُمَا أي طلب بركة الله عليهما.

وَقَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ يظهر من هذا ان سمعان علم بالوحي حقيقة نسبة مريم إلى يسوع وهي أنها أمٌ عذراء له.

وُضِعَ أي عُيّن يعني عيّنه الله.

لِسُقُوطِ أي لأن يكون صخرة عثرة للبعض. وهم الذين لا يؤمنون به فيهلكون لأن آمالهم الدنيوية لا تُبلغ بواسطته. وذلك أن اليهود توقعوا منقذاً دنيوياً فخابوا. ووبخهم يسوع على كبريائهم وريائهم فأبغضوه ورفضوه ولذلك وقع الويل على مدينتهم وأمتهم.

وَقِيَامِ أي لأن يكون على إنهاض للساقطين الذين يتضعون بالتوبة ويؤمنون به. وتبين من هذا ان المسيح «رَائِحَةُ مَوْتٍ لِمَوْتٍ، وَلأُولٰئِكَ رَائِحَةُ حَيَاةٍ لِحَيَاةٍ» (٢كورنثوس ٢: ١٦). (قابل هذا بما يأتي إشعياء ٨: ١٤ و١٥ ورومية ٩: ٣٣ و١كورنثوس ١: ٢٣ و١بطرس ٢: ٧ و٨).

وَلِعَلاَمَةٍ تُقَاوَمُ هذا نبوءة باضطهاد اليهود للمسيح. أُنجزت بما جرى عليه مدة حياته كلها ولا سيما وقت صلبه. ومقاومتهم له اشتملت على شهادات الزور عليه واستهزائهم به وبغضهم له وقتلهم إياه.

وكلما قاله الشيخ سمعان في المسيح تم أولاً في يهود عصره ثم تم في الأرض كلها من ذلك الوقت إلى اليوم أي انه أتى مخلصاً لكل الناس فرفضه بعضهم فهلك وقبله البعض مخلصاً. ولا يزال يقاوم اليوم بمقاومة تلاميذه ودينه.

٣٥ «وَأَنْتِ أَيْضاً يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ».

مزمور ٤٢: ١٠ ويوحنا ١٩: ٢٥، يوحنا ٩: ٣٩

يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ هذا مجاز حقيقته أنه يصيب مريم أشد الأحزان. هذا بعد أن سمعت قول الملاك أن مجيء المسيح يكون على فرح عظيم لجميع الشعب (ع ١٠) فلعلها انتظرت بذلك أن نسبتها إلى المسيح لا تكون إلا علّة فرح لها وما سمعته من سمعان هنا خلاف ما انتظرت. أما علّة حزنها الشديد فخيبة أملها أن يقبل اليهود ابنها ورفضهم أنه مسيحهم. وجاز ذلك السيف في نفسها عندما اجتهد رجال الناصرة أن يطرحوه من الجبل (لوقا ٤: ٢٩). وعندما جدف عليه الفريسيون بقولهم أنه يخرج الشياطين ببعلزبول (متّى ١١: ٤٦). وحين قبضوا عليه كمهيج فتنة وكمجدف. ولما حُكم عليه بالموت وعندما وقفت قرب الصليب وسمعت اليهود يهزأون به (يوحنا ١٩: ٢٥). وعندما أسلم الروح ودُفن في القبر.

لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ الخ اللام هنا متعلقة بقوله وُضع في العدد الرابع والثلاثين.

ادعى اليهود أنهم أولاد الله وتظاهروا بالخضوع له تعالى ولكن لما أتى المسيح الذي هو مُعلن صفات الله كُشف بإساءتهم إليه رياءهم وظهرت كبرياؤهم وطمعهم وبغضهم للآب (متّى ٢٣: ٢٥ – ٢٨).

ويوافق هذا قول يسوع في اليهود بعد ذلك «لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ جِئْتُ وَكَلَّمْتُهُمْ لَمْ تَكُنْ لَـهُمْ خَطِيَّةٌ، وَأَمَّا ٱلآنَ فَلَيْسَ لَـهُمْ عُذْرٌ فِي خَطِيَّتِهِمْ» (يوحنا ١٥: ٢٢).

وتمتحن قلوب الناس وتعلن أفكارهم أصالحة هي أم شريرة بهذا السؤال وهو «مَاذَا تَظُنُّونَ فِي ٱلْمَسِيحِ» (متّى ٢٢: ٤٢). وامتحنت أفكار اليهود بواسطة تعليم المسيح بينهم. فأعلن ما كان من الخير في قلوب العشارين والزناة تحت حجاب سيرتهم الرديئة. وما كان من الشر في قلوب الفريسيين الذين هم كالقبور المكلسة تحت حجاب الرياء وبشارة الصليب اليوم امتحان لكل إنسان تعلن به أفكاره الحقيقية أمتكلٌ على بره الذاتي أم شاعر بأنه خاطئ ومحتاج إلى برّ المسيح «لٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُوَّةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (١كورنثوس ١: ٢٣ و٢٤).

وما يستحق الالتفات إليه عدة الأسماء التي عبّر بها سمعان عن المسيح وهي تعزية إسرائيل (ع ٢٥) ومسيح الرب (ع ٢٦) وخلاص الله (ع ٣٠) ونور ومجد (ع ٣٢) وعلامة تقاوم (ع ٣٤).

٣٦، ٣٧ «٣٦ وَكَانَتْ نَبِيَّةٌ، حَنَّةُ بِنْتُ فَنُوئِيلَ مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ، وَهِيَ مُتَقدِّمَةٌ فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ، قَدْ عَاشَتْ مَعَ زَوْجٍ سَبْعَ سِنِينَ بَعْدَ بُكُورِيَّتِهَا. ٣٧ وَهِيَ أَرْمَلَةٌ نَحْوَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، لاَ تُفَارِقُ ٱلْهَيْكَلَ، عَابِدَةً بِأَصْوَامٍ وَطِلْبَاتٍ لَيْلاً وَنَهَاراً».

أعمال ٢٦: ٧ و١تيموثاوس ٥: ٥

ذُكرت حنة هنا لبيان حسن شهادتها إكراماً للمسيح وإثباتاً لدعواه. واسمها كاسم أم صموئيل النبي (١صموئيل ١: ٢).

نَبِيَّةٌ دُعيت كذلك لأنه اتضح أنها كانت ملهمة من الروح القدس.

بِنْتُ فَنُوئِيلَ ذُكر اسم أبيها ولم يذكر اسم زوجها.

مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ هو أحد أسباط إسرائيل العشرة التي أسرها شلمناسر ملك أشور (٢ملوك ١٧: ٣ و٦). وينتج من هذا أن بعض هذا السبط حفظ جدول نسبته منذ السبي.

مُتَقدِّمَةٌ فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ كما ذكر فيما بعده بالتفصيل وهو أنها عاشت مع زوج سبع سنين وبقيت أرملة أربعاً وثمانين سنة. فإذا أضفنا إلى ذلك ست عشرة سنة قبل زواجها وهو أقل ما يصح فرضه هنا كان عمرها مئة سنة وسبع سنين. وعلى هذا تكون قد ترملت في سن الثالثة والعشرين. فإذن تكون قد شاهدت أخذ بمبيوس القائد الروماني مدينة أورشليم وذلك قبل الميلاد بنحو ثلاث وستين سنة وبداءة حكم بيت هيرودس في اليهودية سنة تسع وثلاثين قبل الميلاد.

لاَ تُفَارِقُ ٱلْهَيْكَلَ إن هذا القول لا يفيد أنها كانت تأكل وتنام في الهيكل بل أنها لم تغب عنه في وقت من أوقات الخدمة الدينية فكانت تحضر تقديم الذبائح صباحاً ومساءً وما فُرض خصوصاً من فروض الديانة في السبوت والأعياد. ويظهر من ذلك أنها لم تكن تبالي بغير أمور الديانة وأنها كانت تفضلها على كل ما سواها.

بِأَصْوَامٍ وَطِلْبَاتٍ فُرض كلا هذين الأمرين في شريعة موسى على كل اليهود وقامت بها حنة أحسن قيام. ولا ريب في أنها كانت معروفة ومكرمة من جميع الناس لكبر سنها وتقواها.

٣٨ «فَهِيَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ وَقَفَتْ تُسَبِّحُ ٱلرَّبَّ، وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ مَعَ جَمِيعِ ٱلْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ».

مرقس ١٥: ٤٣ وع ٢٥ وص ٢٤: ٢١

كما شهد ليسوع سمعان من الرجال شهدت له حنة من النساء إذا اعترفت بأنه هو المسيح وسبّحت الله على إرساله إياه وبشرت به غيرها.

ٱلرَّبَّ أي الله الآب.

عَنْهُ أي عن يسوع أنه المسيح.

ٱلْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ هذا يدل على أنه كان في أورشليم أناس أتقياء درسوا النبؤات وفهموا منها أنه قد اقترب وقت إتمامها بإتيان الفادي إلى أورشليم. والأرجح أن هؤلاء كانوا يأتون الهيكل في أوقات الصلاة فكان بذلك لحنة فرصة أن تكلمهم وتبشرهم بالمسيح.

٣٩ «وَلَمَّا أَكْمَلُوا كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ نَامُوسِ ٱلرَّبِّ، رَجَعُوا إِلَى ٱلْجَلِيلِ إِلَى مَدِينَتِهِمُ ٱلنَّاصِرَةِ».

كُلَّ شَيْءٍ أي كل ما تطلبه شريعة موسى في مثل هذا الأمر وهي ثلاثة:

  • الأول: ختان الولد.
  • الثاني: تطهير الأم مع تقديمها التقدمة المعينة.
  • الثالث: تقديم الصبي في الهيكل مع فداء البكر وهو الشواقل المعينة كما ذكرنا آنفاً.

رَجَعُوا إِلَى ٱلْجَلِيلِ هذا لا ينفي مضي مدة بين إتيانهم إلى الهيكل وذهابهم إلى الجليل. والأرجح أن ذلك لم يقع إلا بعد رجوعهم إلى بيت لحم وزيارة المجوس لهم وهربهم إلى مصر (متّى ٢: ١ – ١٢). وكل تلك الحوادث لم ير لوقا أن ذكرها من ضروريات قصده. وما ذكره يوافق ما قاله متّى (متّى ٢: ٢٢ و٢٣). ومثل ذلك ما جاء في خبر بولس في موضع من أنه أتى من دمشق إلى أورشليم (أعمال ٩: ٢٦) وجاء في موضع آخر أنه مرّ عليه ثلاث سنين منذ فارق دمشق إلى أن بلغ أورشليم (غلاطية ١: ١٧ و١٨). فلم يلهم لوقا الروح القدس أن يذكر حوادث مجيء المجوس وظهور النجم وقتل الأطفال والهرب إلى مصر.

إِلَى مَدِينَتِهِمُ أي محل سكناهم قبل ميلاد المسيح (ص ٢٦: ٢٦ و٢٧). وأبان لوقا بقوله أن الناصرة مدينتهم علّة رجوعهم إليها. وهذا لم يظهر من قول متّى ولعلّ يوسف قصد أن يرجع إلى بيت لحم من مصر لكن منعه من ذلك خوفه من أرخيلاوس.

ٱلنَّاصِرَةِ (انظر الشرح متّى ٢: ٢٣ ومرقس ١: ٩). وبقيت الناصرة وطن المسيح إلى أن بلغ سن الثلاثين وكانت نسبة المسيح إليها في عنوان صليبه (يوحنا ١٩: ١٩) ونسب يسوع نفسه إليها يوم كلم شاول المضطهد (أعمال ٢٢: ٨).

حداثة يسوع ع ٤٠ إلى ٥٢

٤٠ «وَكَانَ ٱلصَّبِيُّ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِٱلرُّوحِ، مُمْتَلِئاً حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ ٱللّٰهِ عَلَيْهِ».

ص ١: ٨٠ وع ٥٢

يتضح من هذه الآية أن ليسوع نفساً بشرية كما أن له جسداً بشرياً. وهذا خلاف ما ذهب إليه أبوليانوس من أنه لم يكن للمسيح نفس بشرية بل أن روحه الكلمة الأزلي أخذ محل النفس في جسده.

يَتَقَوَّى بِٱلرُّوحِ أي أن عقله كان يتسع في المعرفة والعلم مع نمو جسده.

واتساع عقله تدرجاً لا ينفي لاهوته كما أنه لا ينفيه نموه في القامة والقوة. فاختبر يسوع في حياته كل أحوال الإنسان إذ كان طفلاً ثم صبياً ثم شاباً ثم رجلاً كامل السن لكي يشعر مع جميع الناس صغاراً وكباراً. ولم يكن بين يسوع وأترابه فرق إلا بأنه كان كامل القداسة.

نِعْمَةُ ٱللّٰهِ عَلَيْهِ أي رضى الآب به وبركته عليه.

٤١ «وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ ٱلْفِصْحِ».

خروج ٢٣: ١٥ و١٧ و٣٤: ٢٣ وتثنية ١٦: ١ و١٦

كان على ذكور اليهود شرعاً أن يأتوا أورشليم ثلاث مرات كل سنة في عيد الفصح وعيد الخمسين وعيد المظال (خروج ٢٣: ١٤ – ١٧ وتثنية ١٦: ١٦). ولم يكن ذلك مشروعاً على النساء ولا ممنوعاً والأرجح أن النساء التقيات كثيراً ما رافقن أزواجهن إلى هنالك (١صموئيل ١: ٧ و٢٢ و٢٤). وقال هليل الرباني المشهور بوجوب أن تحضر النساء في أورشليم عيد الفصح كل سنة. والأرجح أن مريم قصدت أورشليم حباً لله ولبيته لا طوعاً لأمر ذلك المعلم اليهودي. فإن كان يسوع قد تربى تربية أولاد عصره من اليهود كما يُتوقع فلا بد من أنه لبس عندما بلغ سن الثلاث ثوباً على هدب ذيله عصابة من أسمانجوني حسبما أمر الله (عدد ١٥: ٣٨ – ٤١ وتثنية ٢٢: ١٢) وتعلّم أولاً من أمه.

ولما بلغ سن الخمس استظهر بعض أجزاء الناموس «كالشمعة» (تثنية ٢: ٤) و «الهليل» (مزمور ١١٤ – ١١٨ ومزمور ١٣٦).

ولما بلغ سن الثانية عشرة مارس كل طقوس الشريعة الموسوية كإتيان أورشليم في الأعياد وما شاكل ذلك وأخذ يتعلّم صناعة كسائر أولاد اليهود من أغنياء وفقراء وحُسب من ذلك الوقت «ابن الناموس».

أما كيفية حفظ عيد الفصح فقد سبق الكلام عليها في شرح بشارة متّى (متّى ٢٦: ٢).

٤٢ «وَلَمَّا كَانَتْ لَـهُ ٱثْنَتَا عَشَرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ ٱلْعِيدِ».

صَعِدُوا أي يوسف ومريم ويسوع. ويستنتج من هذا أن يسوع لم يصعد إلى أورشليم منذ ختانه وتقديمه للفداء. وكان في ذلك الوقت قد بلغ السن الذي اعتاد اليهود أن يأخذوا من بلغه من أولادهم إلى العيد في أورشليم ليشاركوهم في إتمام الفروض.

وكانت المسافة بين الناصرة وأورشليم نحو ثمانين ميلاً وكان يقطعها الفارس في ثلاثة أيام أو أربعة. وكان المسافرون في مثل ذلك الوقت ألوفاً. والحادثة الآتية هي الحادثة الوحيدة التي ذُكرت منذ إتيانهم من مصر إلى الناصرة إلى أن بلغ سن الثلاثين وابتدأ يبشر.

٤٣ «وَبَعْدَمَا أَكْمَلُوا ٱلأَيَّامَ بَقِيَ عِنْدَ رُجُوعِهِمَا ٱلصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا».

كَعَادَةِ ٱلْعِيدِ أي ممارسة العيد في أورشليم.

أَكْمَلُوا ٱلأَيَّامَ هي سبعة دون يوم الاستعداد وبه ثمانية كما كانت تُحسب أحياناً. وكانوا يأكلون خروف الفصح في اليوم الأول وخبز الفطير في الأيام السبعة ولذلك سُمي عيد الفصح أحياناً بعيد الفطير (خروج ١٢: ١٥ و١٧ ولاويين ٢٣: ٥ و٦ وتثنية ١٦: ٢).

بَقِيَ… ٱلصَّبِيُّ يَسُوعُ لم يذكر لوقا كيف كان ذلك. ولا يلزم من هذا أن يوسف ومريم لم يعتنيا به الاعتناء الواجب. والأرجح أنه كان معهم جماعة من أقربائهم وأصحابهم الذين أتوا معهم من الناصرة هم وأولادهم فكان يوسف ومريم يتركان يسوع بينهم. ولا ريب في أن يسوع كان أكثر إدراكاً ونباهة من سائر أترابه حتى لم يكن محتاجاً إلى من يعتني به كغيره.

٤٤، ٤٥ «٤٤ وَإِذْ ظَنَّاهُ بَيْنَ ٱلرُّفْقَةِ، ذَهَبَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَكَانَا يَطْلُبَانِهِ بَيْنَ ٱلأَقْرِبَاءِ وَٱلْمَعَارِفِ. ٤٥ وَلَمَّا لَمْ يَجِدَاهُ رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَطْلُبَانِهِ».

لا بد من أنه كان الراجعون من أورشليم إلى الناصرة قافلة كبيرة ولذلك لم يستطيعا في أول يوم وهما مسافران في الطريق أن يتحققا أن يسوع ليس معهم ولكن عند نزول القافلة مساء واجتماع كل عائلة على حدتها اتضح لهما أنه ليس في القافلة. فرجعا في الغد يسألان عنه كل من رأياه في الطريق وفحصا عنه في أورشليم يوم وصولهما ولم يجداه إلا صباح غده وهو اليوم الثالث فيتضح من ذلك أنه ليس لواحد منهما قوة إدراك غير عادي وإلا لم يتعبا هكذا.

٤٦ «وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي ٱلْهَيْكَلِ، جَالِساً فِي وَسْطِ ٱلْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ».

فِي ٱلْهَيْكَلِ أي في أحد أروقة دار النساء حيث اعتاد علماء اليهود أن يعلّموا الناس مجاناً ويفسروا الشريعة ويتباحثوا في المسائل الدينية.

ٱلْمُعَلِّمِينَ وهم الربانيون من كتبة وفريسيين مثل غمالائيل «معلم الناموس» (أعمال ٥: ٣٤). وكانوا «يجلسون على كرسي موسى» كأنهم خلفاؤه (متّى ٢٣: ٢) ويجلس التلاميذ عند أقدامهم (أعمال ٢٢: ٣).

وأظهر يسوع بذهابه إلى الهيكل عندما تُرك لنفسه وحضوره مكان التعاليم الدينية أي المواضيع التي تلذ له أعظم اللذة.

يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ كان طريق السؤال والجواب مما اختاره المعلمون للتعليم في تلك الأيام فكان التلميذ يسأل عما يجهل والمعلم يسأل ليعرف قدر ما عند التلميذ ويبني كلامه على الجواب فيزيل الخطأ ويجبر النقصان. ولا بد من أنه كان يعرض في مثل تلك المباحثة مسئلة المسيح المنتظر وماهية مملكته وتفسير النبوّات المتلعقة به. ولا ريب في أن يسوع أظهر حينئذ كل ما يليق من التواضع والإكرام لمن هم أكبر منه سناً وعلماً.

٤٧ «وَكُلُّ ٱلَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ».

متّى ٧: ٢٨ ومرقس ١: ٢٢ وص ٤: ٢٢ و٣٢ ويوحنا ٧: ١٥ و٤٦

لا ريب في أن المسيح أظهر بأسئلته وأجوبته قوة عقل وصحة علم لم يشاهد الناس نظيرها من أولاد مثل سنه. وكان ذلك شعة من النور العظيم الذي بدأ به في تعليمه الشعب فيما بعد (متّى ١٣: ٥٤ ويوحنا ٧: ٤٦).

٤٨ «فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ ٱنْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَـهُ أُمُّهُ: يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هٰكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!».

ٱنْدَهَشَا لعلّ سبب ذلك أنهما لم يتوقعا أن يجداه مطمئناً بل انتظروا أن يجداه قلقاً خائفاً من بقائه منفرداً عن أهله لكنهما رأياه هادئاً مسروراً بمعاشرة من هم أكبر منه خلافاً لما يتوقع من ابن اثنتي عشرة سنة. ويحتمل أنهما أصغيا إلى كلماته في خطاب المعلمين وتعجبا من حكمته التي لم يعهدا مثلها منه وإن كانا قد اختبرا قبل ذلك أنه حكيم.

لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هٰكَذَا أي لماذا بقيت ونحن قد ذهبنا. ولم يكن من عجب بأن تسأل مريم ابنها هذا لو كان كسائر الأولاد لكنها غفلت عن كل ما اوحي إليها به في شأن يسوع. ولا بد من أنه كان في سؤالها إياه شيء من التوبيخ بناء على ظنها أنه كان يجب عليه أن يلازمهما ولا يفتكر إلا فيهما.

أَبُوكَ هذا يدل على أن مريم اعتادت في مخاطتبها يسوع أن تسمي يوسف أباه. وأتت ذلك جرياً على عادة الناس لأنهم لم يعلموا حينئذ أن الله أبوه.

مُعَذَّبَيْنِ كانا معذبين لأنهما جهلا أين هو وخافا من أن يعرض له سوء أو أنه في حاجة أو ضيق.

٤٩ «فَقَالَ لَـهُمَا: لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟».

يوحنا ٢: ١٦

لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي هذا السؤال رد على ما في سؤال مريم من التوبيخ. ولم يرد الاستفهام عن مطلق طلبهما إياه بل عن طلبه معذبين وأنها لو تأملت عرفت أن لا داعي لذلك أي أنها لو ذكرت كل حوادث ميلاده لفطنت أنه لا بد من أن الله أباه يعتني به وأنه يكون في بيت أبيه.

أَلَمْ تَعْلَمَا هذه العبارة أول كلام نقله الكتاب عن لسان يسوع. ومن الغريب أن أبويه لم يفهما معناها (ع ٥٠). وكان ما سمعاه من كلام الإعلان الإلهي كافياً ليمكنهما من فهمه وفي هذا السؤال أربعة مقاصد:

  • الأول: أنه كان يجب على أمه ان تعرف أين يوجد لأنه كان لها وسائط كافية لذلك بما عهدته من الوحي.
  • الثاني: التصريح بنسبته إلى الله أي بيان أنه أبوه مقابلة لقول مريم «أبوك». فعلم أن يوسف ليس بأبيه وأن أباه هو الله وأنه أتى من السماء وأراد أن تذكر أمه هذا الأمر.
  • الثالث: أنه أظهر وقتئذ علمه العمل الذي أتى العالم ليتممه وأنه يجب عليه أن يهتم به ويستعد له مع أنه بقي بعد ذلك ثماني عشرة سنة قبل أن يبتدئه جهاراً.
  • الرابع: أنه حسب بيت الله بيت أبيه (يوحنا ٢: ١٦) ومباحثته هناك في كلام الله عمل «ما هو لأبيه».

ومعنى قوله «في ما لأبي» العمل الذي أرسله الآب ليتممه. وهذا وفق قوله بعد ذلك «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَـهُ» (يوحنا ٤: ٣٤).

٥٠ «فَلَمْ يَفْهَمَا ٱلْكَلاَمَ ٱلَّذِي قَالَـهُ لَـهُمَا».

ص ٩: ٤٥ و١٨: ٣٤

نستغرب عدم فهم يوسف ومريم معنى يسوع بعد ما عرفاه من الإعلان الإلهي (انظر ص ١: ٣٢ و٣٥ ومتّى ١: ٢). وإذا كان أبواه مع ذلك لم يفهما مراده فلا عجب من أن تلاميذه لم يدركوا معاني تعاليمه.

٥١ «ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى ٱلنَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعاً لَـهُمَا. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ فِي قَلْبِهَا».

دانيال ٧: ٢٨ وع ١٩

ثُمَّ نَزَلَ… وَكَانَ خَاضِعاً لَـهُمَا هذا مثال لكل الأولاد في وجوب الطاعة لوالديهم. وذُكر خضوعه لأبويه الأرضيين دفعاً لما يتوهم من بيانه أن الله أبوه الوحيد أنه أنكر نسبته إلى أنسبائه في الجسد لأن اعتباره لتلك النسبة جزء من «تكميل كل بر». قال بولس «لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيَةِ ٱلإِنْسَانِ ٱلْوَاحِدِ جُعِلَ ٱلْكَثِيرُونَ خُطَاةً، هٰكَذَا أَيْضاً بِإِطَاعَةِ ٱلْوَاحِدِ سَيُجْعَلُ ٱلْكَثِيرُونَ أَبْرَاراً» (رومية ٥: ١٩). فالمسيح بإطاعته للآب السماوي وإطاعته لأبويه الأرضيين مدة ثلاث وثلاثين سنة قام بالطاعة التي ذكرها بولس. وأتى كل ذلك لأجلنا.

وهذا آخر ذكر ليوسف في بشارة لوقا ونعرف من بشارتي متّى ومرقس أنه كان نجاراً وأن يسوع عمل معه (متّى ١٣: ٥٥ ومرقس ٦: ٣). والمظنون أنه مات قبل أن ابتدأ يسوع يبشر لأنه بعد ذلك لم يُذكر من عائلته سوى أمه وإخوته (يوحنا ٢: ١٢).

تَحْفَظُ جَمِيعَ هٰذِهِ الخ وهذا كقوله في الآية التاسعة عشرة أي أنها كانت تذكرها جميعاً وتقابلها بما سبق لها من الإعلانات والأنباء بيسوع من الملاك وأليصابات وزكريا والرعاة والمجوس والشيخ سمعان وحنة النبية وتتأمل فيها كلها. وهذا مما يقوي ثقتنا بأن لوقا نقل هذا الخبر عن لسان مريم نفسها.

٥٢ «وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْقَامَةِ وَٱلنِّعْمَةِ، عِنْدَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ».

هذه الآية تابعة للآية الأربعين التي تشتمل على أنباء اثنتي عشرة سنة من حياة يسوع على الأرض. والآية التي هنا تشتمل على أنباء ثماني عشرة سنة منها.

فِي ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْقَامَةِ أي أن ابن الله يسوع المسيح كان باعتبار أنه إنسان يتقدم جسداً وعقلاً كسائر الناس.

وَٱلنِّعْمَةِ، عِنْدَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ أي أنه كان يظهر من الأخلاق الجميلة والصفات الحسنة والأعمال الصالحة ما جعل الله يسر به ويمنح له علامات المسرة بما وهبه له من المواهب الجسدية والعقلية والروحية كما شهد له عند معموديته (ص ٣: ٢٢). وما ذُكر جعله محبوباً إلى الناس لأنه لم يبتدئ حينئذ يوبخ الناس على خطاياهم ليهيج غضبهم عليه كما وقع بعد ذلك (يوحنا ٧: ٧). وانتظار يسوع وصبره ثلاثين سنة قبل ان ابتدأ التبشير مثال لنا في التوقع والصبر. وكان في تلك المدة يعمل مشيئة الله لأجلنا بإطاعته شريعة الله (غلاطية ٤: ٤) وتنازله (فيلبي ٢: ٧) وافتقاره (٢كورنثوس ٨: ٩ ومتّى ٨: ٢٠) وطاعته لأبويه (ع ٥١) وطهارته (١بطرس ٢: ٢٢).

السابق
التالي
زر الذهاب إلى الأعلى